الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة 1917 العظمى: المجموع والباقي(3)

عبد المجيد السخيري

2017 / 12 / 15
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا


الأخطاء والانحرافات

ثمة ظروف وعوامل كثيرة، موضوعية وذاتية، حالت دون نجاح الثورة البشلفية في تحقيق التغيير المنشود على مستوى الداخل، والذهاب إلى النهاية كما خططت القيادة الأولى، أوعلى صعيد العالم، كما كان يفترض بثورة كان يحلم قادتها بأن تكون نقطة ارتكاز لبداية ثورة عالمية للإطاحة بالرأسمالية، وإنهاء كل أشكال الاستغلال الطبقي والاضطهاد القومي أو الجنسي والقهر والاستعباد والظلم بجميع ألوانه وتجلياته في حياة الأفراد والأمم. وليس بوسعنا هنا أيضا سرد لائحة الأخطاء والانحرافات التي سقطت فيها الثورة، أو فرضتها ظروف تحولها اللاحقة، لأن ذلك عملا يحتاج إلى جهد كبير في التوثيق والتحقيق، زيادة إلى استحضار أغلب ما كتب عن الثورة منذ قرن من الزمان، وهو من الكثرة والتنوع بمكان، وهذا ليس من شأننا في هذا المقام. كل ما نستطيع قوله هو أن ثمة أخطاء وانحرافات لا ينكرها سوى أخرق أو أبله تتقف حولها أغلب الكتابات التي تناولت تاريخ "الثورة الروسية"، وبعض هذه الأخطاء كان وراء مآسي وممارسات مشينة أضرت كثيرا بسمعة الثورة وألقت بظلالها على تطورها اللاحق، بل ولازمتها إلى النهاية المعلومة. ولعل البعض لا يزال يرى النبش في تاريخ الثورة من هذه الزاوية هجوما أو تكالبا مع القوى الرجعية والامبريالية في تصفية ميراثها الرمزي، وتشويه صورتها عند الأجيال الجديدة من المناضلين والمناضلات من أجل الاشتراكية، وفي أحسن الأحوال استنساخا لتهجمات "التروتكسية"( وهي سبة بالنسبة للبعض كافية للتخوين) وقراءتها الملغومة والمشبوهة (كذا!).
ليس هذا المكان المناسب لتوضيح ما يحتاج إلى التوضيح من الأمور الخلافية والقضايا السجالية التي استأثرت بحيز مهم من تاريخ الحركة الشيوعية المعاصرة، لكن لا بد من التأكيد على أن قراءة تاريخ الثورة وإعادة كتابته يتطلب بذل جهد كبير من التنقيب والتحقيق وتمحيص الوقائع والأسباب، ودراسة معمقة للمواقف والظروف الموضوعية التي أحاطت بتجربة الثورة من البداية، فضلا عن التسلح بالمناهج العلمية والتخلص من الأوهام العاطفية والتخندقات الضيقة والعصبوية، وهو أمر يتجاوز ما يتوفر عادة لدى المناضلين والمناضلات من الزاد المعرفي، خصوصا منهم الذين تستغرقهم المشاغل النضالية اليومية، وبالتالي ينبغي أن يظل هذا الأمر إلى حين ضمن انشغالات المؤرخين(ات) والباحثين(ات) لتصفية الأجواء الفكرية حتى يتسنى للجميع استقبال النتائج والخلاصات ومناقشتها بعقل منفتح ونقدي، كما يجدر أن يفعل من يعتبر نفسه تقدميا أو ثوريا يسعى إلى تغيير العالم.

لماذا لم تنجح الثورة في تغيير العالم؟

قد يرى البعض في طرح السؤال بالصيغة أعلاه ما يحمل على حكم مسبق وجاهز حيث الجواب محسوم ومتضمن في السؤال، وهو أن الثورة فشلت في تغيير العالم على النحو الذي كانت تبشر به وتطمح إليه قيادتها، ذلك أنها بالأحرى لم تنهض إلا على أساس هذا الهدف البعيد والطموح، وقد شكل في مرحلة ما رهان الصراعات والخلافات الداخلية التي برزت في الأيام الأولى بين توجهين أساسيين:
توجه يرى أن الروح المتقدة للثورة كان يجب أن تتواصل بعد حسم البلاشفة السلطة في روسيا، وتتوسع نشاطاتها في بقية بلدان العالم في إطار الثورة البروليتارية العالمية، وهو ما يتفق مع هويتها الاشتراكية والمنطلقات النظرية والسياسية التي أطرت وجودها من البداية؛ بينما وجد التوجه الآخر أنه يجدر بالثورة بعد نجاحها أن تكرس كل جهودها للبناء الداخلي وإقامة الاشتراكية في البلد الواحد تفاديا لأي مغامرة أو مقامرة بالإنجاز العظيم، في ظل شروط دولية وداخلية وموازين قوى لا تسمح بأي نوع من العولمة الفورية للثورة، وتحمل أعباء إضافية لا تقوى عليها القوى الثورية في الداخل في الظروف الماثلة أمامها في تلك الفترة الحرجة. وقد بلغ التنافس والصراع بين الاتجاهين داخل الحزب البلشفي ذروته بعد وفاة لينين واستفراد ستالين بمقاليد الحكم وإحكام القبضة الحديدية على قيادة الحزب، قبل أن يشهد تحولا دراماتيكيا مع بدء حملات التطهير والتصفية والمحاكمات الصورية لعناصر المعارضة اليسارية قبل أن يستتب الأمر للبيروقراطية المتنفذة.
ولعل هذا التحول شكل أخطر منعطف شهدته الثورة، وبالتالي كان أحد أهم الأسباب التي ستؤدي فيما بعد إلى سلسلة متوالية من الأخطاء والانحرافات الجسيمة التي انتهت إلى تشويه الثورة والارتداد على كل المكاسب الاستراتيجية التي كانت قد شرعت في انتزاعها. صحيح أن الدولة العظمى، التي أقامتها الثورة بعد سنوات قليلة من الاستلاء على السلطة، واجهت تحديات داخلية وخارجية كثيرة ألقت بظلالها على التدبير الديمقراطي للخلافات بين قادتها وتياراتها الثورية، وهي في المعظم مرتبطة بقضايا تاكتيكية أو بتقديرات ظرفية أو بقراءات لموازين القوى، بينما كانت كلفتها باهضة، إلا أن المنعطف البيروقراطي يتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية تدمير قوى الثورة وإضعافها بالداخل، وتصريف تناقضاتها إلى الخارج في أشكال من الهيمنة والعلاقة غير المتكافئة مع القوى الثورية العالمية، وهو ما سيقود في النهاية إلى انحطاط شامل للأجهزة القيادية للأممية الثالثة قبل حلها، وتسلُّط البيروقراطية السوفياتية على أغلبية أحزابها وفرض شروطها على قياداتها، والتي بلغت مستويات كارثية مع الثورات في بلدان كأندونيسيا واسبانيا على سبيل المثال لا الحصر. كما سُجل على قيادة الثورة أنها تصرفت في علاقتها مع حلفائاها الثوريين في أوروبا بخلفية يسراوية، وبالغت في تقدير قوتها الثورية فوقعت في أخطاء فادحة دفعت ثمنها غاليا الطبقة العالمة والقوى الثورية الأخرى في السنوات المضطربة لما بعد الحرب الثانية. وقد تعرض لينين بنفسه لهذا الأمر في كتابه السجالي الشهير "اليسراوية مرض الشيوعية الطفولي" سنة 1920، مثلما تناول الأخطاء المرتبطة بهذه النزعة في الداخل من حيث سوء تقدير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيق التحول إلى الاشتراكية، ورفع "شيوعية الحرب" إلى مستوى نظرية تعلل هذا التحول. وكان معظم قيادات الثورة قد اعترفوا بأخطاء فترة "شيوعية الحرب"، ومنهم لينين الذي سيقود "السياسة الاقتصادية الجديدة" مع أغلبية من قيادة الحزب، مؤكدا العودة إلى رؤيته الأولى بعد نجاح الثورة التي كانت ترى ضرورة مرور البناء الاشتراكي بمرحلة طويلة من "رأسمالية الدولة". وكان تروتسكي أحد أولئك القادة الذين دافعوا بقوة أمام المؤتمرين في الأممية الشيوعية عن السياسة الاقتصادية الجديدة ردا على انتقادات وتشفي تيارات الاشتراكية الديمقراطية وإيديولوجيي الرأسمالية، معتبرا أنها واحدة من مراحل انتقالية عدة بين الرأسمالية والاشتراكية، ووصفها أحد الاقتصاديين السوفيات بمرحلة التراكم الاشتراكي البدائي. فقد جاءت السياسة الاقتصادية الجديدة(النيب) لتؤكد على أن التحول الاشتراكي في روسيا أمر صعب في ظل الحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي وتأخر السيرورة الثورية في أوروبا، مثلما أن الثورة لم تحضر سياسة واضحة للتحول الاقتصادي بقدر ما كانت تتوفر على خطوط توجيهية عامة. فنقص الخبرة الاجتماعية في المجال كان لا بد وأن يضاعف مشاكل الانتقال إلى الاشتراكية.
لا يجب بالطبع أن نستهين بالتحديات التي وضعتها القوى الامبريالية، بتحالف مع القوى الرجعية وبقايا النظام القيصري، أمام الثورة من خلال شنها لحرب عنيفة وضارية ما بين سنوات 1918 و1921 ضد السلطة الثورية الجديدة في روسيا وباقي الجمهوريات الحليفة، وفرضها لحصار اقتصادي خانق ضاعف من معاناة الشعب وأنهك قواه وراهن على تحطيم معنوياته، خاصة وأن روسيا كانت مستنزفة بسبب ثلاث سنوات من المشاركة في الحرب العالمية الأولى، وتعرضت صناعتها وفلاحتها لأضرار وتدمير فادحين. كما أدت الحرب الأهلية إلى تعطيل الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية أو تأخيرها، وإفقار قطاعات واسعة من الشعب، ما أدى إلى تدهور كبير في المعنويات، بينما خلفت الحرب خسائر فادحة في الأرواح وإهدار طاقات جبارة، ومقتل عدد مهم من القيادات السياسية البارزة من الحزب البلشفي ومن القوى الثورية عامة، وهو ما كان من نتائجه إفقاد الحزب العناصر الدينامية والمتمرسة والصلبة، في مقابل التحاق أعضاء جدد بعد نجاح الثورة لم يجربوا ظروف العمل الثوري القاسية وما يكسبه للمناضلين-ات من روح التفاني والتمسك بالديمقراطية، ما سيجعلهم جسرا لصعود سريع للبيروقراطية القاتلة. والحال أن الشروط الصعبة التي فرضتها الحرب الأهلية أدت أيضا إلى التسامح مع التوجه السلطوي للحكومة الجديدة في ظل ما عرف بنظام "شيوعية الحرب" لإنقاذ الثورة في الفترة المشار إليها أعلاه. وجاءت المجاعة الكارثية التي شهدتها البلاد سنة 1921 وأدت إلى هلاك ملايين الأشخاص، لتزيد من تعقيد وتدهور الأوضاع بالداخل، وتمنح التوجه السطوي مزيدا من الذرائع لتبرير سياساته وانحرافاته، بينما ستعرف اقتصاديات الرأسماليات المتقدمة في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا بداية من 1923 نوعا من الاستقرار، وهو ما سيقوي من سطوة الرأسماليين وإبعاد شبح الثورة.
في هذه الظروف ستجد البيروقراطية الصاعدة المتحلقة حول ستالين في التحولات التي فرضتها الحرب الأهلية، والدمار الاقتصادي الموروث من الحرب العالمية الأولى، وقد فاقمته الظروف الجديدة، مناسبة لتعليق حلم الثورة العالمية والانكباب على البناء الداخلي، مع نوع من التلاعب الذكي بميراث "النيب"، حتى قبل أن يثمر نتائجه ويستنفذ دوره الايجابي، بينما سيقود تدميره في النهاية إلى كارثة اجتماعية وسياسية، ويفتح الباب على مصراعيه لسيرورة طويلة من الانحطاط انتهت بعد عقود إلى دفن الثورة وأحلامها التحريرية، ومعها الآمال العريضة في إنهاء قرون من الظلم واللامساواة والقهر التي فتحتها أمام شعوب الأرض.
صحيح أن الاتحاد السوفياتي سيحقق في ظل هيمنة البيروقراطية على الحزب والدولة تقدما مهما في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، لكن كلفة هذا التقدم كانت باهضة بالنسبة للعمال والفلاحين على مستوى الحقوق السياسية، فضلا عن التضحيات الجسام التي فرضتها عليها ظروف الحرب العالمية الثانية، بينما لم يعد اليوم خافيا أن البيروقراطية جنت لفائدتها ثمار التقدم وقادته إلى نهايته المنطقية: النزول منزل الرأسمالية المشوهة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا