الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرحيل إلى جرجا .. وحرب أكتوبر1973.. من ذكريات الطفولة والشباب ( ج 6 /7 )

بشير صقر

2017 / 12 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ويتناول هذا الجزء - قبل الأخير من الذكريات - إصدار قرار نقلى إلى جرجا ويتابع أحداث الحركة الطلابية بأسيوط عام 1973 وما اكتنفها من إجراءات عنيفة من جانب الدولة وأجهزتها الأمنية من تقديم قادة الحركة لمجالس التأديب وفصلهم وردود فعل الطلاب ضدها من مظاهرات واعتصامات لتنتهى بصدامات دموية واعتقالات وفض الاعتصامات بالقوة . كما يتطرق إلى تدابيرمتنوعة لاغتيال صلاح يوسف أحد أبرز قادتها ثم الاعتداء عليه فيما بعد اعتداء وحشيا كما سبق الاعتداء على غيره من هؤلاء القادة.
إضافة إلى بداية التحرش الأمنى بى تمهيدا للقبض علىّ وزَجّى بقضية طلاب أسيوط . كذلك يتناول حرب 6 أكتوبر 73 وإبراز التباينات حول تشخيصها من القوى السياسية .
وينتهى الجزء السادس بفصلى من الأزهر ورفضه لعودتى إليه فيما بعد.
،،،،،،،،،،،،،،

طلبتُ من شيخ المعهد إعداد إخلاء الطرف واستمارة السفر من الآن لكى أتسلمهما بتارخ الغد 14 إبريل 1972 تمهيدا للسفر إلى جرجا بعد غد 15 إبريل72 .فردّ الرجل مستسلما : حاضر .. أمرنا لله. صافحت جميع الموجودين واحتضننى بعضُهم وفى صباح اليوم التالى تسلمتُ الإخلاءَ واستمارة السفر ، وفى اليوم الثالث سافرت إلى سوهاج ومنها لجرجا . وكان بعض طلاب جامعة أسيوط قد عرفوا الخبرفتطوع أحدهم وكان بالسنة النهائية بالطب وأعطانى إسم صديق له من جرجا يعمل والده تاجرا للأقمشة واسمه أبو الحمد السهولى الكتاتنى .. لمساعدتى فى استئجار مسكن . وبالفعل لجأت للتاجر الذى قام بالاستفسار من معارفه عن شقة خالية حتى عثرنا عليها وكانت على البحر مباشرة فى الدور الثالث وكتبنا عقد استئجارها.

وفى معهد جرجا كان الخبر قد سبق وصولى مع توصيات إيجابية من زملاء بمعهد أسيوط ، واستلمت العمل واستأذنتهم حيث كانت أسرتى مازالت فى شقة أسيوط ونقلنا أغراضنا بعد فترة ومعى بشرى وشفيع .هذا وقد تم نقل أوراق شفيع من مدرسة أسيوط الصناعية لمدرسة مماثلة بالبلْيَنا التى تبعد عن جرجا (15كم ) ويمرّ بها القطار حيث كانت جرجا تخلو من المدارس الصناعية آنذاك.

أمين مكتبة بدون عمل :

مع بدء العام الدراسى الجديد 72 / 1973 وفى شهر أكتوبر تعرفت على عدد من العاملين بالمعهد الجديد وكانت المكتبة غرفة متوسطة ولها أمين يقارب الستين عاما.
فى الأيام الأولى كنت أقضى بعض الوقت بها متحدثا مع أمينها الذى أخبرنى بألا عمل حقيقى بها ولا وظيفة للمكتبة.. وقُرْب ظهر كل يوم كان بعض معلمى المعهد – ثلاثة ا أو أربعة مشايخ – يفِدون للمكتبة للثرثرة مع أمينها فى أمور شخصية واجتماعية وكنت أجلس بينهم صامتا مستمعا ومشاهدا دون مشاركة فى الحديث الذى لم يكن يخرج عن ( التَشارُك فى تربية المواشى وتجارتها ، وشراء الأراضى وبناءالعقارات ، والجنس ) وذات يوم سألنى أحدهم لم لا تُشارِكنا فقلت له : لأنى لا أفقه فى الموضوعين الأول والثانى ولا أحبذ الحديث فى الثالث.لذا كنت أتفادى الدخول للمكتبة فى وجود أصدقاء أمينها.وعندما أدخلها بالخطأ ينفض الجَمْع ؛ وقد سمعت أحدَهم ذات مرة يقول : هيا.. الشيخ بشير وصل . وقد حاولت المزاح معه مرة مستفسرا عن اللقب الذى منحوه لى (شيخ ) وهل هو باعتبار أن أغلب العاملين هنا شيوخا ومن ثم أندرج تحت هذا المُسمّى وأكتسب لقبَهم أم لمعنى آخر..؟ فرد ضاحكا : لا.. أنت لست شيخا ومعروف هنا بالأستاذ . ففهمتُ أن القصد كان المعنى الثانى أى أننى منسوبا إليهم شيخ يفُضّون بسببه مجلسَهم العامر "بالفرفشة ".
وإلى جوا ر هؤلاء كانت هناك شخصيات أخرى كثيرة بالغة الجدية وراقية الاهتمامات لا أتذكر منها سوى الأستاذ محمد سرحان من قرية الكوامل .

مجالس تأديب وفصل من الجامعة واعتصامات طلابية ومطاردات شوارع
واعتقالات عشوائية وفض الاعتصامات بالقوة وصدامات دامية :

وبحلول العام الدراسى الجامعى 1972/ 1973 استأنفت الحركة الطلابية نشاطها بقوة مستفيدة من تجارب العام السابق وتجلى اتساعها وتطورها السريع ونضجها فى مظاهر ووقائع عديدة كانت لغة مجلات الحائط أحدَ مؤشراتها البارزة ، وكان من الواضح لأى مراقب منصف أن شوطها القادم سيختلف كيفيا عن شوطها السابق .

وحيث أسفرت المواجهة السياسية عن فشل ذريع للدولة وأجهزتها الجامعية والأمنية ، وساد ذلك اليقين فى أرْوِقتها فى نهاية العام الدراسى السابق وبدأ الاستعداد لسياسة جديدة دشنتها زيارة سابقة لوزير الشباب كمال أبو المجد لأسيوط واجتماعه بقادة الجماعات الدينية بعيدا عن الجامعة ؛ ودعما لتلك السياسة كان السادات قد عيّن محمد عثمان اسماعيل محافظا لأسيوط الذى كان راعيا لجماعات العنف السياسية الإسلامية .

