الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرض الوعي

صيقع سيف الإسلام

2017 / 12 / 28
الادب والفن



كان المسرح خاويا و ليس في مقاعده إلا مشاهد واحد هو أنا ، أما الخشبة فتحوي ممثلا لذاته ، ليس معه أي طاقم و لا فريق عمل ، حتى أحسستني في مكان تدريب لا مسرحية حقيقية ، لقد كنت متأكدا و أنا أرقب تذكرتي التي ابتعتها ، المدخل رقم 3 ، المقعد رقم 56 ، فما تفسير كل تلك الظلمة الكاسية للجو ، بل استغربت وقوف ذاك الممثل دون أدنى شرط من النور ، إلا أنه يحفظ خشبة مسرحه جيدا بلا شك ، فلعله يريد مغزى ما من الحلكة تلك ، و التي لم يفهمها بعض النقاد ممن حضر كي يقيم هذا العمل المسرحي ، وربما حتى يقيم الفكرة ذاتها ، على نية نشرها ضمن مجلة الفنون المسؤولة في تلك المنطقة .
نزلت من مقعدي المبتعد ، أريد حيزا أقرب حتى لا يفوتني أي تفصيل ، و لم يبن ما على الخشبة إلا حينما جلست في الصف الأمامي ، إذ كان هناك كرسيين متقابلين على مسافة قريبة ، ملابس مبعثرة بجانب كل كرسي ، آلة كمان مقلوبة على أوتارها مع بعض الآلات الموسيقية الأخرى التي لم أميزها ، قطعة من الشعر الطويل في هيئة لحية عظيمة ، بعض الدمى تشبه الجثث المتعفنة ، دمية واحدة منتصبة وواقفة مشبثة بخيوط من فوق ، وقد كانت هذه الدمية المنتصبة منعزلة قليلا عن بقية الدمى ، الجثث المتعفنة ، أخيرا كرة مطاطية كبيرة لها شكل صخرة بتصدعاتها و شقوقها و مظهرها الصلب ...

المسرحية :

وسط الظلمة الكالحة ، سعى كريستوفر يبحث عن انسان مثله ، قلب المسرح ينظر يمينا و شمالا ، ينظر للسقف و للأرضية لكن من غير جدوى ، أغمض عينيه عساه إذا فتحهما لمح انسانا يتصل به لكن بلا فائدة ، بعد فشل البحث جلس كريستوفر على الكرسي الأول يعزف سوناتة لسيباستيان باخ ، في الكرسي الثاني المقابل حمل لوحة العشاء الاخير لدافنشي ، قام بعد ذلك في مكانه منتصبا على وجهه شارب ضخم يقول «الأخلاق » ثم يردف « سارتر ، نيتشه » ، قام بعد ذلك في الكرسي الثاني المقابل، على وجهه لحية كثة يرد « دوستويفسكي ، كيركجارد » ، اتجه نحو الأجساد النائمة يوقظها لكنها تأبى الاستيقاظ ، ترفض الحراك و لا تفتح أعينها ، عاد إلى الكرسي الأول و عليه لحية مستطيلة يحمل كتاب « رأس المال » ، في الكرسي الثاني المقابل حمل كتاب « ثروة الأمم » ، لازالت الظلمة كالحة ، عاد ينظر إلى الجثث المتعفنة برداء و جلسة تمثال موسى لمايكل أنجلو ، أيضا لم تتغير وضعية الجثث ، لم تبعث من موتها و تتحد بروح الحياة ، ترك كريستوفر جلسة تمثال مايكل أنجلو و راح يدحرج صخرة سيزيف ، دحرجة متصلة حتى خطر له أن يعزم إلى تشريح الجثث المتعفنة ، عساه يكشف سرا يحركها ، فلزم يشق صدور الجثث يفتش عما تحويه ، استقراء لخباياها المدسوسة ، بيد أن الجثث لم تتحرك رغم كل شيء ، هناك انطلقت جثة منعزلة في المشي ، كانت جثة منتصبة قائمة تمسكها خيوط رفيعة رقيقة ، انطلق كريستوفر لها يجري ، يريد اتصالا بها ، حينما أدركها كان قد انمسخ لحشرة ضخمة ، مثل انمساخ حشرة فرانز كافكا، إذا أبصر أعضاءه وجد نفسه كريستوفر البشري ، لكن تلك الجثة المنتصبة كانت تشاهده في شكل حشرة ضخمة تسبب لها الذعر ، حيث هرعت هاربة منه ، و في اثناء هروبها ، تبعتها تلك الجثث المتعفنة ، و بقي كريستوفر الحشرة وحده وسط المسرح ، تحت جنحة الظلام ، أخيرا لجأ إلى دحرجة صخرة سيزيف مجددا ، لكنها تكسرت بسبب أحد المكونات التي وجدها كريستوفر في صدور الجثث المتعفنة ، تكسرت الصخرة لكن الظلمة لم تتكسر و اشتدت اشتدادا أعمى كريستوفر أن يرى ذراعه و قميصه ، كان يحفظ كريستوفر أماكن الكراسي ، يحفظ موقع لوحة العشاء الأخير ، يحفظ كيف يعزف سوناتة باخ ، غير أن الوحدة عمت المسرح تماما ، ولم يبقى فيه أحد ، و تمدد كريستوفر على الأرضية يسمع همس أنفاسه فقط ، حتى مات .

التحليل :

أن يتعذب المرء لنبل نفسه ، هو سبب كاف ليجعلني أضع مسودة بنية بعثها لمجلة الفنون تلك ، عساني أعط نظرة ثانية تختلف عما سيقدمه اولئكم النقاد ، خوفا من سوء فهمهم الخطي و السطحي ، و لا جرم أن محاولتي لن تتعدى كونها تأويلا ، إلا أن تقديم وجه مختلف للموضوع كفيل باثارة التساؤل حول احتمالية وجود خطأ في مذهب النقاد ، وتلك بغيتي الرئيسة و ما دونها كله ليس إلا رأيا ترجيحيا جادت به قريحتي ، و انطلقت أشرح في المسودة كاتبا :
« إن مسرحية مرض الوعي ترمي نحو اهداف عديدة ، منها أساسية و أخرى ثانوية ، و مؤلفها يظهر أنه جاهل بمدرسة المسرح كيف تشتغل ، إلا ان فكرتها من أعمق ما يكون ، وجودة المسرح من جودة فكرته بلا شك أيضا ، حيث بدءا يأخذنا كريستوفر إلى أنه وسط ظلمة كالحة تحيط به جثث ميتة و جثة ممسوكة بخيوط رفيعة ، و قطعا في هذا إشارة إلى أن صاحب الوعي يعيش في عالم مختلف تماما ، عالم لا تدركه الأبصار العادية إلا أن تزول عنها غشاوة الجهل ، و لا زوال لغشاوة الجهل إلا ببكتيريا الوعي الممرضة و السامة . إن شرح فكرة الظلمة المهيمنة على المسرح يكمن في أن الناس و الشعوب لا تستطيع رؤية ذاك الشخص ، لا مجال لها لتبصر كريستوفر عن كثب ، فالجو مظلم قاتم حالك بالنسبة إليهم ، أي مرة أخرى لا يعلمون أصلا بوجود هذا الانسان في تلك البقعة المظلمة ، غافلون عنه و لا يعرفونه البتة ، هو يشعر بالوحدة الشديدة و الخواء الذي لا ريح تصفر داخله حتى . إن جاز نعته بكلمتين نقول : مكتوف الأيدي . حتى إذا سادت هذه الأحاسيس عنده صار يبحث على الإتصال بغيره كي يملأ الجوف الخاوي و يعمر كيانه ببني جنسه ، فهو في الأخير كائن اجتماعي ، و لأن المكان مظلم من البداية لا يلمحه أحد ، سعى هنالك لملأ الجوف الخاوي بأشياء ثانية ليست هي البشر و البيئة الإجتماعية ، و ليتأمل كل متفحص أن الظلمة الكاسية على هالة المسرح إنما كانت موجودة منذ البداية ، فكريستوفر لم يعش بيئة اجتماعية مع أقران و أشياع من بني جلدته ، بل ولد و سواد الأشياء محيط به ، و في هذا تكمن الإشارة إلى صاحب الوعي الذي يولد مختلفا تماما منذ أيامه الأولى في الحياة ، لا ذاك الذي يولد كغيره ثم بتنمية وعيه و إصابته ببكتيريا الإدراك يصير نوعا آخر. هنا كريستوفر يختلف في الانطلاقة مباشرة بطريقة تفكيره و تحليله للأمور و الأحداث و منهج تعامله مع ما يحيط به ، أي كل الأمور الفطرية و المواهب التي جاءت بمجيئه لهذا العالم المادي . إن فشل الاتصال الأول عند كريستوفر بغيره لمواهبه المختلفة أصلا ، أجبره على الانحياز إلى عالم ثان ، هو عالم أصحاب الوعي مثله ، لكن لا بشخصهم الحقيقي و إنما بتراثهم الذي خلفوه وإبداعاتهم التي أورثوها للتاريخ كي تخلد ، و هنا يأتي معنى الكرسيين المتقابلين و اللذين يشغلهما كريستوفر لوحده فلا مناظر يملكه حقيقة . المعنى بفكرة الكراسي المتقابلة ، أن كريستوفر يناظر كريستوفر ، أن كريستوفر يسأل و كريستوفر يجيب ، أن كريستوفر يتحدث مع كريستوفر ، كأنها أصوات داخلية في نفسه ، كل صوت يشغل كرسيا . دلالة هذا : غياب الأشخاص المتقنين للغة كريستوفر ، فهو يتحدث لغة غير مفهومة لا يجيدها إلا هو ، لغة عميقة تعيش فقط في الظلمة ، حيث لا ناس و لا أشخاص ، إنما عالم الفكرة بذاتها التجريدية ، عالم المعنى لا الكلمات أو الاصطلاحات ، و لا ريب أن لغة المعنى تحيط بكل شيء بل هي لغة الرب ، ولذلك سيعمد كريستوفر إلى خلق حوار لا بالكلمات و لا بالنطق أو الكتابة فقط ، بل هو حوار و تخاطب يكون السؤال من نصيب سمفونية تجيبها و ترد عليها لوحة فنية ، ثم تعلق عليهما إلياذة أو أوديسة ، لاحقا تشرح الفلسفة أفكار هذه الرؤى جميعا ، ليأتي بعدها ربما كتاب مقدس يهمين على هذه الأراء . . . و ليس كل هذا إلا مظهرا في الأخير يحمل معنى رمزيا ، حتى إذا تمكن الإنسان من فك الشيفرة ، صار يستمع للسمفونية و يبصر اللوحة و يقرأ الفلسفة ، كأنه يستمع لأشخاص يتحدثون دونما أدنى إشكال ، قال فلان وأجاب فلان . غير أن المسائل التي ذكرها كريستوفر في الكراسي لا تراد لذاتها ، بل للمعنى الذي تستمعله لنقل الرسالة ، فليس المقصود لوحة العشاء الأخير لذاتها بل الفن عموما ، وليست السوناتة هي المنشودة بل الموسيقى كلها . كريستوفر يتحدث عن الأنواع لا عن متعينات بحالها ، الفن و الموسيقى و الكتب المقدسة و الشعر تتحاور على طاولة واحدة كما يتحاور شمل من المقامرين على أحد الرهانات .

