الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واحدة ابن زريق هل هي له حقا؟ مُطْلِقُ نفثاتها ثري أمير وما هو بصعلوك فقير

شكيب كاظم

2018 / 1 / 8
الادب والفن


سأفترض ان هذه العينية الانيقة الجميلة هي لابن زريق البغدادي او محمد بن زريق البغدادي وهذه تسميته الكاملة التي جادت بها علينا مظان الادب ومصادر تأريخه، سأفترض ان هذه الواحدة التي أُشُتِهرَ بها ابن زريق البغدادي والتي جاءت الينا تطوي حٌُجُب الزمان والمكان واظنها ستبقى من خوالد الشعر العربي على مدى الازمان طرا، هي من نظمه ومبتدعاته، ستبقى خالدة لما فيها من صور الشكوى وتصاريف الدهر وبلواه وآلام البعد والفراق.
ما تذكره المصادر بصدد هذه الواحدة الزريقية الانيقة، لا يعدو سطورا قليلة مفادها، ان مبدع هذه العينية رجل بغدادي عاشق، احب فتاة لم يستطع نوالها والاقتران بها، تتويجا لحبهما بسبب البون الشاسع ماديا بين الحبيبين فهو فقير الحال معدمه، وهي من بنات الاثرياء وسراة القوم، واذ إصطدم حبهما بهذا الجدار المُحِبط، ازمع عن بغداد رحيلا نحو بلاد الاندلس، عسى ان يجد فيها سلوى لتباريح الهوى وجوى الغرام لكنه مات دون بغيته ووجِدَت تلك القصيدة الرائعة تحت مخدته في مخدعه، ذاك البائس الفقير!!
لكن قراءة متأنية متفحصة سابرة لاغوار هذه القصيدة، توصلك الى نتائج تنسف هذه الرواية التي ظل الدارسون يتداولونها لدى حديثهم عن ابن زريق الشاعر، الذي وصفه مؤرخو الادب بالفقير المعدم، انها قراءة مغايرة لما تعاور عليه الدارسون، اذ اراه ثريا، من الاثرياء او ابن امير من امراء الدولة اعطي الملك فلم يحسن سياسته، ولعله أُقصِيَّ عن الحكم والامارة، فلم يشأ الافصاح عن نكبته المزدوِجة: فقدانه الامارة او الملك وفقدانه قلب الحبيب، وما اقساهما من فقد يورِث العلة والمرض المُفّضِيان الى الموت، يقول:
أُعطِيتُ ملكاً فلم احسن سياسته – كذاك من لايسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا – شكر الاله فعنه الله ينزعه
فهل هناك ابلغ من هذا التصريح، الذي تغافل عنه دارسو الادب ومؤرخوه؟ فهو قد اعطي ملكا، حكما، امارة لكنه – ربما – لانغماسه في العشق والغرام والتَوَّلُه لم يحسن القيادة والسياسة فأدى به ذلك الى ان يخلع من ملكه وامارته، وكيف وصفه الدارسون بالاملاق؟ وهو الذي يصف نفسه بلبس اثواب العز والنعيم المقيم، واذ لم يأبه لعظم الشأن هذا، وارى ذلك متأتيا من البحث عن اللذائذ مع المعشوقة، التي ربما انساه عشقها وولهه بها امور الدولة وثوب النعيم فادال الله نعيمه وعزه وابدله بالفقر والمسكنة.
شاعر من عامة الناس، لا يصف نفسه بانه كان مهتما بكبائر الامور، ومضطلعا بالخَطبِ يحمله اذن هو رجل دولة ورجل قيادة، عليه القيام بوجائبها لكن الفراق والبين ضيقا عليه اضلعه يقول:
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله – فضيقت بخطوب البين اضلعه
اذن فهو صاحب منزلة ومكانة جعلتاه يهتم بامور الدولة وسياسة امورها، مُضطلعا بخطوب الأحداث يحملها على كاهليه،
كما انه:
ما آب من سفر الا وازعجه – رأي الى سفر بالعزم يجمعه
يؤكد هنا بالتورية والكناية، يؤكد علو منزلته وسموها، فهو منشغل بالمعارك والحروب، للذب عن حياض الامارة او المملكة، مكنيا عنها بالسفر، فهو ما آب اي ما عاد من معركة الا وتهيأ لمعركة اخرى، شادا من عزيمته ومقويا شكيمته، فهو مسؤول عن حال الرعية وحال المملكة، فهو في دائم الحركة ما ان يعود الى عاصمة ملكه، حتى يغادرها نحو تخومها ورُبَطِها لمنافحة اعدائها والذب عنها، حتى لكأنه في دوام حله وترحاله، موكل بفضاء الله يذرعه، لقد اوكلت اليه مهمات القيادة، فيجب عليه ان ينجز ما كلف به على احسن الوجوه، قائلا:
كأنما هو من حل ومرتحل – موكل بفضاء الله يذرعه
والدليل على غشيانه المعارك والمنازلات دفاعا عن بلاده وملكه، ان له من لوعات النوى والفقد كل يوم ما يروعه، لقد خسر الكثير من احبائه وانصاره، في تلك المعارك حتى ان هذا الفقد والخسارة اصبحا سمة من سمات حياته وميزة من ميزاتها اذ قال:
يكفيه من لوعة التفنيد ان له – من النوى كل يوم ما يروعه
كما انه ما كان ضعيفا امام المعشوقة، بسبب الفقر كما قال الدارسون، بل هو ندٌ لها يحاورها ويساجلها في امور حياتهما، انهما يلتقيان وتتشبث به يوم ازمع رحيلا عن بغداد وعنها، تتشبث به وترجوه وتطلب منه ان لا يفارقها، وكان الدمع اسىٌ يخضل وجهيهما، انها قريبة منه قرابة منزلة، وقرابة رَحِم، وقرابة زمان ومكان هذا ما تُفصُح عنه الابيات الآتية التي يصب فيها اساه ونجواه، ليس هناك من بون بينهما في المنزلة الاجتماعية والمالية، واراه اميرا من امراء الدولة العباسية، اضر به العشق والغرام، فلم يستطع الى المحبوبة نوالا، بعد ان استطاع اليها عشقا وغراما، لكن ما استطاعا تتويج هذا العشق الى زواج وهناءة ورغد عيش، لاسباب نجهلها فغادر موطنه، وما يشاء ان يبوح بسره واسرار عشقه، حفاظا على سمعة خليلته، وحفاظا على مكانته من ان تلوكها السن العذال والشانئين، فارسل صرخته في وجه الزمن وليظل صداها يتردد ما دام هناك لسان بالعربية ينطق، وشاء ان يطلقها من دون نسبة، من دون ان ينسبها لنفسه ليجعلنا بعد الف سنة منشغلين بها – وسيبقى غيرنا منشغلا بها – بحثا عن ابيها، عن مبدعها تاركا اياها تتقاذفها الانواء والريح في بحر الشعر العربي، دون ان ترسو الى شاطئ او حسب ونسب، لكنها قطعا – وليس في العلم قطع وبت- ليست مما ابتدعه الرواة والدارسون واطلقوا عليه اسما موهِما محمد بن زريق البغدادي اذن فلنقرأ معا – عزيزي القارئ – هذه الابيات:
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه – يوما ويمنعه من حيث يطمعه
أُستودع الله في بغداد لي قمرا – بالكرخ من فلك الازرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني – صفو الحياة واني لا اودعه
وكم تَشَفَّعَ اني لا افارقه – وللضرورات حال لا تُشَفِعُه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى – وادمعي مستهلات وادمعه
وما يؤكد قربه البيت الاخير هذا فهو ما غادرها خلسة او عتمة ليل، بل غادرها ضحى، والنور ساطع وكان الدمع المستهل ابلغ لغة من كل الكلمات، وهل يحتاج الفراق والبين الى لغة، الى كلمات وحروف، لقد استعاضا عنها بلغة العيون، وهل هناك من لغة ابلغ من افصاح العيون عن المخبوء والمكنون وما ادراك ما افصحهما اذ رافقت تلك اللغة، لغة العين دموعُها.؟!!

حاشية:-
ما دمت قد تحدث عن هذه الواحدة الرائعة التي نسبها الدارسون الى محمد بن زريق البغدادي، فلابد ان نذكر لاهل الفضل فضلهم، مشيرا الى الجهد الجم الذي بذله الشاعر الباحث الاستاذ نعمان ماهر الكنعاني – امد الله في عمره – الذي اعده عينا من عيون الشعر العربي في العراق، في نشر واحدات أخر في شعرنا العربي، في ضمن كتابه الموسوم بـ(شعراء الواحدة) كتب مقدمة الطبعة الاولى الصادرة عام 1967 الاستاذ عبد الوهاب الامين – رحمه الله – وصدرت من هذا الكتاب الجميل طبعة ثانية عام 1985.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه