الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملحق ما بعد كتابة الذكريات .. وخاتمة .. من ذكريات الطفولة والشباب ( ج 7 / 7 )

بشير صقر

2017 / 12 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ويتحدث هذا الجزء عن ملحق أضفته مؤخرا للنص بعد ملاحظات من بعض الأصدقاء ، ثم تأتى الخاتمة توضيحا لصلة الشروط الموضوعية بالشرط الذاتى ، مع تقدير موجز لهذه المرحلة وبالأدوار التى تضمنتها ، وإشارة لوضع المجتمع الراهن ونواقصه التى تشكل عراقيل حقيقية أمام التغيير ، ومن ثم ضرورة معالجتها لاستئناف مسيرة الكفاح واستعادة مصر وإعادة بنائها.
،،،،،،،،،

• ملحق ما بعد كتابة الذكريات :

عرضتُ هذا النص قبل النشر على بعض الأصدقاء لكى يبدوا رأيهم فيه فأفادنى ثلاثة منهم بأن نقصا واضحا يعتريه وهو غياب الحديث عن الأسرة ككل لآنها كانت على مقربة من هذا التاريخ بل وشارك بعض أعضائها فيه حيث لا يكفى الحديث عنهم كأفراد فى سياق الأحداث . ولم يكن علاج الأمر ممكنا - خصوصا وأنى شرعت فى نشر جزئين منه - إلا بإضافة هذا الملحق لسطوره الأخيرة.

ولأن أصدقائى كانوا على صواب فى تلك الملاحظة فقد بدأت فى تحديد رءوس موضوعات هذا الملحق كالآتى:

•القيم التى حكمت منزلنا بشكل عام.
•القيم والأفكار التى أضافها النشاط العام فى جانبيه الاجتماعى والسياسى.
•التحققات العملية لذلك .
والتى سنتناولها كالآتى :

كانت السمة المميزة لأسرتى تتمثل فى العلاقات الإنسانية بالجيران والأقارب والأصدقاء باعتبارهم جميعا - وبدرجات متفاوتة – جزءا من أسرتنا . لكن كيف ولماذا ..؟ فهذا ما لا أستطيع الإجابة عليه إجابة دقيقة.. لكنى سأحاول التطرق لعدد من الأمور التى تشير إلى تلك الإجابة:

•أعتقد أن قيمة عدم التمييز بين أفراد الأسرة كانت أحد العوامل التى شكلتها .. فالكل سواسية .. والكل يعمل .. والكل يتمتع بنفس الفرص المتاحة باستثناء الثلاثة الكبار ( أنا وعبد الغفور وبشرى) نظرا لأنهم يقومون بأدوار جوهرية فى بناء الأسرة وتوفير سبل المعيشة لها وتسيير دولاب العمل اليومى الذى لايمكن لأسرة أن تعيش بدون إحكامه وضبطه خصوصا فى ظل غياب عائلها الأساسى منذ عام 1960 حيث كنت فى السابعة عشرة ومهدية ( الأخت الصغرى ) لم تكمل الخامسة من عمرها. فقد كان مطلوبا منى رعاية الأسرة بمعناها الواسع .. وليس مجرد إعاشتها بمعنى الإشراف على دراستهم وبث القيم الإيجابية وتعميق القيم الموجودة والتى نراها خليقة بالتبنى ؛ واتخاذ القرارات الرئيسية المتعلقة بالمستقبل بالمشاركة مع والدتى وشقيقى عبده فى حالات تواجده بالمنزل – حيث كان قد غادر المحافظة عام 1963 إلى الصعيد موظفا ببنك التسليف وواصل تغيبه لالتحاقه بالقوات المسلحة مجنداعام 1966 وحتى1973 ومن الجيش عاد لعمله بالصعيد – علما بأنه كان يدفع مرتبه كاملا للأسرة بعد تجنيده بسنتين حتى انتهت علاقته بالجيش.

•جو الحرية الذى كان شائعا بالمنزل والذى كانت إحدى تحققاته هو أننا لم نتدخل فى مناقشة أمى فى ميراثها من أبيها مع بقية الورثة بالمرة .. بل ولم نعرف تفاصيله. كذلك لم يكن يتدخل أىٌ منا فى حق أى فرد بالأسرة فى أن يلبس ما يشاء وأن يذاكر كيفما شاء ومع من يشاء شرط أن تكون نتيجته الدراسية إيجابية.

-وعلى سبيل المثال كانت أمان لاترتدى غطاء للرأس حتى السنة قبل الأخيرة فى المرحلة الإعدادية .. ثم ارتدت إيشاربا فى السنة الأخيرة وفى الأولى الثانوية طواعية وبرغبتها الشخصية . وفى يومٍ تأخرت عن مدرستها عام 1966 وعلى بابها كانت تقف ناظرة المدرسة لمحاسبة المتأخرات ومعرفة السبب . هذا وقد طلبتْ من أمان أن تخلع غطاء رأسها وإلا لن تدخل المدرسة .. فاستدارت أمان وهمّت بمغادرة المدرسة ؛ فنادتها الناظرة بعصبية قائلة: إلى أين ..؟ فأجابت أمان : ألم تقولى أنى لن أدخل المدرسة إلا لوخلعت الإيشارب ..؟ وأنا لا أريد أن أخلعه . فتراجعت الناظرة قائلة : هيا إلى فصلك.
بعد عام آخر وجدنا أمان تذهب لمدرستها دون غطاء رأس .. والأهم أنها لم تضعه على رأسها بناء على أمر أو رجاء أو حتى تحبيذ .. ولم تخلعه استنادا لنهْىٍ أو تهديد أو حتى سخرية فهى مَنْ اختارت فى الحالتين.

•لقد كانت البنات الأربعة يتبادلن ملابسهن طواعية فقد كن فى سن وأجسام متقاربة ولم يطلب منهن أحد ذلك.

•وأتذكر أيضا أننى عندما أُبعِدْتُ إلى أسيوط ورحل معى شفيع وبشرى كان لدى شفيع 9 قمصان بينما لم يكن لدى سوى أربعة.

•كانت قيمة التضحية والإيثار والتعاطف مع الفقراء واليتامى إحدى القيم التى كانت راسخة فى أسرتنا حيث رحبتْ باستضافة أسرة أحد أخوالى المتوفين لمدة عامين ونصف وكانت السعادة الغامرة بذلك تملأ منزلنا وحل محله الحزن الواضح بمغادرتها عائدة إلى القرية. وعلى ما يبدو أن فقدَ أبينا قد خلق نوعا من التعاطف مع كل الأسر التى فقدت عائلها .

•هذا وكانت بشرى أكثر من ضحت من إخوتها بل وحُرمَت من التعليم نظرا لاحتياج والدتى لها فى أعمال المنزل مما جعلها تتغيب كثيرا عن المدرسة باعتبارها كبرى البنات ويدها اليمنى فى تلك المهمة. لكنها ومن الناحية الأخرى تعلمت فن الحياة وإدارة المنزل . ليس هذا فحسب بل أنها شاركت فى رفع الشعارات فى مؤتمر سيد مرعى بأسيوط عام 1973 ، وساهمت فى إنقاذ أحد القيادات الطلابية هناك مع شقيقى شفيع من عدوان الأمن عليه.. فضلا عن دور الجندى المجهول فى عديد من الأعمال التى ساهمت فى النضالات الطلابية بجامعة أسيوط.. وهو ما دعا صلاح يوسف للإصرار على الزواج منها .. رغم اعتراضى عليه استنادا إلى الفارق الواسع بينهما فى الثقافة والمستوى التعليمى باعتبارها لم تحصل على شهادة إنهاء الدراسة الابتدائية وهو مثقف وكاتب قصة ومهندس وزعيم طلابى بارز.

•هذا وكانت مهدية تقوم بمساعدة زميلتها المريضة بشلل الأطفال فى إيصالها يوميا من منزلها القريب من منزلنا إلى مدرستها طيلة سنوات المرحلة الإعدادية.

•كما شرعت هند بعد أن أنهت المرحلة الثانوية فى التوجه لملجأ الأيتام بشبين الكوم لتعليم الصبية النزلاء ومحو أميتهم الأبجدية حيث التقت بمدير المؤسسة طالبة منه أن تقوم بهذه المهمة .. فتصور المدير أنها تريد أن تقوم بالخدمة العامة المقررة على خريجات الجامعات آنذاك .. فنفت ذلك ، فسألها : ومَنْ أرسلك إلينا .. فردت : لم يرسلنى أحد وأوضحتْ له أنها تريد ذلك كمبادرة منها. وحيث سألها أحد الجالسين بالحجرة (وكان مدرسا للموسيقى) عن اسمها فأجابته : هند صقر .. فطلب اسمها بالكامل : فردت : هند محمد عبد الرحمن صقر . فسأل: بنت الاستاذ محمد صقر المدرس ..؟ فأجابت : نعم . فقال موجها حديثه للمدير : إبن الوز عوام. وكان هذا التعليق بمثابة تزكية لها للقيام بالمهمة التى استمرت سنوات طيلة الإجازات الصيفية وضمت لها زميلات أخريات من طالبات وخريجات الجامعة .. بل ونسجت علاقة جميلة مع تلاميذها حيث كانوا يترددون عليها بمنزلنا للزيارة وعرض بعض مشاكلهم لحلها.هذا وتكررت تجربتها فى محو الأمية فى حى فقير هو العزبة الغربية أغلبه من الفلاحين؛ وقد شارك معها فيه عديد من الشباب والفتيات من طلاب المدارس الثانوية والجامعة بعضهم من المترددين على منزلنا.

•وبانخراط الأسرة فى مناخ العمل العام الاجتماعى والسياسى اتسع المجال لقيم أخرى جديدة لم تتعارض مع القيم السابقة لكنها أسهمت فى رفع وعى أفراد الأسرة بالعمل السياسى خصوصا فى جانبه العملى ؛ ولأن المترددين على المنزل كانوا من الطلاب الذين صار لهم دور فاعل فى النشاط السياسى بالجامعة فيما بعد وكانوا يتشاركون فى النقاشات السياسية العامة وأحيانا الأدبية.. وبذا تحول منزلنا إلى بؤرة لهذا النشاط الذى توسع بمرور الوقت. وهو ما ساعد شقيقتى أمان ثم مهدية على احتراف رفع الشعارات فى المؤتمرات – بجمعية الشبان المسلمين بشبين الكوم وكمشيش - ومن ثم فى مظاهرات الجامعات فيما بعد .وقد بدأت أمان هذه المهمة منذ عام 1968 وهى فى الثانوية العامة بينما بدأتها مهدية وهى فى الصف الثانى الإعدادى فى عام 1969 .

•وقد ذكرتْ أمان أنه فى إحدى مظاهرات جامعة القاهرة عام 1973 قامت قوات الأمن المركزى باحتجاز المظاهرة أمام تمثال نهضة مصر ومنعتها من التقدم فما كان من أمان التى كانت ترفع شعارات المظاهرة إلا أن أعطت ظهرها لقوات الأمن وأشارت للطلاب بالجلوس على الأرض ثم استدارت لتخاطب الجنود الذين تبينت أن أغلبهم من أبناء الفلاحين قائلة : ( ياجنود يا فلاحين // داحنا اخواتكو المخلصين ، يا جندى أنا وانته واحد // واللى ظالمنى وظالمك واحد ) وكررت الشعارات والطلاب يرددونها .. وبعد حوالى 7-8 دقائق وجدت الدموع تنساب على وجوه بعض الجنود فى الصفوف الأمامية .. حيث كانت أمان تقف فى مقدمة المظاهرة .

لقد كانت المؤتمرات السياسية بشبين الكوم وكمشيش فرصة مواتية لطرح كل الشعارات الثورية فى مختلف جوانب النضال السياسى ؛ وأستطيع القطع بيقين أن 80 % من شعارات الحركة الطلابية فى سبعينات القرن الماضى جاءت من كمشيش . من جانب آخر وحيث انتقلت أمان لمدينة الإسكندرية ولكلية الآداب حيث تزوجت هناك ؛ فقد استضافت بعض فلاحى كمشيش- المبعدين عن قريتهم - بعد أسبوع من الزواج فى منزل الزوجية ولمدة عام كامل . وفى نفس الوقت داومت على النشاط السياسى فى الجامعة حيث تم القبض عليها ثلاثة مرات عامى 1974، 1975 وأودعت بسجن الحدرة وكانت قد سبقت استضافتها بسجن القناطر اعتبارا من 21 فبراير 1973 لعدة شهور حيث كانت تشارك فى تظاهرات الجامعة آنذاك.

•هذا وقد ساعد أمان على قيادة المظاهرات- إضافة لحسها الوطنى- وثوق علاقتها باللغة العربية وآدابها حيث كان لها فيما بعد بعض الاجتهادات فى كتابة الشعر وتحديدا شعر العامية كان منه تلك الأبيات من قصيدة بعنوان " الدولار "التى كتبتها مما يزيد عن عشرين عاما:

إدخلى يابنتى جوّه
وسّعِى إنتى وهوّه
دا الغريب داخل بقوة
والدولار هوه الفتوّة
التراب اللى انتى بيه تتكحّلى
سيبى فيه رُفات جدودك وارحلى
حتبعيه بكام دولار..؟ .. لا تسألى
والغلابة لا حول ليهم ولّا قوة
الدولار يا بنتى عينه ع الثمار
ع الكنوز ف الأرض .. وف بطن البحار
ع العقول المُنجزة ..وحتى الصغار
عينه ع اللولى حتى فى جوف المحار
والخواجة اللى انتى مبهورة بدولاره
والدولار اللى انتى مغشوشة ف خَضَاره
أوّل الرِسْمال ما ياخد فيه مداره
مش قرارك راح يكون .. حيكون قراره
الدولار ده نابه أزرق
يِعْلا هوّه ..جنيهنا يغرق
بقوته .. يقدر يفرّق
بين أبويا .. وبين صغاره
الدولار له فكرُه برضه
ييجى يوم .. ولابد فارْضه
يومها مين .. يقدر يعارضه ..؟!
وفاس أبويا ..مش ف أرضه ؟

•خلاصة القول لقد أفصحت رحلة الأسرة فى الحياة عن عدد من المبادئ والقيم الإنسانية والسياسية لا تخطئها العين، وقد ظلت متمسكة بها لأبعد مدى. وفى نفس الوقت دفعت بعدد من أفرادها للطفو على سطح الحياة السياسية – فى حقبة محددة من الزمن - لكن الأدعى بالملاحظة والتأمل ليس من لم طفا على السطح .. بل من لعب دور الجنود المجهولة فى صمت وجلد واقتناع ومن ثابر على هذا الدور حتى فى زمن الجزْر والانحطاط .ولعل من كان قريبا من الأسرة يرى فى بعض أفرادها – المعروفين أكثر للناس- أصحابا للدور الأبرز فيها ؛ لكن الحقيقة والأمانة تستدعى أن أقول أن الأدوار المجهولة البناءة هى الأدعى بالملاحظة والأجدر بالتأمل والتقدير. وقدتمثلت تلك الأدوار فى هند وبشرى ومن خلفهما الأم . وداخل هذا الدورتحظى هند بالدور الأثبت والأبرز والأكثر اتساقا مع المبادئ والقيم التى تحدثنا عنها – أثناء وبعد تلك الحقبة- حيث ما زالت تمارس هذا الدور حتى الآن - بأشكال مختلفة - داخل الأسرة؛ والأهم أنها تمارسه ليس باعتباره دوراً أو واجباً بل باعتباره عادة وطبيعة متأصّلة.. باختصار لقد توحّدت مع هذا الدور.

ولأن الحياة الحديثة باغتتنا بوسائل وأدوات مبهرة لأبصارنا .. وأعاقت نظرتنا العميقة والمدققة للأشياء.. فقد ساهمت فى إضعاف تمييزنا بين الأدوار الطافية على السطح ذات البريق والوهج وبين الأدوار المجهولة البناءة.. ذات التأثير الأعمق والأبعد.
ولا يبقى فى هذا المشهد إلا القول بأن نساء هذه الأسرة الخمسة هنّ مَن قمْنَ بأهم الأدوارفعالية و بناء واتساقا مع النفس والمستقبل.

•هذا عن الفترة التى شهدت تأجج الكفاح السياسى بشأن القضية الوطنية وغيرها فى ستينات وسبعينات القرن الماضى . لكن عوامل التعرية التى أغرقت مصر فيما بعد فى طوفان الانفتاح والخصخصة وإعادة هيكلة الزراعة ومصالحة إسرائيل والردة السياسية التى قادها السادات و عمقها مبارك وتعهدها بالخدمة والرعاية قد طمست الكثير مما أنجزه شرفاء كثيرون من أبناء الشعب المصرى .. حتى وصل بنا الأمر إلى ما نحن فيه الآن .. لكن يبقى فى النهاية أن هؤلاء الشرفاء لم يتخاذلوا ولم يجبنوا بل واصلوا المسير قدر ما تحملت طاقتهم .

• خاتمة : نحن لا نختار ظروفنا .. وإنما نختار طريقنا

يولد البشر متشابهون وربما متساوون ، ولا تمثل الفوارق الاستثنائية بين الأشخاص إلا حالات قليلة أو نادرة . بعدَها تتولى الظروفُ المحيطة ( من أفكار وموروثات وموارد ووسائل ) تحديدَ مساراتهم التى يتخذونها فى الحياة ؛ مرتبطة بوثوق بمسار المجتمع الذى يعيشون فيه .. وبتعبير آخر أن مسار المجتمع يمثل الدفة المُتحكّمَة فى مسارات الأفراد. ولا يمثل الاختلاف فى مسارات بعض الأفراد عن مسار مجتمعهم إلا حالات قليلة أو نادرة علما بأن ذلك الاختلاف لايكون مطلقا بل نسبيا.

وعليه فلكى ينجح هؤلاء الأفراد المختلفون فى تعديل مسار المجتمع لابد وأن يكون هناك قاسم مشترك واسع بين مسارذلك المجتمع ومسارهم. وبدون هذا القاسم المشترك الواسع تتبدد محاولاتهم سدى. ومن الطبيعى بعد ذلك أن يشرعوا فى خلق هذا المشترك لكى ينجحوا.

وفيما عرضناه من ذكريات يمكن القول أن خيارى الأول لم يكن هو الموجه لمسارى بشكل مطلق – رغم كل قناعاتى- بل كان محكوما فى النهاية بظروف المجتمع الذى أعيش فيه .

ولأن دفتى الشخصية ودفة أمثالى تختلف – فى جوانب عديدة – عن المسار الذى اتخذه المجتمع إلا أنها بمفردها لم تستطع أن تدفع مجتمعنا لمسار أكثر صوابا وتقدما أو حتى أن تغيّر فيه تغييرات جوهرية ، وكل ما نجحت فيه أن تترك أثرا وتختط مسارا يمكن قراءته أو ملامسته لفترة من الزمن قبل أن تطمره الأيام.

وقطعا كانت لى اختياراتى إلا أننى لم أختر أو أخترع ظروفى. اخترت مسارى ولم أختر أو أرغبْ فى النتائج التى حصلت عليها لأنى لا أعيش فى مجتمعى بمفردى. وما يصدُق علىّ يصدق على بعض أمثالى – الفرادى- بل ويصدق على الأعداد القليلة المجتمعة معا من أمثالى.

ورغم أية مشاق صادفتُها أومعاناة قاسيتُها فأنا راض عنها وربما لو أعيدت ولادتى لاخترت نفس الطريق - وإن كنت سأغير بعض تاكتيكاتى- ولتبنّيت نفس القيم والمفاهيم التى حكمت مسارى الذى حاولت بأمانة ودقة أن أشير إليه فى هذا الحديث .

وإذا أسمينا ظروف المجتمع ومساره بالظروف أو الشروط الموضوعية – بالتعبيرات الحديثة- وجب أن نسمى اختيارات الأفراد من أمثالى بالظروف أو الشروط الذاتية. وعليه فلكى ندفع المجتمع الذى نعيش فيه للأمام لابد وأن نغير الظروف الموضوعية بواسطة الظروف ( الشروط ) الذاتية.

وبالعودة إلى ما عرضناه نجد أن مجتمعنا المصرى كان ومازال يعانى من عقبات ومعضلات أساسية تحول دون تقدمه منها انخفاض الوعى بكل أشكاله المعروفة ( السياسية والنقابية والثقافية) أى أنه يفتقر لوجود أحزاب سياسية حقيقية تحكمها قواعد ديمقراطية لا تعرف الهزل أو الشكلية وتُعبّر تعبيرا صادقا وأمينا عن فئات المجتمع المتنوعة وطبقاته ؛ كما يفتقر إلى نقابات حرة حقيقية تضم العاملين فى المهن والحرف والأشغال المتنوعة جميعا من عمال وفلاحين وحرفيين ومهنيين ومهمشين وعاطلين وتدافع عن مصالحهم باستماتة ولا تفرق فى ذلك بين أعضائها على أساس ميولهم السياسية أو أديانهم أو لون بشرتهم أو موقعهم الجغرافى أو الجنس الذى ينتمون إليه أو العرق الذى أوْجدهم ، كما تفتقر إلى الثقافة الجادة التى تمزج - بحصافة وحكمة - بين ثقافة المجتمع المحلى وثقافات الحضارات والشعوب الأخرى وأن تتطور بعد هذا المزج ولا تبقى ثابتة أو أسيرة للماضى بل ناظرة ومتجهة نحو المستقبل وأدواته واحتياجاته وإلا ماتت وتحللت.

ولايمكن تحصيل وتبنى تلك الثقافة دون أن يكون العلم الحديث هو محرّكُها وفارسها الأول والتعليم بكل أنواعه ( النظامى وغير النظامى ) هو أداتها ووسيلتها المسنونة الناجعة. ولا يخفى علينا أن الأشكال الثلاثة للوعى فى مجتمعنا تبتعد أشد البعد بشكل متصاعد عما ننشده ونهدف إليه.

باختصارلا أحزاب حرة ديمقراطية ، ولا نقابات حرة قوية ، ولا ثقافة جادة ولا علم ولا تعليم .. بل توغل فى التخلف وانحدار نحو الماضى وتجاهل أوغضٌ للبصر إزاء المستقبل، ودوران حول الذات دون سعى إلى الأمام.

إن العوائق والمعضلات التى يتم زرعُها فى هذا المسارتُحقق مصالح الفئات المالكة والحاكمة فتأخذ من كل الفقراء والفئات الوسطى فى المجتمع كثيرا من جهدهم بل وفى كثير من الأحيان حياتَهم، وعليه فإن إزالة تلك العوائق والمعضلات أو بشكل أدق انتزاع الحقوق بأنواعها يتوقف على الوسيلة التى تستخدمها الطبقات السائدة فى فرض الأمر الواقع على الفقراء؛ وفى كل الأحوال لابد من انتزاعها مهما كانت الوسيلة وأيّا كان الثمن.

إن التجربة عموما تساعد فى ابتكار رؤية للمستقبل متجنبة مواطن الزلل . وهذا ما يمكن أن نستخلصه مما خضناه أوْ مرّ بحياتنا من تجارب متنوعة ومحاولات.

ونشير أخيرا إلى أن التجربة التى لا تشمل عموم المجتمع وتقتصر على جزء منه ( محافظة أو قرية أو حتى مهنة بمفردها ) لن تعدّل فى ميزان القوى فى المجتمع تعديلات جوهرية تمَكّن من دفعه للأمام وتغييره، بل ستكون أقرب إلى تجربة علمية فى المعمل أو أشبه بحقل إرشادى فى الزراعة تقتصرُ فوائدُها على كونها مؤشرات ورءوس أسهم لما يجب عمله فى عموم المجتمع وهو ما ينطبق بشكل كبير على ما أسهمنا به فى حياتنا . لذا فما عرضناه ليس مذكرات ولا سيرة ذاتية بقدر ماهو محاولة للتعرف على تضاريس المجتمع من خلال وقائع عملية عاصرتُها أو شاركتُ فيها فى مراحل زمنية مختلفة وسعى لتلَمُس رؤية للمستقبل.

،،،،،،،،،،،
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارة إسرائيلية تقتل 3 عناصر من -حزب الله- في جنوب لبنان


.. عملية -نور شمس-.. إسرائيل تعلن قتل 10 فلسطينيين




.. تباعد في المفاوضات.. مفاوضات «هدنة غزة» إلى «مصير مجهول»


.. رفح تترقب الاجتياح البري.. -أين المفر؟-




.. قصف الاحتلال منزلا في حي السلام شرق رفح