الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى اقتصاد التراث الشفاهي بالجنوب الشرقي المغربي

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2018 / 1 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أقدمت «جمعية إنسان للتنمية الاجتماعية بالنيمرو»، بمحيط تينجداد بإقليم الرشيدية، على تننظيم ندوة وطنية تحت عنوان «تراث الجنوب الشرقي: صيغ التثمين وآليات الحماية»، يوم الأحد 14 من شهر يناير من العام 2018. دعيت للمساهمة في الموضوع بمداخلة ضمن تلك الندوة. وكنت لما أدعى إلى محفل من نوعه، أقوم بتحديد مجال الممارسة، ألا أزيغ عن المراد الذي رسمه المنظم. ولأن الحيز الزماني لا يسمح بذكر كل شيء، فقد يسعفني القلم لتجاوز إعاقة اللسان وأعود إلى تدوين المراد في هذه المقالة.
إن تثمين التراث يقضي تشخيصه والحفاظ عليه، أملا في استثماره في التنمية، وكل هذه العمليات تمهد إلى مجال اقتصاد التراث. إن النظر إلى الموضوع يقضي مواجهته بالسؤال التالي: كيف يُقدر التراث كمّا قابلا للقياس؟
1- موارد التراث الثقافي المتوافرة بالجنوب الشرقي المغربي
هناك مجالات تحوي تراثا بالجنوب الشرقي المغربي، في صيغة كمّ قابل للقياس، قياس مدى قبليته للحماية، ومستوى تقدمه من حيث الاعتناء، وما إذا كان مفكرا فيه. ولقد آثار تفعيل مجال توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة توسيع مجال جبر الأضرار الفردية، فظهر مجال الذاكرة المادية والذاكرة الفردية، والتاريخ الراهن والأرشيف. وكلنا يعلم أن بالجنوب الشرقي المغربي ست تنسيقيات إقليمية لجبر الأضرار أحثت بالأقاليم، فيجيج، والرشيدية، وميدلت، وتينغير، وزاكورة، وورزازات. ولقد أثير في المنطقة إحياء الذاكرة الجماعية استصحب عملها أن غشي الآداء وحداث سوسيومجالية متجانسة، وهي في الأصل، وفي وسط يغشى فيه الثقافي كل شيء، ويكاد يلتهم كل الحقوق الأخرى، وحدات سوسيوثقافية متجانسة. ويعنينا أن الترميم لحق المدافن بكل من أكدز، وقلعة مكونة، وسيأتي دور تازمامارت في القريب العاجل. ولما تعمق النظر في الذاكرة ثبت أنها غير مشروطة بسنوات الرصاص لذلك اتسع المجال ليمتد، ولو بالتفكير، إلى كل أماكن الذاكرة التي احتضنت مقاومة سياسية أو مسلحة كنحو أغبالو نكردوس، وكلميمة، والريش، وإملشيل وتالسينت.
إن ما يتذكره الإنسان أن يتصل بالمكان يمكن ملامسته بسهولة، وما وراء الذاكرة المادية لا يزال نطاق الرمز والشفاهية في حاجة إلى مزيد من الحفر. صحيح أن أعمالا منجزة في مجال الاعتناء بالرموز المعمارية، فكان ترميم الموضع العمراني أسرير ابتداء من من 15 من أبريل من العام 2010، وتوفق المشروع في إنقاذ الرموز المعمارية الزناتية على وجه التقدير. وتمكنت جمعية مقورن في ترميم قصر ايت الحاج علي بتينغير. وإلى جانب مبادرات الجمعيات والمجالس الجماعية اهتمت المصالح الحكومية بموضوع المعمار، إن هو إلا وجها ملموسا في الذاكرة الجماعية، فبرزت قصبة تاوريرت، بمدينة ورزازات فضاء رمزيا بامتياز، وفضاء سياحيا وجيها، وجرى الالتفات إلى قصور أخرى، أيت بن حدو، وقصر أولاد الحليم. وتراءى إحياء التراث المعماري الرمزي، وإنشائه في مبادرات فردية ومؤسساتية.
تتجلى المبادرات الفردية في بناء المنشآت السياحية على صيغة متاحف من الرمز. ينشط ذلك بإقليم زاگورة وتينغير وورزازات، وأرفود، ومرزوكة. ومن السكان ما يفضل الحفاظ على البناية الترابية لتصمد أمام الدهر إن هي ملائمة للطقس بالواحة. وتسير الدولة، إلى حد ما، في مسار إحياء التراث المعماري الرمزي، وطفقت تبني مؤسسات تقلد فيها شكلا، لا مضمونا، المعمار التقليدي كنحو محكمة الاستئناف بالرشيدية التي تحاكي قصور تافيلالت، وهناك كلية العلوم والتقنيات بالرشيدية، والكلية المتعددة التخصصات.
ورغم بعض المجهودات المقدرة إيجابا في الحفاظ على الرمز، عظُمت بعض الزلات إذ قام أحد العمال بإقليم الرشيدية بإصدار أمر يقضي بإخفاء الرموز الثقافية وطمسها في بناية مركب الصناعة التقليدية بشارع مولاي علي الشريف بالرشيدية، وقدرها تحمل رموزا وثنية. وتعرضت الأبراج المجاورة لدار الشباب بمدينة تينجداد للكسح، في بحر سنة 2013. وطالما اشتكت جمعية أبراج الواحة للتراث والبيئة والتنمية بقصر العشورية بجماعة فزنا الترابية للسلطة أن جهات متعددة لا تبتغي إنجاز مشروع ترميم القصر، وخاصة مدخله الرئيسي وواجهاته الخاجية وظلت تنادي بهدمها، بالباطل، بغية تعويضها ببنايات أخرى من الإسمنت. ولقد نجحت تلك الجهات، التي لم تنعتها الجمعية، في هدم المسجد العتيق للقصر دون الأخذ بعين الاعتبار الاتفاقيات الموقعة محليا ووطنيا ودوليا، وذات الصلة بحماية التراث المعماري وصيانته. ولقد تدخلت وزارة الثقافة فراسلت السيد عامل إقليم الرشيدية سنة 2009 في قرار هدم المسجد العتيق الكائن بقصر العشورية. وللتذكير فقد انطلق برنامج واحات تافيلالت، سنة 2006، ليركز، من بين ما ركز عليه، على التراث المعماري والتراث البيئي. وما عدا هذا المجالات التي أثارت الانتباه والتي تسهل ملامستها، لا يزال التراث تثمينه في حاجة إلى مزيد من الجهد.
2- مفهوم التراث الشفاهي
إن جمع التراث الشفاهي وتثمينه سؤلا في الخفاظ عليه، وتصييره كما قابلا للاستثمار، يقضي تعريفه، وفق المراجع الدولية. و لأغراض هذه الاتفاقية ( الفقرة01) «يقصد بعبارة التراث الثقافي غير المادي«، الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات - وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات، وأماكن ثقافية- التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي. وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث، جيلا عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد، بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم (ثمة) احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية. ولا يؤخذ في الحسبان لأغراض هذه الاتفاقية سوى التراث الثقافي غير المادي الذي يتفق مع الصكوك الدولية القائمة المتعلقة بحقوق الإنسان، ومع مقتضيات الاحترام المتبادل بني الجماعات والمجموعات والأفراد والتنمية المستدامة.
( الفقرة 02) وعلى ضوء التعريف الوارد في الفقرة (01) أعلاه يتجلى «التراث الثقافي غير المادي« بصفة خاصة في المجالات التالية:
(أ‌) التقاليد وأشكال التعبير الشفاهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي؛ )ب( فنون وتقاليد أداء العروض؛ )جـ) املمارسات االجتماعية والطقوس واالحتفاالت؛ )د) المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون؛ )هـ) المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية«.
ويقصد بعبارة «الصون» التدابير الرامية إلى ضمان استدامة التراث الثقافي غير المادي، بما في ذلك تحديد هذا التراث وتوثيقه وإجراء البحوث بشأنه وحمايته وتعزيزه وإبرازه ونقله، لا سيما عن طريق التعليم النظامي، وغير النظامي، وإحياء مختلف جوانب هذا التراث. إذا تأملنا في هذا التعريف، أو بعبارة أخرى، إذا سألنا أنفسنا، نحن أبناء الجنوب الشرقي المغربي: نمارس في حقل التراث وفق المادة 02من اتفاقية باريس، لعام 2003؟ الجواب ليس مثبتا كليا.
3- بوادر الاعتناء بالتراث الثقافي بالجنوب الشرقي المغربي
إن تراث الجنوب الشرقي المغربي يفتقر إلى التدوين، والاعتناء، فهو في أحسن الأحوال تراث شفاهي. وكما هو الحال في العماري نلفى في الشفاهية مبادرات حسنة، وإن كانت غير كافية بالمرة. وحسبنا موسوعة التراث الشفاهي بالرشيدية، سمتها «التراث الشفاهي بتافيلالت: الأنماط والمكونات»، تتكون من ثلاثة أجزاء أحدهما موثق باللغة الأمازيغية. صدرت الموسوعة عن دار النشر «إيماجري يوب»، بفاس، سهر على إنجازها اتحاد كتاب المغرب فرع الرشيدية. وصدر عن منشورات القصبة، وبدعم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتحت إشراف الأستاذ عبد العزيز الراشيدي، الطبعة الأولى من «مشروع توثيق التراث اللامادي بواحات درعة»، سمته «هكذا تكلمت درعة»، والمشروع كتاب في 550 صفحة من الحجم الكبير صدر سنة 2013. ولا بد من الإشارة إلى «أغاني ورقصات الواحة الدرعية»، الصادر عن منشورات جمعية تنمية وادي درعة، تنسيق الزيني أحمد توفيق، مطبعة فوليو، مارس، 2006. ولم ترق أغاني واد درعة ورقصاتها ولا مشروع توثيق التراث اللامادي بواحات درعة، ولا أنماط التراث الشفاهي بتافيلالت ومكوناته، إلى مستوى يحيط بالتراث حماية وحفظا. إننا نمارس العمل المتحفي، بجمع القطع القديمة والمصنوعات، إن حق تسمية ذلك ممارسة متحفية، ونعتني نسبيا بأماكن الثقافة. لكننا لم نفعل شيئا في صيانة التقاليد الشفاهية، ولا في تدوين الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات. وأما المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية فقد ضاع منها الكثير، فو إخلاء اليهود كل البساط المعمرة بالدور في المنطقة. لذلك يتعذر علينا تحقيق استثمار التراث في الحال، وجعله موردا مهما في تنمية الجنوب الشرقي المغربي. لقد بدأنا نلامس جانبين من التراث: نلامس التقاليد الشفاهية بإعادة تجسيدها في المهرجانات، أن كانت موسيقى وفنون العزف، ونتذكر الحرف والمنتجات في المعارض، وندون العادات الاجتماعية ضمن بحوث الطلبة، وشرعنا ندق بقوة باب المعرفة الشفاهية. لكن هل للثقافة وقع في دخل المنطقة؟ هناك نقط جاذبة، من ذلك، مثلا، أماكن الممارسة المتحفية ولو ظلت تجارب فردية ومبادرات. ونلفى نزرا من من السياحة الثقافية، بحثا عن مواضع الذاكرة، ومواقع التاريخ ومصادره، وهناك المواسم الثقافية والمهرجانات.
إن تقدير التراث، وإن كان مورده الاقتصادي ضعيفا، في الحال، يعد رهانا تنمويا في المآل؟ فما السبيل إلى تطوير الموارد المنهارة؟ وهل يمكن القول إن مستقبل الاقتصاد الثقافي واعد بالجنوب الشرقي المغربي؟ إن هذه الأسئلة تواجه المتأمل في الوسط، وما يبطنه من إمكانبات، في حاجة إلى مزيد من الجهد.
3- موارد التراث الثقافي بالجنوب الشرقي المغربي
نلفى الوسط البيئي يتدهور تدريجيا، وقبل ذلك ما كان للواحة بما تتوافر عليه من إمكانيات زراعية، أن تضمن البقاء لسكانها. ورغم ذلك، لا ينبغي التخلي عن الواحة، إن هي إلا موردا اقتصاديا غير زراعي من وجهة نظر أخرى، تتراءى في الجوانب التالية:
إن أول مورد يمكن استثماره الواحة في حد ذاتها. هنا وجب أن نستشهد بما قاله الدكتور محمد محيي الدين، صباح يوم السبت 26 من شهر أبريل من العام 2016، بقاعة الاجتماعات بمتحف سكورة بإقليم ورزازات، بمناسبة مهرجان واحة سكورة الأول. عنوان المداخلة: أي دور في تنمية الواحات؟ « إنها أشياء وجب أن نعقب عليها، ولو بشكل سريع. لماذا اخترت هذا العنوان: التنمية الواحية في إطار محمية المحيط الحيوي؟»، يقول الدكتور محمد محيي الدين: «إن هذا العنوان نابع من مجموعة من القناعات استخلصناها من خلال مسلسل طويل مع الأبحاث، في هذا المجال وتلاصقنا به [أي: وارتبطنا به واستصحبناه] مرورا بواحة فيجيج، وتافيلالت، وورزازات، وسكورة، ودادس، ودرعة، وواد نون. ولقد استخلصنا من هذا الارتباط ما يلي:
- أولا، ما هي الواحات أصلا؟ لكي نحاول، ربما من بعض المداخلات، وبعض الاتصالات» مقاربة المفهوم [أضفنا هذه العبارة لكي يستقيم المفهوم] «إذ بدأ يطرح لدينا أشياء، ربما لا نتحدث عنها بنفس الصيغة وبنفس الثقافة. فما معنى الواحة إذن؟ إن الواحة كما حددها اليونيسكو سابقا، ولقد سلف أن حصل لي الشرف أن كنت في لجنة دولية شأوها مناقشة المصطلح الواحي. والواحة مجالات منشأة ثقافيا. ومعنى ذلك، أنها أوساط وموارد طبيعية في ظروف تحكمها الندرة في علاقة مع مؤهلات بشرية، والموارد الطبيعية والوسط، هذه العلاقة فعلت ثقافة التواصل ما بين المؤهلات البشرية والموارد الطبيعية، وخلقت لدينا ثقافة للعيش، وهذه الثقافة خلقت وسطا ومنظومة متكاملة سميت بالمنظومة الواحية، تلك المنظومة الناتجة عن التفاعل وخالقة وسطا منشأ (اللي ما كاينش)،[ باللسان الدارج] ولم يكن موجودا. وبمعنى آخر، إنه وسط تطبعه الندرة في كل شيء، واستطاع الإنسان أن يخلق مجالا في إطار منظومة تراكبية ما بين النبات وما بين التربة وما بين الماء، وما بين المجال والإنسان، فخلف وظائف سكنية، ووظائف زراعية، ووظائف تداخلية، ما بين الزراعة والماشية، وما بين الماشية والزراعة، والسكن، إلى غيرذلك، ثم طرح فيما بعد سؤال: هل بقيت الواحات في إطارها الأصلي الذي خلقت من أجله، والذي أنتجت من أجله؟
- ثانيا [لم يذكرها الدكتور محمد محيي الدين ولكن تراءت في السياق] تبين أن التحولات التي خضعت لها هذه المجالات جعلتها تدخل في تحديات أخرى، لا أقول تربوية، ولكن أقول تحديات وتحولات أدخلتها مفاهيم» فبرز أنه «لا يمكن بتاتا أن نكون رهينين لذلك المفهوم المتأصل للواحة، بحيث أصبحنا نتحدث عن المجالات الخارج واحية، وأصبحنا نتحدث عن اقتصاد السوق، والاقتصاد المنافستي، وأصبحنا نتحدث عن مدن داخل هذه المجالات، بمعنى آخر، أن المنطق الواحي تراكبي منظوماتي تناسقي، ولم يعد لدينا نفس الإطار الذي نتحدث عنه، وأصبحث لدينا جدلية: ماذا نريد؟ هل نريد مدنا في المجالات القرب صحراوية؟ وهل نريد فلاحة تسويقية؟ أم نريد أن نرجع إلى الأصالة، وإلى المنظومة الواحية المغلقة؟ إن هذا السؤال طرح علينا، وبات يطرح علينا في مجموعة من الأبحاث، فانقسم الباحثون، خصوصا لدينا نحن في المغرب، ما بين الأنثروبولوجية الحديثة والجغرافيون، انقسموا إلى قسمين [في الواقع انقسموا إلى ثلاثة أقسام]:
- هناك من يقول نريد أن نودع الواحة، ويأتون بالأرقام والإحصائيات بالوقوف بما كانت تنتجه الواحات سابقا، من زيوت، وتمور، وحناء، وورد، وما كانت تنتجه اليوم، فتبين أن الإنتاج مضاعف، بفعل إنتاج السوق، والدخول في منافسة بفضل أموال الهجرة الخارجية، وكأننا أمام نوع من التفعيل المجالي والتطور لهذه المجالات. إذن، لا بد من تجاوز مفهوم الواحة ووضعه، إن شئتم، كتراث متحفي، نتحدث عنه» بصيغة مفادها « كانت الأمور هكذا في الماضي، وأصبحت تسير على هذا المنوال في الحاضر.
- الاتجاه الثاني يقول بوجوب بقاء الواحة، ولنستمر فيها ما برحت مواردها ضعيفة وبيئتها هشة، يجب أن نمكث في إطار الواحة، ومن ابتغى أن يخلق مدنا في الفلاحة التسويقية» فله ذلك «وليذهب إلى مجالات أخرى خصوصا وأن هؤلاء يحتجون بنقط مهمة للغاية مفادها أن التربة جماعية والماء جماعي، وكل شيء جماعي، فلا يجب أن تأتيني باقتصاد السوق الذي ينبني على الفردانية، وعلى التملك، وتأخذ المياه التي تمتلكها الجماعة وتستهلكها أنت نفسك في ضيعاتك، وتأخذ أموالك على حساب هؤلاء. أصبح لدينا تناقض ما بين أناس يشتغلون بمفهوم اقتصاد السوق، ويأخذون الأموال»، وما بين المتشبثون بالواحة التقليدية [أضفت هذه العبارة لإتمام المعنى]«مما حدا بأصحاب الرأي الثاني [ بل الأول] أن يعتبروهم [أي: أصحاب الرأي الثاني] متطفلين على هذا النوع من المجالات وليس من أصحاب الحق ليتقدموا في التنمية، ويحصل نوع من الاضطراب».
الاتجاه الثالث: «ظهر اتجاه ثالث حديث، ماذا يقول؟ يقول بالمزاوجة بين الطرحين، إذ لا يمكننا أن نقول بأننا لا نريد أن ندخل في التطوير، ولا يمكننا أن نقول بأننا لا نريد أن نخرج إلى خارج الواحات، أي نخرج إلى Extra- oisis، قد نخرج، بالحق، ولكن لا بد أن نحتمي ونحافظ على الواحة بشروط، أن نعيد النظر في الملكية القانونية للأرض، بحيث إننا، ربما نوضح الأشياء لإخواننا في العالم العربي، أستسمح اللجنة المسيرة، لأعود إلى نقاشا، ربما كان في غير محله البارحة [أي: مساء يوم الجمعة 25 من شهر مارس من العام 2016]، إذ خطر إلى البال، أن الذي تحدث عنه الأساتذة من مصر ليس من الواحة، أقول: إنه في صلب الواحة! إنه في صلب الواحة! نحن هنا نتحدث في المغرب، في لجان حضرت أشغالها» وظللنا «نقول إن مصر حضارة واحة، لأنها تدبر الندرة في الصحراء شرق النيل وبغربه، ونحن نكتسب أودية صغرى على شاكلة النيل [سماها نيلات]، في المغرب: واد زيز، واد درعة، الأودية كلها تؤطر بحضارة الماء، فالواحة حضارة الماء. وإذا ذهب الماء [نضب الماء] ذهبت الواحة، ومصر هبة النيل، إذا ذهب النيل، ذهبت مصر [مصر هبة النيل كلمة مشهورة لهيرودوت]. إن تجربة المصريين مهمة للغاية، وضرورية لنا نحن في المغرب لأننا نبتغي أن نطبقها على نيلاتنا [أوديتنا التي كنحو النيل] نحن بين مزدوجتين، في هذه المناطق. أقول: إن الرجوع إلى الإطار الثالث، وأنا مع الطرح الثالث، لا بد لنا من أن نعود إلى الواحة، لكن بمفهوم جديد، أي أن نعيد النظر في القوانين والترسانة القانونية، وأن ندمج الساكنة [السكان] في نمط تعاونياتي، إذ لا يعقل أن المساحة المجهرية داخل الواحة تفك وتجذذ بفعل الإرث المستمر، ويصبح لدي – وأنا في هذا المكان مالك- متران مربعان في تلك المنطقة ومتران مربعان في منطقة أخرى، فبات من الصعب إدخال التقنيات. يجب أن تكون حقوق ذوي الأصول في الواحة هي الأسهم في التعاونيات، أي إن كل من يملك ساعتين من الماء، تحول إلى ما يناسبها من أسهم في التعاونية، ونشتغل في إطار شركات تعاونية داخل الواحات، ولن نعود إلى قسمة الأرض، بل إلى قسمة المنتوج، ونستثمر المجهود بشكل، آخر، جماعي، أو تعاقدي مع المستثمرين الذين يريدون أن ينموا خارج الواحة. لماذا أقول هذا الكلام؟ أقول هذا الكلام لأن الموضوع مهم، والمسألة إستراتيجية وضرورية [السيد عمر الإيبوركي يرفع الورقة الحمراء أمامه هامسا في أذنه: الوقت يزحم]، والواحة أمام سور إستراتيجي هو الأطلس الكبير الذي يمدنا بالماء [التي تمدنا بالماء لأن الأطلس الكبير جبال]، إنكم لترون هذا الإطار الطبيعي الجميل للغاية [كانت الجبال المطلة على واحة سكورة بيضاء بالثلوج]. فإذا كانت مصر هبة النيل، فإن الواحة المغربية هبة الجبل. والهبة الجبلية للأطلس هي التي منحتنا هذه النقط الجميلة في هذا المجال. إذن، إذا لم نستثمر بشكل جيد النظام الواحي، ولم نستثمره في إطاره الطبيعي المنظوماتي. لماذا؟ إن استثماره يكون لغاية تطويره واستقرار السكان به للحد من الهجرة، والحد من التصحر، والحد من مجموعة من إمكانيات التعرية، وذلك طمعا في خلق صون مجالات أخرى، نحن نستثمر فيها، الآن، لشكل كبير، والتي نسميها بالصحراء المسترجعة، صرفت فيها أموال للإعداد والتنمية» لم يُفهم جيدا الربط الذي أنشأه الدكتور محمد محيي الدين بين واحات الجنوب الشرقي المغربي والصحراء المغربية،«لكن إذا أهملنا هذه المجالات قرب صحراوية فستزحف الرمال ويذهب كل ما ادخرناه سودا. لذلك فالتنمية لدينا منظومة في محيطنا الحيوي. لماذا في مستوى المحيط الحيوي؟ إنه، ببساطة سأرجع إليكم، أي الواحة القديمة مجال لا يجب أن نفرض فيه، وتسمى المنطقة المركزية la zone centrale في تنمية المحيط ثم هناك منطقة الهامش أو منطقة التمدد أو منطقة الزراعة التسويقية تكون ما نسميه بالمرحلة الانتقالية. وأما النطاق الثالث فهو المنطقة الخارجية وهي منطقة النبات الطبيعي والطلح. لماذا يجب أن نهتم بالطلح؟ لأن هذا الطلح الصحراوي، أو السرو كما يسميه إخواننا المشارقة وهو صمام الأمان بالنسبة للمجالات الحيوية فإذا أمننا هذا الطلح صننا هذه المجالات مائيا وترابيا، إنه حزام أخضر يشكل حماية طبيعية لهذا النوع من المناطق وسنؤمن هذا النوع من المجالات. إن منطقة المحيط الحيوي تتشكل من هذا الثلاثي:
أ‌- المنطقة المركزية التي نروم تنميتها هي الواحة والمنطقة الوسطى هي مصدر التراث. فالتراث الطبيعي سيتحول إلى ما هو مادي وهي صناعة خلافة تأتينا من إنتاج التمور، وإنتاج الزيوت وإنتاج الأعشاب، والتراث اللامادي هي تلك المعرفة بهذه الصناعة، أي الدراية المحلية ونشتغل بالتراث اللامادي الذي هو المعرفة الأصلية عند الأجيال السابقة اللاحقة.كيفية صناعة الزيت وكيفية صناعة الحناء ودمجه مع العطور ومواد التجميل وكيفية الصناعات وكيفية البناء وكيفية التوافق بين البناء القديم والبناء الحديث. والتراث الطبيعي هو الإطار العام الذي تتفاعل. بمعنى آخر، لا التراث المادي ولا التراث اللامادي لا يمكن أن نفصل بينهما أو أن ننظر إليهما نظرة تجزيئية، والكل في نظرة تراكبية، بمعنى أن هناك ثقافة محلية وتراثية لتنمية الواحات». استشهدنا بهذه المداخلة لأنها غير مدونة، التقطناها سماعا، راجين أن يعود لدكتور محمد محيي الدين إلى تدوين هذا الموضوع، وإصداره.
ب‌- المورد الثاني الواجب الانتباه إليه، بقوة، التراث المعماري التقليدي. وكلنا يتفق أنه متصل بشكل أو بآخر بالواحة، بما هي وليدة الثقافة. وهل بقي من البنايات ما يقضي الحفاظ عليه؟ وهل يمكن توجيه السياسة المحلية للاعتناء بهذا التراث؟ وهل المعمار حاضر لدينا في صورة الذاكرة؟ وهل للمعمار صلة بحقوق الإنسان؟
التراث المعماري وحقوق الإنسان، عبارة مستقيمة في المبني، وليست كذلك في المعنى، ما لم يفصل فيها القو،ل ويطول فيها التأمل. فالتراث المعماري يتقاطع مع مجالات عدة كالجغرافيا والسياسة المجالية والترابية، وعلم الآثار، والفنون والحضارة، وبالتالي فإنشاء حقل العلاقة (العلاقات) بين التراث المعماري وحقوق الإنسان مجازفة. وقد تبين في الآونة الأخيرة أن الخوض في الموضوع ممكن. ففي الجنوب الشرقي المغربي، بدأت تتطور فكرة التراث المعماري وحقوق الإنسان، وتتمحور حول الحق في الحفاظ على أماكن الذاكرة، ذاكرة الاعتقال السياسي بالدرجة الأولى، وبعدها أماكن الذاكرة عامة. ولقد نظمت أوراش الدراسة والتأمل في هذا الشأن ونظمت الندوات، وفتح نقاش واسع في الموضوع. وكان لهيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، كما سلفت إليه الإشارة، دور تاريخي في لفت الانتباه إلى موضوع الذاكرة المادية، وملامسة أماكن شهدت حدثا، أو أحداثا، انجر عنها انتهاك حقوق الإنسان في الماضي. وحسبنا أن لبعض مشاريع جبر الضرر الجماعي دورها في اعتماد التراث المعماري نموذجا من أماكن الذاكرة، تلك هي الإرهاصات الأولى. وفي إطار تفعيل برنامج توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في مجال الذاكرة والتاريخ والأرشيف (IER2)، وقفت ندوة مدينة ورزازات ليومي 21 من شهر يناير 2012 و 22 منه، عند ضرورة الحفاظ على التراث المعماري، لما له من علاقة بالذاكرة بالجنوب الشرقي المغربي، وهي ذاكرة الواحات، وسنفصل القول فيها فيما سيأتي من الفقرات. وإذا كانت الذاكرة غير مشروطة بالضرورة، بالعدالة الانتقالية، إذ كانت لها علاقة بالأنساق الثقافية والفضاءات المعمارية، بما هي جزء من تلك الأنساق، فإن الحق في الحفظ الإيجابي للذاكرة، إن أُخرج من نطاق العدالة الانتقالية يعد حقا من الحقوق الثقافية. وإذا أضفنا أن للمعمار علاقة بالهوية الثقافية، لاسيما إن كان ذا طابع محلي فإن الحق في الحفاظ على المآثر العمرانية أضحى صائبا.
وبعيدا عن أشغال هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية التي وضعت بعض الأسس لهذا المجال الحقوقي، نسجل أن إرهاصات، أكثر من أن تحصى وتعد في هذا المقال، رسمت مسارا لإنشاء الوعي بهذا الحق الحقوقي، لما تبين، في أكثر من مناسبة، أن الحفاظ على التراث المعماري مطلب حقوقي. فمن جهة ظل المعمار، على الدوام، ذا صلة بكل ما هو حضاري، وليس البناء فقط. لذلك فهو مرتبط بعدة مهارات كانت تطورت لدى الإنسان في وجه أسلوب البناء، والذي يروم في الغالب استحضار الحفاظ على البيئة المحلية وإنتاج أشكال جمالية. لذا فالمعمار مسلسل طويل من التقدم والإبداع، كانت آخر أطواره أن الحق في معمار يضمن سلامة البيئة، والحق في معمار جميل، وفي الحفاظ على التراث المادي، أهم من إقامة سكن اجتماعي.
فالتراث المعماري، هو الذي تمكن، وحده، من إنشاء التقائية بين حماية حقوق الإنسان، في الحق في حماية التراث المادي وغير المادي، والنهوض بثقافة حقوق الإنسان، والنهوض بالتراث المادي وغير المادي، في المناطق التي تعرضت للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وفي مناطق أخرى. فلا مناص، إذن، من إدماج الحق في حماية التراث المعماري في السياسات العمومية وفي المخططات المحلية، رجاء في استثمارها سياحيا.
ولبلوغ مستوى حماية التراث المعماري والنهوض بهذا الحق، لا بد من إجراء تشخيص واسع لبيان مستوى الارتباط بين التجمعات السكانية، الأحياء العمرانية بمدن الجنوب الشرقي، والقرى الزراعية الحصينة. لأن ربط المنظومة المجتمعية بوحدة عمرانية متجانسة، يمكن عدها أحد أماكن الذاكرة، بقطع النظر عن ارتباطها بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، التي عرفها المغرب في السنوات الماضية، وهي مدخل لمجال العمران وحقوق الإنسان. ويقضي التشخيص، كذلك، بيان مدى تعدد المشارب الفكرية في التراث المعماري المغربي، ففضلا عن المؤثرات الرومانية، والعربية الإسلامية، هناك مؤثرات إسبانية وفرنسية. وفي مدينة طنجة ذات الوضع الدولي في الماضي الكولونيالي المغربي، تجد كل عناصر التراث المعماري الغربي قائمة تقاوم أحيانا جشع المضاربين العقاريين الذين لا يعنيهم التراث المعماري في شيء. وأما المعمار الأمازيغي برموزه فقائم بالأساس بالجنوب المغربي الذي خضع لسياسة التهدئة Pacification في عهد الحماية الفرنسية. ويقضي التشخيص أيضا بيان التحولات التي كسحت معالم التراث المعماري، في كثير من المواقع، فضلا عن الارتجال في توظيف المجال مما نتجت عنه خسائر وتشويهات.
ولئن كانت الأماكن المعلقة بالرمز كالأضرحة والمزارات والزوايا والمساجد قد حافظت على نفسها، وحافظ عليها الزمان لارتباطها بالمقدس والمحرم، فإن بعض المشاريع التنموية التي تفتقر إلى المقارنة الحقوقية لا تفتأ تضرب هذه المساجد وتكسح البيانات القديمة، بدون حذر ولا انتباه.
ويروم التشخيص كذلك الوقوف عند التراث المعماري وذاكرة الأماكن والطوبونيميا. ذلك أن كثيرا من الأسماء تشوهت، ولم تعد ذات دلالة من مثل، سجلماسة (سيك ألماس) التي تعني الإشراف على الواحة، وترناتة التي تعني (ترناتن)، أي: غلبتهم، وتازوكة، أي: (تازوكت) وهي جزام الأسلحة. وهناك أسماء أماكن معمارية تجهل الآن دلالتها. وقد تحيلنا ذاكرة الأماكن إلى التراث الشفاهي والتقاليد الشفاهية. ذلك أن جل الوحدات المعمارية المتجانسة تشتمل في الغالب الأعم، على ساحات الفرجة كنحو الساحات التي حافظ عليها التجمع العمراني، أسرير، وهي في الواقع تشبه الفوروم (Forum) في المدينة الرومانية. ولا شك، أن ما ألقي في هذه الساحات من أشعار، يستدعي جمعه وربطه بذاكرة المكان، بما هو فضاء معماري.
ج- المورد الثالث يكمن في الممارسة المتحفية ذات الصلة بالهوية الثقافية. فإذا صح تقدير هذه الممارسة عاليا، أن تون ذات الصلة بالأفراد، أو بالاستثمار السياحي في أحسن الأحوال، فإن هذا الركن الحي المتثل بمجال صيانة الهوية الثقافية، لم يجد بعد مكانه في السياسة العمومية المحلية. والمنجز في هذا الشأن نورده في موجز وقائع ندوة ورزازات، تحت عنوان: «واحات درعة وتافيلالت: الثقافة، والتاريخ، والتنمية، أي إستراتيجية جهوية مندمجة؟»، يومي 21 من شهر يناير 2012 و 22 منه بفنق «بيربير بلاس Le berbère palace» بمدينة ورزازات بالجنوب الشرقي المغربي. والندوة من تنظيم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بشراكة مع مؤسسة ورزازات الكبرى للتنمية المستدامة والمجلسين الإقليمي والبلدي بورزازات. والهدف من الندوة وفق تقرير أنجزناه وقتها، «إعادة قراءة تاريخ الواحات، وإعادة كتابته وجرد ما تزخر به من غنى تراثي وثقافي وتحديد سبل المحافظة عليه وتثمينه، بالإضافة إلى وضع التوجهات الكبرى من أجل إحداث متحف الواحات». إن ندوة ورزازات، قال الأستاذ إدريس اليزمي، وقتها، وهو رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، «تنظم في إطار برنامج مواكبة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في مجال الأرشيف، التاريخ والذاكرة (IER2)، الذي يحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي».
وفي خطابه الافتتاحي، الذي شكر في خاتمته كل الذين دعموا تنظيم الندوة المذكورة، وأكد السيد إدريس اليزمي أن اللقاء «ينعقد في إطار سلسلة الندوات العلمية التي نشأ المجلس الوطني لحقوق الإنسان ينظمها ابتغاء التفكير في رؤية إحداث متاحف جهوية ووطنية للتاريخ ومناقشتها، متاحف تستجيب للمعايير الدولية وتتفاعل مع السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمناطق التي ستحدث فيها». وقد سبق للمجلس أن نظم ندوتين إحداهما بمدينة الحسيمة بأقصى شمال المغرب والثانية بمدينة الداخلة بأقصى جنوبه، وأتت ندوة مدينة وارزازات في المرتبة الثالثة وفق الترتيب الكرونولوجي، لتسير «في نفس الإطار وبنفس الهدف: تحديد المعالم التاريخية والموزيوغرافية لمتحف الواحات».
وحدد السيد الرئيس مسعى الندوة الذي تجلى أساسا في « الوقوف عند التاريخ الجهوي والتراث المادي وغير المادي لكل جهة»، وخلق «دينامية لإحداث متحف جهوي للتاريخ». ولم يغفل الإشارة إلى الشركاء المعتمد عليهم لتحقيق هذا المراد «الجماعات المحلية والمجتمع المدني والشركاء الاقتصاديين الذين يساهمون ويدعمون ماديا هذه المبادرة».
وخلص السيد الرئيس إلى أن «الحفاظ على الذاكرة الذي يندرج ضمن حقوق الإنسان، ويشكل الركيزة الأساسية لكل بلد حداثي وديموقراطي متطلع إلى قراءة ماضيه، وإعادة قراءته بتأن وهدوء ليعيش حاضره، والإعداد لمستقبله بكل طمأنينة». لذلك «انخرط المغرب بالفعل في هذه الدينامية من خلال إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة التي تمت دسترة توصياتها تفعيلها».
ولما «كانت الذاكرة تشكل جزءا هاما من هذه التوصيات، فإنه يتحتم على كافة مكونات المجتمع المغربي بذل كل الجهود الضرورية حتى يتسنى حفظ ذاكرتنا إيجابيا. وبما أن إحداث المتاحف ينطلق من البحث العلمي والحوار بين المتخصصين»، فإن الندوة شكلت «الخطوة الأولى في هذا المسار الذي يتوخى بلوغ الأهداف الأساسية التالية:
- إعادة قراءة تاريخ الواحات وكتابته.
- جرد مقومات الواحات الثقافية والتراثية.
- تشخيص سبل الحفاظ على ثقافة الواحات وتراثها وتثمينه في إطار تنمية مندمجة.
- وضع اللبنات الأولى للتوجهات الأساسية لمتحف الواحات الكفيل بحمل صورة دالة وقوية عن هذه المناطق بالإضافة إلى خلق دينامية مجالية ذات انعكاسات اقتصادية واجتماعية وثقافية».
وضمن توصيات الندوة ما يلي:
- العمل على الاهتمام بكل مكونات التراث الواحي المادية واللامادية.
- تبني تقنيات وأدوات ملائمة لترميم وصيانة العمارة الترابية التقليدية.
- إدماج الأنساق والرموز الممارسة، والأغاني والرقصات، وعملية المحافظة على التراث، والعمل على تنظيم مهرجانات قارة.

- الاهتمام بالمواقع التاريخية، أو ذات قيمة تاريخية والإشارة إليها بعلامات أي وضع تشوير .... تقنية واضحة في الميدان.
- إدماج كل واحات المنطقة في دينامية التنمية الجارية وخصوصا في وضع تصور المتحف أو المتاحف المرتقبة.
- تبني ماركتينج التراث كأداة لتثمين المجال الواحي.
- التعامل مع الموروث الثقافي والموروث الطبيعي كوحدة متكاملة ومستمرة وابتكار الأدوات الصالحة للصيانة والمحافظة...
- العمل على الاستفادة من تجارب أخرى في مجال تثمين التراث بشكل عام.
- تشجيع نشر نتائج البحث العلمي في مجال التراث الواحي.
- إدماج الطوبونيميا أو أسماء الأماكن ضمن التراث المحلي والاهتمام بدراستها.
- الاهتمام بالتراث المعماري بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية.
- العمل على الاستفادة من التعاون الدولي في مجال دراسة التراث المحلي وحمايته.
- تكثيف عقد لقاءات علمية لتداول نتائج البحث ومناقشة سبل حماية التراث وتثمين المجال الواحي بشكل عام
- مراعاة الطابع المعماري الواحي، خصوصا استعمال العمارة الترابية في بناء المنشآت المرتقبة في إطار مشروع المتاحف المرتقبة.
- التأكيد على أن متحفا كبيرا لن تكون له الجدوى المرتقبة من قبل الجميع وبالتالي من الأفيد التفكير في وضع متحف حي ومفتوح يدمج كل واحات المنطقة.
- توظيف المعتقدات السرية وإدماجها كموروث أساسي داخل مشروع المرتقب بعد رد الاعتبار له.
ولقد تمكنت الندوة من رسم الواحة كلها متحفا يجب العناية به من حيث المعمار والنظم، والأدوات والتقاليد.
د- المورد الرابع، مجال التقاليد الشفاهية، بقطع النظر عن أصلها المرجعي، أن يكون ملة، أو نحلة. ذلك أن الجنوب الشرقي المغربي متصل في جميع الأحوال بشأن تدوين التراث الشفاهي بما هو تقاليد تتمثل في عادات اجتماعية، أن تكون طقوسا وشعائر وممارسات، من جهة، أو بما هي معرفة، أشعار وقصص وأمثال تتداول شفاهيا، ومخطوطات غير محققة وغير منشورة، مرتبط أشد الارتباط بإعمال حقوق الإنسان الثقافية. ويندرج التراث الشفاهي والعبارات ضمن التراث غير الملموس المحدد في المادة 2 من اتفاقية باريس لسنة 2003 (اليونسكو). كما سلفت إليه الإشارة.
ولقد طرحت الشفاهية إشكالا كبيرا في الجنوب الشرقي عامة، وفي حوض درعة بشكل خاص، في السنوات الأخيرة، حيث عرض التراث الشفاهي للتدوين في بعض المناطق ونودي للتدوين بأوساط أخرى بصوت مرتفع. فهي ليست شفاهية محضة «Une oralité pure» غير ذات اتصال بالكتابية، ولكنها شفاهية مزدوجة نشأت في أوساط قبلية لا تزال تعتمد الكتابية في تدوين عقودها والتزاماتها، ومنها التي ذهبت بعيدا في تدوين الفتاوى والأذكار والأمداح والأعراف، في الغالب، ونسخ المخطوطات، إلا أنها لا تدون الأشعار غير الدينية والأمثال ذات الصلة بالثقافة غير العالمة، ولا تعتني بتقاليدها الشفاهية، أوساط يميزها أيضا أنها تملك القدرة على مقاومة النص الكتابي بتكييفه ليتلاءم وما تقتضيه الهوية الثقافية لمجتمعات الجنوب الشرقي.
وبفعل تفوق بعض المناطق في التكييف، تكييف النصوص المكتوبة لتتجانس والأنساق الثقافية، استطاعت أن تحمي نطاقا واسعا من التعود، يحتضن بعض التقاليد الشفاهية التي تعود إلى الماضي التاريخي القديم، ويزخر بتعدد الفرق الفنية، حوالي 14 فرقة بإقليم زگورة على سبيل المثال، واختلافها، بشكل يتناسب وتعدد العشائر الإثنية، ويتمتع أهله، في أحسن الأحوال، بسيادة مقاربات في التحصين والدفاع الذاتي وضمان أمن الحياة الثقافية، داخل قرى زراعية محصنة تطورت إلى قصور، وقصبات ولا تزال بناياتها تقاوم الدهر.
وإذا كانت بعض التقاليد الشفاهية ذات مرجعية دينية كتابية، طالما تأثرت بالفتوى، وامتثلت لثنائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الثقافة الشفاهية المتمثلة في الأشعار والحكايات والقصص والأمثال، جلها فصول من الفن المحض والإبداع. ذلك أن التفكير ذا الأساس الشفاهي يكون، في الغالب، في شكل شعري. وكل فصول الشعر والتفكير الإيقاعي منتظمة في أنساق ترتبط ارتباطا وثيقا بالهوية الثقافية للعشيرة (أو العشائر). إن الحفاظ عن الهوية الثقافية وضمنها التعدد الثقافي الذي يتناسب والتعدد الإثني في الغالب، مطلب حقوقي يتصل بإعمال الحقوق الثقافية وصيانتها من الانتهاك. ولبلوغ هذا الشأو، والمتمثل في الاعتناء بالهويات الثقافية، لا بد من وسائل منها ما هو متاح، للآن، كالتدوين الكتابي ومنها ما يستدعي بعض الجهود كالتصوير الفوتوغرافي والتضمين في أفلام وثائقية وغير ذلك، دون إغفال أن مطلب إنجاز الحفريات في معظم المواقع، وتحقيق المخطوطات والتعريف بالأماكينية وتصحيح المسميات المشوهة منها، بات أيضا مطلبا حقوقيا قائما.
إن الحفاظ على الهويات الثقافية بما هو مطلب حقوقي قائم على سياقات متعددة منها ما يرتبط بالتاريخ الشفاهي المحلي للجنوب الشرقي، ومنها ما يتصل بالشفاهية ذاتها كمعرفة وكثقافة غير عالمة، وما يرتبط بالسياق الحقوقي الجهوي والوطني والدولي المرتبط بالتحولات، وما هو قائم على مجهود بعض المؤسسات كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
هـ - المورد الخامس يتثمل في الرموز الثقافية التي يحملها المعمار شأنه شأن الزرابي والأواني الخزفية والأزياء وهي رموز نشأت تتدهور بفعل الإهمال. ولئن حصلت محاولات للتجديد، فهي تقليدية غير معقلنة.
نلفى المعين، أول هذه الرموز. إنه رمز امرأة. وكلما أشرنا إلى المرأة في الرموز القديمة، نستحضر الخصوبة، واستمرار الحياة وجمالها. والرمز هنا يخمل في كلتا الغايتين أبنة، مما يوحي بالربط القوي بين شيئين، أو أشياء متناقضة. وطلما يكم سر الأشياء في الجمع بين المتناثضات جمعا مخكما بعقدة الربط. وللقيد معنى في توجيه التوتر نحو غاية معينة. ذلك ما يمكن استخلاصه من الرمز الذي زين بعض المواقع المعمارية بأسرير، بجماعة فركلا العليا، بإقليم الرشيدية، ويزين المعين وشما مرسوما في وجوه نساء قلبيلة أيت إبراهيم بإملشيل.
والرمز الثاني يشير إلى الشمس، ويتراءى في الوشم في الوشم مختزلا، في ثلاث نقط، أو بمجموعة من النقط المصففة، في شكل عمودي في صفين، يتوسطهما خط. ولقد تعدل رمز الشمس في المعمار، فأصبح يرمز إلى النخلة التي تعبر عن الشموخ بأبراج تافيلالت. ولئن كانت الشمس قوة سيئة، فهي رمز الحياة. وكانت بعض العشائر تخضب أكفّ أبنائها الذكور بمز الشمس تعبيرا عن الحياة. والشمس معبود أمازيغي قديم.
والحمل رمز ثالث يزين معمار قرية أسرير. ولقد أشار البكري إلى عبادته قبل وصول الإسلام المغرب. إنه رمز القوة الطبيعية، ورمز الإله أمون الذي اتخذ له معبد بواحة سيوا المصرية. ولقد بات الحمل ذبحه طقسا أساسيا في ليلة الدخلة، لدى معظم العشائر الأمازيغية. وتراءى رمز الحمل في أبراج تينجداد التي تعرضت للكسح، كما سلفت ليه الإشارة.
وإلى جانب الرموز نجد الأزياء المحلية وكلها تحمل رمز جالوت، الذي يستخلص من الفوة، ثم اللون الأسود الصحراوي والبنفسجي اليهودي، رمز الخوف، والأحمر الناصع.
ورغم وفرة الموارد التراثية، فالبرامج المخصصة لتثمينها قليلة للغاية. ويمكن تسجيل تراجع خبرة الصناعة التقليدية، إذ تجدد موارد التراث، إثر استفحال الهجرة اليهودية طيلة عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مما أدى إلى تضرر المتحفية على وجه الخصوص. وتنفرد منطقة تينجداد باختزانها مواد نفيسة تغذي الممارسة المتحفية فضلا عن الخبرات الفائقة في هذا المجال.
إن تشخيص التراث يهدف إلى تحديد الخام المتوافر، وتنمية موارده، بدعم البنية التحتية الملائمة طمعا في الترويج والتسويق ، وتلك مقدمة لا بد منها للولوج إلى اقتصاد التراث الثقافي بالجنوب الشرقي المغربي.
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن