الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وبالوالدين إحسانا!

محمد مسافير

2017 / 12 / 30
الادب والفن


رغم أنه كان بدويا، إلا أنه ابتلي بالمطالعة فترة الستينيات، كان يلتهم الكتب التهاما، خاصة ما ارتبط منها بالدين، عكس أقرانه الذين تفرغوا للأرض بعد أن قضوا سنوات الطفولة في المسيد، كان إنسانا متدينا، لكنه انقلب ثائرا على الدين والعرف، فبدأ يناقش في الدين، ينتقده ويسخر من معتنقيه، ولأن العقول كانت وقتئذ جد متحجرة، فقد اتهموه بالجنون، بل سلموا بذلك، فبدأت الأقاويل تحيطه من كل جانب، كيف يحق له أن ينتقد كلام الله المنزل وسنة نبيه المصطفى إن لم يكن فاقد عقل، لم يحتمل كرههم، فأقدم ذات يوم نحس على الانتحار، غادر الحياة وأهلها الذين لم يطيقوه إلى جانبهم، أغمض عينيه بأريحية، ورحل عنهم إلى الأبد...
لم يمض على زواجه أربع سنوات، ترك زوجة وابنة في العامين من عمرها، وابنا لم يتجاوز بعد الشهرين، عادت الزوجة باليتامى إلى بيت أبيها الذي كان وحيدا بعد وفاة زوجته، عادت إليه ابنته لتكدر صفو حياته، فأراد التخلص من عبئها، أو ربما ليحميها من الترمل وهي ابنة العشرين، وقد استطاع فعلا أن يجد لها عريسا رحلت عنه هو الآخر زوجته تاركة ثلاثة أبناء، لكن العريس اشترط على الأرملة التخلي عن ابنيها والتفرغ لتربية أبنائه الثلاث، قبل أبوها الشرط، أما هي، فلا رأي لها، حزمت حقائبها مودعة أباها وابنتها ذات العامين، وابنها ذي الشهرين!
تحمل الجد عبء تربية اليتيمين من جهة الأب، والمتخلى عنهما من جهة الأم، لكن، ولأنه كان منشغلا كثيرا بالعمل في أراضيه الفلاحية الشاسعة، فقد أتعبته كثيرا تربية الأطفال، حيث كان يأخذهم معه على نحو متصل إلى العمل، فقرر الزواج بمن تعيله في تعهد البنين، وتسليه آخر الليل، تزوج ابنة العشرين وهو قد تجاوز الستين، كانت تصغر ابنته، لكن لا ضير في ذلك ما دام الزواج على سنة رسولنا الكريم!
لم تكن الزوجة الجديدة راضية بزواجها، فربما كانت ترتقب من هو في سنها، لكن كيف لها أن تتمرد على سلطة أبيها فتنال سخط الله؟ فيمن سوف تصب جام غضبها... آه، لا بد أن الله قد خلق حلقة أضعف، نعم، إنهم اليتامى، طفل قد أتم الحولين، وابنة لم تتجاوز الأربع سنوات!
الانتقام كان هنا رد فعل طبيعي، خاصة باعتبار البيئة المنشأ الغارقة في وحل التخلف والجهل والبعيدة كل البعد عن أدنى شروط تقدير الإنسان، فلا بد للسلوك أن يكون رد فعل غريزي حيواني لا يقيم اعتبارا لقيم الجمال والنبل، هكذا انتقمت شر انتقام من الصغيرين، كانت تهمل، تضرب، تجوِّع، ولا تكف عن اللعنات!
الكارثة التي أحاقت بالطفلين لم تقف عند هذا الحد، فمنذ أن بدأ الطفل في استيعاب الحياة وهو يسمع جده وأقرباءه ممن يزورونهم لماما، أن أباه قد انتحر بعد أن كفر، وهو الآن في الجحيم يعذبه الله، وأمه لم ترغب بهما فتركتهما إلى إنجاب آخرين مع رجل آخر، فبدأ يتنامى الكره في داخله تجاه والديه حتى غدا كارها لسماع اسميهما يتكرران في مجلسه، تركته أمه ولم يتجاوز الشهرين، ولم يراها حتى أتم الست سنوات...
لكن ما لقلب المسكين أن يحتمل، لقد أعلن تمرده وسخطه منذ الصغر، ضد زوجة جده التي لم تكن تكف أبدا عن إهانته وضربه، فقد كان يرد عليها أيضا بالسباب ثم يهرب من البيت ليقضي ليلة كاملة فوق شجرة، وضد الكتب التي قيل أنها كانت قاتلة أبيه، فقد حولها جميعا إلى رماد!
ما عاد الطفل محتملا، لقد بلغ العشر سنوات، فاضطر جده لترحيله إلى مدينة طنجة عند والدته التي قبلته على مضض، ليبتدئ فصل آخر من الإهمال والتعنيف...
كانت أمه قد أنجبت أربعا، إضافة إلى أبناء زوجها الثلاث، لينضاف إلى بيتها رقم آخر قد طوت وجوده منذ زمن... حتى الأبناء السبعة لم يرحبوا بوجوده، فقد كانوا يخلقون له المتاعب بشكل مستمر، ولم ير شيئا من حنان الأم غير القسوة والاحتقار... فقد كانت تذكر صديقاتها دوما، وفي حضرته، أن ليس لها إلا ثلاثة أبناء، أما هذا، مشيرة إليه، فليس بابني وقد ندمت كثيرا على استضافته! ولكم أن تتصوروا حجم الألم الذي قد يخلفه هذا التصريح في قلب طفل صغير!
كان يحس دوما بالتهديد، فهذه المرأة التي قالوا إنها هي التي أنجبته، قد تطرده في أي وقت من البيت فلا يجد مأوى يأويه، فاضطر للعمل، كان يعمل مياوما في أي شغل يصادفه، يجني القليل من المال ولا ينفق منه درهما، فقد كانت أمه تمتص كل عرقه، كانت تفتشه جيبا جيبا، وتوقظه في الغذ الموالي باكرا لترسله إلى العمل!
بعد أن بلغ من العمر ثمانية عشر سنة، فكر في الاستقلال عن والدته، لكن كي يستقل، يجب أن يكف عن المياومة ويبحث عن عمل قار يضمن له راتبا آخر كل شهر كي يضمن تسديد فاتورة الكراء دون الاصطدام بأية متاعب، فاتجه صوب معمل الخياطة، ثم بحث له عن شقة صغيرة، وحزم حقيبته عازما هجر بيت والدته، لكنها اعترضت سبيله، أرادته بجانبها، فمن أين ستحصل على المال إن غادرها!
يوم اشتغل داخل المعمل، وأمسك بيديه مفاتيح شقته الجديدة، أحس فعلا أنه قد ولد لحظتها، فقد أصبح حرا طليقا وبعيدا عن الكره والنفاق والاستغلال، لقد أصبح بإمكانه أن يتصرف كيفما يشاء، أن ينفرد براتبه الضئيل دون أن يسلبه أحد، ورغم قساوة ظروف العمل، فحياته على الأقل، أصبح لها معنى...
أبدى تفانيا عظيما في العمل الرتيب، لكن طموحه كان أكبر، تسجل في أحد مراكز تعليم اللغات، فاستطاع تعلم الإنجليزية والإسبانية سريعا، وبعد أن شغل مواقع مختلفة داخل المعمل لسنوات، فقد اختاره رب العمل رئيسا على العمال، فأصبح يتقاضى راتبا جيدا مكنه من رفع سقف الحلم، نحو الاستقلال الثاني، فأسس معملا للخياطة، وأصبح ربا للعمل !
بعد النجاح الباهر في حياته المهنية، تفرغ للقراءة والمطالعة، فقد غدا مولعا بالكتب الثقافية والدينية، حتى تمرد على الدين شأن أبيه، وتمرد على أعراف القبيلة، ليستنشق مرة أخرى، نوعا آخر من الحرية.
صديقي هذا، ورغم أنه استقل عن أمه منذ أن كان في الثامنة عشر من عمره، إلا أنه لم يتوقف يوما عن مساعدتها بما استطاع من مال، كما لم يتوقف أبدا عن السؤال عنها، رغم أنه لا يسعى خلف جنة ولا حور عين!
مرضت أمه قبل سنوات بداء السكري، وأنفق لأجلها الكثير، إلا أن جشعها لم يتوقف، فقد كانت تتصل به دوما لتطلب منه المزيد، وتفتعل المرض أحيانا لتتذرع به من أجل حصد المزيد، لكنه ما كان يبالي، وما توقف يوما عن إرضائها رغم علمه بأنها باعت منزلا ورثته عن أبيها، وقسمت قيمته المالية على جميع أبنائها... إلا هو!
ذات شهر مشؤوم، أصابته ضائقة مالية، فاتصلت به تطلب منه خمسة آلاف درهم كتكاليف للمتابعة الطبية والدواء كما ادعت، تأسف لعجزه عن المساعدة، واقترح عليها الاتصال بأبنائها الآخرين، لكنها لم تتفهم ضعفه حالها، فثارت حفيظتها وجاءته إلى حيث يسكن هو وزوجته وأبناءه، حاولت توبيخه، لكنه أعلنها ثورة في وجهها:
- لماذا لم تتصلي بأبنائك الآخرين؟ لماذا تتصلين بي وحدي في الأزمات ولا تتذكرينني لحظة الإنفراج، متى كنت أمَّا لي؟ أما عن شهري الحليب الذين رضعتهما أول العمر فإني قد دفعت ثمنهما أضعافا مضاعفة!
اجتمعت العائلة، واعتبروا صديقي إنسانا عاقا زنديقا، فحاولوا هدايته... جاءته الخالات والأخوال:
- "وبالوالدين إحسانا" أمك ثم أمك ثم أمك! وإلا فلعنة الله عليك وسخطه إلى يوم الدين!
رد عليهم ببرودة:
- أين كنتم أيضا يوم وفاة أبي وهجر أمي، أين كان الله أيضا لحظتها أيام الجوع والعري والقسوة، القسوة على من؟ على يتيم لم يبلغ بعد الفطام، أين كان وعظكم ونصحكم؟ أما هي.. فبأي حق تركتني لتربي غيري؟ ولماذا رفضتني يوم لفظتني زوجة جدي؟ متى كانت أمًّا؟ ثم من من أبنائها أنفق عليها ما أنفقته... أخبروني يا عقلاء!
غادروا مجلسه ساخطين ولاعنين ومتوعدين بوعد الله الواحد القهار!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا