الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رومانسية سوداوية - قراءة في -أزهار الشر- للشاعر الفرنسي شارل بودلير

كلكامش نبيل

2018 / 1 / 7
الادب والفن


قرأت كثيرا من أشعار بودلير بشكل متفرق من قبل، لكن رغبة غريبة تولدت لديّ وأنا أقف تحت شجرة الدلب في الاسبوع الأول من هذا العام دعتني لقراءة مجموعته الشعرية "أزهار الشر" لأنني أشعر بذات الضجر والسأم الذي كان يلقي بظلاله على حياة ذلك الشاعر الفرنسي. صدر الكتاب أول مرة بالفرنسية عام 1857 وقرأت أنا ترجمته الى العربية من قبل حنا الطيار وجورجيت الطيار.

يقدّم للكتاب الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر وهو يحلل قصائد وأشعار بودلير وشخصيته وتجاربه النفسية التي تطغى على رؤيته الشعرية بالتأكيد. يضم الكتاب قصائد عن الحب والليالي الرومانسية – لكنها تصوّر بطرق مرعبة في كثير من الاحيان ملؤها الظلام والحزن والوحشية والدماء والمخالب والموت. يتأمل بودلير الطبيعة والقطط وطيور القطرس ويصف لنا رأيه في الشعراء وولادتهم ويتكلم عن موت الفقراء والفنانين. هناك جمال من نوع خاص وسوداوية طاغية وحضور للنهاية والموت في هذه الاشعار، وبالتأكيد فان قصيدة "صلوات للشيطان" هي الأجمل، ومع ان بودلير يردد كلمات تبدو وكأنها غير مرحبة بالاديان إلا انه يبدو مؤمنا بشكلٍ عميق على طريقته الخاصة.

عن ذاته يقول:
أنا غرفة انتظار عتيقة
مليئة بالورود الذابلة
يملؤها خيط عجيب
من أزياء فات زمنها
ولا يتنفس فيها عبير عطر مسكوب
الا الرسوم النائحة
ولوحات بوشيه الشاحبة

وعن الضجر يقول:
هناك واحد هو أشدّها دمامة وخبثاً ونجاسة
وهو، وإنْ كان قليل الحراك ضعيف الصوت
مستعدّ بجولة واحدة أن يصنع من الأرض أنقاضاً
وبتثاؤبة واحدة أن يبتلع العالم
إنه الضجر الذي يحلم بالمشنقة وهو يدخّن نرجيلته
وفي عينيه تلتمع دمعة لا إرادية

وفي قصيدة طائر القطرس يصف بولدير الشاعر بأنه "منفي بين الغوغاء" كحال الطائر الذي غادر مملكته في السماء بعد ان تم اصطياده.

وفي قصيدة يصف فيها الكثير من الفنانين العظماء راق لي ما كتبه عن رامبراندت:
رامبراندت Rembrandt)) أيها المشفى الحزين
المملوء بالهمسات
المزين بصليب ضخم تفوح منه الصلوات
من بين الأقذار ممزوجة بالدموع
لم يظفر من الشتاء إلا بشعاع مفاجئ

وعن شعوره النهاية والبشاعة حتى في ساعات الرومانسية، نقرأ، "يا مليكتي الوحيدة ليت يديك. تجعلان العالم أقل بشاعة. والثواني أقل ثقلاً." وعن شعوره بالحزن الدائم، نقرأ، "إلى أقبية لا يسبر حزنها نفاني القدر، أقبية لا يدخلها أبدا شعاع وردي فَرح فيها، أجلس وحيدا مع الليل هذا الضيف العابس كأني رسام حكم عليه أن يرسم واأسفاه على لوحة من ظلام."

وقد راقت لي هذه القصيدة بشكل كبير:
أيتها السماء الخريفية الجميلة الصافية الوردية
إن الحزن في نفسي يتصاعد كمدّ البحر
ويترك عند انحساره على شفتيّ المرّتين
ذكرى مُحرقة لطعم وحله المرّ
عبثاً تنزلق يدك على صدري المبتهج
فما تبحث عنه يا صديقي هو مكان خرب
دمره ظفر وناب امرأة متوحشة
فلا تبحثي عن قلبي : لقد التهمته الوحوش
قلبي عبثت به الغوغاء
فيه يسكرون ويتذابحون
يأخذ بعضهم بنواصي بعض
في حين يطوف حول عنقك العاري عبير منعش
أيتها الحسناء ـ يا مصيبة قاسية على النفوس
هذه هي إرادتك
وبعينيك الناريتين المضيئتين كالأعياد
أحرقي هذه المِزَق التي عفّت عنها الوحوش

وعن عجزه وضعفه نقرأ:
ما أشبهني بملك لبلاد أمطارها كثيرة
غني ولكن عاجز، شاب ولكن عجوز مهدم
يكره انحناءات مؤدبيه

وعن جلده للذات، الذي يتحدث عنه سارتر في تقديمه للمجموعة الشعرية، نقرأ:
أنا الجرح والسكين، أنا الخد والصفعة
أنا الجسد ودولاب التعذيب
أنا الجلاد والضحية
أنا مصاص دماء قلبي
وأحد هؤلاء المنبوذين العظام
الذين حكم عليهم بالضحك المؤبد
ولكن امتنع عليهم الابتسام

وعن تلاشي ملامح المدن، وهو موضوع يثير كل انسان يحب التاريخ والحضارات، نقرأ:
باريس القديمة لم يعد لها وجود، فشكل المدينة
يتبدل واأسفاه بأسرع ممّا يتبدل قلب الانسان

راق لي وصفه للذكريات عندما قال، "أعز ذكرياتي أصبحت أثقل من كتل الصخور". ورأيت في قصيدته عن العميان كنايات أخرى ذات بعد لاهوتي على ما أعتقد، حيث يكتب:
عن أي شيء يبحث في السماء
كل هؤلاء العميان

ومن قصيدته الأجمل بالنسبة لي "صلوات للشيطان" أقتبس لكم:
يا عكاز المنفيين ومصباح المخترعين
والكاهن الذي يتلقى اعتراف المشنوقين والمتآمرين
أيها الأب الذي تبنّى كل الذين طردهم الله الآب
بغضبه الأسود من جنة الفردوس
أيها الشيطان ارحم بؤسي الطويل
المجد والمديح لك أيها الشيطان
في أعالي السماء حيث كنت تسود
وفي أعماق جهنم
حيث تحلم بصمت بعد هزيمتك
دع نفسي تسترح يوماً بقربك
تحت شجرة المعرفة
في الساعة التي تنتشر فيها أغصانها
كأنها هيكل جديد

راق لي كلامه عن الرضا وهو يصف استقبال غروب الشمس بحب:
سعيد هو الانسان الذي يستطيع بحب
أن يودع غروبها الأروع من الحلم

وعن تفضيله للحزن في وجه حبيبته راق لي ما يلي:
ما همني أن تكوني حكيمة عاقلة
أريدك جميلة حزينة
فالدموع تضفي على الوجه السحر
الذي يخلعه النهر على الطبيعة

ختاماً، انها تجربة شعرية مميزة لم يسبق لي أن قرأت قصائد تماثلها في قوتها ورعبها وجمالها. من الغريب ان تمتزج كل هذه التناقضات في قصيدة واحدة، لكن بحث بودلير عن ذاته ورغبته في النظر اليها كشخص آخر وحضور تأملاته عن ذاته حتى في تأمله للطبيعة قد جعل جمع كل هذه التناقضات سهلا وممكنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هذه ليست قراءة بالأحرى عرض
أفنان القاسم ( 2018 / 1 / 8 - 18:00 )
عرضك جميل، العرض وطريقته أثارا عندي نوسطالجيا غريبة أشعر بها كلما قرأت بودلير، فجلده لذاته يسري سريان الكهرباء إلى ذات من يقرأه...

اخر الافلام

.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته


.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202