الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعمق من الجيم القاهرية

عادل صوما

2018 / 1 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


فقدت مصر بعد الاحتلال العربي الصحراوي كوزموبوليتها المتوسطية حتى عصر القديس محمد علي باشا الذي أعاد مع أبنائه واحفاده بعضها، لكنها ظلت محتفظة ببعض من شخصيتها ومن ذلك البعض التمسك بالجيم القاهرية، وهو طريقة لفظ حرف الجيم في اللغة المصرية المتأخرة المتحدرة من الفرعوينة، كما يُجمع كل علماء اللغات، وهي أساس لفظ الجيم في الابجدية العربية أيضا، حسب بعض علماء الصوتيات، لأن بعض أهالي جنوبي الجزيرة العربية، وهم حسب كتب التاريخ مصدر سكان شبه الجزيرة العربية القاحلة، وتحديدا عدن ما زالوا يلفظوها، والعرب الذين خرجوا من الصحراء غيروها في ما بعد في العصر العباسي الاول، تمييزا كما يبدو عن "جيم" اللغة العبرية التي تُلفظ مثل "الجيم القاهرية".
لم تفقد مصر هذه الجيم سوى في ريفها، وصعيدها الذي يقول الجيم بطريقة مختلفة تماما حتى عن الجيم المُعطشة. والجدير بالذكر أن الابجدية العربية نفسها تعرضت لتغيرات في لفظ معظم حروفها بعد التوسع الاسلامي، فهناك بعض الناطقين باللغة العربية ينطقون الجيم مثل حرف "دال"، وحرف "القاف" مثل "الكاف" وحرف "ضاد" مثل "الظاء" وغير ذلك من التغيرات.
لم تتغير الجيم القاهرية في ظل الاحتلال العثماني الذي استمر حوالي اربعة قرون وظلت كما هي، وحتى في بدايات طموح الدعوة الوهابية لتحل محل مذهب مصرالاسلامي، كان الاعلاميون والمراسلون والمتربحون من الاسلام سياسيا في أي برنامج يتحدثون بالجيم القاهرية. كل مواطني مدن مصر الكبرى كانوا يلفظون الجيم القاهرية، ولم يشعر أيٌ منهم بغضاضة أو بإهانة إسلامه حين كان يلفظ الجيم القاهرية.
الممثلون أيضا كانوا استخدموا الجيم القاهرية، والمفارقة أن سعيد صالح، عندما سخر من عادل إمام في مسرحية "مدرسة المشاغبين" لأنه كان "بيذاكر من وراهم" وأراد أن يضفي طعم الصدمة على السخرية، خرج عن النص وقال له بالجيم المُعطشة: "يامجرم يا إبن المجرمين"، وقلده معظم تلامذة مصر في السبعينات عندما كانوا يريدون السخرية من أحدهم.
غنى كل المطربين بالجيم القاهرية حتى أم كلثوم خريجة مدرسة الانشاد الديني، وتحدث كل ادباء مصر بمن فيهم المفكر الاسلامي عباس محمود العقاد بالجيم القاهرية، وحافظ طه حسين فقط على الجيم المُعطشة أمام الاعلام لأنه صعيدي أزهري لا يُحسن اللهجة القاهرية، وكان يتحدث بلهجة أقرب إلى الفصحى لأنه "عميد الادب العربي" كما لقبّوه، وتحدث كل شيوخ مصر بالجيم القاهرية بمن فيهم متولي الشعراوي "الوهابي الهوى"، وكانوا يعطشون الجيم فقط إذا قرأووا آيات من القرآن، ظنا انهم يحافظون على القراءة الاصلية للكتاب.
ثم حدث أمر غريب بعد انتشاراحتلال الدعوة الوهابية لمصر، وسيطرة التمويل الوهابي على شبكات الاعلام العملاقة، هو ارغام المقدمين والمذيعين والمراسلين المصريين فيها على التحدث بالجيم المُعطشة، فرأيناهم يتحدثون اللهجة المصرية بالجيم المُعطشة، وتلاقي ياحبة عيني مراسل مصري واقف أمام مجلس الشعب المصري وبيقول الخبر بشويش علشان يقول الجيم المُعطشة وما ينسهاش.
أما غير المُفسر عندي فهو استعمال بعض نجوم العلمانية المصريين مثل سيد القمني وحامد عبد الفتاح للجيم المُعطشة بعيدا عن قراءة آيات القرآن.
المسألة لا تمت للتدين ولا تمس مكانة القرآن عند المتحدثين حسب ما أرى، ولا هي سُنة أيضا، فالرسول لم يطلب في أي حديث له، ولا حتى صانعي الاحاديث، من أحد أن يتحدث بلهجته. لم أقرأ أبدا أن أي صاحب دعوة أو نبوة طلب من الناس التحدث بلهجته.
الشخصية القومية
المسألة أعمق من محاولة طمس الجيم القاهرية لأنها تدخل في الصميم مباشرة إلى الشخصية المتميزة لكل بلد ومن مكوناتها اللهجة، وهدف احتلال المذهب الوهابي فرض اللهجة، والزي، وتصميم البنايات، وسيناريو الافلام، وإقامة الدعاوى على من تجرؤ وتغني أغنية جرئية أو صاحب فكرة لا تماشي منطقهم، إضافة إلى فرض فهم دعوتهم على المسلمين. وبما أن تقليد اللهجة صعب إختار المنافقون لفظ الجيم المُعطشة وهي ليست من مكونات شخصيتهم، وتجاهلوا أمرا آخر هو سرعة النطق فالمصري يتحدث بسرعة تختلف عن التونسي، والجزائري يتحدث بسرعة تحتلف عن اللبناني والسوداني تختلف سرعة حديثه عن المغربي. تعطيش الجيم من ثمة لا معنى له سوى نفاق هزيل ألبسوه ثياب الدين عنوة.
روح اللهجة تختلف عن روح الفصحى. شخصية لهجة شعب تختلف عن الآخر.
بدون شرح، هل سيفهم المغربي معنى المثل العراقي: "الغرايب ولا الكرايب". وهي سيفهم اليمني معنى المثل المصري: "العدد في اللمون"، أو "سمك لبن تمر هندي". وهل سيفهم الدمشقي معنى المثل التونسي: "ولدها على ظهرها وهي تفركس فيه". وهل يمكن أن يفهم الكويتي معنى المثل السوداني: "حبابكم عًشرة بلا كَشرة".
هل يمكن أن نستمتع بأغاني أم كلثوم ونجاة الصغيرة وعبد الوهاب وفريد الاطرش (اللبناني الأصل) وعمرو دياب ومحمد منير بالجيم المُعشطة؟ هل يمكن أن نتخيل فيروز وهي تقدم مسرحية "الشخص" أو "ميس الريم" بأغانيها ومعانيها وما بين سطور كلامها واحداثها باللهجة المصرية؟ وماذا سيحدث لأغنية وإيقاع دحمان الحراشي الجزائري "يارايح وين مسافر" لو مصرّناها؟ وماذا لو مصّرنا الاغنية العراقية "كل لي يا حلو إيش جابك عليً؟"
وإذا تأملنا جيل راقصات السبعينات، عندما كان حتى الرقص يمثل جزءا من الشخصية القومية، سنجد أن أداء نجوى فؤاد أو سهير زكي وهما ترقصان يختلف عن داني بسترس اللبنانية، فنجوى وسهير رقصتا بروح وسرعة وتمايل مختلف. شخصية مختلفة حتى عندما استعملت أي منهن العصا وهي ترقص. نجوى وسهير رقصتا بدون كعب عالٍ بينما داني رقصت به دائما.
المسألة أعمق من الجيم القاهرية.
سألت ضابطا إيرانيا سابقا يعيش في الولايات المتحدة: لماذا هاجرت؟ قال لي: نحن إيرانيون قبل أن نكون مسلمين. أذهلني رد ضابط إختصر كُتبا وأبحاثا في الشخصية القومية بعبارة موجزة على سؤال غير متوقع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصويب
عمرو ( 2018 / 1 / 20 - 19:36 )
أصحاب الصعيد في الاصل ليسوا مصريين اقصد ليسوا فراعنة حتى يفقدوا الجيم القاهرية والاختلاف في اللهجات يوجد حتى بين أهالي المدينة الواحدة

اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار