الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأحكام العقلية عند كانت

داود السلمان

2017 / 12 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عرف عن ايمانويل كانت (1724-1804) انه فيلسوف نقدي، اذ قامت فلسفته على ايمانه المطلق بالعلم. وهو فيلسوف تنويري ايد الثورة الامريكية والثورة الفرنسية، وقد تأثر بالفلاسفة الذين سبقوه: مثل ديكارت سيبنسر وروسو، وربما كان هذا الاخير قد قلب حياة كانت رأسا على عقب، حيث كان معجبا بفلسفته ايما اعجاب، حتى قيل أن (كانت) كان له نزهة يخرج لها كل يوم ولم يتخل عنها ابدا لسنوات طويلة، فقط اليوم الذي صدر فيه كتاب روسو (أميل) حيث ظل عاكفاً على قراءته طيلة ذلك اليوم.
فلسفة كانت هي الى اليوم محل جدل ونقاش من قبل الفلاسفة والباحثين في الشأن الفلسفي، ومقابل هذا ثمة نقد لها ومحاولة الى طمس بعض معالمها. لكن هذه الفلسفة ظلت شامخة بوجه الرياح العاتية، لأنها فلسفة بعيدة الغور، وذات ركائز حديدية عصية على معاول الانهيار والهدم.
صاحب كتاب (فلسفتنا) لخص نظرية كانت العقلية وحددها بثلاث نقاط، ومن ثم حاول رد تلك النظرية وعبر عنها بانها نظرية ليست منسجمة مع الواقع الذي يسير نحن المتغيرات، أذ يقول صاحب الكتاب المذكور:
وتتلخّص نظرية (كانت) عن المعرفة في تقسيم المعارف أو الأحكام العقلية إلى ثلاث طوائف:
الأولى: الرياضيات. والأحكام العقلية فيها كلّها أحكام تركيبية أوّلية سابقة على التجربة؛ لأنّها تعالج موضوعات فطرية في النفس البشرية: فالهندسة تختصّ بالمكان، والحساب موضوعه هو العدد، والعدد عبارة عن تكرار الوحدة، والتكرار معناه التعاقب والتتابع، وهذا هو الزمن في مفهومه الفلسفي عند (كانت). وإذن فالقطبان الرئيسيان اللذان تدور حولهما المبادئ الرياضية هما: المكان، والزمان. والمكان والزمان في رأي (كانت) صورتان فطريتان في الحسّاسية الصورية للإنسان، أي: أنّ صورتيهما موجودتان في الحسّ الصوري بصورة مستقلّة عن التجربة، وينتج من ذلك: أنّ كلّ ما نعزوه للأشياء من أحكام متعلّقة بمكانها أو زمانها فهو مستمدّ من فطرتنا، ولم نعتمد فيه على ما أتانا من الخارج بواسطة الحسّ. وعلى ذلك فكلّ القضايا الرياضية مشتقّة من طبائع عقولنا، بمعنى: أنّنا نحن خلقناها بأنفسنا ولم نستوردها من الخارج؛ إذ هي تدور حول الزمان والمكان الفطريين.
وبهذا تصبح الرياضة والمبادئ الرياضية ممكنة المعرفة، وتصبح الحقائق الرياضية حقائق يقينية مطلقة، فلا تتّسع في الميدان الرياضي للخطأ أو التناقض، ما دام الميدان الرياضي هو الميدان الفطري للنفس، وما دامت قضاياه منشأة من قبلنا وليست مقتبسة من واقع موضوعي منفصل عنّا، لنشكّ في مدى إمكان معرفته واستكناه سرّه.
والثانية: الطبيعيات، أي: المعارف البشرية عن العالم الموضوعي الذي يدخل في نطاق التجربة.
ويبدأ (كانت) هنا باستبعاد المادّة عن هذا النطاق؛ لأنّ الذهن لا يدرك من الطبيعة إلاّ ظواهرها. فهو يتّفق مع (باركلي) على أنّ المادّة ليست موضوعاً للإدراك والتجربة، ولكنّه يختلف عنه من ناحية أخرى، فهو لا يعتبر ذلك دليلاً على عدم وجود المادّة ومبرّراً لنفيها فلسفياً كما زعم (باركلي).
وإذا أسقطت المادّة من الحساب فلا يبقى للعلوم الطبيعية إلاّ الظواهر التي تدخل في حدود التجربة، فهذه الظواهر هي موضوع هذه العلوم ولذلك كانت الأحكام فيها تركيبية ثانوية؛ لأنّها ترتكز على درس الظواهر الموضوعية للطبيعة، وهذه الظواهر إنّما تدرك بالتجربة.
وإذا أردنا أن نحلّل هذه الأحكام التركيبية الثانوية من قبل العقل، وجدناها مركّبة في الحقيقة من عنصرين: أحدهما تجريبي، والآخر عقلي. أمّا الجانب التجريبي من تلك الأحكام العقلية، فهو الإحساسات المستوردة بالتجربة من الخارج، بعد صبّ الحسّ الصوري لها في قالبي الزمان والمكان. وأمّا الجانب العقلي فهو الرابطة الفطرية التي يسبغها العقل على المدرَكات الحسّية؛ ليتكوّن من ذلك علم ومعرفة عقلية. فالمعرفةـ إذن ـ مزيج من الذاتية والموضوعية، فهي ذاتية في صورتها، وموضوعية في مادّتها؛ لأنّها نتيجة التوحيد بين المادّة التجريبية المستوردة من الخارج، وإحدى الصور العقلية الجاهزة فطرياً في العقل.
فنحن نعرف ـ مثلاً ـ أنّ الفلزات تتمدّد بالحرارة، وإذا أخذنا هذه المعرفة بشيء من التحليل نتبيّن أنّ موادّها الخام، وهي: ظاهرة التمدّد في الفلزات وظاهرة الحرارة، جاءت عن طريق التجربة، ولولاها لما استطعنا أن ندرك هذه الظواهر. وأمّا الناحية الصورية في المعرفة أي: سببية إحدى الظاهرتين للأخرى فليست تجريبية، بل مردّها إلى مقولة العلّية التي هي من مقولات العقل الفطرية، فلو لم نكن نملك هذه الصورة القبلية لما تكوّنت معرفة. كما أنّا لو لم نحصل على الموادّ بالتجربة لما تحقّقت لنا معرفة أيضاً.
فالمعرفة توجد بتكييف العقل للموضوعات التجريبية بإطاراته وقوالبه الخاصّة، أي: مقولاته الفطرية، لا أنّ العقل هو الذي يتكيّف وأنّ إطاراته وقوالبه هي التي تتبلور تبعاً للموضوعات المدرَكة. فالعقل في ذلك نظير شخص يحاول أن يضع كمية من الماء في إناء ضيّق لا يسعها، فيعمد إلى الماء فيقلّل من كمّيته؛ ليمكن وضعه فيه بدلاً عن أن يوسع الإناء ليستوعب الماء كلّه.
وهكذا يتّضح الانقلاب الفكري الذي أحدثه (كانت) في مسألة الفكر الإنساني؛ إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقاً لإطاراته الخاصّة، بدلاً عمّا كان يعتقده الناس: من أنّ الفكر يدور حول الأشياء ويتكيّف تبعاً لها.
وعلى هذا الضوء وضع (كانت) حدّاً فاصلاً بين (الشيء في ذاته) و(الشيء لذاتنا): فالشيء في ذاته هو: الواقع الخارجي دون أيّ إضافة من ذاتنا إليه. وهذا الواقع المجرّد عن الإضافة الذاتية لا يقبل المعرفة؛ لأنّ المعرفة ذاتية وعقلية في صورتها. والشيء لذاتنا هو: المزيج المركّب من الموضوع التجريبي، والصورة الفطرية القبلية التي تتّحد معه في الذهن. ولهذا تكون النسبية مفروضة على كلّ حقيقة تمثّل في إدراكاتنا للأشياء الخارجية، بمعنى: أنّ إدراكنا يدلّنا على حقيقة الشيء لذاتنا، لا على حقيقة الشيء في ذاته.
وبذلك تختلف العلوم الطبيعية عن العلوم الرياضية؛ فإنّ العلوم الرياضية لمّا كان موضوعها موجوداً في النفس بصورة فطرية، لم تقم فيها اثنينية بين الشيء في ذاته والشيء لذاتنا، وعلى عكس ذلك العلوم الطبيعية؛ فإنّها تتناول الظواهر الخارجية التي تقع عليها التجربة ، وهي ظواهر موجودة بصورة مستقلّة عنّا، ونحن نعلمها في قوالبنا الفطرية، فلا غرو أن يفصل بين الشيء في ذاته والشيء لنا.
الثالثة: الميتافيزيقا. ويرى (كانت) استحالة التوصّل فيها إلى معرفة عن طريق العقل النظري، وأنّ أي محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة ليست لها قيمة؛ وذلك أنّه لا يصحّ في القضايا الميتافيزيقية شيء من الأحكام التركيبية الأوّلية والأحكام التركيبية الثانوية:
أمّا الأحكام التركيبية الأوّلية، فهي لمّا كانت أحكاماً مستقلّة عن التجربة، فلا تصحّ إلاّ على موضوعات مخلوقة للنفس بصورة فطرية وجاهزة في الذهن بلا تجربة، كموضوعي العلوم الرياضية من الزمان والمكان، وليست الأشياء التي تتناولها الميتافيزيقا ـ وهي الله، والنفس، والعالم ـ كذلك؛ فإنّ الميتافيزيقا لا تعالج أموراً ذهنية، وإنّما تحوّل البحث عن أشياء موضوعية قائمة في نفسها.
وأمّا الأحكام التركيبية الثانوية، فهي الأحكام التي تعالج موضوعات تجريبية، كموضوعات العلوم الطبيعية التي تدخل في الميدان التجريبي، ولذلك صارت ثانوية باعتبار احتياجها إلى التجربة، ومن الواضح: أنّ مواضيع الميتافيزيقا ليست تجريبية، فلا يمكن أن يتكوّن فيها حكم تركيبي ثانوي، ولا يبقى للميتافيزيقا بعد ذلك متّسع إلاّ للأحكام التحليلية، أي: الشروح والتفاسير للمفاهيم الميتافيزيقية، وهذه الأحكام ليست من المعرفة الحقيقية بشيء، كما عرفنا سابقاً.
والنتيجة التي يخلص إليها (كانت) من ذلك:
أوّلاً ـ أنّ أحكام العلوم الرياضية أحكام تركيبية أوّلية وهي ذات قيمة مطلقة.
ثانياً ـ أنّ الأحكام التي تقوم على أساس التجربة في العلوم الطبيعية، أحكام تركيبية ثانوية، والحقيقة فيها لا يمكن أن تكون أكثر من حقيقة نسبية.
ثالثاًـ أنّ موضوعات الميتافيزيقا لا يمكن أن توجد فيها معرفة عقلية صحيحة، لا على أساس الأحكام التركيبية الأوّلية ولا على أساس الأحكام التركيبية الثانوية.
والنقطة الرئيسية في نظرية (كانت) هي: أنّ الإدراكات العقلية الأوّلية ليست علوماً قائمة بنفسها ذات وجود مستقلّ عن التجربة، بل هي روابط تساعد على تنظيم الأشياء ووصلها بعضها ببعض. فدورها الوحيد هو: أنّها تجعلنا ندرك الأشياء التجريبية في إطاراتها الخاصّة. ويترتّب على ذلك طبيعياً إلغاء الميتافيزيقا؛ لأنّ تلك الإدراكات الأوّلية ليست علوماً بل هي روابط، ولأجل أن تكون علماً تحتاج إلى موضوع ينشئه الذهن أو يدركه بالتجربة، والموضوعات الميتافيزيقية ليست من منشآت الذهن ولا من مدركات التجربة.
كما يترتّب عليهـ أيضاً ـ أنّ الحقيقة في العلوم الطبيعية نسبية دائماً؛ لأنّ تلك الروابط داخلة في صميم معارفنا عن الظواهر الخارجية، وهي روابط ذاتية، فيختلف الشيء في ذاته عن الشيء لنا.
(راجع، فلسفتنا، محمد باقر الصدر ص 163 وما بعدها).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را


.. قيادي في حماس: الوساطة القطرية نجحت بالإفراج عن 115 أسير من




.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام