الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بِلا أُذُنَين!

ضيا اسكندر

2018 / 1 / 11
كتابات ساخرة


عندما وصل إلى البيت، استقبلته زوجته هاشّةً باشّةً كعادتها عند وصوله من عمله المضني. وبعد أن استبدل ثياب العمل وارتدى ثياباً أخرى ليرتاح قليلاً من عناء العمل الذي يستغرق جلّ يومه وهو يبيع الخضار على عربة خشبية يجول بها الأحياء الفقيرة. حاول الاستلقاء والتمدّد على الأريكة قبل أن يتناول وجبته الرئيسة، وإذ بزوجته تجلس إلى جانبه وتقول له بنبرةٍ هادئة وديعة:
- ماذا أقول لك، ها قد مضى على أم خليل أكثر من ثلاثة أشهر على إنجابها ولم نقمْ بواجب التهنئة على سلامتها والمباركة لها بقدوم ولدها البكر. أي والله عيب يا رجل!
أجابها وهو مغمض العينين:
- أمرك يا هانم، متى تودّين الذهاب أنا جاهز.
أجابته بلهفة:
- اليوم إن كنتَ ترغب، والهدية جاهزة اشتريتها منذ أسبوعين. بعد أن تتناول طعامك وترتاح نذهب سويةً هذا المساء. (وأضافت بإشفاقٍ وامتنان) المسكينة أم خليل صاحبة واجب، والله لا تترك مناسبة لنا إلا وتقوم بواجبها. بعدين يا رجّال الدنيا دين ووفاء..
دمدم باختصار وباستسلام وهو يدير ظهره إليها:
- طيب، طيب.. عند المساء نذهب. اتّصلي بهم واخبريهم. (وتثاءب بصوتٍ عالٍ).
إلا أن زوجته لم تكن تريد أن ينتهي الحديث عن الزيارة بهذا الاختصار، فأردفت:
- وينك يا رجّال، هناك موضوع يجب أن أنبّهك عليه، حتى لا تنسى وترتكب أخطاء مشينة كعادتك. ابن أم خليل كما تعلم وُلِد بدون أذنين. فقط يوجد فتحتان على جانبَي رأسه. دخيل اسمك يا ربّي لا نعلم ما هي حكمتك من هذا التشوّه! ويا حسرتي عليها ما زالت تغطي رأسه لتخفي أذنيه بقماط كلما زارها أحد. فهي محرجة جداً من هذه الخلقة.. ويسوؤها أن تُسأل عنها. لذلك أرجوك لا تقترب من هذه السيرة إطلاقاً. (اللي فيهم، كافيهم الله يعينهم).
عدّل الزوج من وضعيته بأن استلقى مجدداً على ظهره وأرخى ساعده على جبينه ليحجب عنه ضوء الشمس التي قاربت على المغيب وأجابها مستنكراً بكسل:
- ألهذه الدرجة ترَينَني غشيماً مغفّلاً عديم الإحساس بمشاعر الناس؟ فعلاً إنك غريبة!
ردّت عليه وكأنها تدفع التهمة عنها:
- لا، لا سمح الله، لكن رغبت بتذكيرك تحوّطاً للأمر. فأنت تنسى أحياناً هذه المجاملات، وتستميت لتقديم تعليقاتك وآرائك حتى لو كانت جارحة للمستمع..
قال لها بعد أن تثاءب للمرة الثانية إنما هذه المرة بصوت خافت:
- أيقظيني بعد نصف ساعة لأتناول الغداء..
* * *
قبل وصولهما إلى بيت أبي خليل، نبّهته زوجته للمرة الثانية أن يتوخّى الحذر في ألاّ يتطرّق إلى أُذنَيّ الوليد إطلاقاً. ردّ عليها بعبارات زاجرة بأنه ليس طفلاً لتكرر تعليماتها ونصائحها عليه.
استقبلهما أبو خليل بالترحيب الحارّ. وبعد عبارات العتب على قلّة اللقاءات ودفاع كل منهما للآخر، دخلت أم خليل غرفة الاستقبال وعلى حضنها طفلها، وقامت بدورها بالتأهيل والترحيب والشكر على الهدية. وحيث أن العادات في مناسبات كهذه، تقتضي أن تحمل الضيفة الوليد وتثني عليه بالمديح والتمنّي له بالعيش الرغيد وما إلى ذلك، فقد تلقّفته فوراً من حضن أمّه وبدأت بدلق العبارات التقليدية وهي تكاد تغرّد من فرط إعجابها بوسامته. وقرّبت الطفل من زوجها وهي تقول له:
- انظر يخزي العين، الله يحميه ويخلّيه لأهله، انظر ما أجمله! لمن تشبّهه؟
نظر الزوج نحو الطفل هنيهة ثم أومأ لزوجته بأن تسلّمه له ليقرأ بعض الأدعية. ووضعه بحضنه برفق وطفق يتمتم لحظات وهو مسبل العينين ثم بدأ يتمعّن به متفحّصاً؛ قبّل أنامله ملاطفاً وامتدّت يده إلى رأس الطفل وشرع يداعب خدّيه بِرقّة، ثم بدأ يزيح عنه الغطاء تدريجياً كلصٍّ محترف وهو يتوهّج فضولاً ليرى أذنيه المخفيتين. عندها هبط قلب زوجته رعباً مما قد تسبّب فعلته بما لا تحمد عقباه. وسرعان ما نهرته بلكزةٍ من كوعها على خاصرته مذكّرةً إيّاه بما اتّفقا عليه. انتبه الزوج، فتنحنح متململاً وتوقّف عن إزاحة غطاء الرأس وحكّ رقبته، ثم قال بصوتٍ منغّمٍ وهو يلعّب حاجبيه محاولاً أن يبدو طبيعياً:
- ما شاء الله، ما شاء الله، لا يوجد به عيب واحد! إنه آية من الجمال. يا إلهي كم يشبه أنفه أنف والدته، كما أن استدارة وجهه يذكّرني بجدّه الله يرحمه. أما عيناه العسليّتان فتشبهان عينَيّ والده تماماً. (توقّف هنيهة ثم أضاف وقد غابت بسمته) بالرغم من أن هذه الصفة ليست لصالح الطفل مستقبلاً.
وهنا انتفضت زوجته وقد بدأت أمارات الارتباك تتجلّى بوضوح على سحنتها مخافة انزلاقه بما حذّرته مراراً فتدخّلت بِوَجلٍ قائلةً:
- هات عنّك المحروس. (وأسرعت باختطاف الطفل من زوجها وأضافت بصوتٍ مرتعش) عيناه ما شاء الله مثل عينَيّ الغزال. وهنيئاً له أن يتشبّه بوالده.
أجاب الزوج محاولاً المستحيل أن يمحي من ذاكرته فكرة أن الطفل بلا أذنين، إلا أنها كانت تقفز وتومض في كل لحظة:
- ما اختلفنا، بس أبوه معه ضعف نظر وهو مضطر أن لا تفارق النظّارة الطبّية عينيه أبداً.
هنا تدخّلت أم خليل مهوّنةً الأمر وقد اتّشح وجهها بالتسامح:
- إلى أن يكبر خليل ويصبح بسنّ أبيه، فليضع عندئذٍ نظّارة طبّية.. ليست مشكلة!
تطلّع الزوج بزوجته وهمّ بالكلام. شعرت الزوجة بحدْسها أن زوجها على وشك اقتراف الجريمة التي لطالما نبّهته عنها. واشتعل القلق بداخلها ولم يعد بمقدورها مغالبة الاضطراب، فقرّبت فمها إلى وجهه وصرّت على أسنانها وهمست بصوتٍ مختنق:
«أرجوك، لا تنسى ما اتفقنا عليه!»
أحسّ الزوج بأن براكينه ستنفجر ما لم يبقّ بحصته، أو على الأقلّ يلمّح إليها، فأجابها بصوتٍ محتدٍّ مسموع:
- ولك يا بنت الناس، إذا اضطر الولد مستقبلاً لوضع نظّارة على عينيه، أين سيعلّق ذراعيها؟ بالهواء، أم بحاجبيه، أم بأنفه أم بـ..
انطفأ لون الزوجة تماماً وانكمشت وكادت أن تفقد وعيها. بينما الزوج فقد كان في أوج انشراحه وهو يزدرد في داخله فرحاً خبيثاً استبسل لتحقيقه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة