الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف يكون الإبداع الشعرى مع القتل وطلب المستحيل؟

طلعت رضوان

2017 / 12 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كيف يكون الإبداع الشعرى مع القتل وطلب المستحيل؟
طلعت رضوان
إذا كان الإنسان الأول (فى بدايات الطفولة البشرية وتكوين أول مجتمع إنسانى) كان يعتمد الصيد والقنص، وكان يضطرإلى الدخول فى صراع دموى مع (إنسان مثله) حتى تكون (الفريسة) لأحدهما، وإذا كانت البشرية قد تجاوزتْ تلك المرحلة عبْرآلاف السنين، فلماذا استمرّالصراع بين الإنسان وأخيه فى البشرية؟
وأعتقد أنّ من بين الآفات التى تعرّض لها البشر، هى آفة (طلب المُـستحيل) وهى آفة تدخل ضمن (الطوباوية المريضة) مثل الرغبة فى تدميرإسرائيل، وعودة اليهود الذين احتلوا فلسطين إلى بلادهم التى أتوا منها، أوالقذف بهم فى البحر، كما قال العروبيون والناصريون، دون أدنى درجة من درجات التعامل مع المستوى العلمى والتكنولوجى لإسرائيل، وهذا ما أطلقتُ عليه (الطوباوية المريضة) التى تعنى طلب المستحيل.

وإذا كان السياسيون لهم توجهاتهم الأيويولوجية، فإنّ الكارثة الحقيقية تتجسّـد أكثر، عندما يتبنى المُـبدع (رورائى أوشاعرإلخ) هذا التوجه الأيديولوجى، ويُـعبّرإبداعه عن تلك الطوباوية المريضة، مثلما فعل الشاعرالكبيرالموهوب أمل دنقل فى قصيدته (مقتل كليب) التى أخذتْ اسم (لا تُصالح) وبعد أنْ قرأتُ مقطعها الأول، تساءلتُ كيف لشاعرأنْ يتبنى العنف، بينما الإبداع يسعى لترسيخ التحضر؟ وتضخم التساؤل مع ولع الثقافة السائدة بهذه القصيدة، كستارمن الدخان يعمى عن حقيقة أنّ مأساة الشعب الفلسطينى لن تــُــنهيها قصائد التحريض فى طوباوية مريضة تنص على (إما نحن أوهم) فإذا كانتْ مرجعية الشاعرمستمدة من التراث العربى (مقتل كليب) وأنّ الصلح لن يتم إلاّبعودة القتيل إلى الحياة (= طلب المستحيل) فإنّ الإسقاط على قضية الفلسطينيين يعنى عودة عقارب الزمن إلى عام تقسيم فلسطين، أى إجراء عملية جراحية (إنْ جازالتعبير) فى جسد الماضى، فتتنازل إسرائيل عن كل انتصاراتها الساحقة، ويعود الوضع كما كان قبل عام التقسيم (= عودة القتيل إلى الحياة) هنا يتبيّن أنّ الثقافة السائدة المولعة بالشعارات لم تــُـدرك التناقض الذى وقع فيه الشاعرعندما قال ((إنها الحرب/ قد تــُـثقل القلب/ لكن خلفك عارالعرب/ لا تــُـصالح/ ولاتتوخ الهرب))
صحيح أنّ الهرب مرفوض، ولكن إذا كان الفلسطينيون خلفهم ((عارالعرب)) فكيف يُمكن أنْ يتخلــّـصوا من هذا (العارالعربى) وهم ملتصقون ببعض التصاق الجنين بالمشيمة؟ هذا السؤال واحد من أسئلة كثيرة مسكوت عنها فى قصيدة الشاعر. كما أنّ القصيدة تمتلىء بالصياغات التقريرية والبديهيات الطبيعية مثل قوله ((أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبتْ جوهرتيْن مكانهما/ هل ترى؟)) فما الجديد الذى أضافه الشاعرلوعى القارىء؟ فأى إنسان يعلم هذه البديهية. كما أنّ الشاعرانزلق وراء الصياغة الشاعرية متجاهلا أنّ الإنسان الحريُدرك ويرى بصيرته أكثرمما يرى ويُدرك ببصره.
تأثرأمل دنقل بالتراث العربى، فأخذ ما حدث عن حرب البسوس، وجملة اليمامة الشهيرة ((أنا لا أصالح)) وأسقطه على مأساة الشعب الفلسطينى. وجاء فى كتب التراث العربى عن موقف اليمامة التى توهـّـمتْ امكانية تحقيق المستحيل (( فلما جاءتْ الوفود ساعية إلى الصلح، قال لهم الأميرسالم: أصالح إذا صالحتْ اليمامة، فقصدتْ إلى اليمامة أمها الجليلة ومن معها من نساء سادات القبيلة، فدخلنَ إليها وقـبّـلتْ الجليلة بنتها وقالت: أما كفى؟ فقد أهلكتْ الحرب رجالنا.. وساءتْ أحوالنا.. ومات فرساننا..فقالت لها اليمامة: ((أنا لا أصالح ولولم يبق منا أحد يقدرأنْ يُـكافح)) واعترف الشاعرأمل دنقل بالهدف الذى جعله يكتب تلك القصيدة فقال ((حاولتُ أنْ أقدم فى هذه المجموعة حرب البسوس التى استمرتْ أربعين سنة، عن طريق رؤية معاصرة. وقد حاولتُ أنْ أجعل من كليب رمزا للمجد العربى القتيل، أوللأرض العربية السليبة..ولانرى سبيلا لعودتها إلاّبالدم..وبالدم وحده)) (مجلة آفاق عربية – عام 1981، وص372 من ديوان الشاعر)

فإذا كانت اليمامة (ابنة كليب) مصابة بالطوباوية المريضة عندما قالت ((إنى لا أصالح إلى الأبد، مادامت روحى فى هذا الجسد)) فكيف انتقلتْ العدوى إلى الشاعرالذى عاش فى القرن العشرين؟ ولماذا لم ينتبه إلى أنّ عدم الصلح يعنى القتال، وأنّ القتال يعنى الاستعداد للحرب، وهذا معناه (توازن القوى) فى المنطقة، وهوتوازن غيرمُــتحقق، لأنّ كل المؤشرات تؤكد تفوق إسرائيل على كل الأنظمة العربية وتخاذلها وعدم وقوفها مع الشعب الفلسطينى عندما كتب ((إنها الحرب/ قد تــُـثقل القلب/ لكن خلفك عارالعرب)) وهنا كان الشاعر(المريض بطلب المستحيل) لم يهتم بنتائج تلك الحرب التى يتمناها، ونتيجتها المُـرعبة، كان همه (الوحيد) الاستمرارفى الحرب حتى لومات الشعب الفلسطينى كله، عملا بقول اليمامة ((أنا لا أصالح ولولم يبق منا أحد يقدرأنْ يكافح))
وإذا كان الشاعركتب ومضى (فهذه رؤيته وهذا حقه) فإنّ الكارثة تكمن فى الثقافة السائدة المولعة بالإبداع أحادى النظروالذى يجترتراث العنف دون أفق إنسانى يبتكرتصورات لمجتمع بشرى أقل تعاسة وأكثرسعادة. وكما احتفتْ الثقافة السائدة بقصيدة (لاتصالح) سبق لها أنْ فعلتْ نفس الشىْ مع قصيدة (إما أنْ نكون أولانكون) ل (على أحمد باكثير) وفيها قال ((لاصُلح ياقومى وإنْ طال المدى/ وإنْ أغارخصمنا وأنجدا/ وإنْ بغى وإنْ طغى وإنْ عدا)) إلخ. الفساد الشعرى هنا يكمن فى توظيف جملة شكسبيرالفلسفية لأغراض السياسة وفوقها ديماجوجية فجة، مثلها مثل فساد طلب عودة القتيل إلى الحياة. وفى كل الحالات يجد العقل الحرأنه أمام دوائرعبثية من اجترارالذهنية العربية التى ترى (إما الكل أولاشىء) وهى ذهنية عبّرعنها شاعرعربى قديم (عمروبن كلثوم) فى قوله ((وإنــّـا أناس لا توسط بيننا/ لنا الصدردون العالمين أوالقبر)) وقال أيضًا ((لنا الدنيا ومن أمسى عليها/ ونبطش حين نبطش قادرينا/ طغاة ظالمون وما ظــُـلمنا/ ونظلم حين نظلم بادئينا)) أليستْ دائرة الثأرالجهنمية هى دعوة للانتحارالجماعى، كما تفعل حماس التى ترى أنّ بقاءها وحصولها على أموال الشعوب العربية والإتحاد الأوروبى مرهون باستمرارشقاء الشعب الفلسطينى حتى ولوأدى الأمرإلى فنائه. وكان أ.عبدالرحمن الراشد على حق عندما ذكرأنّ الرافضين لإطلاق سراح شاليط (الجندى الإسرائيلى) لايهمهم مأساة مليون فلسطينى، لأنّ ذلك لوتم فلن يكون هناك حصارومواجهات وقضية يرفعون قميصها كل يوم لأغراضهم الأخرى (صحيفة الشرق الأوسط 1/6/2010ص13)
ولعلّ نظرة إلى دواوين محمود درويش الأولى الخطابية، ووقوعه فى التناقض بين تحرير فلسطين وإدانته للشعب الإسبانى الذى تحررمن مستعمريه، كما فى قصيدته الطويلة (أحد عشر كوكبًا- على آخرالمشهد الأندلسى) مقطع (الكمنجات) التى يقول فيها ((الكمنجات تبكى مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس/ الكمنجات تبكى على العرب الخارجين من الأندلس/ الكمنجات تبكى على زمن ضائع لايعود/ الكمنجات تبكى على وطن ضائع قد يعود)) إلخ ويصل به العنف اللفظى مداه فى قصيدته (بطاقة هوية) حيث قال ((سجــّـل برأس الصفحة الأولى/ أنا لا أكره الناس/ ولا أسطو على أحد/ ولكنى إذا ما جُعتُ/ آكل لحم مغتصبى)) ولكنه عندما راجع نفسه وقرأ الواقع العربى بروح حيادية، اكتشف وهــَـمْ مقولة أنّ (العرب يُساندون الشعب الفلسطينى) فكتب فى قصيدة (أحمد الزعتر): ((وأحمد العربى يصعد كى يرى حيفا/ ويقفز/ أحمد الآن الرهينة/ تركتْ شوارعها المدينة/ وأتتْ إليه/ لتقتله/ ومن الخليج إلى المحيط، من المحيط إلى الخليج/ كانوا يُعدون الجنازة/ وانتخاب المقصلة)) ويرتفع وعيه أكثرفى قصيدته الطويلة (جدارية) إذْ كتب ((باطل، باطل الأباطيل..باطل/ كل شىء على البسيطة زائل/ لاجديد إذن/ والزمن/ كان أمس/ سُدى فى سُدى/ للولادة وقت/ وللموت وقت/ وللصمت وقت/ وللنطق وقت/ وللحرب وقت/ وللصلح وقت))

وفى دواوينه الأخيرة تتسع نظرته إلى الكون والوجود، بلغة شاعرية جمعتْ بين الفلسفة والبُعد الإنسانى فكتب ((كنتُ أحسب أنّ المكان يُعرف/ بالأمهات ورائحة المريمية/ لا أحد/ قال لى إنّ هذا يُسمى بلادًا/ وأنّ وراء البلاد حدودًا، وأنّ وراء الحدود مكانــًـا يُسمى شتاتــًـا ومنفى/ لنا، لم أكن بعد فى حاجة للهوية/ ...والهوية؟ قلتُ/ فقال دفاع عن الذات/ إنّ الهوية بنت الولادة، لكنها فى النهاية إبداع صاحبها، لاوراثة ماضٍ. أنا المُــتعـدّد/ فى داخلى خارجى المُـتجــدّد/ يُحب بلادًا، ويرحل عنها (هل المستحيل بعيد؟) يُحب الرحيل إلى أى شىء/ ففى السفرالحربين الثقافات/ قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشرى/ مقاعد كافة للجميع)) (مقاطع من ديوانه " كزهراللوزأو أبعد" دارنشررياض الريس 2005)
وأعتقد أنّ الروائية والشاعرة سهيرالمصادفة عندما كتبتْ قصيدتها المعنونة (محمود درويش) كانت تعى تطورالمراحل الشعرية لهذا الشاعرالفلسطسنى الكبير، إذْ كتبتْ ((من أظافرنا تهرب غابات/ بحار، أنهارغربة متوجة/ بنيران حامليها/ تخرج من أنوفنا/ بدايات الصمود أمام شيخوخةٍ ما/ فيخمد فينا وهج الأعضاء/ نخلع عن أجسادنا الرصاص/ نُضمّد خدوش موسيقى الجاز.. إلى أنْ تقول نــُـحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا)) بهذه الصياغة الشاعرية أثبتتْ سهيرالمصادفة قدرتها على قراءة شعرمحمود درويش فى تحولاته، إذْ أنه فى أعماله الأخيرة كان ينحونحوأنْ ((نخلع عن أجسادنا الرصاص)) أى نبذ العنف، و((نــُـضمّد خدوش موسيقى الجاز)) أى نحب الحياة ونرقص على أنغام تلك الموسيقى الإفريقية الجميلة المنتشرة فى أمريكا وأوروبا بينما نحن (المصريين) لانمارسها. والممارسة هى تضميد جروح هذه الموسيقى.
وكما قرأتْ سهيرالمصادفة شعرمحمود درويش، قرأتْ شعرأمل دنقل فى تحولاته فكتبتْ عنه قصيدة معنونة باسمه قالت فيها ((يا لك من خائن/ لماذا لم تأت فى موعدك؟ لدىّ دم طازج/ ونصال لامعة/ وموسيقى تصلح/ لنومٍ طويلٍ هادىء)) (قصيدتيها عن محمود درويش وأمل دنقل من ديوانها "فتاة تُجرب حتفها" دارالتلاقى للكتاب- ط 2عام 2009)
بلغة شاعرية وبكلمات قليلة صاغتْ التضاد الجدلى بين (النصال اللامعة) و(الموسيقى الصالحة لنوم طويل هادىء) أى أنه لواقترب من عالمها، وذهب فى موعده، فربما كان يُـعيد النظرفى توجهاته الأيديولوجية، لأنّ (النصال اللامعة) هى اجترارللموروث العربى القائم على أفضلية السيف على القلم، أى أفضلية العنف على التحضر، وهوالمعنى الذى كتب عنه كثيرون من شعراء العرب، وكان أبرزهم المتنبى الذى قال ((حتى رجعتُ وأقلامى قوائل لى/ المجد للسيف.. ليس المجد للقلم)) ولما دخل (معد المعز) مصرسأله ابن طباطا العلوى عن نسبه، فجذب نصف سيفه من غمده وقال ((هذا نسبى)) (أنظربدائع الزهورفى وقائع الدهور- تأليف محمد بن أحمد بن إياس- هيئة الكتاب المصرية - عام 82ص 187)
فإذا كان بعض الشعراء المعاصرين لنا يلوكون تراث الماضى القائم على لغة الخطابة الحماسية كما قال المفكرالسعودى عبد الله القصيمى ((إنّ الإنسان العربى لم تتخلــّـق فيه مواهب الإنسان المُـتحضر)) (العرب ظاهرة صوتية- منشورات الجمل عام 2000ص 405) فهل يأتى يومٌ يكون فيه (المجد للقلم وليس للسيف)؟ أى تعظيم قيم التحضرلمواجهة خطاب العنف وآلياته؟ سؤال أترك إجابته لعقل وضميرالثقافة السائدة فى مصر. وإلى متى يظل العرب (ومعهم قطاع عريض من المُــتعلمين المصريين) داخل دوامة (الطوباوية المريضة) وهل يمكن لأمثالهم الخروج من وحل طين طلب المستحيل؟ وهل يمكن أنْ يأتى يوم تكون فيه البشرية نجحتْ فى (قتل) الرغبة فى القتل؟
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah


.. #shorts -75- Al-baqarah




.. #shorts -81- Al-baqarah