الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ظلال الليل

آرام كربيت

2017 / 12 / 25
الادب والفن


لم يتوقف المطر ذلك اليوم، كان غزيرًا محبًا للأرض ففاض وانكشف على نفسه والفضاء. خلا المكان من الناس والطيور والغزلان وأولاد ابن آوى والثعالب والذئاب. والهواء والبرد يلعبان في بعضهما ويهبان دون وازع من ضمير أو رأفة بالمحرومين والفقراء.
وقف ذلك الرجل على ناصية الشارع منتظرًا حافلة ما في ذلك الزمن الفقير بالحافلات والسيارات لتقله إلى قرية تل تلو. بقي واقفًا في مكانه أربع ساعات طوال على قدميه في ذلك الزمهرير الخشن وقلبه على ولديه وزوجته. قال لنفسه:
ـ رباه، إنهم دون طعام أو خبز أو حليب أو تدفئة. إنهم في رعايتهم. ساعدهم.
بكى من الحسرة والألم، من العوز والحاجة. لم يتناول الطعام منذ قبل يومين. أضحى البرد زائر، صديقًا مقيمًا في جسده كنهر متدفق يغزو الأرض المقيمة فوق مجراه وينتقل من مكان لآخر دون حدود لتدفقه.
رأه سائق سيارة عابرة فأشفق عليه، فتح الباب له وناده ليصعد إلى سيارته وسأله:
إلى أين تريد الذهاب يا هذا؟
ـ إلى تل علو، بيد أني لا أملك. لدي ساعاتي خذها رهينة لديك إذا كنت مسافرًا إلى المالكية.
ـ أركب، وضع ساعتك في جيبك. عيب هذا الكلام. الناس لبعضها. قال:
ـ لقد تعبت من الوقوف، لقمة الخبز صعبة يا ابن العم. أنا خجل منك كثيرًا.
ـ ولو؟ كلنا أخوة في الحياة يا أخي. ثم أن السيارة ليست للإجار
كانت القامشلي مدينة فتية، صغيرة تحمل على كتفيها وظهرها عددًا صغيرًا من السكان، أرمن وسريان وكرد وعرب واشور ويهود. وشارع الجسرين منعشًا، فيه حركة واسعة في الأيام العادية. وفي الأيام المشمسة تغدو مبهرة، كامرأة من ورد وعنب في زمن تفتح الورد والكروم.
زرع الناس الأشجار المثمرة وكروم العنب وبنوا البيوت والساحات وحولوا مدينتهم الجديدة إلى واحة من أمل بعد هروبهم من تركيا، من الوجع السلطوي القاتل الذي دخل أغلب البيوت وقتل الناس الأبرياء وهجرهم إلى الجهات الأربع في ذلك الزمن الانتقالي من قوى تاجرت باسم السلطنة إلى ركوب السلطة والمتاجرة بالقومية التركية.
والجغجغ، ذلك النهر العامر كان غزيرًا وفيًا للأرض والإنسان، سريع الحركة، نشيطًا.
مدينة الحب، والتألف وتوازن العلاقات فتحت للأفئدة المحبة قلبها وسارت الحياة كما يبنغي لها السير، بيد أنها كانت في بدايتها تريد شق طريقها نحو البناء والتوسع.
ـ لا عليك. أركب. سأله:
ـ هل انت جائع، يبدو على وجهك التعب والإجهاد كأنك لم تأكل الزاد منذ عدة أيام؟
ـ وأولادي وزوجتي جياع. عقلي وروحي عندهم. إنهم دون زاد وتدفئة. كما تعلم أن البلاد ولدت من جديد، أننا في مرحلة انتقاليه وتحتاج إلى وقت لتقف على قدميها.
ـ معك حق. البلاد فقيرة. وكل يوم وثاني انقلاب جديد. بعد الاستقلال لم تستقر البلاد، بل زاد اضطرابًا على اضطراب.
ناوله سندويشة فلافل فيها بقدونس ومخلل لفت وشوندر وخيار. قال له:
ـ خذها. كل وسد جوعك بهذه القمة.
مسكها في يده ونظر إلى صاحب السيارة. انهمرت الدموع من عينيه وبكى كالأطفال الصغار:
ـ ربما تكون جوعان أنت أيضًا. ليس من العدل أن أكل وتبقى أنت دون زوادة؟
ـ لقد أكلت سندويشتين قبل أن أراك. فكر في نفسك ودعك مني.
مسك السندويسة وطار خياله إلى البيت"
ـ كيف سأكل يا أولادي ويا زوجتي العزيزة؟ وأنتم دون زودة أو زاد، أنني أقتل ضميري في هذه اللحظة.
تدخل السائق مرة ثانية
ـ هل تؤمن بالله؟ استغرب الرجل من هذه الكلمة، وارتق الى مرحلة الصدمة، أجاب:
ـ طبعًا أومن بالله. وهل هناك عاقل لا يؤمن به.
إذا، هذا رزقك من الله تعالى. كل ولا تقلق. للأطفال رب يحميهم.
كان السائق يرتدي معطف من الصوف على قدميه شال من الصوف الطبيعي وإلى جانبه معطف عسكري طويل:
ـ حاول أن ترتديه، فالبرد في السيارة قارس. توقف قليلًا ثم اضاف:
ـ يا ليت الأمريكان والأنكليز والفرنسيين والطليان يكملون معروفهم ويخترعوا لنا سيارات فيها تدفئة، البرد يتسلل إلينا من كل مكان. وأضاف:
في الطريق إلى المالكية سأعرج إلى تل علو وأضعك هناك وأكمل طريقي. كل طعامك ودع الله يتدبر أولادك.
ساد صمت وافر، يتخلله صوت المحرك ومرور الهواء الطلق في الفضاء الطلق
ماذا ستعمل في تل علو؟
ـ سأذهب من هناك إلى المصلحة، اتفقت مع صاحبها أن أعمل لديه في هذا الموسم. فنحن في بداية الخريف، سأعمل هناك سائق جرار، نفلح الأرض والسماء ونركشها ونبذرها بالقمح والشعير. كما ترى فإن الأرض خصبة والله لا يبخل علينا بالمطر.
ـ الله كبير، نسيت اسألك، ما هو اسمك:
ـ خاجيك
ـ الأخ أرمني؟
ـ نعم.
ـ والنعم عليك. أنا اسمي محمد من تل علو، بيد أن طريقي كما ذكرت لك إلى المالكية فهي ناحية صغيرة، بنيت منذ فترة قصيرة
ـ أعرفها، زرتها مرات كثيرة، فيها كنائس وجوامع حديثة وناسها محبين وأكابر ويرحبون بالضيوف.
ـ وهل لديك مصلحة آخرى عدا عن قيادة الجرار والفلاحة؟
ـ أنا عامل مواسم، ونصف ميكانيكي ومصلح بوابير ومدافئ المازوت. أعمل على الحصادة في الصيف والجرار في الشتاء ومرات كثيرة لا يوجد عمل. ثم توقف واضاف:
الفقر غربة أرض وسماء يا أخي محمد. والغربة لا وطن ولا حدود. إنها عبودية
ـ ما تقوله صحيح.
ـ الحالة صعبة جدًا. لمن هذه السيارة الجميلة؟
ـ هذه السيارة لأصفر ونجار. شيفروليه موديل العام 1953، أي ليست ملكي، سأصل إلى هناك وأعود إلى القامشلي. لقد كلفني الخواجة يعقوب نجار أن أحمل رسالة إلى مدير الناحية هناك تتعلق بالأرض وتوسيع المساحات الزراعية في هذه المنطقة. إنه رجل عمل ودنيا، وكل يوم لديه مشروع زراعي جديد، ولا يهدأ ولا يقف عند حد. العمل جزء من تكوين هذه العائلة، أنهم ثروة وطنية كبيرة قدموا فائدة لا تقدر بثمن لهذه البلاد في مجال استصلاح الأراضي وإنشاء شبكة أقنية ري، واستثمروا الأراضي في زراعة الرز. كما جلبوا قشارات لتقشير الرز، وصدروا منتجات بلادنا الغذائية كالحبوب بملايين الأطنان إلى الخارج لدعم خزينة الدولة واقتصاد الوطن.
توقف قليلًا عن الكلام وألتفت حوله قليلًا:
يا رجل المساحة، أنظر، لا تستطيع أن تتخلص من ماء المطر من كثرة وفرته.
ـ صحيح.
من الجميل أنك جئت معي، لنتجاذب أطراف الحديث ونقضي أوقاتًا مفيدة لنا ومسلية ونضيع وقتنا ونقود السيارة دون خوف أو ملل.
كان الطريق بقايا مقالع، فيه الكثير من المطبات، حفر مملوءة بالماء. ومساحة السيارة لم تتوقف لحظة واحدة عن طرح ماء المطر وقذفهم على طرفي الزجاج وإلى الخارج.
وداخل الكابينة استرخى بدن البرد على القدمين والساقين والأطراف والبدن لكلا الرجيلين، خاجيك ومحمد.
كان خاجيك قلقًا، باله يقوده إلى الماضي والحاضر والمستقبل. أكل الصندويشة وفي القلب غصة ووجع، شعر بالقليل من الحرارة، بيد أن النفس المكسورة بقيت مكسورة ومتألمة.
عندما وصلا إلى تل علو، نزل من السيارة كانت ثيابه ما زالت مبللة، ووضع على ظهره فرشته المبللة أيضًا. كان الوقت بعد الظهر، وبدأ الليل يرخي سدوله طاويًا الضوء تحت قبة جناحيه وطار بهما إلى ظل الوجود البعيد.
سار مسافة طويلة، خمسة عشرة كيلو متر مشيًا على الأقدام، والخوف من الحيوانات الضارية أن تفترسه. سار وقلبه بين يديه على أبنه هاروت وأبنته هاسميك. لم يكن هناك طريق محدد أو نجمة مضيئة تعبد له طريق سيره. لم يكن هناك ضوء شمعة أو بيت أو راعي غنم. والأخيلة الغريبة تطارده من مكان إلى آخر، حاول تذكر زوجته مانوش، شبابنهما، زواجهما، حبه الجنوني لها. نكرها للذات من أجل بقاء عائلتها.
وعندما وصل رأى خيام المصلحة، ضوء خافت جدًا، محراث آلي معطل. وعندما اقترب شعر أن الجميع نيام، فدخل أول خيمة رأى رفاقه يغطون في نوم عميق لأنهم سيقومون بوردياتهم في قيادة الجرار.
طباخ المصلحة كان مستيقظًا، سلم عليه وجهز له لقمة طعام من أجل البدء في العمل بعد ساعة.
شعر رئيس المصلحة بحركة غريبة فجاء على أثر الصوت ودخل الخيمة أو الشادر، وما أن رأى خاجيك حتى نهره ونعته بكلمات نابية:
ـ يا خرا ابن الخرا أين كنت إلى هذه الساعة؟ لماذا تأخرت؟ الا تدري ان العمل مقدس؟ رد عليه:
ـ الخرا ابن الخرا واحد مثلك. أنت تعلم أن عدد السيارات في المدينة لا يتجاوز المئة. ولا يوجد سيارات نقل. كيف سأقطع عشرات الكيلومترات لأصل إلى هنا بوقت مبكر؟ ألم يكن من المجدي أن ترسل البيك آب التي بحوزتك لجلبي. لقد مشيت على الأقدام بهذا البرد القارس والمطر الغزير مدة خمسة عشرة كيلو متر. فبدلًا من أن ترحب بي تشتمني يا أبن العاهرة.
ـ وهل ترى أن المصلحة خادمة عندك، لديك؟ مهمتك أن تكون موجودًا على رأس عملك في الوقت المحدد يا أبن ستين عاهرة
تعاركا في ذلك الظلام، ووقعا على العمال النيام، فحدث هرج ومرج واستيقظ الجميع وابعدوهما عن بعض.
كان رئيس المصلحة يرجف من الغضب، قال له:
ـ ليس لك مكان عندي في العمل، والمصلحة. أمسك بعضك وأذهب من هنا. أخرج بسرعة.
ـ بالناقص من العمل عند واحد خرا مثلك. أنت أبن عاهرة برخصة وأي كلمة أخرى سأكسر راسك بالمطرقة.
مسك المطرقة ورفعها بيده إلى الأعلى:
أي كلمة آخرى منك سأقتلك. إلزم حدودك يا ساقط
ثم مشى يغمغض في سره
ما دام هناك سماء وطيور، وشجر ونهر ومطر، فلا خوف على الحياة.
وخرج في ذلك الليل. وضاع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في