الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من بقايا ذاكرة إنسان لاديني...نعمة العقل(8)

حكمت حمزة

2017 / 12 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان الموقف الشجاع الذي اتخذته ذاك اليوم، بداية لتغيير أشبه بالجذري في حياتي، و رغم أن الوضع العام لم يتأثر كثيرا، إلا أن الأثر نفسي أكثر بكثير من كونه واقعي...أصبح الليل أكثر سكونا وسعادة بالنسبة لي، لم يعد يزعجني برده، وأصوات الرعد التي تصدح في الخارج أضحت لمسامعي أروع سيمفونية، مع أن الليل نفسه، والبرد والأجواء كلها تتكرر تقريبا في كل ليلة، إلا أن لذة الانتصار لها ريشة تلون اللحظات بألوان أبهى بكثير من أن تعرفها أيدي البشر.
مرت بضعة أيام على هذا المنوال، يوقظني أبي كي أصلي الفجر في المنزل، و لم يعد يطلب مني أن أذهب إلى المسجد ليلا...عشت حوالى خمسة عشر يوما بشكل هادئ ومستتب، أقرب إلى الروتين الممل منه إلى الهدوء، فلا صدامات عائلية أو شجارات مع الوالد، مما جعلني أشعر بالملل، فرغم صغر سني لم أكن معتادا على تكرار تفس الأشياء دوما، بغض النظر عن الشيء الذي أقوم به...لطالما ذكرني شريط ذكرياتي الذي أسترجعه بشكل شبه يومي، بأني لم أكن يوما إنسانا روتينيا، و لا زالت تلك الصفة تلازمني حتى الآن، باستثناء بعض الأغاني والسيمفونيات لمشاهير الموسيقى مثل موزارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي و فيفالدي، لأني أدمنت عليها منذ المرة الأولى التي سمعتها، ولا زال إدمانها رفيق دربي حتى لحظة كتابة هذه السطور. المهم، بنتيجة هذا الروتين الممل، و زد على ذلك كرهي للروتين، بدأ شعور التذمر من الصلاة يراودني شيئا فشيئا، و بدأت العلاقات تتوطد بيني وبين شيطان النوم والتقاعس عن العبادة، كنت محتارا جدا بين واجبي الإلهي، وغضب الإله، وغضب أبي، و أفكاري الشيطانية، فكل له من المزايا ما يجذبك، ومن الأهوال ما يردعك، وباستثناء أني كنت ولا زلت أفضل راحتي الشخصية على جميع الأمور، إلا أني أعترف لكم بخوفي ذلك الوقت من موضوع التقاعس عن الصلاة أو تأجيلها، لم أكن في وضع أو مستوى عمري أو عقلي أو نفسي، يسمح لي بتحطيم ذاك الحاجز وتحدي إرادة كل من الله وأبي، صحيح أن موقفي تجاه الذهاب ليلا للمسجد، والذي أحسست فيه بانتصاري، لم يمض عليه أكثر من أسبوعين، ولكني كنت أحس بأن الحق يقف إلى جانبي حينها، أما اليوم فأنا أفكر في فعل المحرمات، وارتكاب الذنوب، لأنه لا مبرر لدي للاستغراق في النوم سوى أني لا أريد الاستيقاظ، صحيح أن الوضوء بالماء المثلج هو نفسه في كلا الحالتين، بيد أن رغبتك في عبادة الله بشكل هادئ ودون معاناة شيء، و تأجيل هذه العبادة لأنك متكاسل شيء آخر...بصراحة لم تكن لدي الجرأة الكافية لفعلها، ولكن بذورها كانت تنمو بشكل بطئ داخلي، وتترعرع دونما شعور مني، و قد كان لهذه البذور الفضل الأول في اقتحامي حاجز الممنوعات والحرمات، وكسر عقدة الخوف من الإله، أو بالأحرى عدم الاكتراث لغضبه فيما بعد، كل هذه التطورات حدثت مستقبلا، كما ستخبركم السطور التي ستتحدث عن حياتي بعد ست أو سبع سنوات من هذه اللحظات التي بدأت أفكر فيها بطريقة شيطانية.
كنت أستيقظ كل يوم على صوت والدي، أبقى في فراشي لعدة دقائق وأنا أصارع أفكاري في أقصر ملحمة فكرية عرفتها في حياتي، لا يمكنكم تخيل أعداد الضحايا الفكرية التي كانت تسقط كل يوم أمام جدران الله، ومع اختلاف أشكال ومضمون الضحايا، إلا أن النهاية كانت واحدة دوما، وهي فوز الصلاة على التقاعس عنها وبفارق كبير، و اضطررت للحفاظ على ذاك الاستيقاظ المزعج على مضض، لكن العبرة في الجولة الأخيرة من المعركة، والفائز الحقيقي هو الذي ينتصر فيها.
اقترب اليوم الذي أحس بمشاعر مختلطة تجاهه، يوم مولدي، أحيانا أعشق اليوم الذي أبصرت فيه عيناي النور، وأحيانا ألعن الساعة التي تزوج فيها أبي وأمي واستمروا بإنجاب الأطفال حتى وصلوا إلي، كانت مجريات الحياة هي المالك الحقيقي والفعلي لذاك اليوم وليس أنا، و أغلب الظن أن الكثيرين يشاركونني هذه المشاعر، فالحياة نفسها التي تحمل لك كل السعادة بيمينها، تعطيك أكوام اليأس والأوجاع بشمالها، ولم تكن الحياة تمضي على ايقاع معين، فالمفاجآت كثيرة، ولا تدري كل يوم بأي كف تستقبل، كف السعادة أم كف التعاسة.
في ذلك اليوم كنت سأتم سنتي الثالثة عشر من عمري، وأحزم حقائبي وأمتعتي وأرحل إلى السنة الرابعة عشر، في لحظات كان أكبر همنا وأحلامنا، هو أن يصبح صوتنا خشنا، وتنمو بضع شعرات في لحيتنا، لعلنا نحس بالشباب الذي يقال عنه ليته لو عاد يوما. أحببت أن أحتفل بعيد ميلادي في ذلك اليوم، كما الأطفال الذين نشاهدهم في المسلسلات الكرتونية والحقيقية، قالب من الكيك وشموع مشتعلة ومفرقعات وعائلة تغني لي (سنة حلوة يا حميل). ظننت بأن فكرة الاحتفال بهذه المناسبة ستسعد الجميع، وأنا سأكون مميزا باعتباري أقترح فكرة جديدة، و لشدة بساطتي في ذلك الوقت، ظننت بأن عائلتي لا يخطر ببالها الاحتفال بميلاد أبناءها، أو أنهم لا يعرفون أن أحدا ما يحتفل بعيد ميلاده، لذا وبكل نفس واثقة، قررت أن أكون أول من يطرق هذا الباب في المنزل.
عدت من المدرسة في اليوم التالي، كان أبي عائدا من عمله فركضت نحوه وقلت له:
- عندي اقتراح جديد يا أبي هل تسمعه؟
- قل يا بني ماذا لديك.
- غدا هو يوم مولدي، ما رأيك أن نجهز الكيك والشموع لنحتفل جميعا بعيد ميلادي؟
- ماذا؟؟! أعد ما قلته لم أفهم جيدا.
ظننت بالفعل أن أبي لم يسمع ما قلت، فأعدتها بالصوت العالي:
- ما رأيك أن نحتفل جميعا بعيد ميلادي غدا، فنحن لم نحتفل بعيد ميلاد أحد من العائلة قط، دعنا نفعلها غدا واعتبرني أنا أول من تحتفل بهم.
أسارير أبي التي كنت أتوقع انفراجها تبخرت في ثوان معدودة، والوجه الطبيعي استحال عابسا في لمح البصر، نظرات التأنيب واللوم والغضب (المألوفة بالنسبة لي) ظهرت فجأة، تبعتها رشقات من الصراخ:
- جيد جدا، هذا ما ينقصنا، الاحتفال بعيد ميلادك، ألا تخاف الله أنت، ألا تعلم أن هذا تشبه بالمسيحيين؟، أتريد أن تجعل العالم ينظرون إلينا بسوء ونصبح سيرة على كل لسان؟ اصمت ولا تتكلم أبدا، وانس موضوع الاحتفال بعيد الميلاد بنفسك، كي لا أجعلك تنساه على طريقتي.
بدأ السواد يتغلغل في عيوني، والحزن الشديد يتملكني، لم أشعر يوما بحزن كهذا، فكل الفرح والمشاهد التي تخيلتها وكنت متأكدا من حدوثها، لم تكن سوى أحلام يقظة، ولا يحق لي أن أحققها، بدأ حلقي يؤلمني بسبب تكرار محاولاتي لابتلاع دموعي وبكائي، وقلت لأبي بصوت تغمره حشرجة البكاء الصامت:
- ولكن يا أبي ما دخلنا والمسيحية، وما علاقة الناس بنا، أنا أريد الاحتفال بعيد ميلادي وسأكون سعيدا جدا ف....
- (مقاطعا) اخرس لعنك الله، قلت لك لا احتفال يعني لا احتفال، كم مرة يجب أن أكررها كي تفهم، هذا ما كان ينقصني، بعد هذا العمر أقيم حفلات عيد ميلاد في منزلي.
- أرجوك يا أبي لا...
- قرار واتخذته، لا تحاول فلن أوافق، طالما أنا حي لا احتفال بعيد ميلاد أحد هل فهمت.
وقتها لم أستطع حبس دموعي لفترة أطول، واسلت دمعة من عيوني على حين غرة وخرجت، والدمع من أخبث الأشياء، فما إن تهرب وادة حتى يتبعها جميع من هم رهن الاحتجاز، وتتساقط الدموع واحدة تلو الأخرى، والغصة التي من المفترض ان تتلاشى بعد انفلات الدموع، أصبحت أشد قوة و إيلاما من قبل، مشيت إلى غرفتي وأنا أبكي، كنت بحاجة لمن يمسح دموعي، ويتفهم مدى تعلقي بهذه الحفلة التي من المفترض أن تتم، لكن في جو ومنزل مثل الذي كنت أعيش به، كانت هذه الاشياء ممنوعة من التصنيع المحلي، وحتى من الاستيراد الخارجي.
بحثت عن أشياء أفعلها علي أنسى حزني، فتذكرت الفروض المدرسية التي يجب أن أنجزها في المنزل، أخرجت كراساتي وبدأت في كتابة الوظائف، إلا أن ذلك لم ينفعني في النسيان، وأذكر جيدا أني اضطررت يومها إلى تمزيق أكثر من تسع صفحات من دفتري، لأني كلما أنجزت جزءا من الوظيفة المدرسية وتوقفت قليلا، أتذكر الموقف الذي حصل وأبكي، فتبتل الورقة بدموعي وتصبح بمظهر سيء، مما يجبرني على تمزيقها وكتابة الوظيفة من جديد.
حان وقت وجبة الغداء، قامت امي وشقيقتي الكبرى بتحضيرها، ودخل أبي غرفتي ليقول بأنه يجب علي التوجه إلى الغرفة الأخرى لأتغدى، فقلت له:
- لست جائعا، ولن آكل معكم.
- وهل تظن الموضوع سيسير كما تشتهي، هيا تحرك.
- قلت لك لست جائعا.
- وأنا قلت لك هيا تحرك، وإلا سأجعلك تأكل بطريقتي الخاصة.
- افعل ما تشاء، فلن أضع في فمي لقمة واحدة.
لا أدري من أين أتاني العناد يومها، إلا أن أبي أمسك بي وحملني غصبا عني إلى الغرفة التي نتناول فيها لطعام عادة، وأنا أتخبط بين يديه كالسمكة التي أخرجت لتوها من الماء، أجلسني بجانبه وقال:
- هيا تناول طعامك.
- لست جائعا ولن أتناول شيئا.
- حسنا ستأكل غصبا عنك وسترى.
ملأ أبي ملعقة بالأرز، وأمسك بفكي بيده القوية، وبدأ يحاول حشر الملعقة في فمي غصبا، أما أنا فازددت عنادا وأغلقت فمي بكل ما أوتيت من قوة، وعندما أحسست بأني بدأت أفقد قواي، بدأت أحرك وجهي شمالا ويمينا، وأبي مستمر بمحاولته، مما جعل وجهي يمتلأ بحبات الأرز التي رفضت أكلها، وخلال تحريكي لوجهي لمقاومة أبي، بدأت الدموع تنهمر فجأة من عيوني، أكوام من القهر والظلم أحسست بها في ذلك الوقت، قمت بإفلات فكي من يد أبي على حين غرة، وهربت مسرعا وأنا أصيح باكي: قلت لك لا اريد أن أتسمم (وهي مصطلح دارج في بلادنا، يقوله الانسان الغاضب إذا عرض عليه تناول الطعام)، وهربت إلى غرفتي.
ارتميت على السجادة ووضعت رأسي بين يدي واستمريت في البكاء، كانت تلك من اللحظات الأكثر سوداوية في حياتي، جعلتني ألعن نفسي وألعن اليوم الذي جئت فيه إلى هذه الحياة القذرة.
تلك الأمور او الجزئيات التي تناولتها حياتي غصبا عني في صغري، تجعلني أتردد ألف مرة قبل أن أفكر في الزواج، أحس نفسي غير مستعد بعد لهذه المهمة، وبغض النظر عن التكاليف المادية، أنا لا يمكنني أبدا أن أجعل أطفالي يعيشون حياة كالتي عاشها والدهم، فأن لم أصدق كيف استطعت التملص من براثن طفولة كهذه، ولا أريد لهذا المشهد أن يتكرر أبدا مستقبلا، لذا كلما فكرت في موضوع الزواج، أعيد حساباتي كلها كي لا يتبقى لدي أي ثغرة أو هفوة تجعل مني قاسيا على أبنائي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح