الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة الموت في وادي الرافدين ووادي النيل

سعد سوسه

2017 / 12 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لكل شيء نهاية ، والموت هو النهاية التي على الإنسان أن يواجهها ، وهي نهاية مخيفة يقشعر لها البدن ولا سيما أن فكرة الموت فكرة غامضة يحف بها المجهول 0 لذلك فإننا حينما نشعر بالرغبة في دراسة معنى الحياة و الموت ومعرفة الحالة الوجدانية التي يستشعرها الإنسان وهو يتقدم شيئاً فشيئاً نحو فنائه وكيف تعامل الإنسان مع هذا الحدث وكيف إستعد له 0 فلا بد لنا أولاً أن نعرف كيفية تطور هذه الفكرة وأن نتعرف على ما فكر فيه الآخرون في أزمنة أخرى فيؤدي بنا ذلك إلى فهم أفضل للموت0
لم يشك البابليون في حتمية الموت وفرضه على البشر وجميع الأحياء 0 وكان الموت عندهم من طبيعة الإنسان وتركيبه أي أنه خلق ومعه حياته وموته و إن الآلهة وحدها هي التي إستأثرت بالخلود ( ولقد تم إكتشاف حتمية الموت في أقدم الوثائق المعروفة لنا حول الموت من خلال ملحمة كلكامش في وادي الرافدين ) 0
والواقع إن فكرة ملحمة كلكامش وموضوع القصة الأساسي هو التأمل في مسألة الموت والخلود 0 إذ أنها تبرهن برهاناً مؤثراً على حتمية الموت على البشر، إذ أن بطل الملحمة ( كلكامش ) بالرغم من قوته وجبروته ومع إن ثلثي مادته من مادة الآلهة إلا أنه لم يستطع أن ينال الخلود 0
وتمثل هذه الملحمة تمثيلاً بارعاً ذلك الصراع الأزلي بين الموت والزوال المقدرين وبين إرادة الإنسان المغلوبة المقهورة في محاولتها التشبث بالوجود والبقاء0
وتدل هذه الملحمة على إن سكان العراق القديم كانوا يؤمنون بأن الموت أمر مقدر على كل إنسان وأن النهاية الطبيعية لكل إنسان هي الموت 0 إذ أن كلكامش أدرك بعد موت صديقه أنكيدو أنه عليه أن يلقى نفس المصير الرهيب ، ونجده في ذلك يقول : أي نومٍ هذا الذي غلبك وتمكن منك لقد طواك ظلام الليل فلم تعد تسمعني ، إذا مامت أفلا يكون مصيري مثل مصير أنكيدو ملك الحزن والأسى روحي ، وها أنا ذا أهيم في القفار والبراري خائفاً من الموت 0 ولكن كلكامش يكتشف في النهاية أن الموت هو قدر لا يمكن الفرار منه وإن الخلود هو من صفات الآلهة 0 وهذه الملحمة تتناول موضوع تأمل الموت والرهبة من الموت والشعور بحقيقة كون الموت هو أمر حتمي وهو مصير كل إنسان 0
وفي إطار التأملات البابلية والآشورية ، لم ينظر إلى الموت باعتباره النهاية المطلقة للحياة أو إنه يؤدي إلى الفناء الكامل للحيوية الواعية ، ولكنه كان يعني إنفصال الجسد والروح وتحلل الأول وانتقال الأخيرة من نمط للحياة أو للوجود إلى نمطٍ آخر
فبالموت تنفصل الروح عن الجسد وتنتقل إلى طور جديد من الوجود 0 إذ تنحدر الروح بعد وضع الجسم في القبر الى عالم الأرواح وهو العالم الأسفل وتعيش هناك إلى أبد الآبدين، حيث لا قيامة ولا رجعة عندهم 0 أما الثواب والعقاب فهما زمنيان أي يكونان في الحياة 0 وقد تصور البابليون موطن الأرواح الذي تذهب إليه بعد الموت يقع ضمن هذه الأرض ، تحت سطحها الظاهر ، وهو العالم الأسفل .
