الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية-أنا قط-والتعبير عن التجربة الإنسانية ومستوياتها المُركَّبة

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2018 / 1 / 10
الادب والفن


يُعَدُّ الكاتب الياباني الرائد"ناتسومي سوسيكي"أو"ناتسومه صوسيكي"كما درج بعض الكُتَّاب على كتابته (1867-1916) الأب الشرعي للرواية اليابانية الحديثة التي خرج من معطفها عدد كبير من الأعلام الذين حملوا لواءها،وانضووْا تحت رايتها،من طراز:جونيتشيرو تانيزاكي- كان كيكوتشي- هياكين أوتشيدا- ريونوسوكي أكوتاغاوا- إيدوجاوا رامبو- ياسوناري كواباتا- يوكيو ميشيما- كنزابورو أوي- هاروكي موراكامي- ناتسو كيرينو- ريو موراكامي- بانانا يوشيموتو- يوكو أوغاوا...وسواهم،ممن رفدوا الأدب بنسغ للحياة جديد،وقد ظفر اثنان منهم بجائزة نوبل في الأدب وهما:"ياسوناري كواباتا"(1899- 1972)عام 1968،و"كنزابورو أوي"(1935- )عام 1994،كما خُصِّصت جائزة كبرى باسم أنجب تلاميذه؛ألا وهو الكاتب المرموق"ريونوسوكي أكوتاغاوا"،فازت بها يومًا الكاتبة اليابانية الموهوبة"يوكو أوغاوا"عن روايتها"الحَمْل"عام 1991.
وقد اكتسب"ناتسومي سوسيكي"- واسمه الحقيقي"ناتسومي كينونوسوكي"- فرادته وسبقه الأدبييْن من ثقافته العريضة ولغته الشاعرية المرهفة وتجربته الحياتية الثرية؛فخطا بالأدب الياباني خطوات غير مسبوقة؛حرَّرته مما رانَ عليه من جمود وتقليد وصنعة وترهل بلاغي سمج،ومنحه الدفء والعافية؛مما سمح للأجيال التالية له أن تَرودَ الطريق،وتُحطِم التابوهات،وتستروح نسائم الحرية،أو بلغة أهل التصوف لقد"أُسِّس هذا البنيان على الجِدِّ والاجتهاد،وقطع المألوفات والاعتياد".
ولا غرو في ذلك،فقد جمع"ناتسومي سوسيكي" في تكوينه الثقافي الأصولي بين الدراسة الأكاديمية للأدب الإنجليزي في إنجلترا؛مما أهَّله لشغل كرسي الأستاذية في مناحيه المتعددة،في جامعة طوكيو،وكان أول ياباني يتولى هذا الموقع،وبين الإبداع الشعري لقصائد الهايكو بطرائق الكانشي،وهو ضرب من الشعر الصيني،ومعالجة القصة والرواية،وكتابة المقالات الصحفية في جريدة"أساهي شيمبون"،مُحافظًا طَوالَ الوقت على ذلك البعد الحواري المتواصل بينه وبين أسئلة زمنه الذي عاش بين ظهرانيه،والإنصات إلى الإيقاع العميق للأشياء ومعناها المُضْمَر،واقتحام مجاهل النفس البشرية؛استجابة لحافز روحي وحسي،ونزوع جمالي،وسعي إلى حقيقة إنسانية شاملة،تُعطي منظورًا جديدًا للحياة وللوجود،على نحو ما نلمسه في رواياته التي رَبَتْ على الأربع عشرة رواية،ومنها روايته"أنا قط"التي سنتناولها بالنقد والتحليل في هذه الدراسة.
وُلد"ناتسومي سوسيكي"في مدينة"أودو"في التاسع من فبراير عام 1867،وتوفيَ فيها في التاسع من ديسمبر عام 1916 بعد أن تغيَّر اسمها إلى"طوكيو"،لكنه عاش طفولة قاسية،اختبرت الحرمان والوحدة،وعرفت الجفاء والنبذ من أب لم يبتهج بمجيئه،ولم يُحطه بما يستحقه من رعاية واهتمام؛أسوة بأخوته الخمسة الأكبر منه.وتركه يعيش زمنًا في كنف أسرة موسرة لم تُعقِّب، حتى بلغ التاسعة من عمره،ثم غادرها عندما انفصل عميداها بالطلاق؛عائدًا إلى والديْه الأصلييْن،على الرغم من عدم ترحيب أبيه بقدومه.لكن أمه ما لبثت أن تُوفيت وهو في الرابعة عشرة من عمره،ومات أخواه الأكبر منه عام 1887؛فأدركه القلق على حاضره وغده،وباتَ مُؤرَّق البال على حاله التي لا تعرف الاستقرار والهدوء والدَّعة شأن لِداته وأترابه.غير أنه التحق بمدرسة طوكيو المتوسطة،ودرس فيها الأدب الصيني الذي وَسَمَ الأدب الياباني بميسمه في بواكيره الأولى،عاكسًا أثره على قصائد الهايكو التي كتبها،وحملت إحساسه بعدم اليقين في عالم يتسم بالسيولة والتغير،وأخذ يُوقِّعها باسم"سوسيكي"؛وهي كلمة صينية تعني"العنيد"؛في إشارة،ربما،إلى صلابته وقدرته على تحدي الصعاب التي تواجهه،بالإضافة إلى رغبته الحَرَّى في احتراف الأدب.وقد ذكر الباحث البريطاني"ه.ر.بلايث"في مُجلده الأول"كلاسيكيات الهايكو..الربيع/ الصيف"،أن"لشعراء صينيين مثل hakurakuteu-toenmei تأثيرًا كبيرًا على الشعر الياباني".ورأى الناقد والشاعر"بدر الديب"في تقديمه ترجمة هذا الكتاب،أن أثر الشعر الصيني في الهايكو يتبدى"من خلال طريقتي الزن والطاوية اللتيْن جعلتاه ينتشر،ومن خلال قيمته الشعرية الخالصة بما فيه من عاطفية وحنين وإشارة إلى مشاق الحياة،واستحضار لما فيها من مجد،وهو ما استبعدته الروح اليابانية"،وأضاف:"لكن شعراء الهايكو اليابانيين تجنّبوا مثل هذه الموضوعات؛موضوعات تمجيد الحياة؛فلقد كانت هناك شلالات كثيرة في اليابان،ولكن كان هناك تجنب واضح لها.كما أن الطريقة التي استخدم بها شعراء الهايكو الشعر الصيني تختلف باختلاف الشعراء".بَيْدَ أن أسرته أبدت اعتراضها وعدم رضاها عن توجهه الأدبي،ودفعته إلى استكمال دراسته،فودَّ لو تخصَّص في"فن العمارة"؛نظرًا إلى شمولها حقولًا معرفية وفلسفية وعلمية وثقافية وتشكيلية عدة،يتزاوج فيها الجمالي بالروحي،بالاجتماعي،بالإنساني،في علاقة جدلية خلَّاقة،تشفّ عن كيفية التعامل وزاوية النظر إلى اللون والمادة والضوء والشكل؛وتعكس،من ثَمَّ،القدرة على التخيُّل والخلق.فلم يجد استجابة أيضًا من أسرته،فحزمَ أمره على الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة طوكيو؛بعد أن رأى أهمية اللغة الإنجليزية وقيمتها في ذلك الوقت،وأبدى تفوقًا ملموسًا في إجادتها وامتلاك ناصيتها؛مما هيَّأ له أن يكون مترجمًا نابهًا،ومدرسًا لها في عدد من المدارس الثانوية في جزيرتي شيكوكو وكيوشو جنوب اليابان إثر تخرجه؛وبذلك كفلَ لنفسه عملًا يُؤمِّن له دخلًا يكفيه ويُلبي احتياجاته.غير أنه فاز بمنحة دراسية من الحكومة اليابانية عام 1900للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من لندن؛ليعود في عام 1903ويُعيَّن أستاذًا في جامعة طوكيو،ويكون أول ياباني يشغل هذا الكرسي.غير أنه ظلَّ مخلصًا لهواه الأدبي،ولرغبته القديمة في احتراف الأدب.فجمع بين عمله الأكاديمي والكتابة الأدبية،وأصدر في السنوات الأربع التالية لعودته من لندن عددًا من الروايات المهمة وهي:أنا قط وبوتشان وعالم بثلاث زوايا.وفي عام 1907،استقال من الجامعة،وتفرغ للكتابة الصحفية في جريدة"أساهي شيمبون"،ونشر إبداعاته الروائية:سانشيرو،والبوابة،والمسافر،وكوكورو،وماوراء تشابه الليل والنهار،وعشب على جانب الطريق،والضوء والظلام الذي تُوفيَ قبل أن يُكملها؛ممَّا حفر اسمه عميقًا في تاريخ الأدب الياباني بخاصة،والعالمي بعامة،ودفع بلاده إلى تكريمه،ووضع صورته على ورقة من أوراق الين الياباني،فئة ال1000،في الفترة الممتدة بين عامي 1984و2007.
وقد امتازت كتاباته بالمشهدية والقدرة على التشكيل الدرامي للموقف،والتأمل الفلسفي في الحياة،عبر حسٍّ للسخرية راقٍ،يستبطن ماهو إنساني،مؤالفًا بين الفرد والمسئولية الأخلاقية،بين الضرورة والحرية،مقدِّمًا لنا بانوراما شاملة لمجتمعه الياباني بقيمه وحقائق تاريخه،ومخاض تحولاته،وهو ما عبَّر عنه بجلاء الكاتب الصحافي"باتريك سميث"في كتابه"اليابان..رؤية جديدة"قائلًا:"والصراع من أجل التعبير الحر عن الفرد صراع قديم،ظل مكبوتًا لفترات تاريخية طويلة؛ومن ثَمَّ فإنه أكثر وضوحًا في فترات (مثلما هو الآن) مما كان في فترات أخرى.وهذا هو السبب في أن الحياة في المجتمع الياباني مثيرة ومحبطة في آن.فمن المستحيل ألا تخامر المرء آمال كبيرة؛حيث يبدو اليابانيون وكأنهم على عتبة تغييرات هائلة.ومع ذلك،فإنه في غمرة التغيير،يبدو كأن شيئًا لايتقدم،أو أن الأمور تتقدم ببطء موجع.إننا بإزاء شيء يُشبه عقدة غورديوس التي حيَّرت أجيالًا من الغرباء- علماء وباحثين وديبلوماسيين ومفاوضين تجاريين ومراسلين- الأمر الذي يجعل التنبؤ بالمستقبل عملية غير مأمونة العواقب".ولعل ذلك ما وسمَ كتابات"ناتسومي سوسيكي"بمسحة سوداوية حدت بأبطاله إلى الوقوع فريسة للقلق وإيثار العزلة والأثَرة والركون إلى الماضي والافتقار إلى وعي تاريخي يُتيح لهم إعادة صياغة أنفسهم في ضوء جديد مُتصالح مع العصر.فقد عاش اليابانيون صراعًا حادًّا بين"استقلالية الفرد،والعائلة الممتدة الكبرى المعروفة باسم اليابان؛الصراع الذي لم يجد حلًّا،لا بعد الميجي،ولا بعد 1945،وهذا هو السبب الذي يجعل هذيْن المشروعيْن (الإحياء الميجي في 1868،والثاني بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية عام 1945؛حين تبنت اليابان نظامًا ديمقراطيًّا على الطريقة الأمريكية)على الرغم من كل ما حققاه،فاشليْن"،وفق ما ذهب إليه الكاتب الصحافي"باتريك سميث"الذي أضاف:انتهى المشروع الأول إلى تهور مأساوي،أما المشروع الاخر فيظل نوعًا من الفشل غير المعلن،ولا تسمح لغة الحوار المقبولة بيننا الاعتراف بذلك".
لكن- من ناحية أخرى- لعبت فترة الميجي (1868- 1912) بإصلاحاتها التحديثية،وحرصها على بناء دولة مركزية قوية،وإشاعة مناخ نهضوي على مختلف الأصعدة:فكريًّا وثقافيًّا وصناعيًّا،لعبت دورًا محوريًّا في تفتح موهبة"ناتسومي سوسيكي"وانطلاقها؛لتأخذ مكانها اللائق بها،بعد أن عاشت اليابان رَدَحًا طويلًا في عزلة قاتلة،وتفكك ذهب بريح مقاطعاتها،على أيدي"الباكوفو أو حكومة الشوغون السابقة"التي عصفت باستقلال البلاد،عبر اتفاقياتها غير المتكافئة مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا المختلفة.لهذا كان"إعلان مبادئ الإصلاح الخمسة في 14من مارس 1868"،وهو ما عرف بوثيقة (أوات)imperial OATH on the five principles،حدثًا تاريخيًّا له ما بعده،بنصوصه التي أكَّدت على أن:
1- كل القرارات أو التدابير يجب أن تُتخذ بعد نقاش جماعي للدفاع عن المصلحة العامة.
2- من حيث المبدأ،لا فرق بين أعلى وأدنى في اليابان،بل الجميع واحد،مع الحفاظ بدقة على التراتبية الاجتماعية.
3- من الضروري أن تتوحد السلطتان العسكرية والمدنية في يد واحدة؛بهدف حماية حقوق كل الطبقات والمصلحة القومية العليا معًا.
4- يجب التخلي عن التقاليد الشكلية القديمة،والعمل على إرساء مساواة طبيعية بين الجميع من دون تمييز.
5- اكتساب الثقافة والتعليم العصري في أي مكان في العالم،واستخدامهما في بناء ركائز الإمبراطورية اليابانية.
وبذلك أدى الانفتاح على الغرب الذي دشَّنه الإمبراطور"موتسوهيتو"،والنهل من ثقافاته وعلومه،عبر البعثات العلمية إلى إنجلترا وأمريكا وفرنسا وهولندا،وتأسيس حركة ترجمة كبيرة تستوعب الثقافة الإنسانية العالمية وتبني عليها،وفي الوقت ذاته،تحافظ على التراث الياباني،وتُوجِّهه صوب التوافق مع التحديث والتصنيع والتطوير؛أدى هذا كله،إلى تعبيد الطريق أمام"ناتسومي سوسيكي"وأضرابه للاطلاع على النصوص الأدبية العالمية،والتعرُّف على تقنياتها وشفراتها السردية التي تصوغ القانون الداخلي الذي يحكم أنساقها،وذاتيتها الحرَّة،وجماليات الصورة والتشكيل؛فأفاد منه في تطوير بنائه الدرامي،وخلق لغة شعرية جديدة ومختلفة،متمردًا على السائد ببنيته الاجتماعية والسياسية القائمة.
لذا جاءت روايته"أنا قط"التي صدرت عام 1906عملًا متفردًا يُفكِّك الزمن الأفقي؛ليُدخلنا في أزمنة وعوالم مختلفة تتقاطع مع بعضها بعضًا وتتشابك،خالقةً واقعها الخاص،مُسائلةً له ومُحاوِرةً لعالمه المرجعي التي تسعى إلى الاستقلال النسبي عنه.
تُسرد الرواية هنا على لسان قط؛تأسيًا،ربما، برواية الكاتب الألماني الرومانسي"إرنست تيودور فيلهلم هوفمان"( 1776-1822)المعروفة باسم"وجهة نظر القط مور في الحياة"،وفيها(رواية أنا قط") يتأمل أحوال الناس،وما يَندّ عنهم من سلوكيات،يرويها في إطار تحليل سيكولوجي يصوغ لحيوات أبطاله أفقًا فنيًّا،نتوصل من خلاله إلى سَبْر حنايا المنعطفات الإنسانية،وإزاحة النقاب عن الزوايا الشائكة في علاقة كلٍّ منَّا بالآخر،كاشفًا التعقيدات التي تمور بها النفس البشرية؛فجاءت الرواية مجلى عيانيًّا يسمح بتدوير الواقع على وجوهه كافة،واضعًا العالم المحيط به في عراء المجابهة.
وفي الحقيقة،أتى سرد الرواية على لسان قط جريًا على مأثور تقنية أدبية قديمة سار عليها الأدباء منذ سوالف الأزمنة،على نحو ما طالعناه في قصة الأخويْن المصرية القديمة،ومنطق الطير لفريد الدين العطار،وقصص ألف ليلة وليلة وعلاء الدين والسندباد،وكليلة ودمنة،وملاحم الحيوانات في العصور الوسطى،وحكايات الأخويْن غريم،وخرافات جان دي لافونتين،وإيسوب...إلخ،وما زال هذا التقليد ساريًا حتى يومنا هذا،كما نراه في بعض مؤلفات هانزكريستيان أندرسن،وفي أشعار أحمد شوقي،وقصص كامل الكيلاني،وروايتي الكاتب الإنجليزي الأشهر"جورج أورويل:الأسد ووحيد القرن،ومزرعة الحيوان...وغيرها.وقد لخَّص لنا"عبد الله بن المقفع"في عرضه كتاب"كليلة ودمنة"الهدف المُرتجى من وراء هذه التقنية فقال:
"ولم يزل العقلاء من أهل كل زمان يلتمسون أن يُعقل عنهم،ويحتالون لذلك بصنوف الحِيَل،ويطلبون إخراج ما عندهم من العِلل.فدعاهم ذلك إلى أن وضعوا هذا الكتاب (كليلة ودمنة)،ولخَّصوا فيه من بليغ الكلام ومُتقَنه على أفواه الطير والبهائم والسباع.فاجتمع لهم من ذلك أمران:أما هُم فوجدوا مُتصرَّفًا في القول،وشِعابًا يأخذون فيها.وأما هو فجمع لهوًا وحكمة.فاجتباه الحكماء لحكمته،والسُّخفاء للهوه.وأما المتعلمون من الأحداث وغيرهم فنشطوا لعلمه،وخفَّ عليهم حفظه".
وقد ذاع صيت قط ناتسومي سوسيكي حتى غدا استعارة أدبية شائعة الاستخدام،على نحو ما جاء في تضاعيف الحوار الذي أجرته"نيويورك تايمز"مع الكاتب التركي الحائز جائزة نوبل"أورهان باموق"،بتاريخ 11من نوفمبر عام 2012:"لقد قاضى أردوغان-وهو رئيس للوزراء- رسام كاريكاتير؛لأنه رسمه على شكل قطة،على الرغم من أن أيَّ شخص يأتي إلى هنا،يعرف أننا في إسطنبول نُحبُّ القطط"،وتابع بقوله:"أنا واثق بأن أردوغان سوف يستمتع برواية"أنا قط"للكاتب الياباني ناتسومي سوسيكي،وهي رواية عن الأخطار الشيطانية للإفراط في التغريبwestermization،وهي مرويَّة على لسان قط".
فإلى أيِّ حدٍّ يمكن اعتماد ملاحظة"أورهان باموق"التي وسمت رواية"أنا قط"بأنها عمل مفرط في التغريب؟
هل لأن هناك علاقة جدلية بين الألفة والغرابة،أو بتعبير الأكاديمي المغربي"د.عبد الفتاح كيليطو"في كتابه"الأدب والغرابة...دراسات بنيوية في الأدب العربي":لكن الوفاء لعالم الألفة لا يعني الانفصال الكلي عن عالم الغرابة.وإلَّا فلماذا يشعر السندباد بحاجة مُلحَّة إلى روايةِ تجاربهِ،ولماذا صار كل مَنْ سمع بقدومه يجيء إليه ويسأله عن حال السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيَه وما قاساه؟".
أين يبدأ الواقع،وأين ينتهي؟ ما العلاقة بين الواقع والمُتخيَّل،بين الشيء ووهمه،أم أن"ناتسومي سوسيكي"يرمي إلى خلق نصٍّ متوتر يُمسي أفقًا للاكتشاف بديلًا من التوكؤ على رؤى العالم الجاهزة؟
في الواقع..يَعمد"ناتسومي سوسيكي"إلى النفاذ إلى روح الأشياء،كاشفًا عن بنياتها النفسية والاجتماعية،وما يعتريهما من تصدع وتردٍّ،عبر مأساة قِطٍّ حُرِمَ من أبسط حقوقه الأساسية في الحياة،مُبرهنًا على أن العدالة لم يكنْ لها تاريخ في حياتنا.ولعل هذا ما عبَّر عنه"القط"في مونولوجه الذي افتتح به الرواية قائلًا:
"أنا قط،ولكن ليس لي اسم حتى الآن.لا أدري أين وُلدتُ،ولكن أول ما أتذكره عن نفسي،أنني وُجدتُ في مكان ما مبلل بالندى،واعترتني حالة دفعتني إلى البكاء والمواء.كانت هذه هي أول مرَّة في حياتي أرى فيها إنسانًا،وبعد ذلك سألتُ فعلمتُ أن ذلك الإنسان كان طالبًا،وأن الطلاب هم أكثرفصائل الإنسان شرًّا"،ثم يستطرد مُفصِّلًا ما حَاقَ به من ظلم:
"قلتُ لنفسي:لو بكيتُ فسوف يسمع الطالب بكائي فيأتي ليأخذني مرة أخرى؛فبكيتُ ولكن لم يحضر أحد لأخذي...".
ثم مضى في طريقه؛لعل الحظَّ يُسعفه بوجبة شهية تُبدِّد إحساسه المُضني بالجوع والبرودة القاسية،فخابَ فأله أيضًا مع الخادمة"أُصَنْ"التي تعمل في منزل أحد المدرسين،لكنه لم ييأس،فحاول مُغافلتها ودخول المنزل خلسة مَرَّاتٍ خمسًا أخرى،ولكنها ذهبت جميعًا أدراج الرياح،يقول القط:"وفي كل مرة أدخل إلى المطبخ،يجري الإمساك بي وإلقائي في الخارج،ومنذ تلك اللحظة كرهتُ هذه الخادمة؛ولذلك انتقمتُ منها بعد عدة أيام بأن سرقتُ أسماك الصوري الخاصة؛وبهذا شفيتُ غليلي،وفي آخر مرَّة أمسكتني،وكانت على وشْك الإلقاء بي،ولكن جاء سيد المنزل،وقال:ما سبب هذه الضوضاء؟ فقالت له:إن هذا الهِرَّ ليس له مأوى،دخل المنزل عدة مرَّات ولقد أخرجته،ولكنه يأتي مرارًا وتَكرارًا،وتعبتُ من حضوره المتكرِّر.فتحسَّس السيِّد الشَّعر الكثيف الموجود أسفل أنفه،وأخذ يُحملق في وجهي ثم قال:"اتركيه في المنزل".وبذلك أصبح له مأوى ومكان إقامة دائم لأول مرَّة في حياته،وأحسَّ بشيء من الأمان المؤقت.لكنه اكتشف أن وجوده غير مُرحَّبٍ به من قِبل الجميع،ماعدا سيد المنزل،وعادوْه مُذ لحظته الأولى لانضمامه إليهم،رافضين إطلاق اسم عليه،أوالتعامل معه ولو من باب الشفقة والرثاء لحاله الرَّث،ولم يعُدْ أمامه من سبيل سوى المكوث بالقرب من سيِّده،على الرغم من عدم ارتياحه أو حُبِّه له؛نظرًا إلى عدم تورعه عن ضربه على مؤخرته بالمسطرة ضربًا مُبرِّحًا؛إذا ما تسلَّل إلى فراش طفلتيْه التماسًا للدفء والراحة،واحتجَّا على وجوده معهما،وخاصة صُغراهما التي كانت تصيح بصوت عالٍ طالبة تدخله السريع،وتخليصها منه،وعلى الرغم من سماته (سيده) الشخصية التي تجعل التواصل معه صعبًا،بل مستحيلًا..فهو- كما يصفه القِطّ- زاهد في الكلام،يميل إلى العزلة والانطواء،يعتصم بوحدته وكُتبه،عالمه يكاد يكون محصورًا بين عمله مدرسًا،وبيته الذي اتخذ من مكتبته فيه صومعة يقرأ،بل يأكل وينام فيها،و"أحيانًا ما كان لعابه يسيل على كتاب كان يقرؤه،أو نام عليه في أثناء قراءته"على حدِّ تعبيره..شَرِهٌ في الأكل،على الرغم من أنه"ممعود"،أي مريض بالمعدة؛لذا يبدو لون بشرته شاحبًا،وهو من أعراض ضعف المناعة الذي يُفضي به إلى الكسل والخمول؛حتى إنه ما إن يقرأ بضع صفحات من أي كتاب،حتى يخلُدَ إلى النوم..دائم الشكوى من الإرهاق الذي تُسبِّبه له مهنة التدريس،على الرغم من كسله البادي؛الأمر الذي أغرى القِطَّ- لو حدثت المعجزة- بأن يمتهن التدريس يومًا مثله"إن عمل الأستاذ عمل مريح جدًّا،وإذا استطعتُ أن أُصبح إنسانًا،فلن أختار إلَّا أن أكون أستاذًا،وعلى الرغم من أنه ينام كثيرًا،فإنه استطاع أن يعمل أستاذًا؛وهذا يعني أن القطط أيضًا بمقدورها أن تكون أساتذة"،يقول القِطّ.لهذا خَلُص القِط من رحلته الحياتية معهم إلى نتيجة مُفادها"كلما عشتُ مع بني البشر ولاحظتُ تصرفاتهم،اكتشفتُ أنهم أنانيون،وخاصة الأطفال"،ثم راح يُعزِّز رأيه هذا بتجارب بني جلدته من القطط في هذا الصدد فقال:"وكلما قابلتُ القِطَّ الذي أحترمه واسمه"الأبيض"والذي يُقيم في المنزل المقابل لنا،شعرت بأنه لا يُوجَد مخلوق قاسي المشاعر مثل الإنسان؛فلقد رزقه الله أمس بأربعة أطفال دفعة واحدة،ولكن في اليوم الثالث من الولادة،قام الطالب الذي يعيش في ذلك المنزل بإلقاء هؤلاء الأطفال في البحيرة الموجودة خلف المنزل،فحكى لي ذلك وهو يبكي وقال:"إنه لكي يكون للقطط أبناء ويعيشوا حياة أسرية سعيدة،يجب أن يُحاربوا الإنسان حتى يقضوا عليه تمامًا"،ثم أضاف:"كما أن جارتي القطة"ألوان"قالت لي:"أنا غاضبة جدًّا من الإنسان؛لأن الإنسان لا يعترف بحقوق الآخرين في الملكية،ودائمًا يسرق منَّا الأسماك التي نحصل عليها قبله؛فينتزعها منَّا بالقوة وكأنها حقه".بَيْدَ أن القِطَّ تابعَ قائلًا:"الأبيض يعيش في منزل ضابط،وألوان تعيش في منزل محامٍ،وأنا أعيش في منزل أستاذ،وعندما أقارن حالي بحالهما أجد نفسي محظوظًا عنهما،ولكني أعيش اليوم بيومه وأشعر بالرضا عندما يمرُّ يوم ،ولا أعرف ماذا سيحدث في اليوم التالي"،وختم كلامه بما يطمئن نفسه،ويدعوها إلى الصبر والثبات:"ومهما كان الإنسان قويًّا،فإن دوام الحال من المحال،وليس أمامي إلَّا أن أصبر على الإنسان،إلى أن يأتي يومنا- نحن القطط- فنصبح فيه أسياد الدنيا ونحكمها".ولعل موقف هذا القِطّ وزميليْه من الإنسان وقسوته،وتبلُّد مشاعره نحوهم،يُذكرنا بموقف"شيخ المَعرَّة؛أبي العلاء المعريّ"من الإنسان الذي عَدَّه شريرًا وعدوانيًّا وجهولًا وأعمى عن رؤية الحقيقة بطبعه وأصله؛حتى إنه أوصى في إحدى لزومياته بألَّا يُصلَّى عليه؛إذ لا يمكن العثور بين الناس على تقيٍّ واحد يُمكن أن تُقبَل صلاته،أو تُعينَ أبا العلاء على عبور الصراط.غير أن"ناتسومي سوسيكي"يسعى من وراء مروياته هذه إلى البحث عن المعنى والمغزى؛من أجل فهم أعمق للناس وللحياة،على الرغم من هذه المشاهِد القاتمة،وهو ما يقودنا إلى الوعي الشامل بدلالة الدور الذي تُؤديه في التعبير عن الواقع ورقائقه،مُزيحًا النقاب عن واقع ملتبس يقف على الحافَّة بين الجِدِّ والهزل،بين العقل والجنون؛مما حدا يومًا بطالبٍ يدرس علم الجمال أن ينقل عن أستاذه في ندوةٍ عن الأدب الياباني،إحدى سخرياته التي يتندر فيها على هشاشة زمنه وامتلائه بالتدليس والادِّعاء،على أنها حقيقة جرت مجرى الحياة،ومؤداها أن"نيكولاس نيكلبي"بطل إحدى قصص"تشارلز ديكنز"نصح المؤرخ الإنجليزي"إدوارد جيبون"بأن يتوقف عن كتابة مؤلَّفهِ المشهور"تاريخ الثورة الفرنسية"باللغة الفرنسية،وأن يكتبه وينشره باللغة الإنجليزية،فأخذ"إدوارد جيبون"بهذه النصيحة؛ما أثار الضحك عليه،كما تذهب رواية"أنا قط"،لكن"ناتسومي سوسيكي" يسرد مفارقات مواضعاته العامة بمنأى عن أي زخرف لفظي أو بلاغي مترهل،مستخلصًا شِعريتها من جوهر الموقف الفني من دون تَعَمُّلٍ ولا اصطناعٍ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا