الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عفروتو المجني عليه!

سليم صفي الدين

2018 / 1 / 10
الادب والفن


خرجتُ من رحم أسرة ثرية، أبي أستاذ القانون بجامعة القاهرة، وأمي أستاذة الإعلام بجامعة عين شمس، ورغم هذا تمردتُ على سلطتهم، ولم أستغل اسم أيَا منهما يومًا.
درستُ القانون تأثرًا بأبي، وأنهيت دراستي بجامعة القاهرة بتقدير عام امتياز مع مرتبة الشرف، أول تمردي تمثل في رفض تعيني كمعيد، حيث أن دراستي للقانون كانت عشقًا، وعندما شاركت في ثورة يناير وأنا طالب آن ذاك، أحببت القانون أكثر، لإدراكي أن باستطاعتي الدفاع عن المظلومين، تأثرتُ بأستاذي نور فرحات، وبأبي بكل تأكيد، الذي نصحني بالإطلاع على كل ما كتبه فتحي سرور، رغم اختلافي وأبي معه، إلا أن والدي كان حكيمًا في الفصل بين الأمور، فقد قال لي: الراجل ده يا ابني علّامة، مش مهم تحبه أو تكرهه، المهم ما تخسرش علمه، هو استخدمه خطأ، وانت اتعلم وانصر الحق.
انضممت إلى أغلب منظمات المجتمع المدني، المعنية بالحقوق والحريات، وعندما أنهيت دراستي، وخابت مساعينا لتحقيق أهداف يناير، فتحت مكتبي الفخم بوسط القاهرة، بعد فترة تدريب قاسية جدًا، في مكتب والدي.
في هذه الفترة، كنت أذهب لفيلا المقطم كثيرًا، حيث الهدوء والراحة، وحيث ألتقي أنا ومعشوقتي سرًا، ففكرة الزواج مؤجلة بالنسبة لنا، حتى ننتهي أولًا من تحضير الماجستير، وعندما أمّلُ من القراءة والدراسة وحبيبتي ليست معي، أخرج مترجلاً حتى أصل إلى قسم المقطم، الذي يعمل به صديقي النقيب محمد، لأذهب إلى قهوة بلدي بجواره، حيث الروح المصرية التي لا أجدها في الأماكن الفارهة التي أجلس عليها دومًا.
تعرفت هناك على "عفروتو"، شاب أسمر جميل، خريج تجارة جامعة القاهرة، في العقد الثالث من عمره، يصغر عني بنحو ست سنوات، ومن خلاله عرفت الكثير من الشباب في هذه المنطقة، كنت بالنسبة لهم، شئ كبير وكانوا يفخرون بمعرفتي، لا أعرف الدافع وراء هذا غير القدرة المالية، لطالما كرهت المال، والرأسمالية، رغم أني ليبرالي، ولكن الدول التي تطبق رأس المال من دون قانون، في حقيقة الأمر تقنن الإحتكار والفساد، وتشجع عليه.
عفروتو كان الأقرب لقلبي، صرنا أصدقاء بسرعة كبيرة، وهو الوحيد الذي دخل بيتي، ودعوته لزيارتي في المكتب كثيرًا، وتسكعنا معًا في وسط البلد، كان هو وشلته يشربون أنواع مختلفة من المخدرات، وكان يدخن بشراهة، سألته: ليه بتعمل في نفسك كده يا عفروتو؟، يا حبيبي انت بتدمر نفسك!، إجابته لم ولن أنساها في حياتي: أنا يا باشا، معنديش فيلا زيك، ولا بابا وماما، لما تضيق بيا أروح لهم، أنا خلصت كلية التجارة، ودخلت الجيش، انت مدخلتش، ولما خلصت اشتغلت بـ700 ملطوش، رضيت الحمد لله، بس الهم مرضيش بيّ، ومن الشغل ده لده، 12 ساعة شغل، والآخر 1200 جنية، ورحمة أمي، ما بيكفوا سجاير، احنا بنشرب من القرف، طب أقول لك حاجة، أنا بشرب عشان أنسى، أني لما بشرب بدمر صحتي، أقول لك ايه ولا ايه بس!.
كلامه أوجع قلبي كثيرًا، ولكن لا جدوى من فلسفة القانون هنا، ولن تنفع المدارس الفلسفية المختلفة، أزمة دولة ومجتمع، سكتُ كثيرًا، حتى نبهني: رحت فين يا عم؟، لا يا حبيبي مفيش.
في هذه الفترة، كنتُ مشغولًا للغاية في قضية هي الأهم في تاريخي المهني، غبت عن عفروتوا نحو شهر كامل، لم أكلمه سوى مرات قليلة غبر الهاتف، وبعد أن انتهيت من قضيتي، التي ربحتها بفضل حبي لعلمي، فأنا لم أعمل بالمحاماة إلا لأني أعشق الدفاع، الدفاع دائمًا وأبدًا، وآهين لو آمنت بأن من أدافع عنه مظلوم، سأدافع عنه لآخر رمق، قابت عفروتو الذي ترك داخلي بصمة ألم، بعد كلامه الآخير معي، وعرضتُ عليه أن نفتح معًا معرض للأدوات الرياضية، فهو مهووس بالكرة والرياضة بشكل غير عادي، عندما سمع عرضي، جن جنونه، وكأني خرجت له من الفانوس السحري.
على مدار أيام، حددنا المكان، ودراسة الجدوى، ومن سيعمل معه، وكل شئ، بقى أن نمضي العقود، واشترط عليه، أن يوقف تناول الإكسروكس، ففاجئني: إكسروكس مين يا عم، انا هبطل سجاير أصلًا، وأرجع الجيم بقى، واظبط يومي، حلمي اتحقق، لازم أحافظ عليه!.
بعد ثلاثة أيام سنمضي عقود الإيجار واستيراد الشحنة، ونتفرغ لديكورات المعرض، وجه عفروتو كان منيرًا بشكل ملحوظ، والبهجة والفرح أحاطوا به، فجأة وهو يدخن سيجارة، قال لي: بص انا قلت هبطل سجاير، ومش هشرب حاجة شمال تاني، خد، ده الإكسروكس اللي معايا كله، ودي سجارة حشيش، ودي علبة السجاير، وعد شرف مش هقرب لحاجة تاني منهم، وانزل اجري بكرة وبعده، عشان انشط نفسي تاني، وافضى للشغل.. كنت فخورًا بأني أستطعت أن اقدم شيئًا حقيقًا لصديقي الأسمر الجميل، وخرج من عندي ذاهبًا إلى البيت في تمام التاسعة مساءً، عفروتو الذي لا يدخل البيت قبل الثامنة صباحًا، ذهب إليه قبل منتصف الليل.
بعد خروجه بساعة، أتصل بي أحد أصدقاء شلته:
- أيوه يا باشا؟
• ازيك يا محمد، مالك في ايه؟
- عفروتو اتقبض عليه، وهو دلوقتي في قسم المقطم
• اتقبض عليه ليه يا ابني؟
- اشتباه، وللعلم كان معاه مخدرات!
• يا نهار أسود طيب اقفل اقفل
انتفضتُ من مكاني مسرعًا، وفجأة وقفت، مخدرات!، مخدرات ايه اللي مع عفروتو، كل اللي كان معاه سابه معايا!.
غيرت ملابسي بسرعة، وبينما أفتح باب سيارتي لألحق به، رن هاتفي:
• أيوه يا محمد أنا في الطريق يا حبيبي أطمن، مش حرجع غير بعفروتو
- عفروتو مات يا باشا، قتلوه في القسم!
• انت بتقول ايه، انت مجنون؟
- اقسم بالله قتلوه، وانا اقسم بالله ما هسيب دم صاحبي، احنا بنلم بعض ورايحين على القسم
• يا ابني اهدى..
انقطع الاتصال!

أرحتُ ظهري على كرسي عجلة القيادة، وأنا لا أفهم ماذا أفعل؟، ماذا لو كان عفروتو يمتلك عملًا يوفر له حياة كريمة؟، من الذي سمح بدخول كل هذه المخدرات بكل هذه الأنواع الغريبة إلى مصر؟، الشباب الفاسد، الفاشل، الذي لا يريد أن يعمل، ويريد أن يحصل على مرتبات، وهو نائم على فراشه، عندما جاءت له فرصة حقيقية، تغير وتبدل في الحال؟، ماذا لو حُكمَ كل من يخالف القانون، بالقانون؟، لماذا لا يحاكم الضباط عندما يجرمون؟، والقضاه؟، ورجال الأعمال؟، لماذا يموت عفروتو، ثم يتهم أن بحوزة مخدرات، وأنا أعلم يقينًا بأنه برئ؟
وأنا لو ذهبتُ إلى القسم الآن، سأدخن سجارة الحشيش، التي تركها لي عفروتو، الذي تاب توبةً نصوح عن كل ما يضر جسده، في القسم؟!، وحتى لو كان بحوزة عفروتو مخدرات، هل يعني هذا أن يموت بفعل التعذيب؟، بدم بارد؟!
آهين يا صديقي، الآن عرفت، لا أستطيع الدفاع عن كل المظلومين، حتى وإن آمنتُ أنهم مظلومون!.

• ملحوظة: القصة من خيال الكاتب ولا تمت للواقع بصلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي