الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة الفلسطينية

مهند طلال الاخرس

2017 / 12 / 25
القضية الفلسطينية


تميزت الذاكرة الفلسطينية بإمتدادها عبر عصور موغلة بالقدم، وهي ذاكرة متصلة متوارثة لم تنكفء ولم تنقطع. واستمرت هذه الذاكرة ترصد أحوال الوطن المهدد بالانواء والاهوال عبر كل العصور، وبقيت هذه الذاكرة على عهدها، ذاكرة جمعية لزوما، حتى وإن كونتها أقلام متعددة. وذاكرة كالذاكرة الفلسطينية جبلت وتمترست بالصراع وشهدت عليه، تكون ذاكرة تاريخية، حتى وإن إهتز معنى التاريخ لدى من إنتسب اليها.

في هذا السياق تبدو الذاكرة لدى الفلسطيني، الذي ينتظر ما لا يأتي، حضنا دافئا لأحلامه وآماله، وحيزا جميلا يعوض به الحيز المفقود(الوطن)، وكان من الجميل دوما في ذاكرة الفلسطيني أنها تستعيد صورة الوطن المسلوب بأبهى الصور والتخيلات ولا تمانع من الاضافة عليها، بشرط أن تتعلق هذه الاضافة بكل ما هو جميل ومولع بالحنين.

وعليه؛ كانت الذاكرة هي الهدف الأول للسطو من قبل الاحتلال. فإذا غابت الذاكرة غاب معها التاريخ ولحق بهما التراث كتحصيل حاصل وكمتلازمة وجودية.

لقد كانت الذاكرة الفلسطينية ومازالت خط الدفاع الاول عن الوجود الفلسطيني وساهمت بشكل اساسي في حفظ الهوية والكينونة والتراث والموروث وحتى العادات والتقاليد، وبقي راسخا في ذهن كل فلسطيني أنه ينحدر من فلان بن علان ابن القرية الفلانية من قضاء كذا في فلسطين. وبقيت هذه المروية أول اسلحة المواجهة التي ملكها الفلسطينييون في دحض اول هجمات وأسلحة الحرب الصهيونية التي اطلقها ديفد بن غوريون بقوله: "بأن الكبار يموتون والصغار ينسون".

لقد ادرك الفلسطينييون مبكرا بأن المشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع استعماري استيطاني إحلالي، سعى منذ اللحظة الأولى لقيامه إلى تغيير كافة معالم فلسطين الجغرافية والسكانية والتاريخية والدينية بغية تهويدها. لقد بنى هذا الكيان روايته التأسيسية على الكذب والزيف حين ادعى أن فلسطين "أرض بلا شعب"، يجب أن تعطى إلى اليهود الذين هم "شعب بلا أرض". وقد شكَّل هذا الادعاء الزائف مقدمة ليس فقط لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، بل وللعمل بكل الوسائل للتخلص من الشعب الفلسطيني وإلغاء وجوده على أرضه.

لقد حاول المشروع الصهيوني وحلفائه بشتى الطرق والوسائل طمس معالم الهوية الفلسطينية عبر استهداف الذاكرة ابتداء، ولم يبخل في ذلك السبيل بإتباع كافة الوسائل والاساليب؛ إبتداء من الاقتلاع والتشريد والترويع والمجازر والنفي والمصادرة وتضييق الخناق، حتى وصلت به المواصل الى اعتقال الاطفال واستخدام كل الحيل والاباطيل والزيف والكذب لتأصيل ارتباطهم بأرض فلسطين من سرقة اللغة والمأكولات والاسماء والصفات والمعاني وحتى أنواع الشجر الذي يغطي الغابات؛ وهذا طبعا ما فضحته كل التنقيبات والحفريات والدراسات العربية والغربية بالذات، ولا سيما تنقيباتهم ودراساتهم هم.

لقد حظي موضوع التأثير على الذاكرة الوطنية الفلسطينية والوعي بالقضايا الوطنية وطبيعة الصراع باهتمام كبير لدى الكيان الصهيوني وحلفائه وداعميه والمتواطئين معه، وقد بذلت جهود كبيرة، وأنفقت أموال طائلة، وجندت طاقات كبيرة من مختلف التخصصات والمجالات لتحقيق هذا الهدف.

لقد شكلت مقولة مؤسس الكيان الصهيوني، ديفيد بن جوريون، أن "الكبار سيموتون والصغار سينسون" حجر الزاوية في فلسفة التحرك الصهيوني تجاه الذاكرة الوطنية الفلسطينية، بل واتجاه الوجود الفلسطيني ككل. ومنذ بداية الحديث عن تأسيس الكيان، بدأ العمل على التأثير على ذاكرة ووعي شرائح الشعب الفلسطيني المختلفة، وبدأ التشكيك في أصل الوجود الفلسطيني على أرضه ومدى ارتباطه الديني والتاريخي فيه واستند في ذلك على عدة أدوات ومنها العربية والفلسطينية لالحاق اكبر قدر من التشويه وانتاج الوعي المزيف والذي يريدون والذي يتطابق مع مخططاتهم واهدافهم. هذا الموقف الصهيوني عائد لكون(السكان اليهود الجدد) على ارض فلسطين يفتقدون إلى ذاكرة تاريخية أو وطنية مرتبطة بأرض فلسطين. فهم منسلخون تماما عن ارض فلسطين، حتى أنهم لا يشبهونها، بل هم كالدملة التي تعلوا الجسد، وكالدرنة التي تعلوا الغصن، وهم إن كان لديهم ذاكرة وطنية فهي حتما مرتبطة بجغرافيا أخرى وأزمان مختلفة تدور كلها خارج مساحة الزمن والتاريخ الفلسطيني، هناك؛ حيث ولدوا هم وآبائهم وأجدادهم، إذ ينحدر سكان الكيان الصهيوني من دول وثقافات وجنسيات مختلفة(لمم) حالهم في ذلك كحال الاطفال اللقطاء الذين يتم جمعهم من اماكن شتى ويتم إسكانهم في مركز إيواء، لقد هاجر غالبية اليهود الصهاينة إلى فلسطين من دول أوروبية نتيجة عقد اوربية تجاههم ونتيجة ازمات اجتماعية وسياسية متعددة فتم تصدير كل هذه الازمات بإتجاه الحل المنشود والمبتغى(فلسطين).

هذا عداك عن ايجاد مبررات إضافية ومساعدة لاكمال عملية التشويه الممنهج؛ عبر تهجير يهود الدول العربية الى فلسطين ايضا، بغية إكمال المسلسل المرجو في عملية التعمية والتشويه الهادف الى بلبلة وخلخلة الذاكرة الوطنية الفلسطينية وزعزعة ارتباطها الاصيل بأرضها حيث نشأت وترعرعت منذ نشأت الخليقة.

وهذا العمل ونقيضه، لا ينفك عن قلة الوعي لطبيعة الصراع، فترى دولا عربية كليبيا والعراق سنة 1948 تساوقت مع هذا الطرح(بوعي او بلا وعي) برفضها اعتبار الفلسطينيين لاجئين لديها وبأنه لا يصح ان "تصرف" عليهم وكالة الغوث او هيئة الامم، وفي ان بهذا الامر ما يناقض اخلاقنا وشيمنا كعرب!! وبالتالي خسر الشعب الفلسطيني توثيق جزء من مأساته وخرج هذا الجزء عن نطاق المأساة الانسانية التي حلت بالشعب الفلسطيني ولم تعد الامم المتحدة تشهد على حق هؤلاء بالعودة، وأكثر من ذلك حيث ساهم هذا الوعي المتدني والدنيء بخدمة الفكرة الصهيونية قولا وفعلا، وساهم بتشويه الذاكرة الفلسطينية وبتر جزء مهم منها ومحاولة عزله عنها.

وإمعانا في تحقيق كل اهداف تلك السياسة ؛ كان لا بدّ من محو ذاكرة السكان الأصلين أو إضعافها أو تشويهها لكي لا تبقى عنصر تفوق لديهم. وتراهم في سبيل ذلك يفتعلون المعارك حتى مع باطن الارض، فتراهم تارة يبحثون وينقبون عن هيكل مزعوم، وتارة تجدهم يجرفون مقبرة مأمن الله والرحمة وقبر عزالدين القسام؛ وحده أميل حبيبي قهرهم فكتب على شاهد قبره:"باق في حيفا".

هذه المقابر بما يعلوها من شواهد تغيظهم وتقض مضاجعهم وتظهر زيف إدعائهم، وتظهر لهم أن اصحاب هذه الارض يشبهونها، فهم مثل أرضهم تماما؛ بالبشرة واللون والرائحة، فرائحتهم كرائحة ترابهم عند اول الهطول.

في الذاكرة الفلسطينية تأخذ اضرحة الموتى ولا سيما الشهداء منهم حيزا مقدسا لدى الإنسان الفلسطيني، ويأتي التقديس ذو معنى نفسي وفلسفي أكثر من كونه ذو معنى مادي بحت، فالإنسان لا يتوجه إلى الأحجار أو المقامات او الاضرحة كأمور مادية فقط، بقدر توجهه إليها رغبة منه في حاجته الى إشباع الجانب الروحي والنفسي لعلاقته وإرتباطه في هذه الارض، وعليه فهو يقدم لها بإستمرار القرابين(الشهداء والموتى) تعزيزا وتأكيدا وتوثيقا وتعميدا لهذه العلاقة المتجذرة والمتفقة وقوانين الطبيعة والمنسجمة مع علاقة الانسان بأرضه .

والفلسطيني بشكل خاص تتجلى علاقته مع شهداءه كونهم أداة لتشكيل الهوية الجماعية والفردية، وهي هنا محط الصراع مع من يستهدف الذاكرة الفلسطينية بالمحو والشطب والالغاء، لكن هيهات هيهات أن يبلغوا منا ذلك المنال؛ فشعب دعائمه الوعي والعلم والمعرفة، وأدواته القلم والدم والحجارة، تتحطم الدنيا على أعتابه ولا يتحطم، وينكسر الفولاذ على ابوابه ولا ينكسر.

وإمعانا في محو ذاكرة اصحاب الارض، إستمرت المحاولات لاختراع ذاكرة صهيونية مصطنعة في محاولة لربط السكان الصهاينة بالأرض وتاريخها. لكن بئس ما يصنعون، فهم إن أنكروا أصحاب الارض الاصليين او تناسوهم أو تجاهلوهم، تداعى لنصرة أصحاب الارض؛ التين والزيتون والكروم والحواكير وزنارها المسور بالصبر وناطورها القابع في قن الدجاج، وتداعى لنصرتهم من على أطراف ومداخل ومخارج القرى والمدن، شواهد القبور، التي بقيت شاهدا على أصحاب هذه الارض وتاريخهم. لذا كان لزاما علينا أن نحرس ورد الشهداء، فمن لا ذاكرة له، لا مستقبل له.

ان من تنطق بأسمائهم شواهد قبورهم لا يمكن أن يموتوا، فأرضهم كاللغة يورثونها لأبنائهم، فاللغة العربية كانت وستبقى هوية هذه الارض للأبد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في زلة لسان جديدة.. بايدن يطلب من إسرائيل ألا تقتحم حيفا


.. اعتصام أمام البرلمان في المغرب للمطالبة بإسقاط التطبيع مع إس




.. ما طبيعة الرد الإسرائيلي المرتقب على هجوم إيران؟


.. السلطات الإندونيسية تحذر من -تسونامي- بعد انفجار بركان على ج




.. خيمة تتحول لروضة تعليمية وترفيهية للأطفال في رفح بقطاع غزة