الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة ومفهوم الكتلة الطبقية السائدة بالمغرب

التيتي الحبيب
كاتب ومناضل سياسي

(El Titi El Habib)

2017 / 12 / 28
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية




كيف يحدد اليسار المغربي طبيعة الدولة المغربية وكيف يرى لبنيتها الطبقية؟
في الجواب على السؤال لا بد من تدقيق عن اي يسار نتكلم. بالنسبة لليسار الاصلاحي ذي الطبيعة الاشتراكية الديمقراطية والذي لم يعد يؤمن بالماركسية وبمنهاجها في التحليل اصبحت تحاليله السياسية تتحاشى التطرق للخلفية الطبقية للدولة، وإذا فعلت، فإنها تحصر ذلك في الاشارة العامة الى الطبقة الحاكمة والى النظام او المخزن.بينما التيارات ذات التوجه الماركسي، فإنها بدورها تتناول الموضوع بتفاوت كبير وان كانت لا تغفل عن الطبيعة الطبقية للدولة وتعتبرها جهاز سيطرة تستعمله الطبقة السائدة عند البعض او البرجوازية المسيطرة عند البعض الآخر.لكننا في النهج الديمقراطي استطعنا ان نواصل المجهود النظري والسياسي الذي كانت قد باشرته منظمة الى الامام مند نشأتها
الى الامام وتدقيق التحليل الطبقي لمسالة الدولة والنظام.
+ في وثيقة سقطت الاقنعة كانت الاحالة على مفهوم “الأوليغارشيا الكمبرادورية: وتتكون من شرذمة من الأفراد يمارسـون سـلطة سياسـية مطلقـة مــن خلال الجهــاز الدولــة القمعـي (وأحيانــا تحــاول تغطيتـه بطلاء ليـبرالي)، و نفوذهـا يتزايـد يومـا بعـد يـوم وتشـمل سـطوتها مختلـف القطاعـات، فمـن الصـناعة و التجـارة إلـى ألفلاحة مع ارتباط وثيق بالرأسمال الأجنبي.
+ تم التخلي عن صيغة الاوليغارشيا واستعمل مفهوم الطبقة الحاكمة التي تشكلت على قاعدة اتفاقية ايكس ليبان بارتباط مع سياسة الاستعمار الجديد، وهكذا ارتبطت وتداخلت مصالح المعمرين الجدد مع وسطاء الرأسمال الاجنبي وكان على رأسهم النظام الملكي رمز هذه الاقلية الطبقية وضامن وحدتها وتماسكها.
لم يتوقف البحث في هذا الموضوع عند هذا المستوى بل كانت هناك دراسات وتحاليل عمقت الرؤية وساهم بعض اطر وقادة المنظمة الى الامام في انتاج دراسات ربطت بين البحث العلمي وضرورة معرفة وتحليل الواقع من اجل تغييره ثوريا. وفي هذا الاطار نستحضر وثيقتين لاهميتهما العلمية:
+ الاولى تتناول مفهوم طبقة المخزن وكيف تشكل تاريخيا ومآله.
انظر وثيقة “تناقضات العدو والأفق الثوري بالمغرب” 10 شتنبر 1972
“طبقة المخزن: تهيكلت الطبقة التي توجــد فـي موقـع السـلطة تاريخيــا فـي الســيرورة الــتي انطلقــت ابتداء مـن الانحطــاط المرينـي وبشــكل أكـثر انسجاما في ظل الأسرة العلوية، حيث قامت بتنظيم المخزن كجهاز استغلال للبنيات الجماعيــة الفلاحيــة المنظمــ في القبائل…
تهيكلت طبقة المخزن على أساس فئتين اجتماعيتين رئيسيتين متداخلتين بهذا القدر أو ذاك:
– بورجوازية المخزن المركنتيلية، البيروقراطية، المالكة العقارية (Absentéiste) انطلاقا من المدن الرئيســية وتقـوم إلــى جانب العلماء بالوظيفة الايديولوجية المركزية.
-الــوكلاء (Les Mandataires) نقــترح هــذا المصــطلح بــدل مصــطلح الاقطــاعيين المســتعمل عمومــا والــذي لا يوافــق الواقع التاريخي للمغرب، وكذا مصطلح إقطاع (Iqtaa) المستعمل من طرف العروي ومؤلفين اخرين والـذي يناســب أحـد أوجـه هـذه الفئـة الاجتماعيـة – المكلفـون بجــبي الضــرائب (لصــالح المخـزن ولصــالحهم) ونقل المنتوجات الزراعية الموجهـــة للتصـــدير، هـــؤلاء الـــوكلاء هـــم مـــن ألأعيان المنبثقيـــن مـــن الجماعـــات الفلاحيـــة والـــذين يتـــم إدمـــاجهم بالجهـــاز المخزني عــن طريــق الســيرورة الدينيــة (الشــرفاء) أو الاجتماعيــة (القــواد وأمغــارات) ويتــم إســنادهم بالجهــاز العســكر المركــزي للمخــزن. هــذه البنيــة المزدوجــة القطبيــة تعتمــد علــى مبــدأ موحــد هــو الملكيــة خصوصــا عــن طريــق الــدور المــوهم لمبدأ “الامام” الذي سيتدعم مع انبثاق السلالات المسيحية.”
+ الثانية “صراع الطبقات” لمجدي ماجد.1981
في هذه الكتاب يتم تحليل فترة زمنية من تاريخ المغرب تمتد على مدى 28 سنة من 1955 الى 1983 وفيه تم توضيح لأول مرة مفهوم كتلة الطبقات السائدة الخاضعة لهيمنة البرجوازية الكبيرة الكمبرادورية. نظرا لأهمية هذا الكتاب نظمت دائرة النهج الديمقراطي للدراسات والتكوين، ندوات موضوعاتية بغرض تحيينه وهي تعمل اليوم على الاصدار المحين لهذه الدراسة الهامة والتي زاد الطلب عليها في اوساط الباحثين والمناضلين.
النهج الديمقراطي يواصل البحث والتعميق.
على هذه القاعدة العلمية للنظر للصراع الطبقي ببلادنا نشر النهج الديمقراطي وثيقة “التشكيلة الاجتماعية والجهوية والبرنامج العام” وهي الوثيقة التي توضح ما نعنيه بالكتلة الطبقية السائدة لأننا بالمغرب لم نرصد ولم تنشا عندنا طبقات اجتماعية كبيرة متمايزة فيما بينها لتقييم تحالفها المسيطر او الحاكم. كما ان مفهوم الكتلة الطبقية السائدة يعتبر اكثر دقة من ااتعامل مع الطبقة السائدة او الحاكمة كطبقة واحدة- رغم ان هناك من يقول بوجود فئات مختلفة داخلها، لان ذلك يقفز على تفاصيل النشأة لهذه الطبقة وكذلك عن خصوصية النظام الملكي واعتماده على البنية العتيقة والتقليدية في السيطرة والحكم.
ومما جاء في باب الكتلة الطبقية السائدة في وثيقة “التشكيلة الاجتماعية والجهوية والبرنامج العام” وهي الوثيقة الصادرة عن المؤتمر الوطني الثالث سنة 2012 ما يلي:

“عرفت التشكيلة الاجتماعية المغربية تحولات عميقة كما وكيفا، وإذا كانت هذه التحولات قد أدت إلى تغييرات مهمة على مستوى البنية التحتية (تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج…)، فان تطور البنية التحتية قد أثر بدوره على التحولات الاجتماعية وعلى البنية الفوقية بشكل عام. من أهم قوانين التطور الاجتماعي في حركيته الدائمة، هو التفاعل المتبادل بين البنية التحتية والبنية الفوقية. وبتركيز، سنتطرق لوضعية مختلف الطبقات الاجتماعية خمسة عقود بعد استقلال 1956، والتوجهات/الميولات العامة للصراع السياسي.
كما نعزز هذه الوثيقة بتناول إشكالية الجهوية باعتبارها إحدى أهم الإشكاليات التي لابد من دراستها واستخلاص المهام السياسية التي يجب على النهج الديمقراطي ان يضمنها الى برنامجه النضالي العام.
1-الكتلة الطبقية السائدة:
لم يعد اليوم ممكنا الحديث عن طبقات سائدة أو حاكمة مستقلة بعضها عن البعض.
إن التطور الذي عرفه المغرب خلال العقود الأربعة الأخيرة، قد أدى إلى تحولات عميقة نتج عنها تداخل وترابط مصالح مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية السائدة: فالصناعة تداخلت مع الفلاحة لتعطي الصناعة- الفلاحية، وظهرت مجموعات (هولدينغ) لتجمع بين المالي- والصناعي، ومجموعات مثل “اونا” جمعت بين المالي والصناعي والتجاري… والبرجوازية البيروقراطية التي بيضت أموال النهب والسرقة والرشوة، في امتلاك الأراضي ومقاولات (البناء، النسيج، القطاع ألخدماتي…)؛ وحصلت على امتيازات ورخص (الصيد البحري، النقل، استغلال قلاع الرمال، بيع الخمور…)، كما تحول في سنوات معدودة، عدد من المهربين، ومروجي المخدرات، وتجار الجنس… إلى أناس ذوي النفوذ، معززين بذلك القاعدة الاجتماعية للحكم، كما أن العديد من الوصوليين والانتهازيين “المنتخبين”، قد تمكنوا من تسلق السلم الاجتماعي وتحولوا في زمن وجيز إلى ” مقاولين محترمين”، وعززوا بذلك ركائز الحكم…
إن الحديث عن الكتلة الطبقية السائدة، لا يعني طمس التناقضات (الثانوية) التي تنخرها من الداخل، والتي يمكن أن تعرف الحدة في ظروف معينة.
إن الممثل السياسي الحقيقي للكتلة الطبقية السائدة تبقى هي الدولة المخزنية، ويبقى الملك هو ناطقها الرسمي. إن هذا التكتل لم يستطيع أن يفرز إلى حد الآن من أحشائه حزبا أو أحزابا سياسية مستقلة عن الدولة (بغض النظر عن كون الدولة جهاز طبقي يخدم بالأساس مصالح الكتلة الطبقية السائد)، كما يقع في البلدان الرأسمالية المتقدمة.
ومع ذلك، يمكن القول أن الكتلة الطبقية السائدة هي عبارة عن مجموعات اجتماعية تختلف من ناحية النشوء والتطور التاريخيين، وتشكل المؤسسة الملكية الاسمنت الذي يحافظ ويقوي تماسكها.

أ- البرجوازية الرأسمالية: وتتكون هذه الشريحة من الرأسماليين الذين راكموا الثروات بشكل”طبيعي” (استغلال اليد العاملة، استثمار في مشاريع اقتصادية…)، ومرتبطة بالمقاولات العصرية التي تحاول اعتماد أساليب وتقنيات حديثة، وتدبير عقلاني. إن أغلب هؤلاء قد تنظموا مهنيا في إطار “الكنفدرالية العامة للمقاولات المغربية”. تطمح هذه الشريحة بدون شك إلى تحديث الإدارة والقضاء، وإشاعة بعض القيم البرجوازية الحداثية، واعتماد الديمقراطية البرجوازية… إلا أن أنها غير قادرة على الدفاع بجدية على هذا المنظور المتقدم لسببين أساسيين: ففي مواجهة المنافسة التي فرضتها العولمة، تراهن هذه البرجوازية، في محاولة التأهيل، عن مساعدات الدولة المخزنية (الإعفاءات الضريبية، سن قوانين زجرية في حق العمال، قمع نضالات العمال المشروعة…)، كما تواجه المنافسة بمحاولة تخفيض كلفة الإنتاج (لتخفيض ثمن بيع المنتوج) بالضغط على كتلة الأجور (التسريح، عدم احترام الحد الأدنى للأجور، عدم تأدية الساعات الإضافية، الهروب من أداء المساهمات الاجتماعية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي…)
إن انبطاح هذه البرجوازية أمام الرأسمالية العالمية، وانكماشها في أحضان الدولة المخزنية، يجعلها في الوقت الراهن غير مؤهلة للعب دور بارز في التغيير ألديمقراطيي، وبالتالي فان أية مراهنة عليها لتقدم البلاد، تبقى وهما قاتلا.

ب- البرجوازية الريعية :
ونعني بالبرجوازية الريعية، الفئات والشرائح الآتية:
– الأطر التي استغلت مواقعها في دواليب الدولة، لتنهب وتختلس، وتحصل على مختلف الامتيازات ورخص الاحتكار…
– الساهرين على المؤسسات العمومية والشبه العمومية، والذين استغلوا مواقعهم والظهائر الملكية التي عينوا بها لنهب المال العام…
– الوصوليون “المنتخبون”، الذين استغلوا مواقعهم والحصانة البرلمانية للبعض للاغتناء بطرق غير مشروعة.

ت- شرائح من اغتنوا من خلال المتاجرة في المخدرات والجنس والتهجير… ومختلف فئات المضاربين العقاريين.
إن هؤلاء، وبجانب الملاكين العقاريين الكبار المعفيين من أهم الضرائب من طرف الحكم، ورموز الفساد والقمع (العديد من الأطر العليا للدولة وكبار المسئولين في مختلف أجهزة الدفاع والدرك والداخلية… والمتحكمون في اغلب المؤسسات العمومية والشبه العمومية)، إذن يشكل كل هؤلاء، الفئات والشرائح الأكثر رجعية في التكتل الطبقي السائد. لا يمكن لهؤلاء إلا أن يكونوا معاديين لأي تطور ديمقراطي ولو كان بسيطا؛ فالديمقراطية تعني الشفافية، وتعني المسائلة، وتعني الانتخابات الحرة، وتعني المساواة أمام القانون… فاختيار الديمقراطية يشكل بالنسبة لهم عملية انتحارية.
إذن، تشكل هذه المجموعات المافياوية، القوى الاجتماعية المهيمنة داخل الكتلة الطبقة السائدة، والمتحكمة في مختلف أجهزة الدولة وعلى رأسها أجهزة القمع. وفي هذا الإطار، تبقى المراهنة على الانفتاح ألفوقي في اتجاه التقدم الديمقراطي وهما قاتلا كذلك.
ث- الدولة كجهاز طبقي: لا يمكن للدولة كإحدى عناصر البنية الفوقية، أن تكون محايدة أو خارجة عن الصراع، أو أن تكون فوق المجتمع. تخدم الدولة، بشكل عام، مصالح الطبقة أو الطبقات الاجتماعية السائدة، وهذا هو مبرر وجودها تاريخيا.
فكيف تخدم الدولة المغربية مصالح الكتلة السائدة؟ يمكن تركيز تدخلات الدولة في النقط الآتية:
– توفير الشروط القانونية (مدونة الشغل المناسبة، قوانين الاستثمارات المشجعة…) التي تضمن أرباحا مهمة للمقاولة الرأسمالية.
– سياسة جبائية تفضيلية زيادة على مختلف الإعفاءات الضريبية والتساهل مع المتملصين الكبار…
– سن ترسانة من القوانين الزجرية لحماية الرأسماليين: إمكانيات اعتقال ومحاكمة العمال بمبررات واهية، وهذا في الوقت الذي يتمتع فيه عمليا البرجوازيون وملاكو الأراضي الكبار بالحصانة الضرورية.
– تخصيص جزء كبير من موارد الميزانية للأجر العليا وللقطاعات المرتبطة بالدفاع وبوزارة الداخلية، وبالبلاط، و بالمصالح التي تسهر على توفير البنيات التحتية الضرورية (طرق، سدود، تجهيزات مختلفة…) لتنمية مصالح مختلف الفئات والشرائح المكونة للكتلة السائدة.
– تقييد العمل السياسي بترسانة من قوانين خانقة، والتضييق على المعارضة…
– التدخل الدموي ضد الحركات الاحتجاجية، وترهيب القوى المعارضة (الاعتقال التعسفي، الاختطاف، التصفية الجسدية، المحاكمات الصورية…).
– السهر على إعادة إنتاج وترسيخ الإيديولوجية الرجعية السائدة (الفكر، الثقافة، العادات والقيم المتخلفة…)، مرتكزة في ذالك على التعليم، ومختلف وسائل الإعلام، والمسجد…
– المافيا المخزنية: نستعمل في بعض أدبياتنا صيغة “المافيا المخزنية” للإشارة إلى العناصر المتنفذة في أجهزة السلطة والقمع بمختلف تفرعاتها العلنية والسرية وعملائهم من رجال الأعمال والمال، وتعتبر هذه المافيا هي العائق الأساسي أمام أي تحول ديمقراطي حقيقي وهي العدو الأكثر شراسة والذي يجب تكتيل كل قوى المجتمع ضده، بما في ذلك شرائح من البرجوازية غير المخزنية أي التي لا تستمد وجودها وثروتها من تبعيتها لجهاز الدولة والسلطة.
وقد تعرض هذا المفهوم للنقد على اعتبار أن “المافيا” تحيل إلى عصابة (وهذا يستتبع أشكالا من التنظيم العصبوية لتجميع القوة المادية لإنهاء سيطرة هذه المافيا). وكذلك أن “جهاز الدولة المخزني مؤسسة وليس مافيا. فبالإضافة إلى وجوده المادي المجسد بالرأسمال التبعي والملكية الكبرى للأراضي، فإن وجوده يتجسد كذلك بموروثه الثقافي التاريخي والثقافي، الشيء الذي يجعله ينفذ إلى تلابيب المجتمع.
لا يمكن نفي أن عبارة “مافيا مخزنية” لها حمولة تحريضية كما لا يمكن أن يكون هناك تماثل تام بين المافيا التي ولدت وترعرعت في تربة اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة والمخزن الذي تبلور كنتيجة لواقع تاريخي مغاير.لكن أوجه الشبه تبقى مع ذلك جد هامة كما سنرى لحد أنها تبرر في اعتقادنا استعمال صيغة “المافيا المخزنية”.
أولا هل المافيا تحيل فقط إلى مفهوم العصابة كمجموعة إجرامية معزولة أم هل هي أيضا شيء آخر؟ إن نظرة سريعة لواقع المافيا في صقلية تبين أنها ليست مجرد عصابة إجرامية معزولة، بل إنها إفراز مجتمعي تاريخي للواقع الاقتصادي الاجتماعي والثقافي لصقيلة ولها علاقات واسعة مع هذا المجتمع بل مع المجتمع الإيطالي ككل. إن المافيا تنفذ إلى تلابيب المجتمع بما في ذلك ما يسمى خطأ بالطبقة السياسية. فالعجز عن اجتثاث المافيا يرجع إلى كونها ظاهرة اجتماعية لا يمكن القضاء عليها بالقمع البوليسي بل بالتوجه إلى القضاء على الأسباب التي تنتجها وتعيد إنتاجها. هكذا إذن يسقط الانتقاد حول اعتبار أن إنهاء سيطرة المافيا المخزنية ستتبع أشكالا من التنظيم العصبوي لأن أبهى شكل من التنظيم وهو تنظيم أجهزة القمع غير قادر على القضاء على المافيا. إن المافيا هي إفراز لواقع التخلف الاقتصادي الذي عاشه ويعيشه جنوب إيطاليا وللصيرورة التاريخية التي أدت إلى توحيد إيطاليا وأنتجت دولة تتميز بضعفها وضعف مركزيتها بالمقارنة مع دول أخرى كفرنسا. إن المافيا إذن وجدت تربتها في واقع صقلية وساعدها ضعف الدولة الإيطالية الذي قد يعبر عنه إلى هذا الحد أو ذاك عدم استقرار المؤسسات السياسية المتميزة بالتغير السريع للحكومات الإيطالية على الاستقرار والرسوخ في عمق المجتمع. إن الدولة المخزنية (أو المخزن) كانت دائما دولة ضعيفة حيث لم تكن تتحكم سوى في جزء بسيط من البلاد. كانت أجزاء هامة من المغرب تدخل ضمن ما كان يسمى ب “بلاد السيبة” أي بلاد خاضعة لسلطة القبائل وليس سائبة، كما يحاول مؤرخو المخزن الإيحاء بذلك. ولم تصبح الدولة المخزنية دولة مركزية إلا بعد أن حارب الاستعمار القبائل خلال 30 سنة وانتزع منها السلاح. وهذا ما يجعل الدولة المخزنية تفتقد للمشروعية التاريخية من جهة ويجعل من عصرنتها وتحولها إلى دولة مركزية مسألة سطحية وليس مستنبطة بشكل عميق لأنها جاءت نتيجة تدخل خارجي أجنبي استعماري مرفوض من طرف الشعب. هكذا إذن فرغم الشكل العصري لازال العمق المخزني هو الأساس المتحكم في ممارسة السلطة.
إن ما يميز المافيا على المستوى الداخلي هو العلاقات الشخصية وليس المؤسسة، حيث أن هناك علاقات الحماية مقابل علاقات الولاء. والمافيا تنتزع جزءا من فائض القيمة بفضل هذه العلاقات ودون أن يكون ذلك مبررا بوظيفة اجتماعية ضرورية. فالمافيا تنهب الأموال بمختلف الأشكال عبر تجارة المخدرات والمضاربات والمعاملات غير المشروعة، وكذا عبر ابتزاز الأثرياء مقابل توفير الحماية لهم ولمشاريعهم وأيضا بفضل سمسرتها للصفقات العمومية الكبرى les grands marchés de l’état وذلك ما يفسر تواطؤها مع رجال السياسة والأعمال.
إن الشرائح المتنفذة في أجهزة السلطة المغربية تشبه إلى حد لا يستهان به المافيا. فقد أوضحنا أعلاه أن التشكل التاريخي للدولة المخزنية أدى إلى بنائها كدولة عصرية في الظاهر، مخزنية متخلفة في الجوهر. فالعلاقات المؤسسية الرسمية ما هي، في الغالب سوى واجهة لعلاقات خفية relations occultes هي التي تتحكم في القرار، وتتميز تلك العلاقات بسيطرة أجهزة ليست هي المسؤولة رسميا كالدور الخاص لوزارة الداخلية وأجهزة أو أشخاص معينين لهم علاقات بمراكز القرار وترتكز هذه المافيا المخزنية على العلاقات الشخصية، علاقات الحماية مقابل الولاء وتستعمل أسلوب الزبونية والمحسوبية والرشوة ونهب أموال الدولة (أي الشعب مباشرة، أو عبر سمسرة صفقات الدولة) والاستفادة من مواقعها في السلطة لأحكام سيطرتها على الاقتصاد الوطني، إما مباشرة أو عبر شبكة من العملاء تكلفهم بتسيير شركاتها وضيعاتها. كما تتواطأ مع كبار تجار المخدرات والمهربين بل تتحكم في شبكات تهريب وتصدير المخدرات. ألسنا أمام مافيا حقيقية، ربما أكثر خطورة من المافيا الايطالية، لأنها تتحكم مباشرة في أجهزة السلطة؟”
وفي المؤتمر الوطني الرابع عمقت الاطروحات الصادرة عنه مفهوم النظام المخزني عبر تدقيق خصائصه على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما تم تناول العلاقة بين الملكية والكتلة الطبقية السائدة والمخزن.
ورد في النقطة رقم 55 من البرنامج العام للتغيير الوطني الديمقراطي الشعبي ذي الأفق الاشتراكي هذه الفقرة:
” أ- النظام المخزني والقوى الموالية له: النظام المخزني هو من حيث الجوهر امتداد للنظام القروسطي والذي كان سائدا في المغرب قبل مرحلة الاستعمار المباشر
ان المخزن نظام استبدادي قائم على الجمع بين مؤسسات عصرية منتخبة (البرلمان والجماعات المحلية) لا تتمتع بسلطات فعلية وحقيقية وبين مؤسسات غير منتخبة وغير خاضعة للمحاسبة الشعبية (الملك، أمير المومنين ورمز وحدة البلاد، ومستشاريه ووزارة الداخلية وأعوانها من شيوخ ومقدمين وقياد…) تتمتع بصلاحيات وسلطات حقيقية وواسعة.
ومن اهم خصائص المخزن ما يلي:
– على المستوى السياسي: نظام للحكم الفردي المطلق، يقوم على استغلال الدين لتبرير وتعزيز شرعيته، يعتبر المحكومين مجرد رعايا وليسوا مواطنين ومن تم فهم ملزمون بالسمع والطاعة ولا احقية لهم في مراقبته ومحاسبته لانهم في نظره ليسوا مصدرا لشرعيته،نظام يعتمد لترسيخ هيبته على طقوس مهيبة ومبنية على الابهة والابهار وكذا على الاستبداد، نظام يرفض اية تعددية سياسية حقيقية لانه لا يقبل بتواجد اية مشاريع سياسية خارج مشاريعه، نظام يشجع الانتهازية يعتمد على افساد النخب واستقطابها لادماجها في نظامه الاداري والسياسي، ويعتبر اية معارضة حقيقية مثارا للفتنة ومن تم فهو يعتمد القمع والتسرب والاختراق والتلغيم وتقسيم الاحزاب والهيئات المعارضة، كما يخلق الاحزاب والهيئات الموالية ويدفع بها لتصدر المشهد السياسي، نظام للتحكم في آليات السلطة، نظام يوظف الادارة للقهر والتركيع، ويستخدم الأعيان لبسط سيطرته ونفوذه و لمواجهة خصومه وأعداءه السياسيين، نظام يؤثث المشهد السياسي بلعبة سياسية يتحكم فيها، نظام لديمقراطية الواجهة وديمقراطية الأسياد، نظام اغلق الحقل السياسي، نظام يهين كرامة الإنسان ويلغي حريته.
إن النهج الديمقراطي يعتبر الموقف من الانتخابات يدخل ضمن التكتيك أي أن ليس للنهج الديمقراطي موقف ثابت ودائم بالمشاركة أو عدم المشاركة أو المقاطعة. وينبني موقفه على تقديره مدى خدمة أي من هذه المواقف على تطوير الوعي الشعبي وتأجيج الصراع الطبقي.
– على المستوى الاقتصادي: نظام للريع يستحوذ على الثروات ويتحكم في كل مناحي الاقتصاد، فهو المستفيد الأكبر من الريع ويوزع ما فضل عنه على خدامه ولتوسيع قاعدته الاجتماعية عبر الانعام والعطاء والهبة والاغراء، وبذات الهدف يعتمد التفويتات والاعفاءات والعطايا والامتيازات (الضيعات الكبرى،الصيد في أعالي البحار،مأذونيات النقل الطويلة الأمد، ربط التراخيص للمقاولات الكبرى بمدى استفادته)، نظام للمافيا المخزنية يشجع على النهب والفساد والاغتناء الغير مشروع، نظام جعل الاقتصاد حكرا على عائلات كبرى تعد على أصابع اليد، نظام للتبعية للأمريالية، وخاصة الفرنسية.
-على المستوى الاجتماعي:نظام مبني على الهشاشة والتفقير وعلى التضبيع والتجهيل لتسهيل التركيع وعلى تشجيع الرشوة والارتشاء والتملق والانتهازية لاشعار الرعايا انهم مسلوبو الحقوق، نظام مبني على اختراق والتلغيم والتقسيم لكل الحقول لادماجها في بنياته، ونخص بالذكر المجتمع المدني المستهدف من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وغيرها، نظام يعتمد استصغار “الرعية” واضعافها وتعجيزها وسلبها اية قدرة على المقاومة والاستقلالية. نظام يخدم، بالأساس، مصالح الكتلة الطبقية السائدة.
— في العلاقة ما بين الملكية والكتلة الطبقة السائدة والمخزن:
لقد أصبحت الملكيات في أوروبا الغربية رمزية إلى حد كبير. فالبرجوازية قد استطاعت بسط هيمنتها على المجتمع من خلال قضائها على الإقطاع وتثبيت أسس نمط الإنتاج الرأسمالي وبناء الدول-الأمم والأجهزة السياسية والأيدلوجية والدعائية والأمنية والعسكرية التي تجسد سيطرتها.
أما في المغرب وفي غياب برجوازية من النوع الأوروبي وتواجد برجوازية كمبرادورية تحولت بعد الاستقلال الشكلي إلى برجوازية تابعة، فإن الملكية لعبت، وتحت إشراف الامبريالية، وخاصة الفرنسية، دورا أساسيا في:
— تهيكل الكتلة الطبقية السائدة ككتلة تضم البرجوازية التابعة وملاكي الأراضي الكبار.
— إعادة بناء الدولة التي ورثتها عن الاستعمار- والتي كانت تتشكل من إدارة عصرية استعمارية تتحكم في إدارة مغربية عتيقة- إعادة بناء الدولة كدولة مخزنية بطلاء عصري.
إن هذا الواقع يفسر العلاقة العضوية بين الملكية والمخزن والكتلة الطبقية السائدة. فواقع الكتلة الطبقية السائدة (ترعرعها في كنف الدولة وتبعيتها للامبريالية) جعلها عاجزة على فرز أحزاب تمثل مصالحها.ولذلك فإن المخزن هو الذي يلعب هذا الدور، من خلال خلق أحزاب إدارية وإفساد الأحزاب الوطنية والديمقراطية.والملكية تلعب دور الناطق الرسمي للكتلة الطبقية السائدة و ضامن وحدة وتماسك المخزن.إن الكتلة الطبقية السائدة في حاجة إلى الاستبداد المخزني لفرض هيمنتها واستغلالها المكثف ونهبها لخيرات البلاد.والمخزن في حاجة للملكية المطلقة لتبرير الاستبداد.لذلك فمن الخاطئ الظن بأن الملكية البرلمانية التي تعني تفكيك العلاقة العضوية بين هذا الثالوث سهلة المنال. صحيح أن هناك تناقضات بين مكونات هذا الثالوث،لكنها تضل ثانوية في غياب حركة نضالية شعبية عارمة وقيادة ثورية حازمة.
لعل التناقض الذي يبرز في بعض الأحيان هو بين فئات وسط الكتلة الطبقية السائدة و/أو قوى إمبريالية من جهة والملكية من جهة أخرى حين تصعد هذه الأخيرة من هيمنتها الاقتصادية. وهو ما يعبر عنه شعار فصل الثروة عن السلطة. لذلك فهو شعار لا يعبر عن الطموح الشعبي للتحرر من هيمنة الإمبريالية والكتلة الطبقية السائدة والمخزن. لكنه يمكن أن يكون شعارا تكتيكيا هدفه لف أوسع جبهة ضد المافيا المخزنية.
استغل النظام المخزني تراجع السيرورات الثورية في العالم العربي ودخول بعضها في حروب مدمرة وتراجع حركة 20 فبراير ودعم الإمبريالية الغربية لشن هجوم على الحركات الاحتجاجية والمنظمات المناضلة ولتمرير الإجراءات الاجتماعية اللا شعبية ولإحكام قبضته على مقاليد القرار حيث:
– عزز الملك أدواره كرئيس فعلي للدولة وكأمير للمؤمنين، عقب دستور2011..” انتهى الاقتباس.

•خاتمة


يتضح من خلال هذه الاحاطة ان امتلاك رؤية دقيقة حول طبيعة النظام الملكي والدولة القائمة وخصوصياتها يتطلب التسلح بالمنهج الماركسي في التحليل الملموس للتشكيلة الاجتماعية بالمغرب، وتاريخ تشكل الطبقات والفئات الاجتماعية المنخرطة في علاقات الصراع الطبقي. ومن نتائج هذا المنهاج اننا اصبحنا اليوم نمتلك قدرة على فهم التناقضات القائمة وكذلك القدرة على طرح الشعار المناسب والفعال من اجل الاستفادة من هذه التناقضات التي رصدها التحليل الطبقي.
وغني عن القول ان هذه الرؤية ما كانت لتتوفر لولا انخراطنا في الصراع السياسي ورغبتنا في تسديد تحليلنا وابتكار الاساليب والشعارات المؤثرة.ولأننا منخرطون في هذه الدينامية، فإننا قادرون على تطوير التحليل واغناءه باستمرار لان الواقع متحرك ومتغير باستمرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