وقد وصفوه بأنه عالم مخيف بهيئة مدينة مسورة بسبعة أسوار يحرسها مردة شياطين وقد سموها بأسماء مختلفة منها ( كيجال) والأرض التي لارجعة منها وتحكم فيها آلهة شديدة قاسية هي ملكة العالم الأسفل0 ويساعد هذه الآلهة في حكمها للأموات مجموعة من الشياطين والكتاب لتسجيل الموتى 0وقد اعتقدوا أنه عالم لا قيامة فيه ولا رجعة منه 0 أي أنهم لم يعتقدوا بعالم آخر للثواب والعقاب) . ولكنهم كانوا يلطفون في بعض الأحيان من هذه الصورة القاتمة حيث وردت في بعض مآثرهم ولا سيما في اللوح الثاني عشر من ملحمة كلكامش أن بعض الموتى ممن خلفوا الحسنات والمآثر الصالحة أو ممن مات عن أولاد ولا سيما الذكور أو من قدمت له القرابين على الدوام يعيش في هذا العالم عيشة فيها بعض الراحة وتشير مآثرهم إلى أنهم أعتقدوا بنوع من الحساب عندما تدخل الأرواح في عالم الأموات .
والبابليين ، بصورة عامة ، فإن ( مابعد الموت لم يكن مغرياً لهم ، ولم يكن أملهم وهدفهم الأوحد . فضلاً عن أنهم كونوا فكرة غير واضحة عن الموت وتبرز في هذه الفكرة السوداوية والسلبية حتى أننا نجد في إسطورة نزول الآلهة عشتار إلى العالم السفلي تعابير غير شيقة أبداً عن حالة الموتى التعيسة بضمنهم حالة ملكة الموتى : إن طعامهم هو من الطين وإن غذائهم هو من التراب ، لايرون النور أبداً، فهم يسكنون في الليل .
وتوضح لنا ملحمة كلكامش وقصة نزول إنكيدو إلى العالم الأسفل ، تفاصيل عن حالة الموتى : حيث يصف إنكيدو لكلكامش حالة الموتى وأحوال العالم السفلي فيقول : إذا شرحت لك أحوال العالم الأسفل الذي أعرفه الآن ، فسوف يجعلك ذلك تجلس وتبكي 0 فالعالم الآخر غامض غير معروف وغير ذي مخرج ، فلا يمكن العودة أو الرجوع من مملكة الأموات ، وهي البلاد التي لا عودة منها0
ونستطيع أن نقول بأنه لم توجد عند وادي الرافدين بصورة عامة ما يساهم في تطمين النفس بالسعادة المنشودة في العالم الآخر أو الحياة الأخرى 0 والنتيجة أن الحياة عند البابليين من أعظم وأكبر الآمال إذ أنه منذ العصر السومري قام الملوك والخاصة ببناء المعابد وجهزوا الهدايا للآلهة وقد عملوا ذلك بكل وضوح خوفاً على حياتهم وحتى تكون هذه الحياة طويلة الأمد فكانت العبادة التي تؤدى للآلهة هدفها ادامة الحياة 0
ونحن نستنتج من هذا كله أن سكان وادي الرافدين لم يثبتوا أي حماس تجاه العالم الإلهي ، كذلك كان لديهم عشق وحب للحياة وكراهية ويأس تجاه الموت مما أدى إلى تفتيشهم عن اللذات الدنيوية .
وهكذا كان الموت هو الحدث الكبير الذي يفرض نفسه على الإنسان ، وهو مصيره الذي لا يتبدل : فالموت رغبة الآلهة وهو المقدر ، فمنطلقاً من كون الإنسان في حضن أمه فالموت سيكون مصيره .

- فكرة الموت في وادي النيل
لقد اعتقد سكان وادي النيل أن الإنسان يتكون من جسد وروح وكل فرد عندما يموت يرقد جسده في القبر وتذهب روحه إلى العالم الآخر والمصري كان يكره الموت ويخشى قوى الشر المتصلة به 0 ولكنه كان يدركه كصورة أخرى للحياة على نمط الحياة الدنيا ، لذلك كان يصر على الاحتفاظ بالجسد من دون أن يبلى ومن هنا جاء التحنيط لكي يبقى الجسم محافظاً على شكله في العالم الآخر0 والقرابين التي وجدت في عصور ما قبل التاريخ تدل على أن المصريين آمنوا بالحياة بعد الموت 0 فقد كان يقدم للميت بعد موته القرابين لأنه كان بحاجة للطعام والشراب في العالم الآخر 0 وكان أكبر همهم تطهير النفس .
وإن أهم ما يميز المصريين هو فكرة الخلود فالمصريون كانوا يعتقدون أن في مقدور الإنسان أن يعود إلى الحياة بعد موته . لذلك فقد عني المصريون كثيراً بالحياة بعد الموت إذ أنهم كانوا منذ عصور ما قبل التأريخ يزودون الميت بزاده للآخرة ، وحياته المستقبلية 0 وأهم كتاب عند المصريين القدماء هو كتاب ( الموتى) الذي يتصل بعبادة أوزير الذي كان يعد حاكم الموتى والعالم السفلي وهذا الكتاب كان عبارة عن مجموعة من الأدعية والإبتهالات لروح الفرعون وكان من بين الآلهة المصرية نجد أوزير مصدر للحياة عند المصريين وهو يجسد في ذاته وحتى في موته الذي هو (كموت الطبيعة) توكيداً للبعث في حياة جديدة حيث ترجع اليه الحياة كما ترجع إلى خلفائه من الملوك الذين يموتون ويبعثون أحياء وقد إنتقلت هذه الفكرة بعد ذلك إلى الناس . فقد كان المصريون يعتقدون أن الجسم تسكنه صورة أخرى مصغرة منه تسمى القرينة – الكا – كما تسكنه أيضاً روح تقيم فيه إقامة الطائر الذي يرفرف بين الأشجار وهذه الثلاثة مجتمعة – الجسم والقرينة والروح – تبقى بعد الموت . ويكون لها وجود مستقل ويعتمد هذا الوجود على المحافظة على الجسم المادي سالماً ومن هنا منشأ العناية الفائقة بالمحافظة على الجسم ونشوء التحنيط .
إن سكان وادي النيل أعتقدوا بوجود حياة أخرى بعد الموت يحاسب الإنسان فيها بالثواب أو بالعقاب بخلاف سكان وادي الرافدين لذلك فقد عمدوا الى دفن أحسن الملابس والاطعمة والحلى والمجوهرات مع الإنسان بعد موته كما شيدوا الأهرامات لملوكهم وحنطوا جثث موتاهم والموت عندهم ماهو إلا حاجز بين عالمين متصلين هما عالم الحياة وعالم الآخرة لذلك فقد حنطوا جثث موتاهم لكي تبقى محافظة على شكلها في العالم الآخر0
المصادر
1. طه باقر : مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ، دار المعلمين العالية ، بغداد ، 1955، ج1 .
2. ، طه باقر : ملحمة كلكامش ،مديرية الفنون والثقافة الشعبية ،بغداد، 1962.
3. جاك شورون : الموت في الفكر الغربي ، ص 22 0
4 . جان بوتيرو : الديانة عند البابليين ، ترجمة وليد الجادر ، 1970 ، ص 130 0
5 . ول ديورانت : قصة الحضارة ، ترجمة زكي نجيب محمود ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، ط3، القاهرة ، بدون تاريخ ، الجزء الأول من المجلد الأول ، ص 162 0
6 . إبراهيم ، نجيب ميخائيل : مصر والشرق الأدنى القديم ، ص 178-189 0








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارة إسرائيلية تقتل 3 عناصر من -حزب الله- في جنوب لبنان


.. عملية -نور شمس-.. إسرائيل تعلن قتل 10 فلسطينيين




.. تباعد في المفاوضات.. مفاوضات «هدنة غزة» إلى «مصير مجهول»


.. رفح تترقب الاجتياح البري.. -أين المفر؟-




.. قصف الاحتلال منزلا في حي السلام شرق رفح