الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجندي المنتحر

صيقع سيف الإسلام

2017 / 12 / 31
الادب والفن



كانت النهاية وشيكة ، الألمان يحاصروننا ، ولم يبقى منا إلا شرذمة تنافح من غير طائل . لا شك أن المحاصرة الضيقة تفرض شجاعة في القتال أكثر و اندفاعا حماسيا نحو الرصاص و البنادق ، لكن لم يصدر هذا الحماس و الاندفاع إلا من جندي واحد كان يقف محاذيا لي و يستعرض بطولة عظمى ، أطلقت في نفسي ثورة من الغضب فأشحن وأعيد شحن سلاحي ، اصطاد النازيين اصطياد الفئران ، ألتفت لبقية جنود الوحدة أن افعلوا مثل فعل هذا الجندي ، ولكنهم راحوا يتساءلون مشككين في وجوده من أصله ، يبدو أن أحدا لم يره سواي ، هل الحرب و اقتراب زحف الألمان أذهب نفوسهم ، ربما اقتراب الموت له أمارات تشبه هذه الأمارات . . . كانت ذراعي تنزف من مدة و خوذة رأسي قد تهشمت ، و صارت أنفاسي تتثاقل مع رؤية يحجبها ضباب وهمي من كثرة الإصابات التي تلقيتها ، أنا لا أحلم ، أعلم ذلك ، لكن هل أنا مستيقظ ؟ . تلك قضية لست واثقا منها ، غير أنني واصلت التحفيز و بعث الأمل في صدور أصدقائي الحقيقيين أو المزيفين ، ، أمل يعزف على أوتار من رصاص و يلحن مع قصائد البارود المهيمن فوق رؤوسنا . فجأة أسقط ذاك الجندي البطل سلاحه و التفت إلي . كان وجهه يشبه وجه صبي صغير في العاشرة من عمره ، و لكنه لم يكن أ ي وجه ، كان وجهي أنا بالذات لما بلغت العاشرة مني عمري ، و قد دهشت مرعوبا ، حتى أنني لوهلة اعتبرته جاسوسا ألمانيا تسلل بين صفوفنا ، جاسوس يحمل وجهي وأنا في سن العاشرة ، حاولت أن أتقدم نحوه ، إلا أن قواي خائرة منهكة من نزيف ذراعي المستمر ، من إصابة رأسي التي أفقدتني تركيزي ، ولم يدم الأمر طويلا حتى تكلم ذاك الجندي الذي يحمل وجهي الصغير .

قال : « هاه يا كيريلوف أيها الحقير ، أيها الأناني . . . هل تظن أنك هنا تصنع البطولة لنفسك ضد الألمان ، حتى يقال غدا أنظروا جنديا باسلا شهيدا مات عام 1945 ، إنني هنا لأطلعك على سبب تواجدك الحقيقي في بقعة المعركة هذه ، أيها الحقير الدنيء ، أنت هنا لتنتحر برصاصة غيرك لا أكثر ، فاسمع يا كيريلوف :

إنك إنسان كنت تصاب بالصرع كثيرا ، إنسان تأتيك نوبات عسيرة على رأسك حتى يسيل ريقك و تتشنج عضلاتك لتكون مشلولة ، ثم تصاحب هذه الأعراض منك صرخة قاسية يمكن أن تقتل شخصا يسمعها لأول مرة . إن أعراضك هذه وبقدر ما تبدو أنها وراثية عادية لكنها ليست كذلك أبدا ، في عمقها تأتي من سبب نفسي تراكم نتيجة ضمير يعذبك و يخزك بشدة على جريمة فكرت فيها ، على ذنب ارتكبته و لم ترتكبه ، أقول على تفكيرك في قتل أبيك و التخلص منه بشكل عنيف قاس تتلذذ به ، تنتقم منه ، على أن أباك ليس بذاك السوء ، وإنما قدرتك على متابعة أصغر التفاصيل وأهون التافهات يخلق داخلك رغبة عارمة في تسطير أباك على مسطرتك أنت ، و لأنك لم تجرؤ على قتل أبيك بيديك ، قتلته ألف مرة في ذهنك و دماغك ، عذبته بما تشتهي داخل نفسك و هذا كان كفيلا في إيقاظ ضميرك حتى يسلخ أفكارك الشائهة و يخزك وخزا عنيفا ينبئك ببشاعة الموضوع ، بقبح سريرتك . و صحيح ، من لم يفكر في قتل أبيه ، لكنه ليس كتفكيرك و لا كتأملاتك و حنقك البغيض كلون القطران ينزل نزولا عفنا فيشوه المكان . . . بعد موت أبيك ، استعاد ضميرك قوته وصار يوبخك ساعة إثر ساعة ، فيهزك لتبكي كلما شاهدت ابنا يمسك راحة يد أبيه ، وكلما سرد لك أب جمال طفله الوحيد ، و في وعيك كنت تظن أنك بريء من موت والدك ، فقد رحل كما يرحل الناس ، إلا أن عقلك الباطن و أناك العليا و لاشعورك الدفين كان يتهم نفسه بتهمة القتل ، و يستذكر في كل مشهد أفكارك في إعدام والدك من الوجود ، و أناك العليا لا تفرق بين فكرة و حقيقة ، الأمر عندها كله حقيقة كائن له وجود ، فإذا جاءت أناك العليا توبخك على جريمتك اتجاه والدك ، هناك تصاب بنوبة الصرع و تأتيك الصرخة من شدة الوجع في رأسك و يبلل ريقك رداءك و تتشنج عضلاتك ، لقد كنت يا كيريلوف تعاقب نفسك بنفسك على جريمتك التي ارتكبتها و لم ترتكبها ، كان عليك لترتاح من وطأة ذكرى جريمتك أن تعذب نفسك بشدة حتى تهنأ روحك قليلا ، كأنك في كل مرة تدفع ثمنا لمن استدنت من عنده ، كأنك تجمع كل نوبة ألم وصرع مع أخواتها عبر السنين في معادلة مساوية للموت ، نعم ، هذا ما كنت تصنعه قبل أن تأتي بفكرة الانضمام للحرب يا كريريلوف الحقير، بفكرة الانتحار برصاصة غيرك، أنت لم ترد أن يقتلك العدو ، أنت أردت قتل نفسك بنفسك برصاصة ليست ملكك فقط و في هذا أعظم الجبن . قبل الحرب اعتبرت الموت رقما معينا كعشرة ، وكنت تفكر أن كل نوبة صرع و ألم مهلك هو فرد من تلك العشرة ، حتى إذا اجتمعت لك عشر نوبات ، كنت قد قتلت نفسك قصاصا لذكرى أبيك ، غير أن هذا كذب جميل ، فلن تعادل الموت مليون نوبة صرع منك ، ولن تسترد والدك ، لن تسترد ذكرى تعيد ضميرك للراحة . إن إحاطتك بفكرة لا تساوي الموت ومجموع نوبات صرعك جعلك تفكر بالانتحار ، لكنك أجبن من ذلك حينها ، فكل نوبة صرع تعطيك ألما كفدية صغيرة كان يمدك بأمل أن تموت في إحدى نوبات صرعك و يرتاح ضميرك مرة واحدة ، فإذا انهكك مرضك هذا انطفأت معه فكرة الانتحار داخلك ، فقمت بتأجيلها ليوم آخر ، و تأجيل مع تأجيل أفهمك أنك جبان ، فرحت تعتقد أن الحل هو الدفاع عن بلدك ، رحت تضع في وعيك أهدافا موهومة : أن تنفع أصدقائك ، أن تنقذ عائلات من قبضة أتباع هتلر ، أن تفتك بسرطان النازية الذي سيدمر الكوكب . . . الخ . لكن هل تعلم أن هذا جميعه هراء هراء هراء .

أناك العليا هي ما حركتك ، ضميرك هو ما دفعك للمشاركة في الحرب ، لقد سعيت في مقاتلة الألمان كي يقتلوك و يعذبوك شر تعذيب ، أردت منهم أن يمسكوك فيعملون فيك أضعاف آلام نوبات صرعك ، حتى تقدم فدية أعظم و أكبر لوالدك الراحل ، لم تكن شجاعا كي تقضي على نفسك ، بل أردت الحرب أن تكون يدا ثالثة لك هي التي تحشر سكينا معكوفا يبقرك فتنتهي من الحياة ، يداك الاثنان لم ينفعاك فقد خضعتا لغريزة البقاء الحاكمة على غريزة الضمير و العقل لديك ، و ما كل تحفيزك للجنود و تحميسك للحرب إلا بهرجة زائفة ، داخلك كنت تصرخ بشدة و تريد معانقة الرصاص و تقبيله بشوق .
إنك يا كيريلوف من النوع الإنساني صاحب الاحساس المرهف و الشر الكامن معا ، فبالشر الكامن يرتكب هذا الإنسان أعظم جريمة له ، و بالإحساس المرهف لديه يبقى يتألم من جريمته تلك مدى حياته ، ولأنه إنسان فاشل ليس الإنسان السوبرمان ، فهو لن يتجه للانتحار بل سيتجه لكل الأعمال الخطيرة و التي تحتمل في نهايتها الموت ، هو يريد أن ينتحر لكن بسلاح غيره ، و إذن علينا أن نقول أن قاتله لم يقتله بل هو قتل نفسه ، ومثلما قد يستند إنسان بجسمه على رمح مرشوقة فتعبر بطنه وظهره مبزقة دمه مميتة إياه ، فكذلك العمل الخطير الذي يقتل في الأخير ليس إلا أداة مثل هذا الرمح عند هذا النوع الإنساني الذي يشبهك يا كيريلوف . . . إنك تنتحر برصاصة غيرك لأنك لست خائفا من غريزتك للبقاء فقط بل خائف أيضا من الناس و المجتمع ، خائف من ذويك . إنك تهرب من قتل نفسك لقتل نفسك بغيرك ذلك أنك متوجس من فكرة السبب الكاف ، هذه معضلتك ، فما يقول عنك الناس إذا انتحرت ؟ . هم يقولون : قتل نفسه لأجل تفاهة ... قتل نفسه لأنه بليد صاحب عقل متدني ... كما أن إحساسك المرهف يقوي من جريمتك في تصورك ، فأيضا بهذا الإحساس المرهف تموت رعبا من أن يعتبر عملك الأخير هذا وهو انتحارك ، قلت تخاف بفرائس مرتعدة أن يعتبر عملك سخيفا يشفق عليه لا عملا فنيا عظيما . إن أهم شيء في قضية الإنتحار هو السبب الكاف الذي يوجب هذا الفعل ، السبب الكاف للإقدام على ترك الحياة بإرادة حرة مستقلة هو ما يقض مضجع كل صاحب تفكير انتحاري مثلك يا كيريلوف ، فإذا توفر السبب الكاف لا تجد ترددا في أن يقتل المرء نفسه ، بيد أن عدم توفر السبب الكاف يخلق هاجسا مقلقا ، و هو بضربة واحدة يعني :

أن المنتحر يقدم على نحت لوحة فنية عظيمة منه هو ذاته ، لوحة من لحمه و دمه لا من ورق و حبر . المنتحر صاحب السبب الكاف يعتقد في انتحاره عملا عظيما ، لأنه آخر شيء يصنعه قبل أن يتوارى للعدم ، و من إخلاصه لفكرة إزهاق روحه يجب عليه أن يخلق من عمله الأخير في الحياة عملا جبارا يشبه التوقيع الأخير ، إلا أن أمثالك يا كيريلوف من أصحاب الإحساس المرهف و الشر الكامن يعلمون أن جريمتهم التي تؤذي ضميرهم سبب كاف لهم لا لغيرهم ، ولو سمعك أحد يا كيريلوف تشرح سبب محاولتك للانتحار بمجرد تفكيرك الشيطاني في قتل والدك لضحك طويلا ، غير أنه سبب كاف بالنسبة لك لان درجة ألمه عالية عندك ، و بحيث لا تقوى على الانتحار مخافة الناس ، هناك أنت تنتحر بطريقة غموضية باقتحام أعمال خطيرة قد تودي بحياتك ، كمشاركتك في الحرب ضد النازيين . العجيب في الأمر أن صاحب الإحساس المرهف و الشر الكامن أمثالك يا كيريلوف الحقير أنه يجهل جريمته الداخلية ، هو لا يعرف أنها موجودة و تؤذيه ، هو فقط يشعر بصهيدها و سخونتها الحارقة ، وربما حتى نسبها لأمور ثانية ، وهو عدا جهله بجريمته يجهل أيضا أنه يقتحم الأعمال الخطيرة كاقتحامك الحرب لأجل أن ينتحر فقط ، هو لا يريد العودة سالما حتى يسكت ذاك الصهيد عن حرقه ، هو مستعد في كل لحظة ولو أن يستفز طفلا صغيرا حتى يشتمه الطفل و يلذعه و ينادي على أصحابه الصغار كي يرجموه فيموت بإصابة من ذاك الرجم ، ولو وجد طريقا يسمح لشتيمة ذاك الطفل أن تقتله لفعل دون هوادة كي ينتحر بشتيمة .
أريدك أن تقوم يا كيريلوف الحقير و تنتحر ببطولة ، تنتحر انتحار السوبرمان ، لا انتحارك برصاصة غيرك »

كيريلوف .. كيريلوف . . . كان صديقي يهمس في أذني لكي يوقظني . استيقظت لأجد نفسي في كوخ منعزل بمسافة معتبرة عن موقع المعركة ، ولم أعلم هل أنا حملت الجندي الذي معي إلى ذلك الكوخ ، أم هو حملني ، فقد كانت إصابته خطيرة جدا و لا يستطيع حتى الكلام ، ممدد على أرضية من القش ينزف بشدة ، لا يقوى حتى على تحريك أعضائه ، و كان يرفع إصبعا بمشقة بالغة كأنه يستعطفني لكي أهرب به و لا أتركه لأتباع هتلر السفاحين . نظراته الضئيلة المنطفئة في داخلها لا يزال بريق من الحياة و الأمل ، حينذاك مددت يدي إلى نصلتي و قطعت وريده في خفة سريعة أنهت معاناته . أنهيت معاناته لا لأنه كان يتألم فمنحته قتلا رحيما ، بل قتلته لأنني لم أرده أن يشهدني انتحر . لو بقي حيا لنقص و رآني أزهق روحي إذن لنقص إخلاصي لقضيتي ، لم تعد من أجلي فقط ، و لن يكون عملي فنيا عظيما ما لم يحوي إخلاصا تاما ، إخلاصا تاما مني لا يشهده بشر ، بل و لن أمسك حتى قطعة الفحم تلك وأكتب رسالتي الأخيرة على خشب هذا الكوخ ، فإن في تركي للرسالة انتقاص من إخلاصي لقضيتي ، انتقاص لإيماني بقضيتي ، أنا فقط من سيشهد هذه الملحمة و أنا فقط من سيحكم عليها ، أنا الجلاد و الضحية ، أنا الرسام و الناقد ، أنا المؤلف و المصحح ، كل في ذات واحدة هي ذاتي ، لا أفضل من إخلاصي لنفسي سيحكم على عظمة عملي هذا الذي سأقدم عليه ، غير أنني سأتكلم و أحاور . . . أتكلم وأحاور ذاك الطفل داخلي ، ذاك الطفل الذي ظهر وجهه على الجندي المحاذي لي ، سأعلل قضيتي أمام نفسي ، فلا أحد يستحق غير نفسي ، و ما النفع من الناس إذا انعدمت أنا ، فأولى من يستحق التعليل و التبرير ذاتي نفسها ، ذات ذاك الطفل ، فاسمع يا أنا ، فاسمع يا كيريلوف الصغير :

صحيح و جائز أنني قدمت للحرب كي أقتل نفسي برصاصة غيري كوني امتلكت تلك الأفكار الشيطانية حول قتل أبي ، لكن الآن تلاشى كل ذلك ، بل و حل محل الإحساس المرهف يقين بقدسية فكرتي ، و من ثم استطعت أن أحصل على أعظم سبب كاف في هذا ، وهو تفوق غريزة عقلي على غريزة جسدي للبقاء ، على أن حصول هذا يستدعي أنني بلغت مرحلة الجنون ، لكن لا فما زالت لي مسكة من عقل و ذرة من وعي بها أجعل قراري محكوما بحرية اختياري ، ومعلوم أن الجنون لا حرية فيه ، ولذلك أنا المجنون اللامجنون . بدءا أريد بانتحاري أن أثبت حريتي و استقلاليتي ، إنني لم آت لهذا العالم عن طواعية ، بل أتيت قهرا و قسرا ، فأنا لم أختر أن أوجد في هذا الكون وان أكون ابن فلان و فلانة ، هم أجبروني كما يجبر السيد العبد ، فإذا جئت لهذا العالم من غير ما اختيار لي ، فأنا لا أملك حرية إرادة ، وأعيش هنا بين كل هذا بسبب لاحرية الإرادة ، وعليه أريد أن أثبت وجودي و استقلاليتي ، أريد أن أثبت أنني المتحكم ، أنني إله نفسي و لا إله علي ، و عليه مجددا لا يبرز قدر عظمة استقلاليتي و ألوهيتي لنفسي إلا حينما اسلب روحي جسدها ، حينما أقضي على ذاتي ، هكذا فقط أثبت سيادتي و إرادتي الحرة المطلقة ، لأنني أنا من يتحكم في الدقيقة و الثانية و الأسلوب ، في الثانية رقم خمسة أو خمسون ، بأسلوب ساطور أو رصاصة أو قفز أو نصلة أو قطع نفس ... الخ . تحكمي في طريقة مغادرتي للحياة هو اثبات لحريتي و ألوهيتي ، و تحكمي من جهة في نية ترك الحياة هو إثبات لتمردي على عدم قبول هذا العالم و عدم قبول العيش في هذه الزنزانة الواسعة المليئة بالأحزان و الآلام ، اعلان تمردي هو أيضا اعلان لشيء اسمه « أنا »

لكن كيف أصل لمستوى تفوق العقل على الغريزة ، لمستوى الإنسان السوبرمان ، ثم لمستوى الانتحار لاثبات الذات . . . و الجواب : الوصول يتم بالألم ، يتم بمرض الوعي . أن يكون لك إدراك من جهة وأن تعيش في قفص معنوي من جهة ثانية هي تلك المقادير الأساسية في صحن الانتحار ، هو ذاك الإنسان الواعي بشكل كبير و المتقوقع في بلدة حقيرة مملوءة بالأمراض النفسية و الجسدية ، مملوءة بأولئكم الذين لا حيلة لك في انقاذهم ، و لا حيلة في الانقاذ إلا حيلة الانتحار و التي إن لم يقدمها المرء لنفسه فلن يقدمها له أحد ، أعود فأقول : البلدة الحقيرة التي تنهار فيها طموحاتك ، و تبتعد أهدافك عنك ، فلا تجتمع هويتك بطموحك لكي تتجسد ذاتك الحقيقية النهائية ، لكن فقط أنت تعيش مقهورا بالظروف و الحوادث المتتابعة ، فتنكسر توقعاتك و تصاب بالعطب النفسي المرضي ، أو تذهب تبحث عن ذاتك بجريمة تجترمها ، تريد أن تملأ فراغا أنت تجهل ما يمكن وضعه فيه ، تريد أن تسد فجوة وفجوة و فجوات ، لكن من غير طائل ، ما أشبهك بالدمية التي تمسكها صبية صغيرة ، ما أشبهك بكاترينا كوزيت تلاعبها و تحركها كيفما شاءت ، تلبسها ما أرادت و تزوجها بمن تهوى . الدمية لا محل لها في الاختيار ، أنت مثل دمية و أنت الدمية . أن تكون مشروعا فاشلا ، فلا تنجح في استثمار حياتك استثمارا يليق بكونك خليقة لرب مطلق ، و لهذا أنت خسران لا يريده الله ، هو بانتحارك يفرح بك ، لأنك أخيرا جعلت من حياتك مغزى و لوحة فنية عظيمة ، أما الجحيم فالحق أقول : جحيمنا الأعظم نحن المنتحرين أننا فشلنا فلم نعرف كيف نحيا ، و هو جحيم قبل القيامة ، هو جحيم هربنا منه بقتلنا لأنفسنا فلم نحتمل عذابه ، حتى إذا استوى هذا و هزل الجسد ووهنت غريزته و تضعضعت قوته للبقاء ، استحال العقل لسيد و رئيس عليه ليخبره بمذهب اللاجدوى في حياته كلها ، اللاجدوى في الاستمرار ، أن تحارب الكوليرا فتأتي الحصبة ، وأن تسقط الشيوعية فتنبجس الفاشية ، أن تحب أمك وغدا تنساها ، وان تقتل عدوك وغدا تقف على قبره تبكي ، كله هبل من الحلقات المفرغة التي لا صفة لها حقيقية إلا صفة التكرار و الاستمرارية دونما معنى . . . أن انتحر معناه أنني أقف ضد اللاجدوى ، أنني أتمرد فأضع حدا لهذه السلسلة المتصلة الفارغة من المعاني ، الوليدة التكرار و التكرار . تمردي بالانتحار هو إثبات لوجودي أنني خارج كل هذه القوالب و الأقفاص ، لست أسيرا لها ، بل سيدا عليها حينما انتحرت و تركتها . أنا أنهي أنفاسي في هذه الثانية التي أختارها . أنا أنهي أنفاسي بالطريقة التي أختارها . أنا أنهي أنفاسي لأنني لم أختر أن أوجد ضمن هذا العالم . أنا أنهي أنفاسي لأنني لا أريد استمرارية فارغة . . . المسألة كلها مسألة اختيار و إرادة فالمنتحر هو صاحب الاختيار المطلق لانه لا اختيار فيما عدا أن تترك الحياة كونك أتيت مجبورا مقهورا ، فأنا كيريلوف أعتلي قائمة الإنسان ، أنا كيريلوف السوبرمان لأنني استطعت تحقيق الفكرة الوحيدة التي يمكن من ورائها أن يقول الإنسان لفظة « أنا » .

أنا كيريلوف السوبرمان لأنني سأتلذذ باختياري الوحيد ، اختيار الانتحار ، لن أتأوه أو أتألم ، لن أطلق صيحة بل زغاريد ، هاهي نصلتي أمسكها ، ها أنا أنتحر بأشبع طريقة للدمى ، لكنها أدل طريقة على اثبات الاختيار ، أنتحر مخلصا لقضيتي و ذاتي ، سأنتحر بما يمكن أن يقال فيه أصعب وسيلة مؤلمة و مرهقة ، ولن تكون لي مؤلمة بل كالحلوى و لن تكون مرهقة بل هي رشيقة كالوردة ، لأنني أحب نصلتي ، ها قد جرحت معصمي ، ها قد بقرت بطني ، لذة أن أرى دمائي ، لن يشركني بشر في ملامسة دمائي الحمراء ، لن يشركني أحد في ازدياد نبض عروقي ، كله لي ، كله لذتي ، هي ليست دمائي أو عروقي النابضة من النزيف ، هي اختياري و إثباتي لذاتي ، هي الأنا التي فقدتها دوما و أنا على قيد الحياة ، أتذوقها الآن ، أتلذذها . . . ما أطعم هذا الدم في فمي ، ما أملحه ، ها قد طعنت رقبتي ، ها أنا أسقط ، السقطة من اختياري ، السقطة من ذاتي ، كله لي ، هي سمفونيتي التي عزفتها باختياري حقا ، بإرادتي الحرة ، و هاهي الظلمة تكبر و تتسع ، تتجه نحوي ، الظلمة من إرادتي ، كله لي . . . و الآن انتهى كل شيء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/