الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماركس وروسيا البحث عن ثورة (4-4)

هشام روحانا

2017 / 12 / 25
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا




** خصوصيات الحالة
في النُسخ التمهيدية المتبقية لدينا من هذه الرسالة يبحث ماركس هذه القضايا بشكل مطول أكثر وبعمق أكبر مما ظهر في الرسالة الفعلية المرسلة لفيراساسلوليتش. ويناقش ماركس فيها خصوصيات حالة روسيا بوصفها بلدا واسعا على أطراف أوروبا:" ليست روسيا في عزلة عن العالم الحديث ولم تقع فريسة لغزو خارجي كالهند الشرقية" (Shanin 1983a, 106). ولهذا فإنه من الممكن دمج تشكيلات المجتمع التشاركي الروسي القديم مع التقانة الحديثة وسيكون هذا أقل استغلالية مما هو الأمر تحت النظام الرأسمالي.


** التشكيلة التشاركية
تعاملت الموضوعة الثالثة في النسخ التمهيدية للرسالة الى زاسوليتش مع احتمالات الثورة في روسيا والشكل الذي قد تتخذه هذه الثورة. ويوازن ماركس هنا ما بين صلابة التشكيلة التشاركية الروسية مع التهديد الذي تتعرض له من قبل رأس المال ومن قبل الدولة. وفي الوقت الذي تمتلك فيه التشاركية الروسية مقدارا معينا من الحيوية الا انها معزولة في قرى مشتتة على طول البلاد" ذات المساحات الشاسعة" يحلق فوقها "استبداد مركزي". ومع أن الوضع الحالي في الدولة يغذي استمرار عزلتها لكن " من الممكن تجاوز الأمر بسهولة إذا ما حررت الحكومة القيود"(103). لكن هذا الأمر غير ممكن بدون ثورة




ذكرت في مواقع مختلفة من رأس المال المصير الذي حل بجماهير العامة في روما القديمة. كانوا في الأصل فلاحين أحرارا، يفلح كل واحد منهم قسيمته من الأرض لمنفعته الشخصية. وخلال مسيرة التاريخ الروماني جردوا من ملكياتهم. وتضمن نفس المسار التاريخي الذي أدى الى تجريدهم من وسائل الإنتاج ومقومات المعيشة تَشكُلَ مُلكيات خاصة من الأراضي الشاسعة ورأس مال نقدي هائل أيضا. وفي صباح أحد الأيام اللطيفة وعلى جانب واحد، وُجِد رجالٌ أحرارٌ من كل شيء سوى قوة عملهم، وعلى الجانب الآخر ومن أجل استغلال قوة العمل هذه، مالكون يملكون جميع الثروة المكتسبة. فما الذي حدث؟ لم تتحول البروليتاريا الرومانية الى عمال بالأجرة بل صارت "غوغاء" عاطلة عن العمل، أحط خسة مِن مَنْ كانوا يسمون البيض الفقراءفي الولايات الجنوبية لأمريكا، وبالتوازي ما نشأ بعد هذا [se d ploya] ليس نظام انتاج رأسمالي بل نظام أنتاج قائم على العبودية. (136)

ورغم أن ماركس يعقد موازاة بين روما القديمة والولايات الجنوبية الأمريكية فإن اهتمامه يتخذ وجهة مختلفة، نحو التباين الجذري بين الرومان والتشكيلة الاجتماعية للرأسمالية المعاصرة.
وموضوعة ماركس الرئيسية هي أنه وبعكس ادعاء ميخائيلوفسكي لم يطور " نظرية فلسفية-تاريخية شاملة" للمجتمع، قابلة لأن تعمم على جميع الأزمنة والأمكنة:

وهكذا فإن أحداثا متشابهة تشابها مدهشا تقع في سياقات تاريخية مختلفة تؤدي الى نتائج متباينة بالكامل. ومن خلال دراسة كل واحدة من هذه التطورات على حِدة يستطيع المرء اكتشاف مفتاح هذه الظاهرة، لكن هذا لا يمكن بلوغه بمفتاح عام[[avec lepassepartout مفتاح متوفر في نظرية تاريخية فلسفية تكمن فضيلتها الأسمى في انها فوق-تاريخية. (Supra-historical) (Shanin 1983a, 136)

يتبرم ماركس فيكتب بأن ميخائيلوفسكي: "يصر على تحويل التخطيط التاريخي الذي رسمته لتكون الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية تاريخية – فلسفية ذات منحى جامع محتوم ولا مرد له يحل على جميع البشر أيا تكن الظروف التاريخية التي قد يجدوا أنفسهم فيها" (136)
يرفض ماركس إذا :1) أنه قد استنبط نظرية في التاريخ تقول بأحادية مسار التطور 2) وينكر أنه يوظف نموذجا حتميا للتطور الاجتماعي 3) أن روسيا مقيدة بأن تتطور باتجاه الرأسمالية الغربية. ولقد كانت هذه الادعاءات الى حد ما جديدة رغم أنها نبتت على أرضية الانتقال الذي اجراه ماركس نحو تبني شبكة تقول بتعدد مسارات التطور التاريخي منذ أن اشتغل على الجروندريسه.
نظرا لمستوى التعميم الذي يصوغ ماركس فيه ادعاءاته فمن المرجح أنه كان يقصد تطبيق هذه التعديلات ليس على روسيا فحسب بل والهند إضافة الى مجتمعات معاصرة غير غربية وغير مصنعة كان يقوم بدراستها عندها. كان للهند كما لروسيا تشكيلات اجتماعية تشاركية في القرى، الأمر الذي استدعى كرادِر (*) للكتابة حول "موقف ماركس من الإمكانيات المفتوحة امام مؤسسات المجتمع التشاركي في روسيا والهند"(1974, 29). وكانت في كل من إندونيسيا الجزائر وامريكا اللاتينية وهي مناطق كان يتناولها في دفاتر ملاحظاته للأعوام 1879-1882، تشكيلات اجتماعية تشاركية. وبسبب الكولونيالية،أثرت الرأسمالية في هذه المجتمعات بشكل أكثر مباشرة من روسيا. وعلى كل الأحوال يستطيع المرء أن يقدر أن ماركس كان مهتما بتطور هذه المجتمعات في مسار مضاد للرأسمالية محتمل، بموازاة الخطوط التي كان قد بدأ يرسمها لروسيا.
تؤكد رسالة ماركس عام 1877 الى (OtechestvennyeZapiski)، منظوره القائل بتطور تاريخي متعدد المسارات، في نفس الوقت الذي لا تحلل المجتمع الروسي أكثر مما كان قد فعل في رأس المال. لكنه في رسالته للثورية الروسية فيرا ساسوليتش (Vera Zasulich) يبدأ ماركس بوضع ترسيم تخطيطي لما قد يبدو عليه المسار الروسي للتطور الاجتماعي داخل هذا المنظور المتعدد المسارات، والذي بدأ بدفعه الى الأمام في رسالته عام 1877 وفي النسخة الفرنسية من رأس المال. يشرح دافيد سميث ما كان قيد البحث بالنسبة لروسيا والتي كانت بنيتها الاجتماعية جزءا من التشكيلة الاسيوية للإنتاج: "يساعدنا تأكيد ماركس على منحنى التطور الأسيوي ليس على إظهار انفصال مفهوم ماركس عن نظرية مُقولِبة تفرض بالقوة ارتقاءً يتم بمراحل ثابتة، نظرية تتخفى على شكل’ مادية ماركسية ‘لسنوات عديدة، ولكن هذا التأكيد يساعدنا أيضا على رؤية مفهوم ماركس متعدد المسارات للمجتمع ما بعد الرأسمالي بالضبط كما كان إدراكه للماضي"(1995, 113). في رسالة بتاريخ 16-شباط - 1881 سألت فيرا ساسوليتش والتي وصفت نفسها بأنها عضو في "حزب اشتراكي" روسي، ماركس "إذا ما كان بمستطاع التشاركية الفلاحية الروسية، المتحررة من الضرائب الباهظة ومن المدفوعات للنبلاء وللإدارات المتعسفة، التطور في اتجاه اشتراكي" أم "أن هذه التشاركية الفلاحية محكومة بالفناء" وبأن على الاشتراكيين الروس انتظار تحقق التطور الرأسمالي ونهوض طبقة بروليتاريا، الخ الخ (Shanin 1983a, 98). وأضافت بأن اتباع ماركس الروس يتبنون الطرح الأخير مشيرة الى النقاشات الدائرة في الصحف ومنها (OtechestvennyeZapiski). وطلبت ساسوليتش ردا من ماركس يكون قابلا لأن يترجم وينشر في الروسية.
في رسالته بتاريخ 08-أذار-1881 يرد ماركس مقتبسا مرة أخرى من رأس المال بنسخته الفرنسية تلك الفقرة التي تحصر النقاش حول التراكم الأولي على أوروبا الغربية ويلخص:" وعليه فإن هذه الحتمية [fatalité] التاريخية لهذا المنحى مقتصرة وبوضوح على دول أوروبا الغربية"(Shanin 1983a, 124). ويضيف بأن الانتقال من شكل المُلكية الفيودالية الى المُلكية الرأسمالية في أوروبا الغربية كان" انتقالا من شكل ملكية خاصة الى شكل ملكية خاصة آخر" بينما التحول الرأسمالي في روسيا الفلاحية سيتطلب ما هو "عكس هذا، انتقال الملكية التشاركية الى ملكية خاصة" (124). ولهذا فإن رأس المال لم يتعامل معرفيا مع قضية مستقبل روسيا. وينهي رسالتها ببعض الملاحظات الأولية والمترددة حول روسيا:

إن دراستي الخاصة لها ... أقنعتني بأن القرية التشاركية هي نقطة الارتكاز لانبعاث المجتمع في روسيا. ولكن ومن أجل أن تقوم بهذه الوظيفة وعلى هذا النحو فإنه يجب العمل على تصفية التأثيرات المضرة التي تهاجمها من كل صوب ومن ثم تحقيق ضمان شروط عادية لتطورها الذاتي. (124)

يدعي ماركس هنا وكما فعل عام 1877 بأن مسارات بديلة للتطور قد تكون قائمة بالنسبة لروسيا. ويؤسس ادعائه بمعظمه على التباين البارز القائم بين القرية الروسية ببنيتها الاجتماعية التشاركية وقرية العصور الوسطى في أوروبا الغربية. ويزيد بأنه كان "مقتنعا ... بأن القرية التشاركية هي نقطة الارتكاز لانبعاث المجتمع في روسيا"(Marx in Shanin 1983a, 124).
في النُسخ التمهيدية المتبقية لدينا من هذه الرسالة يبحث ماركس هذه القضايا بشكل مطول أكثر وبعمق أكبر مما ظهر في الرسالة الفعلية المرسلة لفيراساسلوليتش. ويناقش ماركس فيها خصوصيات حالة روسيا بوصفها بلدا واسعا على أطراف أوروبا:" ليست روسيا في عزلة عن العالم الحديث ولم تقع فريسة لغزو خارجي كالهند الشرقية" (Shanin 1983a, 106). ولهذا فإنه من الممكن دمج تشكيلات المجتمع التشاركي الروسي القديم مع التقانة الحديثة وسيكون هذا أقل استغلالية مما هو الأمر تحت النظام الرأسمالي.
وعلينا أن نؤكد هنا بأن ماركس لم يكن يقترح نظاما للاكتفاء الذاتي بل توليفة جديدة تضم القديم والحديث، نظاما يستفيد من أرفع منجزات الحداثة الرأسمالية:
بفضل تضافر ظروف فريدة في روسيا فإن التشكيلة الاجتماعية التشاركية والقائمة فعلا على مستوى الدولة قادرة على نزع جوانبها البدائية بالتدريج والتطور مباشرة كأساس لنظام انتاج تعاوني على مستوى الدولة. وبالضبط لأنها تتزامن مع شكل الإنتاج الرأسمالي فإن التشكيلة التشاركية القروية تستطيع امتلاك المنجزات الإيجابية لنفسها دونما أن تكون مضطرة للمرور بمراحل تطوره الرهيبة... وإذا ما أنكر محبو الرأسمالية الروس أن يكون مثل هذا التطور ممكنا فإنني عندها سأطرح أمامهم هذا السؤال: هل محكومة هي روسيا بالمرور بفترات الحضانة الطويلة الشبيهة بالنمط الأوروبي الغربي قبل أن تستطيع استخدام الماكينات، السفن البخارية، سكك الحديد وهلمجرا؟ وليفسروا لنا أيضا كيف على الروس التدبر وإدخال منظومة التبادل هذه كلها (البنوك وشركات الائتمان وما اليه) برمشة عين، والتي كانت نتاج عمل قرون في الغرب. (Shanin 1983a, 105–6)
والتأكيد هنا على ابراز الطابع التناقضي والديالكتيكي للتطور الاجتماعي على الضد من أحادية المسار الحتمي للتطور. ومن الناحية الموضوعية تستطيع التشكيلة التشاركية القروية في روسيا تجيير منجزات الحداثة الرأسمالية الغربية ذاتها. ومن الناحية الذاتية يخلق هذا الأمر وضعا مختلفا تماما عما كانت قد واجهته قديما حركات شعبية في المجتمعات ما قبل الرأسمالية.
أما الموضوعة الثانية، والتي لم تُعرض في الرسالة وبقيت في المسودة، فإنها تتعامل مع العلاقة بين ملخصاته في دفاتر الملاحظات حول الانثربولوجيا والهند وانعكاساتها على روسيا. يشير فيها مثلا الى فكرة مورغان بأن الحضارة الغربية في المستقبل سوف تبعث الشيوعية البدائية القديمة من جديد ولكن بشكل أعلى. ويشدد ماركس على مواصلة التشكيلة الاجتماعية التشاركية بقاءها في العديد من الدول. ويكتب بأن "الأبحاث الأخيرة" تطورت بما فيه الكفاية لتثبت 1) بأن للجماعات التشاركية البدائية حيوية أكبر مما لدى مجتمعات كالمجتمعات السامية أو الاغريقية أو الرومانية أو أشباهها، وبالأحرى [a fortiori] [بوضوح أكبر] أكثر من المجتمعات الرأسمالية المعاصرة؛ و2) بأن ما قد أدى الى انحدارها هو شروطها المادية التي منعتها من تجاوز مستوى محدد من التطور وهذا السياق التاريخي ليس قائما الآن بالنسبة للتشكيلة التشاركية الروسية. (Shanin 1983a, 107)
ويلاحظ ماركس التحييز المعادي للمجتمعات التشاركية لدى بعض الباحثين المعاصرين مهاجما ماين مرة أخرى:
على المرء أن يبقى متيقظا عندما يقرأ تاريخ المجتمعات التشاركية القديمة المكتوب من قبل المؤلفين البرجوازيين. فالأباطيل غير قادرة حتى على أن تجعلهم يرمشون. فها هو السير ماين على سبيل المثال، وهو الذي كان المتعاون المتحمس مع الحكومة الإنجليزية في حملتها المدمرة والعنيفة ضد المجتمعات التشاركية في الهند، يؤكد لنا منافقا بأن جميع الجهود النبيلة للحكومة من أجل المحافظة على المجتمعات التشاركية تقهقرت بفعل القوى الذاتية لقوانين السوق الاقتصادية! (Shanin 1983a, 107)
ورغما عن هذا التحيز الأيديولوجي المعادي للمجتمعات التشاركية ورغما عن الدمار الحقيقي اللاحق بها جراء فرض الشكل الإنجليزي للملكية الخاصة للأراضي على القرية الهندية، فإن المرء ما يزال قادرا كما يدعي ماركس على العثور على شواهد تدل على استمرار وجود هذه المجتمعات.
يقوم ماركس معتمدا وعلى الأرجح على ملاحظاته على كوفالسكي بوضع تصنيف أكثر عمومية للتشكيلات الاجتماعية التشاركية عابر لمختلف المجتمعات. تؤسس هذه المجتمعات المبكرة نفسها على شكل عشيرة ولا يرتبط هذا الشكل بتوزيع تشاركي للأراض بل وأيضا، " وعلى الأغلب فإن هذه الأرض قد تمت فلحها بمجموعات وبتشارك"(Shanin 1983a, 118). ولقد تأسست هذا التشاركيات على قرابة الدم الحقيقية أو المخترعة على شكل عشيرة:" لا يستطيع الشخص الانضمام اليها الا إذا كان قريبا طبيعيا أو قريبا بالتبني" (119). لاحقا وفي طور متأخر تحول هذا الشكل القديم الى الشكل القروي حيث تأسست التشاركية على الإقامة أكثر مما على صلة القربى. وهذا الشكل هو الذي وصفه ماركس بأنه يتمتع "بحيوية فطرية" أكبر (118). وفي هذه المجتمعات يتم " بشكل دوري إعادة تقسيم وتوزيع أراضي الفلاحة والأراضي الثابتة والممتلكات المشتركة بين أعضاء التشاركية الفلاحية". (119)
وهنالك في التعبير " التشاركية الفلاحية" ثنائية هامة. لقد شكلت الملكية التشاركية للأرض عاملا مشتركا للجميع بينما كما يكتب ماركس:" في نفس الوقت كان المنزل وحديقته حكرا فرديا للعائلة، ويشمل هذا قطعة أرض صغيرة واستملاك فردي لثمارها، مما أعطى مجالا لفردانية متناقضة مع بنية هذه المشاعيات البدائية الضاربة في القدم" (Shanin 1983a, 120). وفي حين تزود هذه الثنائية التشكيلة الاجتماعية بحيوية وقدرة على التعمير الا أنها " قد تنقلب الى بذرة تفسخ" هذه المشاعيات الفلاحية (120). وشكلت هذه الملكية الخاصة لقسائم الأرض الصغيرة والقادرة على التوسع عاملا واحدا لكن العامل الأكثر جوهرية في فناءها هو التحول في علاقات العمل الذي برز داخل هذا الشكل من اشكال الإنتاج:
لكن العامل الحاسم كان تجزئة العمل كمصدر للتملك الفردي. ولقد أدى هذا الى تراكم المتاع المنقولة، كالماشية والأموال وفي بعض الأحيان العبيد أو الأقنان. وخلق هذا الشكل من التملك الفردي المنقول والذي كان خارج سيطرة المجموعة التشاركية والقابل للتبادل مفتوحا على إمكانيات الخداع والتلاعب عبئا على كامل المنظومة الاقتصادية للقرية. إن هذا الأمر هو الذي أدى الى تحلل حالة المساواة الاقتصادية والاجتماعية البدائية. (120)
على أن نشوء حالة التفسخ كان حتميا.
أما الموضوعة الثانية التي كانت حاضرة في هذه النسخ التمهيدية للرسالة فقد تعاملت مع مصائر المجتمعات التشاركية القروية المشتركة لروسيا ولمناطق وأزمنة أخرى. وللتأكيد فإن ماركس لم يُخرج نظرية للتطور الاجتماعي أو للثورة في روسيا وقطعا ليس للمناطق المأهولة بالسكان في آسيا أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. وغالبا ما كان يضع روسيا وهي البلاد المستقلة مقابل الهند المستعمرة كولونياليا:" لا تعيش روسيا بعزلة عن العالم الحديث، ولم تقع فريسة لغزو مستعمر خارجي مثل الهند الشرقية"(Shanin 1983a, 106). لكن هذا التباين بين روسيا والهند ليس تباينا مطلقا بل نسبي، إذ ان الكثير من التشابه قائم بينهما، والرئيسي بينها هو وجود المجتمعات التشاركية القروية في كلا هذين المجتمعين الزراعيين. مما يعني ان الانتقال في كلا البلدين الى الشكل الرأسمالي الحديث للملكية الخاصة يتطلب بالضرورة انتقالا ليس من ملكية فيودالية شبه خاصة بل من ملكية مشاعية. وعلينا ان نتذكر هنا أن ماركس في مسودة عام 1877 وفي هذه الكتابات لعام 1881 حصر عرضه لقوانين التراكم الرأسمالي في رأس المال على المجتمعات الغربية. فهل وضع ماركس على هذا المفصل التاريخي، الهندَ ومجتمعات غير أوروبية أخرى إذا، خارج منطق الحداثة الرأسمالية وأقله الى حد ما؟
عندما نضع تصنيف ماركس التاريخي للتشكيلات الاجتماعية التشاركية والذي وضعه في النسخ التمهيدية عام 1881 الى جانب ملاحظاته حول نصوص كل من سيويلوكوفالسكي حول الهند فسوف ينهض اماما تساءل إضافي وهو حول التشكيلات التشاركية في الهند ومدى قابليتها لأن تكون موقعا للمقاومة في وجه الكولونيالية ورأس المال. تشير لنا ملاحظاته حول نصوص كوفالسكي بأن التشكيلات التشاركية في الهند والجزائر كما وأمريكا اللاتينية ما زالت تحتفظ ببعض من الحيوية رغم أنها أقل من تلك الحيوية التي يعزوها ماركس لهذه التشكيلات في روسيا. ولنتذكر بأن ماركس أضاف فقرة (سنوردها بالخط المائل هنا) من مقتبساته عن كوفالسكي بخصوص الهند ما بعد كورنواليس:" لكن علاقات معينة تظل قائمة بين هذا الذرات، كاستمرار لبقايا علاقات سابقة بين المجموعات القروية التشاركية" (Marx [1879] 1975, 388 التشديد في النص الأصلي). ولنتذكر ملاحظات ماركس حول نص سيويل الذي يبرز مقاومة الهنود المتواصلة للمحتلين الأجانب المسلمون والبريطانيون، وهي ملاحظات نثرها ماركس سوية مع ملاحظاته حول نصوص كوفالسكي والتي ركزت بالذات على هذه المجموعات التشاركية.
تعاملت الموضوعة الثالثة في النسخ التمهيدية للرسالة الى زاسوليتش مع احتمالات الثورة في روسيا والشكل الذي قد تتخذه هذه الثورة. ويوازن ماركس هنا ما بين صلابة التشكيلة التشاركية الروسية مع التهديد الذي تتعرض له من قبل رأس المال ومن قبل الدولة. وفي الوقت الذي تمتلك فيه التشاركية الروسية مقدارا معينا من الحيوية الا انها معزولة في قرى مشتتة على طول البلاد" ذات المساحات الشاسعة" يحلق فوقها "استبداد مركزي" (Shanin 1983a, 103). ومع أن الوضع الحالي في الدولة يغذي استمرار عزلتها لكن " من الممكن تجاوز الأمر بسهولة إذا ما حررت الحكومة القيود"(103). لكن هذا الأمر غير ممكن بدون ثورة:" وعليه فإن انتفاضة عامة بمقدورها كسر عزلة المجتمعات التشاركية الفلاحية وكسر حالة عدم التواصل ما بين هذه المجتمعات التشاركية وكسر حالتها الراهنة ككينونات صغيرة الأمر الذي يمنع عنها القدرة على المبادرة التاريخية". (112)
لكن ثورة كهذه ليست سهلة المنال حيث أن الوقت يجري بسرعة بالنسبة لها:" ليست الضرورة التاريخية ولا النظرية هي ما يهدد استمرار بقاء المجتمعات التشاركية القروية بل طغيان الدولة والاستغلال من قبل المتطفلين الرأسماليين والذين تزودهم نفس هذه الدولة بالسلطة على حساب الفلاحين" (Shanin 1983a, 104–5). ولكن وعلى المستوى الدولي فإن العوامل الموضوعية تلعب دورا إيجابيا:" إن تزامن هذا الوضع مع الإنتاج الغربي الذي بات يهيمن على السوق العالمية بمقدوره تمكين روسيا من دمج جميع المنجزات الإيجابية مع المجتمعات التشاركية الفلاحية دون الحاجة لتلقي الهبات المهينة [fourchescaudines](7)(110). زد على هذا فإنه من الممكن تقليص عزلة المشاعيات من خلال المزيد من الديمقراطية وتحييد هيمنة الدولة المركزية:" وما هو ضروري هو استبدال سلطة ال (volost) وهي مؤسسة حكومية بمجلس تمثيلي من الفلاحين تختارهم المجتمعات التشاركية الفلاحية بنفسها-مجالس اقتصادية وإدارية تقف على خدمة مصالحها هي" (111). وسيكون هذا متوازيا مع التحولات الحاصلة فعلا في الغرب حيث يجد النظام الرأسمالي نفسه " في كل من أوروبا الغربية والولايات المتحدة في تناقض مع الجماهير العاملة، مع العلم وأيضا مع ما تولده قوى الإنتاج ذاتها-وباختصار في خضم أزمة ستنتهي بالقضاء على هذا النظام من خلال عودة المجتمعات الحديثة وبطور أعلى الى تشكيلات الملكية الجماعية’ القديمة‘ للإنتاج"(111).
ومن المهم أن نلاحظ هنا أنها هذه هي المرة الأولى التي يشير فيها ماركس في كتاباته المتأخرة حول روسيا الى عامل ذاتي خارجي وجوهري وهو تواجد الوعي الذاتي للحركة العمالية المنظمة في أوروبا الغربية وشمال أمريكا. فإلى جانب تأثر روسيا بالحداثة الرأسمالية فإن هذا العامل الذاتي سوف يكون فعالا هو أيضا.
كيف ستكون الثورة في روسيا وكيف سوف تؤثر على تطور المجتمع في المستقبل؟

من جل إنقاذ المجتمعات التشاركية الروسية، فإن الثورة ضرورية. فالحكومة الروسية تعمل سوية مع " الأعمدة الجديدة للمجتمع" أقصى ما في وسعها لتجهيز الجماهير من أجل كارثة كهذه. وإذا ما حصلت الثورة في لحظة مواتية وإذا ما استجمعت جميع عناصر القوة لتأمين الانتشار الحر [essorlibre] [التحليق عاليا] للتشكيلة التشاركية الفلاحية فإنها سوف تتطور بسرعة بوصفها عنصر انبعاث المجتمع الروسي وعامل تفوق مقابل
تلك البلاد المستعبدة بنظام نمط الإنتاج الرأسمالي (Shanin 1983a, 116–17).
ويشكل هذا الأمر تصريحا بيِّنا بخصوص الإمكانيات الثورية الروسية الكامنة. ولكن ورغم مصادقة ماركس المعلنة هذه على أمكانية حدوث نظام غير رأسمالي يتأسس على الفلاحين فلا يجب النظر اليها كبرهان للمناداة باشتراكية روسية قائمة بذاتها ذلك لأنه في مواضع أخرى من النسخ التمهيدية للرسالة الى زاسوليتش يبين بأن مثل هذا النظام الجديد لا يستطيع النهوض الا في سياق تحول اجتماعي أوسع يشرك معه الطبقات العاملة الغربية.
أما الجزء الأخير من كتابات ماركس المتأخرة حول روسيا فكان مقدمة الطبعة الروسية للبيان الشيوعي والتي كتبها سوية مع إنجلس في عام 1882 وهو أيضا النص الأخير الذي نشره ماركس قبيل وفاته عي أذار 1883. وكتبت النسخة التمهيدية لهذه المقدمة باللغة الألمانية وترجمت الى الروسية وسرعان ما تم نشرها في جريدة الشعبويين الروس’ إرادةالشعب‘ (NarodnyaVolya) ولاحقا كمقدمة للبيان في ترجمة جديدة قام بها بليخانوف(8). يلحظ الأثنان في بداية المقدمة بأن النسخة الاصلية لم تذكر كلا من روسيا أو الولايات المتحدة الا قليلا، ولم تأتي على ذكرهما بالمرة في الفصل المخصص للحركات الشيوعية. ويقدمان تحليلا سريعا للأزمة المتنامية في الولايات المتحدة الناشئة جراء تزايد الضغوط على الفلاحين المستقلين من قبل رأس المال. ويلاحظان نهوض حركة ثورية جدية في روسيا في وقت دخلت فيه أوروبا فترة هدوء نسبي: " تشكل روسيا طليعة [Vorhut] الحركة الثورية في أوروبا" (Shanin 1983a, 139).
ما هو الشكل الذي سوف تتخذه الثورة في روسيا؟ يُحمل ماركس وإنجلس إمكانيات الثورة على التشكيلة التشاركية الفلاحية في روسيا؛ الأوبششينا أو المير (obshchina ،mir):
فهل يستطيع هذا الشكل الروسي من الملكية المشاعية البدائية، الأوبششينا، رغم تآكله البالغ، العبورَ المباشرَ نحو شكل أعلى من الملكية التشاركية؟ أو أن عليه أن يمر أولا بنفس مسار التحلل الذي مر فيه التطور التاريخي في الغرب؟ واليوم هنالك إجابة ممكنة وحيدة: فقط إذا ما صارت الثورة الروسية إشارةً لانطلاق الثورة البروليتارية في الغرب بحيث تتكامل كلتاهما معا، فتغدو عندها الملكية التشاركية الروسية نقطة انطلاق التقدم الشيوعي (Shanin 1983a, 139).
ويجب التوقف هنا عند ملاحظتين. 1) توضح العبارة الأخيرة نقطة كان ماركس قد أشار اليها في النسخ التمهيدية لرسالته لزاسوليتش: إن ثورة روسية تعتمد على التشكيلات التشاركية الزراعية قد تكون ضرورية لكنها ليست شرطا كافيا للتقدم نحو الشيوعية المعاصرة. هنالك ما هو ضروري أيضا وهو العامل الذاتي المساعد من الخارج على شكل ثورة للطبقة العاملة الغربية. ومن خلال هذا فقط ستتمكن روسيا ذات الخلفية المتخلفة تقنيا والاستبدادية من الاشتراك بمنجزات الحداثة الرأسمالية. والعوامل الذاتية قد تفعل فعلها في الاتجاه الآخر، أي ان الثورة الروسية قد لا تأتي بعد الثورة في الغرب بل قد تكون " نقطة انطلاق" الثورة في الغرب.2) تتوضح هنا نقطة إضافية كان قد تم التلميح لها في النسخ التمهيدية للرسالة الى زاسوليتش: قد تقود ثورة روسية نحو "تطور شيوعي". وقد لا تحتاج روسيا المرور بمرحلة رأسمالية من أجل قطف ثمار الاشتراكية الحديثة شرط أن تشعل ثورتها انتفاضة الطبقة العاملة في العالم الأكثر تطورا وديموقراطية. ويتباين هذا الطرح جذريا مع الطرح الذي قدمه ماركس في خمسينيات القرن التاسع عشر حول الأزمة الصينية التي قد تشعل أزمة أو ثورة أوروبية وتتباين مع طرحه حول انتفاضة السيبوي في الهند بوصفها حليفا للطبقة العاملة الأوروبية. في هذه الخمسينيات نظر الى حركات المقاومة القومية في الصين والهند على أنها قد تفضي وفي أحسن الأحوال الى تحولات ديمقراطية في هذه البلدان. وقد نظر في السبعينيات الى الثورة الوطنية الإيرلندية والتي لم تكن ذات طابع شيوعي بوصفها شرطا مسبقا للتحول الشيوعي في بريطانيا. أما في كتاباته المتأخرة حول روسيا فإنه يدعي أن تحولا شيوعيا حديثا قابل للحدوث في بلد زراعي متخلف تكنولوجيا كروسيا إذا ما تحالفت مع ثورة تقوم بها الطبقة العاملة الغربية مما يشكل قاعدة للتعاون والوصول للمنجزات الحداثة الغربية.
هل كان ماركس يتفحص إمكانيات شبيهة في أماكن أخرى كالهند مثلا، والتي كان يدرس تشكيلاتها الاجتماعية التشاركية في هذه الفترة؟ لا نجد إجابة صريحة لمثل هذا السؤال. في النسخ التمهيدية للرسالة الى زاسوليتش نجد أن ماركس يؤكد أحيانا على فرادة الحالة الروسية وأحيانا أخرى يشير الى ما هو مشترك لها مع الهند ومع مجتمعات غير غربية أخرى. لكنني أستطيع الادعاء مستندا الى رجحان القرائن في دفاتر الملاحظات والمقتطفات وكما أتينا عليها في هذا الفصل الأخير بأن ماركس لم يكن ينوي قصر تصوراته الجديدة حول الانتقال الى الثورة الشيوعية بالاعتماد على التشكيلات الاجتماعية التشاركية على روسيا لوحدها. (انتهى)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور الغندور ترقص لتفادي سو?ال هشام حداد ????


.. قادة تونس والجزائر وليبيا يتفقون على العمل معا لمكافحة مخاطر




.. بعد قرن.. إعادة إحياء التراث الأولمبي الفرنسي • فرانس 24


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضرباته على أرجاء قطاع غزة ويوقع مزيدا




.. سوناك: المملكة المتحدة أكبر قوة عسكرية في أوروبا وثاني أكبر