الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتنبي كأنك تراه

مهدي شاكر العبيدي

2018 / 1 / 16
الادب والفن



في مهرجان المتنبي المقام في بغداد في سبعينيات القرن الماضي ألمح الجواهري في خطبته إلى أنَّ العرب عرفوا في تاريخهم شعراء غير المتنبي يبارونه في عبقريته الشِّعرية وما خلص له من أغراض في الحكمة وتصوير الحالات النفسية ، وصولا ً إلى المعاني الباقية على تمادي العصور لكنـَّهم لمْ يشغلوا الدَّارسين بتقصي أسبابها ودوافعها بمثل ما شغلهم هذا الشَّاعر ولو بقسط يسير ، ولا عنوا بما تركته وأبقته وقائع الأيَّام وخطوبها وحوادثها في نفوسهم من شجون وآلام ، وابتعثته أو استتبعها من مواقف في غاية التحدي وإعلان عدم اكتراثهم جريا ً وراء الفخر والمباهاة بذلك ، فما السَّبب في هذا ؟ .

واستطرد الجواهري ذاك في خطبته إلى أنـَّهم ـ أي العرب ـ ألفوا في لقيات شعرائهم من فنون القول والصِّياغة البارعة والنسج الحافل بالتشبيهات والأخيلة ما يدعو إلى الإعجاب ، أو يستدلُّ منه على عنايتهم بصقل موهبتهم وعنايتهم بأسرار العربية وحسن تعاملهم مع ألفاظِها ومفرداتها ، ومع ذلك لمْ يستلفتوا نظر الباحثينَ ويفرغوا لاستقرائه وجلائه إلا بمقدار ما يستدعي التعريف بمسيرة شاعر من شعراء العربية دون أنْ يختصموا حوله وينشب خلاف بينهم ، فما السِّر في هذا ؟ .

إذنْ هناك أشباه ونظائر للمتنبي في تاريخ العرب الشِّعري عرفتهم بلاطات الملوك والأمراء وربَّما شهدوا معهم الحروب والمعارك ، فصوَّروا شجاعتهم وحميَّتهم وفتاءهم ، وسخروا من أعدائهم الطامعينَ في ديارهم لسبب وآخر .

وظلَّ تساؤل الجواهري عن سرِّ اهتمام الدَّارسينَ والنقاد بالمتنبي دون غيره محوجا ً إلى الجواب الشَّافي والفاضح لكلِّ لدَدٍ يخالج الأفهام ، حيث لا يقتنع بما شامه فيه أو تلمَّسه من عبقرية لمْ يحط علما ً بمخابرها وأسرارها ولوازمها .

ويضيف الدكتور محسن غيَّاض بكتابه الموسوم ( المتنبي كأنك تراه ) ً جهداً متميزا ً إلى الجهود المتواصلة عبر العصور والحقب ، من لدن شتى المعنيينَ بنقد الشِّعر وتحليله وتفسيره والنفاذ إلى موحياته ومصادر إلهامه ، بعد عثوره على نصوص نادرة عن سيرة المتنبي كتبها الشَّاعر الأديب الناقد أبو طالب سعد بن محمد الأزدي البغدادي المعروف بالوحيد , والمتوفى سنة 385هـ ، معلقا ً على مدونات أبي الفتح ابن جني المعني بشرح شعر المتنبي ، ناقضا ً لأحكامه وآرائه نافيا ً لكثير من الوقائِع والأحوال التي ادَّعى أو توهَّم أنَّ المتنبي عرض لها ، لأنـَّه كان على صلة شخصية بهِ ، ولاحقه في تنقله وتجواله في حواضر الشَّام ومصر ، وتعدَّى إلى تسفيه ما أوغل فيه من شطط وتعسُّف وانحياز لصاحبه وإهمال لجمهرة من معاصريه ، وتطرَّف في ذلك لحدِّ النبس أو الجهر بعدائهِِ للعربية أو جهله أصولها وقواعدها وضآلة نصيبه أو رصيده من فقهها هو الذي ألـَّف ( الخصائص ) في بيان امتياز اللغة وإشهار فضلها على الكاتبينَ ، فتأمَّلْ .

وما أدري أأثني على الدكتور محسن غيَّاض حيث لايبلغ سمعه ثنائي لمبارحته دنيانا قبل سنين, بعد ان كان يعد بأن يغدو على رأس مسعري المعارك الادبية لتجلية الحقائق المطموسة في الدرس الادبي , كما حصل من ذياده عن فاعلية شوقي ضيف في الثقاقة العربية , لسبقه أضرابه وأنداده من الباحثين في اكتشاف هذا الأديب النابغة الذي يقيم درسه على الموضوعية والسَّداد والنصفة على الرُّغم من انجراره إلى شيء من الحدَّة في خطابه لصنوه ، غيرة منه على العربية في عصر المتنبي الذي شهد سيطرة الأعاجم وتسلطهم على شؤون الناس ، فخشي أنْ يستطيلَ ذلك ويصيب لغتهم ويشوبها ببعض الهوان جرَّاء الأضرار بسليقتهم وتوريطِهم باستعمال الغريب المهجور من الألفاظ والتراكيب في تعابيرهم ومن جنس ما تمحَّل ابن جني للمتنبي من أعذار ومسوغات ، بدعوى إعجاب شيوخه وتزكيتهم وتأمينهم على صِحَّة ما اطلع بهِ الشَّاعر من أسلوب وبيان وجوازهما ، أم أسجِّل انطباعي عن هذا الناقد المجهول الذي يسوق عبارته سلسة مأنوسة خالية من السَّجْع الغالب على أساليب أدباء عصره متكفلة بصياغة مؤاخذاته وملاحظاته الدَّقيقة على نحو آسر للعقول والأفهام ، وبذلك ينضاف الوحيد إلى قائمة المشاهير من نقاد الأدب العربي ، والذين عُدَّتْ مؤلفاتهم المعهودة والمتميزة بجودة بيانها وحسن صياغتها كتبا ً أدبية رائعة لا غنى عنها لمراس الأدب المطبوع وترويض السَّليقة على التلقائية والطواعية .

وينبئنا الدكتور محسن غيَّاض في فاتحة المقالة الثانية من كتابه المذكور أنَّ التعليقات الموجزة من الكلام المنسوب للوحيد ، هي مجرَّد اختيارات من مخطوطة مودعة في مكتبة ( قونية ) التركية قام بتحقيقها كاملة ويعد بنشرها في كتابٍ مستقبلا ً، لكن لم يستأن او يمهله هادم اللذات فعدا على مافي نيته نجازه او الشروع به من مهمات و وجائب ثقاقية .

ولو تأمَّلنا في سياق ِتعابيره المبيَّنة الواضحة في شرحه وتعليقه على تلك النصوص المختارة والمتفردة برصانتها وعذوبتها في وقتٍ معا ً ، لصرْنا إلى القطع بإعجابه وتأثره بأسلوب ذلك الناقد وجريهِ على غراره في السَّلاسة والطراوة والجزالة عين الوقت ، ولاستنتجْنا أيَّة معاصرة لوقتنا الحاضر كان عليها الناقد القديم ، وحسبه أنْ لمْ يكنْ معدودا ً من خصوم ِالمتنبي والمحصينَ لعيوبه وسيِّئآته ولا من المغالينَ في حبه والتعصُّب له ومجافاة المتحاملينَ عليه ، إنـَّما هو رجل أتاحَتْ له الظروف معايشة ذلك الشَّاعر الكبير ورؤيته وسماعه وشغِل بهِ كما شغل غيره من الناس ثمَّ كتب ما رآه صوابا ً وما رآه عدلا ً .

ودونك هذه التقدمة التي نسجها لكتابه المدوَّن غبَّ وفاة المتنبي يوم كان ابن جني حيا ً ، وشاعَتْ الأقاويل والخصومات حول أبي الطيِّب ، وعمَّ الوسط الأدبي كزمننا هذا تطرف شديد حول شاعريته تعصُّبا ً له أو عليه ، فنهد الرَّجل للتوسط بين الأطراف المتنازعة ، قائلا ً :ـ " ولكنـَّنا سنترك تعصُّب هذا وعناد أولئك ، ونأخذ في أمره بالعدل ونتوخى الحق ونضع الميزان له وعليه بالقسط ، فنردُّ عليه ما ضيَّعه هذا من حقوقه ونستوفِي منه ما أهلَّ نفسه بهِ من الغلو في هذه الصِّناعة والمشرف علينا وعليه العلم والشُّهود العدول " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق