الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التغريب البريشتي وضرورة المسرح الملحمي

حكمت الحاج

2017 / 12 / 31
الادب والفن


لا يتعارض الفن مع الطبيعة، ولا الأدب مع الخطاب اليومي، فكل طرف يتحوّل إلى الآخر، وتجد الكتابة ذاتها مندرجة في شبكة من العلاقات بين الخطابات، وينبغي فهم اللغة، في تعدّديتها، وبهذا الصدد تتطابق نقطة وصول الحركة الشكلانية مع نقطة انطلاق "برشت".
ومنذ كتب "تزفيتان تودورف" عن "برتولت برشت" في كتابه "نقد النقد" وكتب "رولان بارت " في كتابه "بارت بقلمه" أنّه في كل أعماله حاول جاهدا أن يصل إلى ما وصل إليه "برشت".
لماذا هذه العودة الآن إلى "برشت" ومسرحه الملحمي خإصة في أوروبا الغربية؟
يبدو أنّ الجواب متضمّن في جملة "تودوروف" السابقة. إذ أن مركز اهتمام برشت في النهاية يقوم في نفس المركز الاهتمامي للشكلانية عموما، ألا وهو تعدّد مستويات اللغة، ونفي "الفردية" وإبعاد الإنسان..
ينبغي الانطلاق هنا من أحد جوانب المذهب "البريشتي" وهو نقده "للتماهي" والتماهي حسب تودوروف: معرفة للآخر عن طريق الحدس والاستبطان. فبرشت يأخذ على المسرح القديم غير الملحمي "الأرسطي" إنّ المشاهد فيه مدعو للتماهى مع الشخصية المسرحية وما يساعد على هذا التماهي هو التماهي المسبق الذي يحصل من قبل الممثّل مع الشخصية ذاتها.
والنتيجة: يمتزج الثلاثة في واحد. ويؤكد "بريشت" إنّ الفكر الكلاسيكي المسرحي لا يتصوّر شكلا آخر للتلقّي من جانب المشاهد وهذا ما يفسّر لماذا بقيت نظرية التطهير" الكاثارسيس" سارية المفعول. وللوصول إلى هذه النتيجة يجري سعي كبير لإبقاء المشاهد في "وهم" أنّ ما يشاهده هو جزء من الحياة وليس عرضا مسرحيا، ومن هنا سخرية برشت من توصيات "ستانسلافسكي" بخصوص الآثار العديدة للتوهيم: بدون الاستعانة بفن الممثّل المسرحي تكفي جرعة مناسبة من الكحول لجعل كل الناس تقريبا ترى أينما كان، إن لم يكن جرذانا فعلى الأقل فئرانا بيضاء.
وثاني جماليات المسرح الملحمي الجديدة من هذا النقد إذ ينبغي على المشاهد أن يبقى واعيا متحكّما بملكته النقدية وألاّ يستسلم لإغراء التماهي وان واجب الكاتب المسرحي والمخرج مساعدة هذا المشاهد في جهوده. ففيما يتعلق بالمؤلّف: عليه أن يمارس شكلا من تقديم العالم يقوم، بدلا من نقل الأشياء كما اعتدنا إدراكها، على جعلها بالعكس، غريبة غير أليفة، وعلى جعلنا نشعر "بالإغتراب.
ويستند "برشت" أولا إلى هذا الاضطلاع مستعملا كلمة "ابتعاد" وإنّما أيضا "استلاب" لكنّه وتحت تأثير الشكلانيين الروس وبشكل خاص بتأثير "شكلوفسكي" يغيّر الكلمة ليجعلها ترجمة دقيقة للكلمة الروسية التي تعني: التبعيد.
والآن، ما هو مفهوم "التبعيد" أو ما اعتدنا أن نسمّيه "التغريب"؟ وما هي الوسائل التي تؤدي إلى التبعيد؟
قبل كل شيء يعتقد" برشت" أنّ هذا المنهج مشترك بين جميع الفنون فيقول أنّ "سيزان" يعمل تبعيدا عندما يبالغ في التشديد على الشكل الفارغ لإناء.
وبصدد المسرح يقول "يكمن مفعول التبعيد في تحويل الشئ الذي يراد إفهامه ولفت الانتباه إليه من شيء عادي معروف، مباشر، إلى شئ خاص غير مألوف، غير متوقع، وبفضل مفعول التبعيد لا يعود المشاهد يتماهى مع الشخصية وتظهر ذاتان حيث لم تكن هناك إلاّ واحدة. إنّ النتاج اللغوي يحتوي على مستويات ومظاهر متعدّدة، إلاّ أنّ العرف الأدبي لكل عصر يجعلنا نربط بين هذه المستويات والمظاهر بشكل ثابت ومستقر، ويؤدي كسر هذه الترابطات والاحتفاظ ببعض عناصر التعابير الجاهزة وتبديل عناصر أخرى فيها إلى كسر الآلية في التلقي وبالتالي، الاقتراب من التبعيد، وذلك عبر الوسائل التالية:
1 إذا ذكر موضوع مستبدل بواسطة أشكال لغوية متكلفة.
2إذا عولج موضوع راق بلغة محكية بدلا من لغة أجنبية منقحة.
3 الإنتقال من الماضي إلى الحاضر، وبالعكس.
4 الإنتقال من صيغة المتكلم إلى صيغة الغائب.
وإلى جانب هذه التداخلات المتصلة ببنية النص ذاتها، يمكن أيضا العمل على إظهار ما وراء النص ثم القيام بإتاحة قراءة إشارات المؤلف المسرحية الموجهة مبدئيا إلى الممثّل وليس إلى المشاهد، وفي هذه الحالة يجري إسماع صوتين متزامنين، كل واحد منهما منزاح بالنسبة إلى الآخر.
ويوجد في المسرح إلى جانب هذه الوسائل النصية لإنتاج مفعول التبعيد، وسائل أخرى تتعلّق بالإخراج. فلأن المؤلف قد تماهى مسبقا مع الشخصية، يقوم المشاهد بذلك التماهي بدوره، ولهدم التماهي الثاني تجري مجابهة المؤلف إذن، ويصار إلى إقامة تعدّد الذوات مكان الوحدة. "لا يحدث مفعول التبعيد إذا ما قام الممثل الذي يجعل لنفسه وجها غريبا لمحو وجهه الحقيقي تماما فما ينبغي القيام به هو أنّ يظهر "تراكب الوجهين".
من جهة أخرى، يبيّن الممثّل عدم التطابق بينه وبين الشخصية، ويقوم بإسماع صوتين في آن معا وهذا ما يمنع بدوره المشاهد من التماهي مع هذه الشخصية، وعلى الممثّل أن يبقى استعراضيا، عليه أن يجعل الشخصية التي يعرفها كشخص غريب وألاّ يخفي في تمثيله كل أثر لـ "فعل هو ذلك، يقول هو ذلك".. عليه ألاّ يصل إلى حد التقمص الكامل للشخصية التي يعرضها فهو لا ينسى أبدا ولا يترك مجالا للنسيان أبدا بأنّه ليس الشخصية المعروضة ولكن المستعرضة.
بإمكان الممثّل بالإضافة إلى تغيير علاقته بالشخصية أن يرتبط بطريقة مختلفة مع المشاهد وبإمكانه أيضا أن يغيّر علاقته بنفسه وأن يظهر ذاته وهو يراقبها، ونتيجة لهذه الطرائق جميعا فان الممثّل بدلا من "تمثيل" أو "تشخيص" أقوال الشخصيات، فإنّه سيتلوها. يقول "بريشت": إذا ما تخلّى الممثّل عن التقمّص الكامل فإنّه لا يقول نصّه وكأنّه ارتجال، وإنّما كأنّه استشهاد أو اقتباس"
يعلّق "تودوف" لكن ما هو الاستشهاد إن لم يكن قولا لمتكلمين ووصفا يجري فيه نقل صوتين عبر كلام واحد؟
يمكن للمخرج أيضا أن يتدخّل مستعملا وسائل أخرى غير النص ويكون هدفه هو أن يستعمل كلا منها لتبعيد الآخر. ستتنافر الحركة مع النص، ممّا سيؤدّي إلى جعل المشاهد ينتبه إلى هذا أو ذاك او هذه وتلك، وهذا ما يحصل بالنسبة لإدخال الموسيقا والسينما والأقنعة والديكورات نفسها إلى المسرح.
إنّ الجواب الذي يعطيه بريشت غالبا عن السؤال حول ضرورة المسرح الملحمي هو عبر طرحه لهذه المسلمة: إنّ كل فهم وكل معرفة تتطلب فصلا بين الذات والموضوع، أي: تتطلب تبعيدا. وبالتالي فان المسرح الملحمي ليس فقط الشكل المناسب تاريخيا ولكنّه أفضل وسيلة لبلوغ الحقيقة.
أليس اعتبار أنّ شيئا ما يفهم وحده، هو بكل بساطة تخليا عن الفهم؟ ولكن هل المعرفة هي غاية الفن القصوى؟
يؤكد "برشت" هنا أنّنا نعيش في عصر علمي حيث تلتقي طريق الفن بطريق العلم. "لكي يصبح بإمكان جميع هذه الأشياء المعطاة أن تبدو للإنسان كأشياء مشكوك بها، عليه أن ينمّي هذه النظرية الغريبة التي راقب بها غاليلو مشكاة كانت تتأرجح أمامه.
يعتبر بريشت من أهم كتاب المسرح في القرن العشرين. ويقوم مذهبه على فكرة أن المشاهد هو العنصر الأهم في تكوين العمل المسرحي، فمن أجله تكتب المسرحية، حتى تثير لديه التأمل والتفكير في الواقع، واتخاذ موقف ورأي من القضية المتناولة في العمل المسرحي. ومن أهم أساليبه في كتابة المسرحية، أولا "هدم الجدار الرابع" ويقصد به جعل المشاهد مشاركا في العمل المسرحي، واعتباره العنصر الأهم في كتابة المسرحية. وثانيا: "التغريب" أو التبعيد كما ذكرناه آنفا، ويقصد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جعلها غريبة ومثيرة للدهشة، وباعثة على التأمل والتفكير. ثالثا: "المزج بين الوعظ والتسلية"، أو بين التحريض السياسي وبين السخرية الكوميدية. وقد يضاف الى ذلك استعمال بريشت لتقنيات أخرى من مثل استخدام مشاهد متفرقة، تقع أحداثها في أزمنة مختلفة، ولا يربط بينها غير الخيط العام للمسرحية. كذلك فإن بريشت كثيرا ما كان يستخدم الاغاني بين المشاهد وذلك كنوع من المزج بين التحريض والتسلية علما ان الأشعار تلك كانت له فهو الى ذلك شاعر مجيد ومعروف في لغته وثقافتها.
كتب بريشت أولى أعماله المسرحية وهي "بعل" Baal وكان متأثرا فيها بالتعبيرية. أما في مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة " والتي حققت له نجنحا عالميا، فقد كانت تتحدث بطريقة عفوية عن مبدأ "في البداية الطعام، ثم الأخلاق". وبعد استيلاء هتلر على الحكم، وإحراقه كتب الأدباء الذين لا ينتهجون نهجا نازيا، هرب من ألمانيا إلى الدانمارك، وعاش فيها في الفترة بين عامي 1933 و1939. ثم هرب إلى أمريكا حيث اجتاحت القوات النازية الدانمارك. وكتب في أمريكا أهم أعماله، منها نظريته عن المسرح الملحمي، التي نشرها بريشت عام 1948، بعنوان الأورغانون الصغير للمسرح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في