تعاون المحافظ الجديد مع الكادر الإخوانى د. خالد عبد القادر عودة الأستاذ بالهندسة وكانت إحدى ثماره اتخاذ إدارة الجامعة قرارا بفصل ستة طلاب منهم أربعة من الهندسة هم (صلاح يوسف ، وأحمد عرفات ومحمد المدنى ، وأحمد بكرى) وواحد من العلوم هو (أحمد كمال) وآخر من التعاون الزراعى هو (طاهر يوسف) ، حيث تم فصل الأول والثانى نهائيا بينما فصل الأربعة الآخرون لمدة عامين ؛ إلا أنه تم تخفيف الفصل عن الثلاثة الأخيرين إلى سنة . وبعدها تعدّل الفصل النهائى لأحمد عرفات إلى فصل سنتين ولمحمد المدنى من فصل سنتين لسنة ؛ ولم يعد الخمسة الأخيرون للجامعة إلى بعد انقضاء مدة الفصل بينما لم يعد صلاح إلا بعد سبع سنوات فى عام1980 وبعد أن تقدم بالتماس - بعد سنوات- لتعديل عقوبة الفصل النهائى.هذا وقد أثارتقديم قادة الطلاب الستة لمجالس التأديب وفصلهم إلى موجة غضب عارمة فى صفوف طلاب الجامعة وأفضى ذلك إلى رد فعل عكسى وحالة من التمرد غير مسبوقة حيث أنّ مَنْ تم فصلهم ظلوا وسط الطلاب فى كلياتهم يمارسون دورهم., بيُسْربالغ ودون صعوبات.
يقول محمد المدنى : كنا نسيطرعلى الجامعة تماما ، ففى أى كلية أو مدرج كنا نعقد مؤتمرا ، ولم تكن هناك أدنى مقاومة لا من إدارة الجامعة ؛ ولا من الأساتذة رواد الاتحادات الطلابية ؛ ولا من الجماعات الدينية ؛ ولا من عملاء الأمن؛ ولا من الأساتذة المناوئين لنا ، علاوة على أن الأغلبية الساحقة من المدينة الجامعية كانت تعاوننا بما فيها مساكن الطالبات. أما أجهزة الأمن فكانت خارج مبانى الجامعة.
هذا وانتشرَعقدُ المؤتمرات فى كليات الجامعة ثم تطورالأمر إلى اختياركلية العلوم مركزا للنشاط الموحّد نظرا لموقعها الجغرافى المتوسط وصار للجامعة مجموعة من القادة معروفون بالإسم .

وفى مؤتمر جامع احتج الحشد الطلابى المشارك على إجراءات التأديب وقرارات الفصل واتخذ قرارا بالاعتصام فى مبنى كلية العلوم؛ ولم تتمكن إدارة الجامعة من السيطرة على الموقف مما دعاها للاستعانة بالأستاذ يوسف عبد الحافظ والد صلاح للمساعدة فى إثناء ابنه وزملائه عن الاستمرار فى الاعتصام إلّا أن الطلاب رفضوا فضّه.

وحيث أصبحت إدارة الجامعة فى " حيص بيص" فقد برز دور أجهزة الأمن علانية بعد أن ظل طوال الشهور السابقة متخفيا وراء عباءة إدارة الجامعة..

وعندما اندلعت المظاهرات تجوب طرقات الجامعة وترفع شعارات الاحتجاج على مجالس التأديب والفصل التى تحمل أسماء المفصولين من زملائهم مثل [ وَعْدْ يا طاهر عَهْد يا بكرى // مش حنسيب الجامعة ونِجْرى ، وعد يا يوسف عهد يا مدنى // مش ح نسيب الساحة ونمشى ] تحفزت لها قوات الشرطة ؛ وبينما أفلتت إحداها متجهة لقلب مدينة أسيوط ووصلت حتى عمارة صيدناوى اصطدمت بالشرطة ثم عادت. واستمر ذلك الفوران لمدة ثلاثة أيام (12- 14 فبراير73) وانتهى بصدام أمام المدينة الجامعية للطالبات اتسع نطاقه وأصيب العديد من الطلبة وقامت مجموعات الإسعاف التطوعى الخمسة - من طلاب الطب – بدورها فى علاجهم ..بعيدا عن المستشفيات الرسمية.

من جانب آخر كانت بعض سيارات الأمن تطارد الطلاب فى الشوارع المحيطة بمبنى الجامعة ، وبعضٌ آخر يهاجم التظاهرات والتجمعات وأحيانا يقتحمها.. وبتكرار ذلك الاقتحام استخدم الطلاب الحجارة ضدها، وفى إحدى الهجمات انقلبت سيارة جيب وبداخلها العقيد عبد العزيز حبيب الذى سقط تحتها مصابا بكسور مضاعفة فى الحوض لم يبرأ منها إلى أن توفى بعد شهور.. وقد شهد الواقعة من الطلاب أعداد غفيرة منهم محمد داود وربيع الجندى.
هذا وأعقب ذلك حالة هستيرية من عنف الشرطة مارست فيها القبض العشوائى على الطلاب من الشوارع المحيطة ليتجاوز المقبوض عليهم مائة طالب كانت الشرطة تلقى بهم محتجزين فى أقسامها حتى رحّلت معظمهم إلى السجن على ذمة " قضية طلاب أسيوط ".

محاولات متنوعة وشروع فى قتل صلاح يوسف :
بعد سنوات عاد صلاح يوسف للجامعة وحيث كان يتردد على عدد من زملائه فى المدينة الجامعية بشكل منتظم لاستكمال دروسه وكتبه تربّص به أعضاء الجماعة الإسلامية ( الجماعات الدينية سابقا) بكمين محكم واعتدوا عليه بوحشية بالعصى والشماريخ والسكاكين- وقد حصر الأطباء المعالجون 17 إصابة متفرقة فى رأسه فقط بخلاف بقية جسمه - حتى وصل إلى حافة الموت حيث ظل بعدها عدة أسابيع طريح الفراش..واستمر علاجه ومعاناته منها شهورا طويلة.
هذا ويذكر أحدُ قيادات الاتحاد الاشتراكى بأسيوط أن محمد عثمان اسماعيل كان قد اتفق مع أحد أبناء البدارى على اغتيال صلاح إلا أن تدخلات حدثت وأسفرت عن منع ذلك.. فضلا عن تراجع ابن البدارى لتخوفه من النتائج.

تحرّشات أمنية تمهيدا للقبض علىّ :

فى هذا التوقيت- مارس 1973- لجأت المباحث العامة للتمهيد للقبض علىّ متخذة الخطوات التالية:

•أكْثَر مندوبُها فى جرجا ( المخبر حمدان) من التردد على المعهد فى أوقات عدم وجودى به والتشهير بى واختلاق الأكاذيب وبث الشائعات التقليدية بين العاملين بالمعهد ، ولم يكتف بذلك بل تعمّد إيصالها لى من خلال عدد من الموظفين الإداريين.

•تعمد السؤال عنى تليفونيا بواسطة مجهولين فى أوقات عدم تواجدى وإيصال ذلك لى.

•مع بداية امتحانات آخر العام أوائل مايو 73 حضر المخبر حمدان لمقر المعهد وجلس فى حجرة السكرتير وكانت صغيرة ؛ بينما كنتُ وعددٌ كبير من المعلمين نتواجد فى غرفة شيخ المعهد المجاورة التى تتسع لثلاثين شخصا خلال الفترة التى تفصل بين امتحان مادتين. وحيث كنا خارجين للتوّ من اللجان فقد ملأت الضوضاءُ الحجرة . وبينما كنت جالسا على أريكة كبيرة.. فوجئت بأحد الموظفين (رسول) يخبرنى بأن حمدان مخبر المباحث العامة – أمن الدولة – يطلبنى فى غرفة السكرتير . فقلت له : من يريدنى يَحضُرْ إلىّ .عاد الرسول ليقول : إنه " يريدك فى كلمتين على جنب ".. فقلت له بصوت عال أَسكَتَ الضوضاء المنتشرة فى الحجرة تماما : لقد قلت لك من يريدنى فلْيحضر إلىّ. وإذا لم يرغب فى الحضور فلْيغادر المعهد. وإلا فسأقوم بإحضاره بنفسى.

كان المخبر حمدان ضخم الجثة طويل القامة مفتولا .. وغبيا ؛ وهو معروف فى جرجا بـ" رزالته " مع التجار وكان يفرض عليهم إتاوة دورية مما جعله مكروها هناك .

لم يعُدْ الرسول مرة أخرى بعد أن وصل صوتى لغرفة السكرتير ، فقمت من مكانى وسط صمت وترقبِ الجميع وتوجهتُ إلى حيث كان يجلس ووقفت على باب الغرفة موجها كلامى له : فيم تريدنى .. لا نحن أصحابٌ ولا هناك بيننا أسرار..؟ فرد قائلا: تمَهّل قليلا. فدخلتُ الحجرة وأمسكت رسغه بقبضة يدى.. وقلت: تعال معى.. هل هناك ما يُخْجِلك ..؟، فسار معى وأنا ممسك برسغه إلى حجرة شيخ المعهد وبدخولنا ضحك البعض.. ثم ساد صمت عميق فى انتظار ما سيحدث. أجْلسْته على طرف أريكتى وجلستُ فى وسطها ثم قلت له بصوت عال يسمعه الجميع: لِمَ أَرسلتَ فى طلبى .. وفيم تريدنى .. أمام الناس جميعا ..؟ فتلَعْثم ولم يردّ. قلت له : ماالذى كنت تريد أن تسِرَّ به فى أذنى كما أبلغنى رسولك ..؟ قلْهُ أمام الناس.. فلا نحن تقابلنا قبل ذلك .. ولا جلسنا معا.. ولا تحادَثْنا .. أى أنه ليست بيننا أسرار.. قل ماذا تريد منى ؟ لم يجد ردا سوى : وماذا سأريد منك..؟ فقلت له : طالما لا تريد شيئا فلم أرسلتَ لى رسولا .. أم أن هناك من أرسلك لى.. وهو ما يريد منى شيئا.؟ ظل صامتا ولم يُجِب فقلت له: أخبر مَنْ أرسلَك أننى لا أذهب لمقر المباحث إلا بأمر النيابة .. هل فهمت..؟ فرد علىّ : اتكلم كويس. فقلت : أنا اتكلم أفضل منك وممن أرسلك . فرد علىّ : أنت قليل الأدب. فلم أمهله ووجهت له صفعة قوية ونهضتُ قبْلَه منتصبا وباليد الثانية وجهت له صفعة أخرى أشد ؛ فتكاثر المدرسون وأحاطوه بدائرة ليمنعونا من الاشتباك فكنت أقفز لأعلى وأضربه واستمر ذلك حوالى 3-4 دقائق طالت فيها أظافره رقبتى فخدشها. واحتجزنى المدرسون فى جانب بينما هو يقف فى الجانب الآخر من الحجرة . ثم قلت له أمام الجميع : ما فعلتَه هنا هو جريمة اعتداء على موظف أثناء تأدية عمله وأمام أكثر من عشرين شاهدا . وقلت لأحد وكلاء المعهد : لو سمحت يا مولانا أعطِنى ورقة لكى أشكوه للنيابة وأنتم الشهود ؛ ووجهت لحمدان تهديدى: والله لن أتركك ولن تفلت من يدى.

كتبت الشكوى وتوجهت للنيابة وقابلتُ رئيسَها ورويتُ له ماجرى تفصيلا مُنوّها لكل تصرفات المخبر حمدان خلال الشهور الأخيرة ومشيرا إلى أن ما حدث اعتداء من مواطن جرجاوى على شخص غريب وإصابته واعتداء على موظف أثناء تأدية عمله فى غرفة رئيسه وبالتالى منْعِه من استكماله على مرأى ومسمع من عشرين موظفا.. هذا وكان " الخربوش" الذى أصابنى دليلا طبيا على جريمة الاعتداء بينما ما ناله منى فلا أثر مادى له.

وأدليت بأقوالى وتم استدعاء شهود الواقعة الذين شهدوا بما جرى.. وكانت أٌقوالهم جميعا فى صالحى، بعدها تم استدعاؤه والتحقيق معه.

هذا وقد انتشر خبرُ (ضرب حمدان من مدرس بالمعهد الدينى) فى كل أرجاء جرجا بسرعة البرق. وكان كثير من الأهالى حتى الذين لا يعرفوننى يصافحوننى فى الشارع ويشدون على يدى ويقولون " عفارم عليك ".

وبعد أسبوعين أو أكثر من واقعة حمدان فى المعهد الدينى كانت شقيقتى هند فى زيارتى ومعها شقيقتى أمان وزوجها وقضوا عندى عدة أيام ، وفى التاسعة من صباح 28 مايو 1973قمت بتوديع أمان وزوجها بعدَ مرافقتهما لمحطة القطار للعودة إلى القاهرة وبعدعودتى للمنزل بدقائق إذا بباب المنزل العمومى يدق بشدة ، فأطلّتْ هندُ من شباك جانبى وعادت بسرعة لتقول : دول عساكر. وحيث فهمتُ أن ساعة القبض علىّ قد حلّت .. ولأن سلم المنزل كان ينتهى عند باب شقتى ولايصل للسطح فقد قمت باستخدام سلم خشبى متحرك " نقالى " للوصول للسطح ثم سحبته لأعلى ووضعته على جانبه ملاصقا للسطح وأوصيتُ هندَ بالهدوء والصمت والادعاء بأنى خرجت لتوديع أمان وزوجها ولمْ أعُدْ.. وأن شفيع خرج لشراء بعض الاحتياجات المنزلية.

داهمتْ قوة المباحث الشقة بحثا عنى فلم تعثر لى على أثر وقامت بتفتيش الشقة بدقة بحثا عن أوراق فلم تجد شيئا فأخذت معها مجموعة من الكتب السياسية التقليدية.. ولأن الفترة بين دخولى المنزل ومداهمة المباحث للشقة لم تتجاوز 7- 8 دقائق ولأن سلم المنزل ينتهى عند شقتى ولأن هند لم تكن منزعجة فقد توهّموا أنى مازلت بالخارج رغم تأكيد مراقبى الشقة من المخبرين بمشاهدتهم لى أدخل المنزل.. لذلك تركوا اثنين من المخبرين داخل الشقة لبعض الوقت بعدها تركوها ورابطوا على سلم المنزل . وبقيت حراسة أخرى حول المنزل.

كان اليوم شديد الحرارة وشمس جرجا قاسية وتحدث عنها نابليون فى مذكراته .. وظللتُ على السطح الخالى من أى ساتر أو حائط حتى الخامسة مساء .. بعدها شاهدنى من بُعْد - يزيد عن السبعين مترا - بعض سكان العمارات العالية فأخطروا الشرطة التى أحضرت سلما وصعدت به لسطح المنزل ، واقتادتنى للأسفل وأثناءها لم يكفّ أفرادها عن ضربى حتى فقدت القدرة على الوقوف كذلك قبضوا على هند وألقوا بها فى سيارتهم وسط استياء سكان المنازل المجاورة .وهنا لم يترك المخبر حمدان الفرصة وظل يعضّنى بأسنانه بدءا من باب شقتى وحتى سيارة الشرطة . وفى مركز شرطة جرجا عاودوا الكَرّة هناك حيث تعرضنا لضرب مستمر لمدة لا تقل عن نصف ساعة.

وبعد أربع ساعات تم إطلاق سراح هند لتعود للمنزل بينما قضيتُ ليلتى فى مركز جرجا ومنه إلى مركز شرطة سوهاج فى اليوم التالى.

صدام آخر مع الشرطة فى سوهاج وترحيل لأسيوط :

فى ظهر 29 مايو وبعد نقلى لمركز شرطة سوهاج طلبت من حارس الحجز أن أدخل دورة المياه فرفض وإثر سخونة المشادة معه جاءنى ضابط برتبة ملازم أول ليشتمنى ببذاءة فبصقت عليه وأغرقت وجهه برذاذ اللعاب والمخاط. وما هى إلا دقائق حتى عاد الضابط مع ثلاثة جنود وبأيديهم سلسلتين من الحديد تنتهيان بكلبْشين، وعصاتين سميكتين من الخيزران بطول مترين ونصف. ووضعوا كلبْشا في كل يد وشدوهما بقوة لشل حركتى وتولى الضابط والجندى الثالث ضربى بالعصىّ لمدة تقارب العشرين دقيقة . وفى المساء نقلونى مقيدا إلى مقر المباحث العامة بأسيوط ومنه إلى قسم أول شرطة أسيوط. وفى اليوم التالى إلى النيابة حيث التحقيق وهناك حاول المحقق أخذ أقوالى وسألنى عن صلتى بطلاب الجامعة ولم يوجه لى تهما محددة تخص وقائع مادية إضافة إلى أنه لا توجد مضبوطات ذات شأن ولا شهود. المهم أنى رفضتُ التحقيق وطلبت محاميا وطبيبا فلمْ يستجبْ وعُدتُ للقسم بعد مغادرتى له بفترة وجيزة .

زيارة أمان لى .. وبرقية إضراب عن الطعام :

بعد أيام حضرت أمان لأسيوط وزارت لأول مرة أسرة صلاح يوسف المكونة من ثمانية أبناء وبنات وقضت ليلتها هناك وفى الصباح حصلت من النيابة على تصريح بزيارتى ، وعصر نفس اليوم توجهَتْ لقسم الشرطة وبدخولها أجلسوها فى حجرة أحد الضباط الخالية وأغلقوا بابها لحين حضورى. بعد أكثر من نصف ساعة أخرجونى من الحجز لرؤيتها.. فأبلغتنى أنها ظلت لعشردقائق أو أكثر فى الحجرة المغلقة بمفردها ؛ وفجأة انفتح الباب بقوة وظهر عدد من ضباط أمن الدولة بملابس مدنية ليسألها أحدهم : " وانتى كنتى هربانة فين يا بشرى ..؟ ففهمت أمان ما وقعوا فيه من لَبْس وردّت بابتسامة ذات مغزى : أنا لستُ بشرى ، وأستكملت قائلة :ومَنْ قال أنّ بشرى هاربة ..؟ فقالوا أين هى ..؟ ردت عليهم : فى منزلنا بشين الكوم . ودار بينها وبينهم حديث قصيرسخرت فيه منهم حتى شبعت وقالت : ألا زلتم تتعاملون مع المتهمين السياسيين بأساليب القرن التاسع عشر ، وبعد حوالى ربع ساعة سألتْهم : هل سأرى أخى أم أرحل..؟ أم تفضلون أن أبلغ النيابة..؟ وحيث أدركوا أنهم أمام نوع مختلف من النساء يعرف ما يقول غادروا الحجرة ليحضر أحد ضباط القسم بصحبتى لألتقى بها ويتركنا بمفردنا.

ولما كنت قد طلبت من ضباط القسم فى وقت سابق أن أنتقل لسجن أسيوط بدلا من وجودى فى القسم تجاهلوا طلبى ، ولذا طلبت من أمان أن ترسل برقية باسمى للنيابة لإخطارها بإضرابى عن الطعام اعتبارا من الغد احتجاجا على خرق القانون بإبقائى بقسم الشرطة رغم انتهاء التحقيق ، حيث رفض القسم طلبى بترحيلى إلى السجن. وبالفعل أرسلتْ أمان البرقية صباح اليوم التالى لحضورها وبعدها تم نقلى إلى السجن.

عزلى عن طلاب الجامعة ..وحبسى انفراديا بالسجن.. بالمخالفة للائحة السجون:

قبيل وصولى لسجن أسيوط قامتْ المباحث العامة بنقل طلاب الجامعة المحبوسين على ذمة " قضية طلاب أسيوط " إلى عنبر آخر غير العنبر الذى تقرر نقلى إليه بينما تم الإبقاء على عدد من أساتذة الجامعة المحبوسين على ذمة نفس القضية مقيمين فى عنبرى. وبوصولى للسجن مضربا عن الطعام تم تسكينى فى زنزانة انفرادية يفصلها عن المحبوس المجاور زنزانتين خاليتين من الناحيتين. وظل هذا الوضع مستمراً لمدة تزيد عن شهر. هذا وقد علّقْتُ إضرابى عن الطعام مساء يوم وصولى ، لكن النيابة لم تحضر إلى السجن للتحقيق معى بشأن برقية أمان إلا بعد يومين.

وعموما فلائحة السجون لا تُطبَق تطبيقا صحيحا فى السجون المصرية ، وعلى سبيل المثال لا يُحْبسُ انفراديا إلا المُعاقَب أو المضرب عن الطعام ، كذلك تنص اللائحة على حتمية نقل المضرب عن الطعام لمستشفى السجن حرصا على حياته ومتابعة حالته الصحية.وبالنسبة لى كان منطقيا أن أحبس انفراديا فى يوم وصولى مضربا عن الطعام أما بعد ذلك فالحبس الانفرادى يُعَد مخالفة قانونية.. تُعاقبُ عليها إدارة السجن فيما لو تم إثبات ذلك. كذلك فللمحبوس الحق فى ساعة رياضة يوميا يقضيها فى فناء السجن.

بعد أيام استُدْعيت لمكتب مأمور السجن؛ وعلى باب المدخل الفاصل بين السجن ومبنى الإدارة تعامل معى أحد الصولات بخشونة و" جليطة " فنَهَرْته .. لذا أمسك بيدى بعنف وحاول ليّها ، كان ذلك فى ساعة الرياضة حيث شاهدْتُ بعض اساتذة الجامعة فى الفناء. ولما طالبتُ الصولَ بترك يدى رفض فقمت بجذبه ولىّ يده ودفعته ليقع على الأرض وقلت له : " حتتغاشم معايا حطلّع روحك ، ولو ما أخدتش منك حقى هنا حاخده برّه ".

دخلت للمأمور فسألنى بعض الأسئلة التقليدية التافهة استنتجت منها أن الأسئلة ليست مربط الفرس فى استدعائى بل رغْبتُه فى التعرف على شخصيتى استنادا لما يشاع عنى. وليس بعيدا أن يكون احتكاك الصول بى مُدَبّرا ليجرى التعرف على رد فعلى لأنه لم يكن هناك سبب يدفعه للخشونة معى بالمرة. بعدها دار حوار مع المأمور أوضحتُ فيه أن قضية طلاب أسيوط التى نحن على ذمتها فاشلة وأن الغرض من حبس الطلبة هو إبعاد القادة عن جموع الطلاب ، وهو نفس السبب الذى بسببه عزلتمونى عنهم فى عنبر مستقل . المهم أنى اشرت له أننا لسْنا سُذّجا ولا مُغَرّرا بنا ، ولنا رؤوس تجيد التفكير وطالبتُه بتطبيق اللائحة.

عدت لزنزانتى وجلست أفكر عن وسيلة للاتصال بالطلاب فى العنبر الآخرالذى يحظى بحراسة قوية. وتفتق ذهنى عن إرسال رسالة مكتوبة لصلاح للتعرف على بعض المساجين الموثوق بهم ، وبحثت عن وسيلة فى ظل الحبس الانفرادى ومنع الاختلاط بأى نوع مع النزلاء فى السجن .. وأخيرا توصلت إليها.


ابتداع وسيلة للاتصال .. وشفرة للحوار:

كان معى بنطلون بيجامة ، استخدمت رباطه المطاط ( أستك) فى عمل " نبلة " ، وذلك بربط طرفيه فى قطعتى حديد متجاورتين من شُرّاعة باب الزنزانة بعدها كتبت الرسالة. ومن خلال مشاهداتى لعدد من المساجين اخترت أحدهم وتصادف أن كانت زنزانته تقع فى مواجهة زنزانتى لكنها فى الدور الأعلى منى مباشرة فقد كنت فى الثالث شرقى بينما هو فى الرابع غربى، وتحدثت معه بالإشارة وأفهمته أن معى رسالة - وأمسكت بها فى يدى لكى يراها - وأرغب فى أن تصل إلى صلاح وكانت كلمة صلاح هى الوحيدة التى نطقت بها وأشرت له إلى النبلة وجذبت المطاط للخلف ثم تركته ففهم ، بعدها أحضرت ورقة بيضاء وقلبتها عدة مرات ليدرك أنها خالية وأنها غير الرسالة ، ثم قسمتها أمامه لأربعة أقسام متساوية وطوَيتُ كلَ قسم عدة مرات حتى صار طوله حوالى6-7 سم وعرضه حوالى1سم ثم أرسلت الورقة المطوية له بالنبلة ولقوّتِها اصطدمت بسور المَمْشى الموجود أمام الزنازين وسقطت فى الدور المقابل لى (أى الثالث غربى) ، فأرسلت له الورقة الثانية إلا أنها كانت ضعيفة فلم تصل إليه وسقطت فى الدور الأرضى، ثم أرسلت الثالثة بقوة أقل من الأولى وأكبر من الثانية فوصلت إلى باب زنزانته ، وكذلك أرسلت الرابعة فوصلت أيضا . وهنا جاء دور الرسالة.. فطويتها حتى صارت بحجم الأوراق السابقة وأرسلتها فوصلت وأخذها المسجون وسلمها لصلاح ولما قرأها أرسل الرد مع السجين فوزى (كهربائى السجن) الذى يدخل جميع العنابر وكل الزنازين.

كان عبد العزيز الذى تلقف رسالتى سجينا عسكريا وليس مدنيا ، وقد تم سجنه لارتكابه مخالفة التغيّب عن الخدمة العسكرية لمدة طويلة ( شهرين ). وقد تغيب عن وحدته العسكرية لأنه علم بمقتل شقيقه الأكبرفى قريته ، بعدها شرع فى الإعداد للأخذ بثأره وقام بالآتى:

•تسلل ليلا لبلدته ودخل متنكرا إلى منزله الذى كان يقع فى أطراف القرية بالقرب من الحقول.وعرف بقصة قتل أخيه بالتفصيل ، وطلب من أخته مراقبة جيرانه الذين قاموا بالقتل مراقبة يومية وإبلاغه بتوقيت تجمعهم بحقلهم المجاور لحقله. ثم عاد ليشترى مدفعا رشاشا بثلاثة أرجل (سِبْية) ، وجِوال ذخيرة واتفق مع أحد السائقين على استئجار سيارة نصف نقل تخص الإدارة الزراعية ، وما أن علم من أخته بالموعد حتى عاد بمدفعه وذخيرته محملة بالسيارة ليلا ونقل المدفع والذخيرة لحقلة وأخفى السيارة فى مكان قريب وعاد ليتربّص لجيرانه القتلة وظل فى حقل الذرة المجاورمن قبيل الفجر حتى الصباح ، وما أن جلس خصومه لتناول الغداء حتى فتح عليهم النار من مدفعه فقتل سبعة بينما جُرِحَ الثامن الذى جرى مترنحا حتى سقط فى المصرف ليغرق ، بعدها أخفى جسم الجريمة وأعاد السيارة لسائقها وعاد لمنزله ، وفى الصباح خرج ليتجول فى شوارع قريته التابعة لمركز الغنايم محافظة أسيوط .. ثم بدأ فى تلقى عزاء شقيقه.

•بعد يوم آخر عكَفتُ على عمل شفرة لتساعدنى فى النقاش مع الطلاب فى العنبر الآخر وانتهيت منها فى يومين. وأرسلت حل الشفرة مع عبد العزيز وبعد أن وصلتْ صلاح أرسلتُ الشفرة مع فوزى الكهربائى فى يوم آخر.وبوصولها أصبح الوضع مهيأ لتبادل الرأى حول الكثير من القضايا والأحداث بينى وبين الطلاب.

•فى شهر سبتمبر 1973 بدأ الإفراج عن الطلاب من السجن ، وفى نهايته خرجْتُ بعدهم.
قضيت الليلة الأولى بعد خروجى من السجن فى منزل صلاح يوسف بأسيوط بعدها توجهت إلى جرجا .

دروس انتفاضة الطلاب بأسيوط :

1-كانت الحركة الطلابية فى القاهرة والإسكندرية ثم أسيوط تستهدف تحرير الأرض التى احتلها أعداؤنا منذ عام 1967 وكان ذلك الهدف محركها الأول ؛ لكنها فى نفس الوقت تناولت فى نشاطها قضايا أخرى بالغة الأهمية مثل الأوضاع الاقتصادية ( التى جسدت فيما بعد جوهر انتفاضة الشعب فى يناير 1977) والديمقراطية ومنها حق الاحتجاج السلمى المتمثل فى حرية التعبير وعقد المؤتمرات والمسيرات والتظاهرات إلا أن تحرير الأرض كان مركز هذه القضايا جميعا.

2-ويجب أن نُقرّ أنه رغم شروع الدولة فى إعادة بناء القوات المسلحة بدءا من منتصف 1967 فى أعقاب الهزيمة وحتى أكتوبر 1973 إلا أن اندلاع الحرب لم يكن شيئا مُحتما ؛ لأنه كان يخضع لشروط وعوامل شتى خارجية وداخلية . وكان من ضمن العوامل الخارجية ما صرح به السادات عن " الضباب " وأن " 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا " ومنها مصادر السلاح وأسعاره ونوعيته ، وكذلك الدعم الدولى. أما العوامل الداخلية فكانت قدرة الاقتصاد المصرى على تحمل تكلفة الحرب، وكفاءة إعداد المقاتلين عسكريا ومعنويا ، وتماسك الجبهة الداخلية وروحها المعنوية..إلخ.

3- ولذلك فلولا الحركة الطلابية التى أشعلت حماس الشعب وأخرجته من حالة الألم واليأس التى عاشها آنذاك ومارست ضغطا شديدا على النظام لكان من الممكن ألا تندلع حرب أكتوبر، وأبلغ دليل على ذلك ما جرى فى أيام الحرب الأخيرة من أحداث ( كالثغرة وفصل القوات ومحادثات الكيلو 101 وفك الارتباط ) وبقية النتائج السياسية التى كان مؤشرها استقالة ثلاثة وزراء خارجية فى بحر شهور احتجاجا على مادار فى محادثات كامب ديفيد من تنازلات بطلُها السادات...إلخ. وكذلك الإفراج عن جماعة الإخوان فى عام 1974 من السجون.. وفتح الباب واسعا أمامها للعمل واستعادة نشاطها الواسع.

4-وبالنسبة لنشاط الحركة الطلابية فى أسيوط فقد كانت هناك نقطتان بارزتان ؛ الأولى: هى العنف والعنف الدموى الذى طبعها . والثانية :هى أن الجامعة كانت مفرخة للشباب المناضل فى عموم الصعيد من بنى سويف حتى أسوان . حيث لعب هذا الشباب دورا هاما فى التوعية السياسية فى ثمانية محافظات على الأقل . ومَثّل ذلك الشبابُ نواة للعمل السياسى فيما بعد فيها.. هذا من ناحية .

5-ومن ناحية أخرى أسهمت الحركة الطلابية فى أسيوط فى مشاركة كثير من الطالبات فى النشاط الطلابى ؛ صحيح لم يكن بنفس الشكل والمستوى الذى تجلى فى جامعات أخرى .. لكنه على أى حال كان تغيّرا يصعب حدوثه هناك لوْلا الحركة.

6-ومن ناحية ثالثة كان من النتائج - التى لا يلمسها سوى من ساهم فى النشاط فى أسيوط أو كان على مقربة منه – هو إضعاف النعْرة الجِهَوِية العُصْبَوية المتمثلة فى انحيازات الطلاب -فى الانتخابات والتجمعات وممارسة الحياة اليومية – لأبناء محافظاتهم ( قبلى / بحرى) ؛ وداخل الصعيد ( أسيوط / بنى سويف / قنا .. إلخ. ).

7-ورغم أن إسهام الطالبات فى النشاط وإضعاف النعرة الجهوية كان مكسبا هاما .. إلا أن المكسب الأهم تمثل فى إدراك الطلاب ومن ثم قطاعات أخرى من الشعب بأن هناك منطق قوى امتلكه الطلاب يقارع رأسا برأس منطق الدولة ويتفوق عليه.. بل ويهزمه ؛ تجلى إبان المواجهات السياسية مع قادة كبار فى الدولة ( الشافعى – مرعى – عبد المجيد عثمان ).. بدليل نشوب الحرب بعد عام من اندلاع الحركة الطلابية.

8-هذا وتبين للشعب كذلك كيف عاد النظام الجمهورى الذى تأسس بعد ثورة 1952 إلى استخدام نفس الأساليب والأدوات التى كان يستخدمها النظام الملكى قبل عام 1952 ضد الحركة الوطنية المصرية.. بتوظيف جماعات الإسلام السياسى لوقف تصاعد حركة الطلاب وانحياز تلك الجماعات للنظام الحاكم .. بينما هى تتشدق ليل نهار بتكفير الحكام والشعب معا. وأبرز الأدلة على ذلك هو التعاون الوثيق بين محافظ أسيوط ( محمد عثمان إسماعيل ) مع أجهزة الأمن رغم أنه كان راعيا مخلصا لجماعات الإسلام السياسى المعادية للنظام والتى قتلت السادات فيما بعد. والمثير فى الأمر أن السادات هو من قام بدعمه واستخدمه ودفع به من أمين الاتحاد الاشتراكى فى أسيوط إلى منصب المحافظ ثم إلى وزير فى بحر 3 سنوات.ومثال آخر هو تعاون - لنفس الغرض - بين المحافظ محمد عثمان مع إدارة الجامعة ومع الدكتور خالد عبد القادرعودة الكادر الإخوانى المعروف والأستاذ بهندسة أسيوط وهو ابن المرحوم عبد القادر عودة أحد ستة قيادات للإخوان تم إعدامهم فى خمسينات القرن الماضى. لقد كانت غرفة عمليات الدولة لمواجهة الحركة الطلابية تجمع بين أجهزة الأمن وإدارة الجامعة والدكتور عبد القادرعودة ممثل جماعة الإخوان وبين المحافظ المذكورراعى وصاحب الصلات الوثيقة بالجماعات الإسلامية ومُصْدر كثير من تكليفاتها ومدبّر بعض عملياتها ضد الطلاب.

9-ورغم المواجهة السياسية التى بدأت بها الدولة دورها لإخماد حركة الطلاب بأسيوط إلا أنها عادت سريعا لممارسة المواجهة الأمنية ليس فقط بالعصى والاعتقالات لكن أيضا بالاعتداءات الجسدية والفصل من الجامعة ومحاولات الاغتيال، ولم تدخر جهدا فى التحالف مع أعداء الأمس لدحر أعداء اللحظة ( الطلاب).

10-لقد اقتصر سلاح الطلاب على الأدوات السلمية ( مجلات الحائط ، المؤتمرات ، المسيرات ، التظاهرات) لكن النظام الحاكم كان يعود دائما للعصى والقهر وتقييد الحرية والتحكم فى المستقبل بمجالس التأديب. وليس جديدا أن تخالف هذه الأساليب العنيفة الدستور والقانون بل والمواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان التى وقعت عليها الدولة مع بقية دول العالم وأقرّت بالالتزام بها وبتعديل القوانين المصرية لتتطابق معها .

ورغم كل هذه التجارب التى رفعت وعىَ قطاع الطلاب الجامعيين ومن يرتبط به من فئات مجتمعية أخرى .. فلماذا تدهورت أوضاع الشعب المصرى إلى هذا الحد .. إلّا إذا كانت هناك عوامل تحركت وتسللت - دون أن نلمسها – فى الاتجاه المعاكس وأوصلته إلى ما يعيشه الآن من محن تتعاظم كل يوم عن اليوم الذى سبقه..؟!

والإجابة المنطقية على سؤال لماذا تدهورت..؟.. هى فهمنا لما نسميه بالمعارضة وفى تطبيقنا لهذا الفهم .
فليس كلُ مَنْ يعارض النظامَ الحاكم يُعَدّ ثوريا مخلصا ؛ لأن هناك نوعان من المعارضة والمعارضين؛ هما المعارضة من أجل كرسى الحكم فقط .. والتسمية الأصح لها هى المنافسة ( أى المنافسة على الكرسى )، وهناك المعارضة من أجل انتزاع حقوق الشعب الأساسية مثل ( ضروريات المعيشة ، والتعليم والصحة والثقافة ،والتنقل بحرية ، وتأسيس الأحزاب والنقابات والروابط والنوادى والاتحادات بحُرّية ، ودعم المنتجين للسلع المادية كالغذاء والدواء والكساء ؛ والخدمات ومستلزمات المعيشة الضرورية ) فكلما زادت أعداد المنتجين للسلع والخدمات الأساسية وتحسنت أوضاعهم على حساب الوسطاء من الموزعين والسماسرة والمستوردين والمصدرين والمتاجرين بقوت الشعب.. كلما قَوِىَ الاقتصاد وقويت العملة الوطنية ( الجنيه ) فى مواجهة العملات الأجنبية .. وكلما زاد رخاء الشعب واستقراره.. وهكذا .

6 أكتوبر والتنبؤات التى أثبتها واقع الحرب ونتائجه السياسية:

اندلعت حرب أكتوبر 73 بعد أيام وكنت لحظتها فى أبو تشت أول مراكزشمال قنا مع صديقى السيد مقلد زميل الإبعاد من المنوفية حيث كان موظفا ببنك التسليف .

تناولنا إفطار رمضان مع بعض جيرانه واستأذناهم لنتداول الحوار بشأن الحرب للتوصل لتشخيص لها بعد أن قلّبْنا محطات الإذاعة المحلية والأجنبية وتوصلنا للآتى :

أن كل المقدمات المادية والسياسية فى مصر توضح أن الحرب التى اندلعت ظهر يوم 6 أكتوبر 1973 لا تعْدو أن تكون حربا لتحريك الحل السلمى وليس لتحرير الأرض ، رغم أنها تبدو من الناحية الشكلية غيرُ ذلك . فهى تشبه الجملة المعترضة فى اللغة العربية ؛ بمعنى أنها تتعارض مع سياق الجملة شكلا (أى تتعارض مع سياق الحل السلمى شكلا لأنها حرب) لكنها تتسق معها مضمونا ( أى تتسق نتائجها مع الحل السلمى ). وشرعنا فى تفسير ذلك من التاريخ القريب ومن عدد من المقالات الصحفية وتحديدا مما ورد فى مقال هيكل ( بصراحة ) الصادر بأحد أعداد الأهرام فى الربع الأول من عام 1969 ، ونقلنا عبارة هيكل الدالة على ذلك بنصها الذى كنا نحفظه عن ظهر قلب والذى كان يقول [ إن معركة بيننا وبين العدو يسقط له فيها ما بين 10- 20 ألف جندى لها من الأبعاد المادية والمعنوية ما هو كفيل بإزالة آثار العدوان] . هذا وذيّلنا تشخيصنا للحرب وتحليلنا للموقف ببرنامج عمل يشارك به الشباب فى توعية الجمهور حتى لا نفاجأ بتوقف الحرب فى منتصف الطريق دون تحرير سيناء.
وقمنا بتوزيع البيان المذكور على طلاب جامعة أسيوط الذين يقطنون محافظة قنا وشرعنا فى إرساله لأسوان وسوهاج وأسيوط.وكان ذلك الرأى مُخالفا لعدد من التحليلات الأخرى .. حتى أثبتت الأيام صحته.

الفصل من العمل ورفض الأزهر إعادتى:

قامت شقيقتاى أمان وهند فى أعقاب القبض علىّ بجمع أغراضنا من الشقة ونقلها ( أواخر يونيو 1973) حيث أصبح تواجد أخى شفيع بمفرده فى جرجا بالغ الصعوبة فى غيابى؛ وقد كان تعاطف الأهالى معهما أثناء نقل الأمتعة من المنزل لمحطة القطار مشهدا مثيرا ؛ ففضلاعن مساعدة الجيران لهما فى عملية إنزالها من الشقة للعربة ومرافقتهما فى عملية الشحن بمحطة القطار..كان توديعهما فى شوارع جرجا حتى ممن لا يعرفونهما بالغ الإثارة سواء بالمصافحة أو بعبارات الثناء والتشجيع خصوصا وأنى كنت فى وقت سابق أقوم بإعطاء دروس للعديد من فتيات المدينة فى مادة العلوم بفصول إحدى الجمعيات الأهلية هناك مما ترك أثرا طيبا لديهم .. وعرّف بعض السكان بى. هذا وقد عدت إلى جرجا – بعد خروجى من السجن - عند بدء الدراسة بالمعهد وأقمت فى أحد الفنادق المتواضعة .

فى الأسبوع الثانى من ديسمبر 1973 كنت فى زيارة للقاهرة أصبت خلالها بالتهاب رئوى ولم أستطع العودة لجرجا فى موعدى. واشتد بى المرض بسبب إهمالى فى العلاج وقمت فى 12 ديسمبر بإخطار المعهد ببرقية لتحويلى إلى الطبيب لكنى للأسف لم أتمكن من عمل الإجراءات اللازمة نظرا لتفاقم حالتى. وهنا طالبنى إخوتى بالبحث عن عمل آخر لأكون قريبا منهم حيث أن وجودى فى جرجا لا يفيدنى وفى نفس الوقت يضُرّ الأسرة. المهم صدر قرار فصلى من الأزهر.. وتقدمت بطلب للعودة قبل انتهاء عام على انقطاعى.. إلا أن لجنة شئون العاملين بالأزهر خالفت القانون ورفضت عودتى وسط دهشة صغارموظفى شئون العاملين بإدارة الأزهر الذين أفادوا بأنها السابقة الأولى خلال عملهم بالأزهر التى يتم فيها رفض طلب عودة للعمل من هذا النوع ؛ حيث كان من حقى العودة قبل انقضاء عام على انقطاعى عن العمل حتى لو كنت قد تقدمت باستقالتى طالما لم أرتكب عملا مخلا بالأخلاق والأمانة. وكان واضحا تدخل أجهزة الأمن لدى الأزهر وهو ما دعانى للبحث فورا عن عمل آخر فى مدينة القاهرة .

،،،،،،،،

وإلى أن نلتقى فى الحلقة الأخيرة بعد يومين بعنوان ( ملحق ما بعد كتابة الذكريات .. والخاتمة ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليار شخص ينتخبون.. معجزة تنظيمية في الهند | المسائية


.. عبد اللهيان: إيران سترد على الفور وبأقصى مستوى إذا تصرفت إسر




.. وزير الخارجية المصري: نرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم | #ع


.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام




.. وكالة الأنباء الفلسطينية: مقتل 6 فلسطينيين في مخيم نور شمس ب