الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراع الديني - المذهبي في المشرق العربي المعاصر

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 1 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


إن الحروب الأهلية يمكنها أن تكون دينية وغير دينية. لكن الحقيقة العامة تقول، بان كل حرب دينية هي حرب أهلية بالضرورة حالما تجري ضمن الدولة الواحدة أو القومية الواحدة، لكن ليس كل حرب أهلية هي حرب دينية. وفيما يخص المشرق العربي، فان الصراع الديني فيه يجري في الأغلب (باستثناء نسبي وجزئي وعابر في مجرى الحرب الأهلية في لبنان) ضمن الدين (الاسلامي) الواحد. وهو صراع له تقاليده العريقة، لكنه كان في اغلبه متنوع المستويات، بوصفه جزء ملازما للإمبراطوريات والثقافات الكونية الكبرى. فتاريخ الأديان العالمية هو تاريخ صراع لا ينتهي، وذلك بسبب هيمنة العقيدة ونمط الذهنية اللاهوتية التي تجعل من كل اختلاف أو تباين "خروجا على الدين" و"هرطقة" و"زندقة" مع ما يلازمها من ردود متنوعة ومختلفة مرتبطة بمستوى التطور الثقافي ونوعية العقيدة المهيمنة.
فقد كان الإسلام الأول يقر بقدر من التنوع في الأديان في الجزيرة، ومع استتاب الدولة وعقيدتها الإسلامية الجديدة زمن الخليفة عمر بن الخطاب جرى رفع التوحيد إلى وحدة في الدين لا تقبل التنوع والتجزئة. وهكذا الأمر بالنسبة للأموية التي جعلت من الجبرية عقيدة الإسلام، ومن ثم أدخلتها في فكرة "السنة". وقد كانت تلك "سنة" سياسية صرف لان الجوهري فيها كان للجبرية السياسية، أو الاستبداد التام بالسلطة القبلية. لهذا كان بإمكانها قبول المجون والفواحش ومختلف الأديان، لكنها كانت تجعل من الخوارج والتشيع والقدرية (بذور المعتزلة) قوة "خارجة عن الإسلام". في حين طورت المرحلة العباسية فكرة الثقافة الإمبراطورية، مع ما لازمها بالضرورة من حرية المعتقد والتفكير، التي وجدت ذروتها الأولية في المعتزلة والصعود الفلسفي. بحيث تحول إرغام المعارضة على القول بجوهرية وأولية العقل إلى عقيدة "الإسلام الحق". بينما نراها تنتكس في مراحل متأخرة (زمن القادر بالله العباسي) لتصبح الحنبلية المتزمتة حقيقة الإسلام ومذهب السنة الوحيد المقبول، وكل ما عداها "زندقة" و"كفر" و"الحاد" يستحق الإذلال والقتل.
لقد كان هذا الصراع والتحول والاختلاف يتمثل في اغلبه تاريخ وتقاليد المشرق الثقافية العريقة، على عكس الجزيرة موطن الإسلام الأول، التي تميزت بخشونتها وطابعها العقائدي البسيط والمباشر والمحكوم ببنية تقليدية قبلية.
فمن الناحية التاريخية كان الانتقال الأول للإسلام من الجزيرة إلى ارض السواد والشام (العراق وسوريا) يعني انتقال العقائد الدينية المباشرة إلى مستوى العقائد اللاهوتية والفلسفية والروحية والثقافية. وقد ارتبط ذلك بحدثين كبيرين يمتلكان طابعا تأسيسيا بالنسبة للوجود والفكر على السواء، الأول وهو نقل مركز الخلافة إلى العراق الذي قام به الخليفة علي بن أبي طالب. والثاني نقلها من العراق إلى الشام الذي قام به معاوية بن أبي سفيان. وفي كليهما جرت حروب أهلية طاحنة، كانت تجري من حيث الجوهر بين تيارين، الأول اجتماعي إسلامي عام مثله علي بن أبي طالب وأتباعه المختلفون (من شيعة وخوارج)، وتيار عائلي قبلي يتمثل تقاليد الجزيرة (عائشة وطلحة والزبير في الحرب الأولى، ومعاوية وآل سفيان ومروان في الثانية. ومنهما تبلورت المعالم الأولية للتشيع والتسنن. الأول بوصفه حركة اجتماعية سياسية وأخلاقية مناهضة لنمط "الخروج على حقيقة الإسلام" والثاني يتمثل تقاليد العائلة والقبيلة وأولويتهما في العقائد والسياسة (فكرة القرشية بالنسبة للخلافة، وفكرة الجبرية الدينية والسياسية). وكلاهما ما زالا يؤثران في الوعي التاريخي والسياسي والديني حتى الوقت الحاضر، وذلك بسبب عدم نفيهما في منظومة تذلل هذا الخلاف عبر نقله إلى مستوى آخر من المرجعيات الثقافية الجامعة.
وقد استمر ذلك وتعمق في مراحل الانحطاط وانهيار المراكز الثقافية السياسية العربية الكبرى (بغداد ودمشق)، حتى انهيار الهيمنة التركية العثمانية. فقد أصبح الخروج الجديد للعالم العربي من تحت ركام السيطرة العثمانية والغزو الكولونيالي، المقدمة التاريخية لنشوء وبلورة وعي اجتماعي سياسي جديد مبني على أولوية الفكرة السياسية (الوطنية والقومية). وكانت هذه الفكرة تتمثل تجارب العالم العربي ودوله الحديثة في ظل صراع قطري وإقليمي وعربي عام. وإذا كانت اغلب عقود القرن العشرين أقرب ما تكون إلى صعود في هذا المجال، فانه اخذ بالتعرض للتثلم والتسويس والانهيار التدريجي حتى نهاية القرن، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها هو: هيمنة الراديكالية السياسية وصعود الهامشية بمختلف أشكالها وأصنافها، والصراع الحزبي الضيق على السلطة والجاه والمال بأثر ضعف الرؤية السياسية الاجتماعية، وفشل النموذج الوطني والقومي في الحداثة، والعوامل الخارجية الضاغطة لمراكز الكولونياليات القديمة والحديثة، والبؤرة الخربة للكيان الصهيوني وأخيرا انهيار الاتحاد السوفيتي وصعود الهيمنة الأمريكية. كل ذلك أدى إلى ظهور مراكز القوى المتنافرة في العالم العربي وتحلل فكرة الوحدة أيا كان شكلها ومحتواها. بحيث أصبح الصراع الداخلي هو الهم الوحيد للأنظمة السياسية، التي تحولت بدورها إلى نظام العائلة والعصابة.
إن هذا المسار المنحط من حيث خطوطه البيانية يعكس مضمون الانحطاط الفعلي الذي تعرض له العالم العربي في مختلف الميادين والمجالات، التي أدت في نهاية المطاف إلى انغلاق افقه المستقبلي. فمن الناحية المجردة انه يعكس مرور قرن من الزمن (العشرين) وانعدام التاريخ فيه، وبداية قرن جديد هو تفجير لما يختزن فيه من تحلل وفساد. الأمر الذي جعل من الصعود العنيف لمختلف القوى الظلامية الصيغة "الطبيعية" للمسار غير الطبيعي الذي قطعه العالم العربي في العصر الحديث. ولهذا السبب يمكن فهم الانقلاب المفاجئ والسريع والاستعداد له في حصيلة الثورات العربية التي قامت بها قوى اجتماعية مدنية، بينما جنى ثمارها من كان يقف بالضد منها (القوى الإسلامية). الأمر الذي يفسر سر الدعم المباشر والشديد من قبل المراكز الكولونيالية ودول الخليج النجدية، واحترابها فيما بينها من اجل انتزاع ما يمكن انتزاعه منها لمصالحها. وهذا بدوره يعكس النمو الفعلي في الصيرورة العربية التي جعلت دول الخليج النجدية تشترك في "صراع عربي" كانت على الدوام تخشاه وتبتعد منه وتتجنبه وتمول أعداءه الخارجيين من جهة، كما يعكس الحوافز الدفينة والجوهرية التي تميز العائلة النجدية الحاكمة وتقاليدها العريقة في السرقة والابتزاز، من جهة أخرى.
بعبارة أخرى، أنها أرادت سرقة "الربيع العربي" عبر تحويله إلى "خريف إسلامي" (خرافي)، وابتزاز القوى الوحيدة الباقية في العالم العربي والمتمثلة لتقاليد المقاومة والتحدي (سوريا والعراق ولبنان واليمن). من هنا يمكن فهم الشراسة المتنوعة المستويات والأشكال في إثارة النعرة الطائفية والاستعداء السني - الشيعي الذي تطفح به كل أجهزة الدعاية المرئية والمسموعة والمكتوبة والدبلوماسية العلنية والسرية والتمويل "السخي" لمختلف القوى اللاعقلانية والبدائية، وأخيرا مختلف "العواصف" الرملية وجراد المرتزقة والارتزاق! بحيث بلغ الأمر حده الأقصى من التخلف والانحطاط المعنوي والعقلي الذي جعل من وهابية البترودولار الممثل الوحيد "للإسلام السني" و"السنة"، ومن "إيران المجوسية الصفوية" الممثل الوحيد "للإسلام الشيعي" و"الشيعة". وفي كلتا الحالتين نعثر على تجن بليد على الحق والحقيقة والتاريخ والواقع، لكنها تعكس الأفق المسدود لقوى الجزيرة النجدية، والصعود المحتوم للمشرق العربي المدني لكي يقود العملية التاريخية للمستقبل العربي الأفضل.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر