الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يهاجر أبناء الصعيد إلى القاهرة؟

أيمن زهري
كاتب وأكاديمي مصري، خبير السكان ودراسات الهجرة

2018 / 1 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


"لماذا يهاجر أبناء الصعيد إلى القاهرة"؟ لا شك أن الإجابة على هذا السؤال قد تبدو بديهية .. إنهم يهاجرون بحثاً عن حياة أفضل.. ولكن هذا التبسيط وهذا السبب الأساسى للهجرة يجب أن نضعه فى سياقة التاريخى المناسب .. ففى الماضى كان المهاجرون إلى القاهرة فى بدايات عهد الثورة وما قبلها بقليل – يمثلون صفوة أبناء الصعيد الذين كانوا يفدون إلى القاهرة لتلقى العلم فى جامعاتها (القاهرة، عين شمس، الازهر) على أمل العودة إلى بلادهم بعد ذلك ثم تستقر نسبة كبيرة منهم فى القاهرة.

إن هجرة أبناء الصعيد الى القاهرة بصفة عامة كانت – ومازالت – إنعكاسا للتباينات التنموية بين المنطقتين: منطقة الإرسال التي تعاني من الإهمال والتخلف، ومنطقة الإستقبال بما لها من بريق ووهج وإقتصاد – غير رسمي – قادر على إستيعاب فائض العمالة الزراعية في الصعيد. إذن فالهجرة الداخلية في مصر كانت ومازالت صمام الأمان والمفيض القادر على تحقيق التوازن بين السكان والموارد الاقتصادية، كما أنها رد الفعل الطبيعي والتلقائي للتباينات الاقتصادية بين الأقاليم المختلفة.

تعد ظاهرة هجرة أبناء الصعيد الى القاهرة من الظواهر المستقرة منذ زمن بعيد، وقد تم رصدها في العصر الحديث منذ تعداد السكان الأول لمصر عام 1897. ويمكن التفرقة بين فترتين أساسيتين مرت بهما الهجرة من الصعيد الى القاهرة، ما قبل ثورة يوليو 1952 وما قبلها. وقد تميزت فترة ما قبل الثورة بتيار هجرة ضعيف ولكن مستقر، وكانت الهجرة للقاهرة في مجملها تتم بحثا عن فرص تعليم أفضل للأبناء أو الحصول على خدمات صحية وثقافية لم تكن موجودة في صعيد مصر في ذلك الوقت، وقد إنعكس ذلك على نوعية المهاجرين الذين كانوا أفضل حالا من غير المهاجرين وأكثر منهم طموحا وثقافة وربما أفضل من الناحية الإقتصادية أيضا.

مع التحول الذي شهدته مصر بعد ثورة يوليو 1952 من مجتمع زراعي الى مجتمع صناعي، وإقامة مناطق صناعية عديدة حول القاهرة وخصوصا شمال وجنوب القاهرة (شبرا الخيمة وحلوان) بدأت مرحلة جديدة من الهجرة الداخلية في مصر، كان قوامها الطبقة العمالية التي نزحت للقاهرة من الشمال والجنوب. وكانت هجرة أبناء الصعيد الى القاهرة إنعكاسا للطلب على العمالة الصناعية لسد إحتياجات هذه المشروعات، ويمكن – دون مبالغة تسمية – هذه الفترة بالعصر الذهبي للهجرة، حيث وفرت الدولة في ذلك الوقت العمل والمسكن والرعاية الإجتماعية والصحية لعشرات الآلاف من النازحين من الشمال والجنوب وتأسست تجمعات سكنية ضخمة في شمال القاهرة وجنوبها قوامها هؤلاء المهاجرين وأسَرهم.

مع الزيادة السكانية الرهيبة وترهل الجهاز الإداري للدولة وانتشار البطالة وتدهور أحوال التعليم والأحوال الإجتماعية فى الريف وفى محافظات مصر المختلفة وتقلص الرقعة الزراعية، بالإضافة الى إنحسار فرص الهجرة للخارج، إستمرت الهجرة إلى مدينة القاهرة ولكن إختلفت نوعية المهاجرين إختلافاً تاماً .. فبدلا من إستقبالها لصفوة أبناء الريف الذين كانوا يقصدونها لتلقى العلم فى جامعاتها.. فإنه من الملاحظ خلال العقدين الماضيين أنه قد حدث تحولاً كبيراً فى نوعية هؤلاء المهاجرين حيث أصبحت تستقبل سيلاً من العاطلين من الأميين وحملة الشهادات المتوسطة وبعض حملة المؤهلات العليا للعمل فى الأعمال الدنيا التى يوفرها القطاع غير الرسمى فى إقتصاد العاصمة.. وتتركز اعمال هؤلاء المهاجرين فى مجالات العمالة غير الماهرة فى قطاع المقاولات والباعة الجائلين وعمال المقاهى والعديد من الأعمال الأخرى الهامشية.

قمت عام 2000 بإعداد دراسة ميدانية في محافظة القاهرة وإحدى قرى محافظات سوهاج للوقوف على أحوال العمالة غير الماهرة القادمة من الصعيد الى القاهرة، وقد إستخدمت في هذه الدراسة الأسلوبين الكمي والكيفي وذلك من خلال المزج بين إستمارة إستبيان مقننة بالإضافة الى مقابلات معمقة مع بعض العاملين وكذلك زيارة ميدانية لإحدى قرى الصعيد. كما قمت خلال عام 2005 بإجراء دراسة ميدانية أخرى مشابهة بإستخدام أسلوب المقابلات المعمقة والملاحظة المباشرة في إحدى قرى محافظة بني سويف وأحد أحياء القاهرة الذي يربطه تيار هجرة قوى بهذه القرية.

من هم هؤلاء "المهاجرين الجدد" للقاهرة؟ أوضحت الدراسة الميدانية أن غالبية هؤلاء النازحين من الشباب، حيث أن أكثر من ثلثي العينة تتراوح أعمارهم بين 14 و 29 سنة، وقد بلغ متوسط العمر للعينة ككل 29 سنة. بالنسبة للمستوى التعليمي للمهاجرين، أوضحت الدراسة أن 45% من المهاجرين من غير المتعلمين وأن 35% من الحاصلين على شهادات فنية متوسطة. وعلى الرغم من أن هؤلاء المهاجرين يأتون من كل محافظات الصعيد إلا أن غالبيتهم يأتون من المحافظات الاكثر فقرا وبخاصة محافظات المنيا وأسيوط و سوهاج.

لماذا يهاجرون الى القاهرة؟ أوضحت نتائج الدراسة الميدانية أن الدافع الرئيسي وراء الهجرة للقاهرة هو البطالة التي يعانيها هؤلاء الشباب في صعيد مصر والظروف الاقتصادية الصعبة التي أفرزتها الزيادة السكانية التي أدت الى تفتيت الملكية الزراعية وعدم قدرة الأرض الزراعية على الوفاء بمتطلبات أهلها، أضف الى ذلك إنحسار فرص العمل في الخارج والعودات المتتالية للمصريين من دول الخليج جراء الحروب ومنافسة الأيدي العاملة الرخيصة القادمة من جنوب شرق آسيا للعمالة المصرية. لا ننسى أيضا أن تنظيم سوق العمل بين الأردن ومصر خلال السنوات الماضية وإغلاق ليبيا في وجه العمالة المصرية غير الماهرة قد أدى الى تفاقم مشكلات الريف المصري بما لذلك من إنعكاسات على مستوى البطالة. ولا شك أن إنحسار فرص الهجرة للخارج سوف يؤدي الى زيادة تيارات الهجرة الداخلية وخصوصا الى القاهرة. من ناحية عوامل الجذب للقاهرة، فلا يخفى على أحد أن القطاع غير الرسمي في مجالات المعمار والخدمات يستوعب أعدادا كبيرة من المهاجرين ويوفر لهم فرص عمل يستطيعون من خلالها توفير نفقات إعالة أسرهم في صعيد مصر، وعلى الرغم من الشكوى المستمرة من تفاقم ظاهرة البطالة، فإن العمالة غير الماهرة القادمة من الصعيد لا تجد مشكلة كبيرة في الدخول الى سوق العمل بالقاهرة حيث أنهم يعتمدون على شبكة علاقات غير رسمية كبيرة ويجدون أن من واجبهم مساعدة القادمين الجدد كنوع من الواجب الإجتماعي طبقا للعادات والتقاليد السائدة في الصعيد.

وعلى ذلك فإنه يمكن القول أن الدافع الأساسى للهجرة هو عوامل " الطرد" فى محافظات المهاجرين والمتمثلة فى ارتفاع معدلات البطالة وصغر حجم القطاع غير الرسمى فى اقتصاديات هذه المحافظات .. اما عوامل "الجذب" فى المحافظات المستقبلة للمهاجرين " القاهرة الكبرى" فتتمثل فى تركز كبير للأنشطة الاقتصادية والمالية فى القاهرة والطفرة الكبيرة التى شهدها قطاع البناء والمقاولات فى الفترة الاخيرة.

ولكن كيف يعيش هؤلاء المهاجرين في القاهرة؟ على الرغم من أن أقرانهم في صعيد مصر يغبطونهم على الإقامة والعمل في العاصمة، إلا أن معظم هؤلاء المهاجرين يعيشون في ظروف صعبة ويتعرضون لمطاردة شرطة المرافق ونظرات الشفقة – وأحيانا الإزدراء – كما أن بعضهم يقيمون إقامة دائمة في المباني تحت الإنشاء التي يعملون بها، ويضطر بعضهم للإقامة في أماكن مزدحمة تفتقد التهوية وبدون مرافق في المناطق العشوائية والمقابر لضغط النفقات وإرسال ما يستطيعون توفيره من مال لأسرهم في صعيد مصر. وتعد تحويلات المهاجرين من أهم ما يصاحب عملية الهجرة – الداخلية والخارجية على حد سواء – وقد لاحظت بوضوح خلال الزيارات الميدانية لأسر المهاجرين في محافظتي سوهاج وبني سويف أهمية هذه التحويلات التي تعد المصدر الرئيسي للدخل لدى العديد من الأُسَر. وعلى ذلك فإن الأثر الإقتصادي لهذه الهجرة لا يقل بأي حال من الأحوال عن الهجرة الخارجية على المستوى الجزئي - الأُسَر والأفراد. وعلى ذلك فإن هجرة أبناء الصعيد الى القاهرة ليست هجرة اختيارية كما يتخيل البعض ولكنها هجرة من اجل الحصول على أدنى مقومات الحياة, أنها "هجرة من اجل البقاء "Survival Migration " ويمكن إعتبارها نوع من الهجرة شبه القسرية.

كيف يمكن أن نوقف هجرة أبناء الصعيد للقاهرة؟ إن هؤلاء المهاجرين الذين يمثلون فائض العمالة الزراعية في صعيد مصر، لم ينزحوا للقاهرة إلا تحت وطأة الحاجة وضيق ذات اليد، فقد وفّرت لهم القاهرة فرصة الحياة الهامشية والحصول على عمل في القطاع غير الرسمي، عاشوا في عشش الصفيح وساهموا بقدر كبير في زيادة العشوائيات، ولكن كيف نلومهم ولم نوفر لهم الحياة الكريمة في محافظاتهم. لم يحضر هؤلاء للقاهرة لضمان تعليم أفضل لأبنائهم كما كانت تفعل الأجيال السابقة ولا للإستفادة من الزخم الثقافي الذي تشهده العاصمة، لقد نزحوا للقاهرة من أجل لقمة العيش التي عزّت عليهم في محافظاتهم. وعلى ذلك فإنه ربما يكون من غير اللائق أن نطرح مثل هذا السؤال، لأن حرية التنقل مكفولة طبقا لنصوص الدستور، ولكن إذا كانت هذه الهجرة هي هجرة إضطرارية أو أقرب الى الهجرة القسرية فإن إزالة الأسباب الدافعة للهجرة أو ما يطلق عليه "عوامل الطرد" في منطقة الإرسال يجب أن تكون محل إهتمام الدولة من خلال تدعيم وتطوير المحليات والإهتمام بالصعيد ووضع الخطط الكفيلة بتنميته وإنتشاله من براثن الفقر والإهمال، بما يؤدي الى خلق فرص عمل حقيقية ومثمرة للشباب بمحافظات الصعيد للحد من تأثير العوامل التى تدعوهم للهجرة الى القاهرة.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت