الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التدبير المندمج للموارد المائية والتنمية المستدامة: جرد لأهم الأدبيات الاقتصادية

ماريا الغزاوي وابراهيم منصوري

2018 / 1 / 16
الصناعة والزراعة


ملخص:
منذ زمن غير بعيد، ركزت النظرية الاقتصادية أساسا على الفرضية التي بموجبها لا تتحقق التنمية إلا عن طريق الربح الاقتصادي. إلا أن هذه الفرضية لا يمكن قبولها إلا في حالة ما إذا كان من الممكن اعتبار التنمية مسلسلا غير مستدام. وغلى هذا الأساس، فإلى جانب النظرية النيوكلاسيكية المعروفة، فإن الاقتصاد الإيكولوجي يعتبر في الوقت الراهن من أهم الحقول المعرفية في مضمار اقتصاد البيئة والتنمية المستدامة. تسعى هذه الورقة البحثية بعد عرض الأسس النظرية وتناقضات الأبحاث حول التنمية المستدامة إلى رسم معالم برنامج بحثي يتوخى بلورة اقتصاد اجتماعي للبيئة والتنمية المستدامة ينبني أساسا على التدبير المندمج للموارد المائية. وسنسعى في إطار ورقة بحثية قادمة إلى دراسة حالة إقليم الرحامنة بالمغرب وذلك من أجل معرفة ما إذا كانت الوضعية الحالية للموارد المائية بالإقليم المذكور ناجمة عن نقص مطلق كما أوكيفا أو عن التدبير السيئ لهذه الموارد.

مصطلحات أساسية: التنمية المستدامة، المخاطرة، التدبير المندمج للمياه.

مقدمة:

تعتبر التنمية المستدامة في الوقت الراهن مصطلحا ذائع الاستعمال. وعلى أساس هذا المصطلح، تصاغ وتنفذ سياسات اقتصادية عديدة سواء في البلدان المتقدمة أو تلك السائرة في طريق النمو؛ كما أنه يستخدم في إطار خارطة طريق للمؤسسات الدولية طبقا لما يشير إليه على سبيل المثال تبني أهداف الألفية للتنمية سنة 2000. إلا أن هذا الإجماع الظاهر يستدعي توضيحا أحسن لمضمون التنمية المستدامة حتى لا يبقى في خانة المفاهيم الملتبسة (Berre, 2009).

وفي هذا الإطار وطبقا للباحث Godard (2004)، يمكن التمييز بين ثلاث مقاربات أساسية في ميدان التنمية المستدامة واقتصاد البيئة: النظرية الاقتصادية التقليدية (Standard Economic Theory) والاقتصاد الايكولوجي (Ecological Economics) واقتصاد البيئة الاجتماعي (Environmental Socioeconomics). وتسعى المقاربة التقليدية (Standard Approach) منذ أوائل ستينيات القرن الماضي إلى بلورة فكر اقتصادي خاص بالبيئة والموارد المائية وذلك بتوسيع منطق النظرية الكلاسيكية ليشمل مواضيع جديدة في حقل ندرة الموارد (Scarcity of Resources). أما بالنسبة للاقتصاد الايكولوجي فهو يطمح مبدئيا إلى تجديد الفكر الاقتصادي ليتأقلم مع الإشكالية البيئية. وفي ما يتعلق بالمقاربة الثالثة التي سماها Godard بالاقتصاد الاجتماعي للبيئة والتنمية المستدامة فهي لا تشكل مدرسة فكرية مستقلة بل تجميعاً لتنظيرات متفرقة يجمعها الترابط المتين بين السلوكيات المتعلقة باستخدام الموارد المتاحة والمؤسسات والثقافات مع اعتبار هذه الأخيرة وسائط ضرورية بين الاقتصاد والطبيعة (Daoui and Vivien, 2009).

تتمحور هذه الورقة البحثية حول المقاربة السوسيو – اقتصادية الوليدة ذات المرجعية والحدود المترددة والتي تستمد أصولها من الفكرة الشائعة حاليا والمتمثلة في ضرورة إشراك الساكنة في مسلسل التنمية الاقتصادية. إلا أن الظروف السوسيو – اقتصادية لاستخدام المياه تغيرت كثيرا منذ بداية القرن وذلك نتيجة للنمو الديموغرافي السريع والتحسن المتواصل لظروف عيش السكان والتمدن المتنامي والتوسع في استعمال الري والتقدم الصناعي. وقد أدى هذا التطور السوسيو – اقتصادي السريع إلى ضغط كبير على الموارد المائية بفعل الزيادة غير المسبوقة في الحاجيات المائية والفوارق الجهوية وتفاقم المشاكل المرتبطة بالتلوث الحاد للمياه (Sighomnou and Naah, 2009). وتدخل هذه الاعتبارات الأساسية في إطار سياق يتسم بالضغط المتواصل والمتنامي على موارد مائية محدودة مع اشتداد المنافسة على استخدامها. إن احتدام هذه المنافسة على المياه خاصة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي هو الذي فرض تدريجيا ضرورة الانتقال من تدبير قطاعي (Sectoral Management) أو مشروعاتي (Project-Based Management) إلى تدبير مندمج للمياه يأخذ بعين الاعتبار كل الموارد والحاجيات المائية والارتباطات بين تنمية المياه والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بصفه عامة من جهة وأهمية المحافظة على الوسط الطبيعي من جهة أخرى.

تحتاج المجتمعات العصرية إلى أدوات فعالة وناجعة وذلك للمساعدة على اتخاذ القرارات اللائقة في ميدان تدبير المياه وتنظيم استخدامها والحيلولة دون إهدارها. ويستدعي هذا معرفة دقيقة بالموارد والحاجيات المائية بالإضافة إلى أهمية صياغة نماذج محاكاة (Models of Simulation) من أجل بلورة سيناريوهات للتدبير الأمثل وقياس محاسنها ومساوئها. وقد بزغ التدبير المندمج للموارد المائية في كنف التنمية المستدامة التي تأسست على مبادئ أهمها "التفكير كلياً، التحرك محلياً" (Think Globally, Act Locally).

من أهم مرامي هذه الورقة البحثية دراسة العلاقة بين التنمية المستدامة والتدبير المندمج للموارد المائية. وتتمحور إشكالية الدراسة في أهمية معرفة ما إذا كانت هذه الأوضاع المتناقضة ناجمة عن النقص المطلق (َAbsolute Shortage) في الموارد المائية كماً أو نوعاً أم هي نتاج لتدبيرها السيئ. ولهذا الغرض ارتأينا إلى التركيز في المبحث الأول لهذه الورقة حول مفارقات التنمية المستدامة قبل التطرق في مبحث ثانٍ إلى هذه الإشكالية في علاقتها بالمجتمعات الاستهلاكية المعاصرة، مع العلم أننا سنحاول في إطار ورقة بحثية قادمة أن نوضح الدور الذي يمكن أن يلعبه التدبير المندمج للموارد المائية في التنمية المستدامة بإقليم الرحامنة المغربي، وذلك باتباع منهاج استقرائي مبني على نموذج نظري استقيناه من الاقتصاد الاجتماعي للبيئة وتحليل متغيرات نوعية.

1. مفارقات التنمية المستدامة:

من المعروف أن العقلانية الفردية (Individual Rationality) لا تقود حتماً إلى العقلانية الجمعية (Collective Rationality). فالمجتمعات الاستهلاكية المعاصرة المتشبثة بأنماط عيشها تميل غالبا إلى تفضيل التغيير في ظل الاستمرارية. إن كل فرد (وكل بلد أيضاً) لا يرى من صالحه تعديل سلوكه إلا إذا عدل الآخرون سلوكهم، مما ينتج عنه سياق لاحركي (Inaction) يتميز أساسا بالتباعد بين الإشارات الاستعجالية حول أهمية التنمية المستدامة والتدابير الخجولة المتخذة في هذا المضمار؛ وهذا ما يبين أن للتنمية المستدامة مفارقات صارخة.

يعرف تقرير Brundtland التنمية المستدامة بكونها التنمية "التي تلبي حاجيات الأجيال الحالية دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجياتها الخاصة" (Little and Edwards, 2005). يبين هذا التعريف المبسط أن الأهداف الرئيسية للتنمية المستدامة تتمثل في العدالة (Equity) والإنصاف بين الأمم والأجيال والأفراد بالإضافة إلى السلامة الإيكولوجية (ُEcological Integrity) والفعالية الاقتصادية (Economic Effectiveness). ولذلك فإن تجسيد هذه الأهداف على أرض الواقع يستند إلى أهمية التنمية الاقتصادية على المدى الطويل (Long-Run Economic Growth) دون المساس بما هو بيئي واجتماعي. ويعني هذا أن أنماط الإنتاج والاستهلاك يجب أن تعمل على احترام البيئة وتمكين ساكنة العالم من تلبية حاجياتها الأساسية. إلا أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة تعترضه صعوبات شتى بما فيها التزاحم بين الركائز الثلاث للتنمية المستدامة والمتمثلة في العوامل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ وهنا، على سبيل المثال، يمكن إدراج القوانين الإيكولوجية التي تحد من إنتاج بعض السلع.

الإشكالية الثانية تخص مفارقة الإلحاحية الإيكولوجية (Ecological Emergency) والمدى الزمني الطويل الضروري لتغير المجتمعات. وفي هذا الإطار، يرى Pierre Jacquet ، الرئيس الحالي للوكالة الفرنسية للتنمية الدولية، أن صناع القرار يجب عليهم التركيز على المسائل المستعجلة وعدم الإفراط في الاكتراث بالسيناريوهات الكارثية (Fumet and Mingasson, 2012)، لأن الإكثار من دق ناقوس الخطر من شأنه أن يثبط الإرادات الحسنة ومن ثمة زرع الخوف في الرأي العام المحلي والدولي.

أما الإشكالية الثالثة في إطار مفارقات التنمية المستدامة فتتمثل في التناقض السافر بين تنمية مستدامة مشجعة للحد من الاستهلاك والنموذج النيوليبرالي المعتمد على قوة النمو الاقتصادي (Economic Growth). إلا أنه بالرجوع إلى المبادئ الأساسية لمقاربة التنمية المستدامة، يرى المرء أن الهدف الأسمى لا يتناقض مع النمو الرأسمالي المبني على تراكم الثروة (Wealth Accumulation) طالما أن التنمية المستدامة تطمح في الأساس إلى تحسين رفاه الإنسان (Human Well-Being). ويعني هذا أن التنمية المستدامة هي في الحقيقة مفهوم جديد لإنتاج الثروة مع التركيز على سلوك الأفراد والجماعات والاكتراث بالتكلفة التي تتحملها البيئة بصفة خاصة والمجتمع على وجه العموم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القضية الأهم تتجسد في تحسين الإنتاج دون استبعاد إمكانية الارتباط الوثيق باقتصاد السوق (Rousseau and Zuindeau, 2002). وفي هذا الإطار، فإن الجهود المبذولة لتخفيف الآثار السلبية للإنتاج الرأسمالي على البيئة قد لقيت دعما متواصلا من طرف منظمات وطنية ودولية، إلا أنها ما فتئت تلقى رفضا من طرف بعض البلدان التي ترى أن بعض الاستثمارات التي تقوم بها ضرورية وهامة رغم مفعولها السلبي على البيشة والتنوع البيولوجي.


2. نحو تنمية مستدامة: هل سيتسنى لمجتمع استهلاكي أن يعرف تنمية مستدامة؟

إن استدامة التنمية غالبا ما تعتبر إشكالية كبرى لا يمكن اختزالها في البعد البيئي لوحده بل هي في الأساس تترابط فيها مظاهر متعددة اقتصادية واجتماعية وبيئية. ومن أجل مجابهة هذه الإشكالية المتعددة الأبعاد، فإن المبدأ الأساسي لاستراتيجية التنمية يتمثل في أن الاستدامة يجب أن ترتكز على الترابط المتلاحم بين الدعامات الاربع (Debref, 2016)، أي التنمية الاقتصادية (Economic Development) والعدالة الاجتماعية (Economic Justice) والمحافظة على البيئة (Protection of Environment) والحكامة الجيدة (Good Governance).

وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن البيئة والثقافة والتنمية مترابطة ارتباطا وثيقا مما يحتم على صناع القرار في إطار مقاربة تشاركية مع الأفراد والجماعات تكثيف الجهود من أجل العمل على بلورة وتنفيذ برامج طموحة تستهدف التنمية المستدامة لما فيها من خير عميم للأجيال الحالية والقادمة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يتحتم خلق مناصب شغل على نطاق واسع وتخفيف حدة الفقر رغم أن هذه الأهداف ترتبط بسياسات تتجاوز استراتيجيات التنمية المستدامة. أما على المستوى الاجتماعي، فإنه من الأهمية بمكان أن يتحسن المستوى العام للعيش مع تمكين الساكنة من ولوج الخدمات الأساسية والموارد المالية والمساواة بين الجنسين والعدالة بين الأجيال.

كما أن تنفيذ استراتيجية متكاملة للتنمية المستدامة تستدعي تحسين الحكامة ونظام العدالة (Judicial System) وحقوق الانسان (Human Rights). وعلاوة على هذا، فيجب تشجيع المقاربات المرتكزة على التنمية المحلية ومشاركة المجتمع المدني والقطاع الخاص. كما أن التنمية المستدامة يجب أن تعتمد على مبدأ الاعتماد على النفس (Self-Reliance) الضروري للاستقلال الذاتي وبزوغ أنماط إنتاج بديلة تأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي والثقافي والايكولوجي الخاص بكل بلد بل بكل جهة داخل بلد معين، مع التكفل العادل بالحاجيات الأساسية المادية وغير المادية للأفراد.

3. ملاحظات ختامية:

تطرقنا في هذه الورقة البحثية إلى الأسس النظرية للتنمية المستدامة في علاقتها بالتدبير المندمج للموارد المائية. على وجه الخصوص، حاولنا أن نبين أهم مفارقات التنمية المستدامة وكيف يمكن للمجتمعات الاستهلاكية المعاصرة أن تصالح بين تحسين الإنتاج والمحافظة على البيئة دون استبعاد إمكانية اندماجها في اقتصاد السوق.

بعد هذه الورقة النظرية، سنحاول في ورقة قادمة التطرق إلى حالة إقليم الرحامنة بالمغرب وذلك من أجل معرفة ما إذا كانت الوضعية الحالية للموارد المائية بالإقليم المذكور ناجمة عن نقص مطلق كما أو كيفا أو عن التدبير السيئ لهذه الموارد.

• المراجع:

Berre, E. (2009), “Le développement soutenable dans une perspective post-keynésienne : retour aux sources de l’écodéveloppement”, Economie Appliquée, Tome LXL, N°3.

Daoui, A. and Vivien, D. (2009), “Economie écologique et économie hétérodoxe: pour une socio économie de l’environnement et du développement durable”, Economie Appliquée, Tome LXL, N°3.

Debref, R. (2016), “La justice climatique mondiale”, Economia, 6-2.

Fumet, O. and Mingasson, A. (2012), “Coopération internationale : éléments d’une politique progressiste”, Projet 2012, contribution 11, TerraNova , Fondation progressiste.

Godard, O. (2004), “La pensée économique face à la question de l’environnement”, Cahier N° 2004/025, http://www.ceco.plytechnique.fr

Little, D.C. and Edwards, P. (2005), Systèmes agricoles intégrés bétail-poisson, Organisation des Nations Unies pour l’Alimentation et l’Agriculture (FAO), Rome.

Rousseau, S. and Zuindeau, B. (2007), “Théorie de la régulation et développement durable”, Revue de la Régulation , mis en ligne le 11 juillet 2007, URL : http://regulation.revues.org.

Sighomnou, D. and Naah, E. (1997), “Regional Hydrology: Concepts and Models for Sustainable Water Resource Management”, Proceedings of die Poslojna, Slovenia, Conference, September-October.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبنان.. مزيد من التصعيد بين إسرائيل وحزب الله | #غرفة_الأخبا


.. ماذا حققت إسرائيل بعد 200 يوم من الحرب؟ | #غرفة_الأخبار




.. قضية -شراء الصمت-.. الادعاء يتهم ترامب بإفساد انتخابات 2016


.. طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة يهتفون دعما لفلسطين




.. قفزة في الإنفاق العسكري العالمي.. تعرف على أكبر الدول المنفق