سأكتفي بمحاولة شرح التقابل الأول بين لوحة العشاء الأخير و سوناتة باخ ، فكما قلت يريد المؤلف للمسرحية أن يبرز أنه يتحدث لغة المعنى التي تشرح كل شيء ، لا أنه يريد مسائل بأعيانها وما ذكره هو مجرد تدليل لهذه الفكرة ، فكتاب ثروة الأمم لآدم سميث في مقابل رأس المال لكارل ماركس ، هو الاشارة الى ادراكه للغة الاقتصاد بين الاشتراكية و الرأسمالية ، و طرحه لموضوع الأخلاق بين سارتر و نيتشه مقابل دوستويفسكي و كيركجارد هو بيان لادراك لغة الفلسفة في أحد أعسر مواضيعها ، بين مطلقية القيمة و نسبيتها ، بين الإله و الداروينية الإجتماعية ، بين التضحية و الفلسفة النفعية . . . إذن لغة المعنى هي ما يتمحور حول مفارقة الكراسي ، لغة تتجاوز الأساليب و المظاهر ، إلى عمق الفكرة التي تحملها ، فسوناتة باخ التي عزفها كريستوفر كانت السوناتة التي تم اكتشاف داخلها رسالة خفية أودعها سيباستيان باخ ضمن موسيقاه ، تقول الرسالة داخل الموسيقى : « أتينا من الله ، و نموت في المسيح ، و بالروح القدس نبعث من جديد» ، ثم قيام كريستوفر إلى الكرسي الثاني يرد بلوحة العشاء الأخير لدافنشي ، اللوحة التي تبرز المسيح من غير هالة الإله الدائرية الصفراء فوق رأسه ، اللوحة التي تبرز شبهة تطاول يد بطرس على التلميذ يوحنا أو مريم المجدلية على الاختلاف في هذا الموضوع . الحوار الحقيقي الذي يطرحه كريستوفر هو دعوى : « أتينا من الله ، و نموت في المسيح ، و بالروح القدس نبعث من جديد » و جواب هذه الدعوى هو : « المسيح ليس إلها ، مسيحية اليوم هي مسيحية بطرس ، و أن آخر مسيحي مات على الصليب » . . . هذه الدعوى و الدعوى المضادة جاءت في شكل السوناتة على الكرسي الأول و في شكل اللوحة الفنية على الكرسي الثاني ، ولو انه لا يلزم شرح اللوحة بهذه الطريقة أو السوناتة ، لكن السياق يفرض هذا الاستنتاج ، و بالعموم ما يراد هو الكلي كالفن و الموسيقى لا المعين كلوحة أو سمفونية لحيالها ، و المعنى العميق أن أي شيء يمكنه التحول لأي شيء آخر ، أي أن تصير اللوحة سوناتة وأن تكون السوناتة كتابا فلسفيا و أن تكون الفلسفة إلياذة شعرية ، وهلم جرا .

بعد المناقشة بين دافنشي و باخ على لسان كريستوفر ، يتجه إلى الجثث المتعفنة الممددة على أرضية المسرحية ، و دلالة هذا أنه بعد الوعي الفطري لكريستوفر و امتلاكه لوعي فكري ، مرض فكري ببكتيريا الإدراك . قلت : الآن هو يشاهد جثثا متعفنة تحمل معنى رمزيا لأقوام يستجيبون للثقافة عموما بمختلف تياراتها ، لكن استجابتهم استجابة موتى ، استجابة تقليد و تلقين لا فهم حقيقي و ربط واقعي بين المسائل المختلفة و توحيدها ... فهم يعكس منظورا أنبوبيا مغلقا متحجرا لا منظورا عالميا يجعل المسائل في بوتقة واحدة ، تشابك بعضها بعضا و تنطق بلغة الفكرة ، بلغة المعنى ، لا أن تبقى مستورة مختبئة وراء كواليس المظهر و الأساليب و القوالب المتعددة ، بحيث نجد أن الظلمة لازالت مستمرة حتى بعد المقابلة التي عملها كريستوفر ، استمرت الظلمة و لم تنقشع لا من جهة كريستوفر نحو الجثث ، هو يراهم ويبصرهم . صحيح انه يبصرهم جثثا متعفنة من منطلق وعيه الفطري و الفكري ، لكنه يسعى في إحيائهم و بعثهم من مرقدهم ، أما أولئك الناس الذين يظهرون له في شكل الجثث المتعفنة فلا يستطيعون إبصاره ولا رؤيته و إدراك وجوده حتى ، لن أقول أنه شبح بالنسبة إليهم ، فالشبح له نوع وجود و شيء من الكينونة ، بل هو شيء اقرب للعدم ، ولذلك لا يستيقظون و لا يستفيقون ، و تبرز هذه الصفة بوضوح حينما نلاحظ أن الوصف لازال ضمن وسط مسرح مظلم داكن حالك ، ليس مظلما على كريستوفر ، هو مظلم على الجثث التي لا تملك لغة المعنى و لا تحوز إلا القوالب المتصلبة و الأنماط لا المضامين و الألباب . . . هذه المراعاة القالبية على حساب المعنى هو ما جعل كريستوفر يجلس على هيئة تمثال النبي موسى للنحات مايكل أنجلو ، الهيئة التي يدير فيها رأسه غاضبا باتجاه معين كأنه ينظر إلى قومه حين اتخاذهم للإله الزائف . نفس الهيئة و نظرة الغضب قام بها كريستوفر اتجاه تلك الجثث المتعفنة ، حتى أصابه زكام اللاجدوى من كل هذا العمل ، تسلل اليأس و القنوط لنفسيته ، و راح يدحرج صخرة سيزيف . صخرة سيزيف التي تشرح فكرة فشل الغائية في هذه الحياة ، و التي تبرز اللاهدفية و اللاجدوى من كل شيء ، صار كريستوفر وهو يدحرج الصخرة يحس بأن بقاءه في عالم الظلمة المخفي يساوي خروجه منه ، أن التنوير يعدل تماما الظلامية ، أن موته كحياته و فرحه كقرحه و خواء صدره من الحنين كامتلائه بالحب و الشوق ، على أنني أنوه للفتة مهمة في هذا المقام ، إشارة توحي أن فصل قيمة الغائية عن حياة كريستوفر و اعتقاده باللاجدوى كان فصلا ذهنيا عقليا لا يصاحبه شعور و إحساس ، وهنا يكمن جواب تطرحه المسرحية عن الفلسفة العدمية بتياراتها ، هذا الجواب سيفطن له كريستوفر بعد تشريح الجثث المتعفنة و اكتشافه لمكون هام يفتت صخرة سيزيف .

انطلقت تلك الجثة المنعزلة عن باقي الجثث ، انطلقت تمشي و هي ممسوكة بخيوط رفيعة . قطعا هذا يوضح أن تلك الجثة المنعزلة عن أخواتها ، إنما انعزالها و قدرتها على المشي يوحي بتفوقها في نظام الوعي عن أخواتها المبسوطات على الأرضية دونما حراك ، كأنها تجاوزت بعض القوالب و التنميطات لتغرف من طست المعنى عابرة تلك الحدود الوهمية الزائفة ، لكن للأسف ليست كل القوالب ولا كل التنميطات ، هو بعض فقط . تشير الخيوط التي تمسك بالجثة أنها مسيرة و محكومة من طرف شيء ثان ، ربما اللاشعور و البيئة الاجتماعية التربوية ، ولذلك حينما سعى كريستوفر إليها شاهدته على شكل حشرة ، وهنا ملاحظتين :

الملاحظة الأولى : أن الجثة الماشية شاهدت كريستوفر ، لم يعد بالنسبة إليها عدما أو شبحا ، بل هو الآن كيان متجسد و حقيقي ، غير أنها لم تشاهده على حقيقته البشرية بل شاهدته في شكل حشرة . الظلمة انقشعت ، نعم صحيح . لكن الشكل الذي برز فيه كريستوفر هو حشرة مخيفة في تدليل على قضية أن الجثة الماشية تملك حقائق مشوهة بسبب اللاشعور و البيئة الاجتماعية ، في حين كريستوفر يملك حقائق واقعية نابعة من المعنى

الملاحظة الثانية : أن الجثث الممدة على الخشبة استطاعت رؤية الجثة الماشية و تبعتها ، لماذا ؟ . . . ببساطة لأن هناك جسر بين الثقافة القالبية و بين ثقافة مشوهة ، و لا جسر بين ثقافة قالبية وبين ثقافة معانية واقعية . الظلمة لم تعد حاجزا كما كانت بين الجثث و كريستوفر ، خلافا مع الجثة الماشية تبصرها و تعاينها معاينة حضورية ، على أن هذه الجثة الماشية تملك معاينة لكريستوفر لكن في هيئة حشرة مشوهة لا في هيئته الحقيقية المعانية.

نأتي أخيرا إلى لفتة تفتيت صخرة سيزيف و اكتشاف الجواب عن معضلة الفلسفية العدمية ، اكتشاف جاء بعد تشريح كريستوفر للجثث تلك ، وهذا التشريح في معناه الضمني هو دراسة كريستوفر للطبائع النفسية و السيكولوجيا الخاصة بالبشر عموما ، ولكن ما معنى صخرة سيزيف ؟ . . . معنى ذلك أن الورطة النفسية التي يقع فيها صاحب الوعي الفكري و الفطري هي ورطة أن يكف عن أن يرغب ، أن يتفرغ كل شيء من معناه ، و هذا أعظم عقاب يمكن أن ينحصر إنسان بين تلابيبه ، أن تتساوى الأمور بين يديه ، فيشعر بضيق و سوداوية صعب و عسير أن يتمكن صاحب هذا الوعي من انقاذ نفسه . انقاذ نفسه من سؤال بسيط لكنه السم الزعاف : و ما نفع ، وأي جدوى في كل هذا ؟ . . . هناك يفتر حماسه من اقتحام أي عمل و الاندماج في أي فكرة ، تماما كشخصية ألبير كامو في الغريب . و فهم حقيقة هذا السؤال الصغير ، هذا السم الزعاف ، لا يأتي إلا من محترف مدرك لأبعاد كثيرة ، هو سؤال لا تفهمه لا جثة ممدة على بساط المسرح ولا تعيه جثة ماشية تمشيها خيوط اللاوعي و البيئة ، هو سؤال من حق المحترف المريض صاحب الوعي . كريستوفر و شيعته بعد فشل الاتصال و بعد الظهور بمظهر الحشرة و بعد تبادل الأدوار في الكراسي من طرف شخص واحد لكن بأصوات داخلية وفيرة ، ستنبثق مشكلة اللاجدوى ، الطاعون الذي لا يرحم و السرطان الفتاك ، هنا في النهاية يبرز المكون الذي يفتت الصخرة و يقتل سيزيف أو يعطيه معنى جديدا يعيش به حتى في الجحيم ، و لا يمكن ان يكون هذا المكون إلا الشعور و الإحساس . . . الإنسان لا يفكر دائما ، لكنه يشعر أبدا . لا أتكلم على المستوى الباطني و السيالات العصبية فهي دوما تكون و توجد ، لكن أتكلم بإرادة الإنسان أن يفكر و يستخدم ذهنه حضوريا ، فهذا لا يحدث دائما بل و ربما لا يحدث حتى كثيرا ، خلاف الإحساس النفسي فهو موجود حول أي شيء و يكز داخليا مرة تلو الأخرى ولو كان نفس الشعور ، فلا يألف أحدنا الكراهية بل يكره في كل مرة و يحسها تمر من خلاله ، كما لا يألف أحدنا حب أمه و ينساها وإنما يستبدل ذاك الإحساس النفسي بآخر بارد قليلا يكمن في الطبقة السطحية لا العميقة ، و الشعور بالبرودة و الشعور بالحب هما احساسان مختلفان ، إذن مجددا هناك شعور دوما يكز لكن ليس هناك وعي للتفكير يناظره في ذلك ، فإذا فهمنا هذا مع قضية أن الانساني العدمي بذهنه يعتقد اللاجدوى ، لكن كيانه يرفض و يصارع هذه اللاجدوى ، فالعدمي عدمي بذهنه لا بكيانه المحب للبقاء و السعي في الأرض ، هو يفصل بين الواقع و الذهن من غير تحقيق التوائم بينهما ، و كما قال الفلاسفة : الإمكان الذهني لا يلزم عنه الإمكان الخارجي ، و بعبارة أخرى :

إذا كان كريستوفر عدميا في فكره ، فهو عند التعامل مع محيطه الخارجي يبقى يشعر و يحس و يصعد لنفسه حماس و شوق لكنه يسعى لكبح جماحه بنظرية عقله و التي لا تنجح بسهولة في تجسيد ذلك . أي من جديد إذا فكر كريستوفر في زياة مدينة البندقية أو قراءة هاملت لشكسبير ، سيقول ذهنه العدمي : قراءة هاملت كعدم قراءتها و زيارة مدينة البندقية كعدم زيارتها ، لكن حين يقوم كريستوفر العدمي بقراءة هاملت أو بزيارة مدينة البندقية فسيشعر بأحاسيس جديدة منعشة تبعث الأمل و المعنى في كل ذلك ، فينسى العدمي عدميته حتى يبدأ في طور خسران ذكريات هاملت و البندقية ، هناك ينبعث ذهنه مجددا أن الامور تحكمها اللاجدوى ، فإذا عمد لاحقا لتجربة شيء ما كتأليف أو رسم أو عمل خيري إنساني ، أيا ما يكن ، قلت إذا عمد إلى هذا أو ذاك وجد من نفسه حضورا و من قلبه سعادة تدب تماشج روحه الحقيقية ، تماشح و تهمس أنك كيان خالد بروحك لا ببدنك ، فإذا تتابعت التجارب المعيشة بما تخلقه من أحاسيس غنية ، صار الذهن يعيد تركيب نفسه وفقا لمنظور جديد كله أمل و شوق للمستقبل ، هنا تتصدع و تتشقق صخرة سيزيف لتصير رذاذا منثورا .
بعد إدراك حقيقة الشعور وأن العدمية ذهنية فقط تنتهي بتمكين الإحساس من رفع رصيده ، قلت : هنا استسلم كريستوفر و تمدد هو على الأرضية ، يلفظ آخر أنفاسه متيقنا أن اللاجدوى كذبة يفرضها العقل الذكي لوهلة ، ثم لا يلبث يضربها بمعول النقد و مطرقة النقض ، إلا ان الظلمة حالكة مستمرة و لم تبقى حتى الجثث الميتة بل غادرت تتبع مثيلتها الماشية ، و مات كريستوفر من غير أن يكتشفه العالم .
إن كريستوفر عبقري وحيد يتقن لغة المعنى ، يعيش في عالم من الظلمة و في كهف لا شمس فيه تجعل غيره يقترب منه أو يسمع عنه ، هو وحيد لا يعرفه إنسان ، صديقاته الأفكار و بناته الأفكار و عائلته كلها أفكار تجريدية فقط ، عائلته كلها معاني ، كون من المعاني هو بيته و ليس في ذاك البيت أحد سواه ، لكن هناك بيوت أخرى بعيدة يعيش فيها كل كريستوفر آخر لوحده في كهف آخر ، و الكنز العظيم في لقياهم لبعضهم ، فهل يلتقون ؟ . »








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية