الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأساس السياسي-الاقتصادي للمناهج التربوية ودورها في الفشل الدراسي المنهج القائم على الكفايات نموذجا

حنان قصبي

2018 / 1 / 21
التربية والتعليم والبحث العلمي


تقديم:

إذا كانتِ التعثرات والعوائق التي تعترضُ المناهج والمقاربات التربوية إبان تطبيقها أمرا متوقعا، بل أمرا يشكل جزءا لا يتجزأ منها، لأنه قد يُفترض أن يكون من أسباب تطورها وتحسن مردوديتها، فإن هناك عوائق أخرى أهمّ وأخطر بكثير من الأولى، وهي تلك التي ترتبط بتكوين هذه المناهج. بحيث لا تكون هذه المناهج ملائمة أصلا لمجال التربية والتعليم، ويكون ولوجها لهذا لمجال ولوجا غير مشروع.
وإذا كان الأساس السياسي-الاقتصادي لبعض المناهج والمقاربات التربوية لم يعد مجرد فرضية، بل صار أمرا مبرهنا عليه بشتى الطرق، فإن ما يسترعي الاهتمام هو أثر هذا الأصل والمرجع السياسي- الاقتصادي على الفشل الدراسي بالمغرب وعلى أزمة التعليم فيه.
لا تكمن المشكلة في أن تكون هذه المناهج والمقاربات من طبيعة ليبرالية، وتعبيرا عن أيديولوجية الرأسمالية المُعولمَة، وإنما المشكل يكمن في التساؤلين التاليين:
- ما مدى فعالية مناهج تربوية وبيداغوجية تكونت خارج حقل علوم التربية وخارج متطلبات المدرسة؟
- ما هي النتائج المترتِبة عن نقل مناهج ومقاربات تربوية وبيداغوجية تكونت في بلدان المركز إلى بلدان المحيط؟
ستتم الإجابة عن هذين السؤالين من خلال نموذج المقاربة بالكفايات باعتباره التصور المعمول به حاليا في المدرسة المغربية، وباعتبارها التصور السائد عالميا.

ظروف تبني المغرب للمنهج القائم على الكفايات:

يمكن إجمال الأسباب التي أدت إلى تبني المغرب للمنهج القائم على الكفايات في ما يلي: تطوير المدرسة المغربية وجعلها تواكب متطلبات العولمة وذلك في إطار إصلاح المنظومة التربوية، التصدي لظاهرة المعطلين الحاصلين على الشهادات الجامعية، إعادة الاعتبار لقيمة الشواهد التي تمنحها المؤسسات التعليمية المغربية، خلق تلاؤم ما بين التكوين الدراسي ومتطلبات سوق الشغل، التصدي لضعف مردودية المؤسسات التعليمية، التقليص من الكلفة المرتفعة للتعليم..
وتلازمَ هذا الخطاب مع بروز مؤشرات تبرز بوضوح وقوعَ تحول كبير في مجال القيم والتكوين ودور الثقافة ومكانة الربح والمردودية في تدبير المدرسة، ومن أهم تلك المؤشرات: تدهور الوضع الثقافي، تدني مستوى الأنشطة الثقافية كما وكيفا، تراجع الدور الثقافي لدور الشباب، غياب المجلات الثقافية الرائدة ثقافيا، ظهور ظاهرة التعليم الخاص.

الكفاية: التباس المفهوم

ليست الكفاية خبرة تخصصية (المعنى الشائع)، وليست ملكة وراثية وقدرة فطرية للذهن البشري (كما يرى ذلك نُعام تشومْسْكي)، وليست الأداء والإنجاز في وضعية محددة: إن الكفاية هي معرفة كيفيةِ تعبئةِ مجموعة من الموارد [(تتمثل في المعارف (savoirs) والخبرات (savoir-faire) والقدرات الشخصية على التعامل مع مواقف معينة أو مهارات التواصل الاجتماعية (savoir-être)] وجعلها تخدمُ الفعل المنجز بشكل فعّال. إنها تعبئة مستمرة في الحياة اليومية لمواردنا المعرفية والعاطفية والحركية في وضعية من وضعيات الحياة اليومية.
وبالرغم من أن معظم الباحثين في مجال علوم التربية يتفقون على هذا التعريف (على سبيل المثال: فيليب بيرونو Philippe Perrenoud، وأنجيليك ديل راي Angélique Del Rey )، إلا أن ذلك لم يمنع من الحديث عن التباس هذا المفهوم، ذلك الالتباس الذي سيكون له أثر سلبي في تطبيق المقاربة وفي التقويم.
لقد أكد كل من الباحث الكندي جيرار بوتان (Gerard Boutin)، والباحث البلجيكي مارسيل غراهاي (Marcel Grahay)، والباحث الفرنسي فيليب ميريو (Philippe Meirieu) على مسألة غموض المفهوم.
إن الكفاية مفهوم يستعمله عالم المقاولات، وتستعمله المدرسة، ومؤسسات التكوين المستمر، ويستعمله الأفراد أثناء قيامهم بمهام معينة، كما يستعمل في مجال التقويم الدولي للأنظمة التربوية الذي ينصب على حصيلة التلاميذ والراشدين.
يرى الباحث فيليب ميريو أن "الكفاية تهدف للتحكم في نتيجة التعلم"، بحيث أن المدرسة تقوم عبر المدرس "بجعل المتعلم منتوجا من منتوجاتها"، لذلك تلجأ لمراقبة العمليات التعليمية والتعلُمِية والتأثير على المتعلم بِحجة أن كل ذلك يتم من أجل مصلحته.
لكن ما السبب الذي جعل مفهوم الكفاية يحتل مركزَ الصدارة في المؤسسات التعليمية وفي عالم الشغل؟ تجيب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) بأن سبب ذلك يعود لكون "المشغلين وأرباب العمل وجدوا في الكفاية عوامل أساسية للدينامنيكية والمرونة، فقوة العمل التي تتوفر على هاتين الكفايتين هي قوة عمل قادرة على التلاؤم والتكيف باستمرار مع الطلب ومع وسائل الإنتاج التي تتطور بلا انقطاع".

مضمون المقاربة بالكفايات:

يرى فيليب بورونو Philippe Perrenoud أن المقاربة بالكفايات "تجعل التلميذ قادرا على تعبئة مكتسباته الدراسية خارج المدرسة في وضعيات مختلفة معقدة وغير متوقعَة".
إن هذه المقاربة عبارة عن نموذج معرفي يتسم بالانسجام، وله تصور وتأويل للواقع (أي براديغم paradigme). ويتكوّن هذا البراديغم من: المعارف، والخبرات والمهارات، والقدرات الشخصية على التعامل مع مواقف معينة. وتستهدف هذه المقاربة ثلاثة أهداف أسياسية حسب كزافيي روجيي Xavier Roegiers هي:
- التركيز على ما ينبغي للتلميذ أن يتملكه ويتحكم فيه في نهاية كل سنة.
- إعطاء معنى للتعلمات بجعل التلميذ يفهم بوضوح فائدة ما يتعلمه في المدرسة، ووضع المعارف المحصّل عليها في وضعيات لها معنى بالنسبة له وتمكينه من استعمال مكتسباته في وضعيات مختلفة.
- التصديق على مكتسبات التلميذ بناء على نجاحه في إيجاد حلول لوضعيات ملموسة.
إن المطلوب حسب هذه المقاربة هو أن يتمكن التلميذ – حسب فرانسوا لاسنيي François Lasnier – أن يعالج المعلومات بعمق، ويصنفها (أي الترميز)، ويحتفظ بها في الذاكرة (أي التخزين)، وأن يرجع إليها بشكل ملائم في وضعيات التعلم (أي التذكر)، وأن يربط بين مفاهيمه ويستعمل معلوماته المخزنة استعمالا جيدا (أي تدبير الذاكرة)، وأن يعمم تَعلُماته على وضعيات مشابهة أو مختلفة.

من التبليغ إلى الكفايات:

أدى تبني المنهج القائم على الكفايات إلى إدانة التبليغ، واعتباره مرادفا لتخزين المعارف. وتم انتقاد التبليغ باعتباره معارضا للتكوين. لقد تم استبدال منطق التبليغ بمنطق الكفايات – حسب كريستيان لافال Christian Laval – وذلك بقرار فوقي من المسؤولين السياسيين وأرباب العمل. وإبعاد التبليغ وتعويضه بالكفايات هو تطبيق تايلورية جديدة في التعليم (نسبة للمهند الأمريكي تايلورTaylor المتوفى سنة 1915) تقوم على تقسيم العمل والتحفيز والمردودية وخَفض التكلفة.
ترى المقاربة بالكفايات أن التعلم ليس نتيجة آلية للتبليغ، لأن التعلم الفعلي لا يتم إلا إذا عرف التلميذ كيف يقوم بتعبئة كل ما تعلمه لاستعماله في وضعيات معينة. كما أن الانتقال من تبليغ المعارف إلى تكوين الكفايات يشكل ثورة هامة في مجال التعليم، وتتمثل هذه الثورة في جعل المعارف ( بالمعنى الجديد لهذه الكلمة التي صارت تضم الخبرات والمهارات والقدرات الشخصية على مواجهة مواقف معينة) تتمحور حول التلميذ، وتخدمه، ولا تكتسي أية أهمية إلى بقدر ما تكون نافعة له.
إن منطق التبليغ يهتم بالإرث الثقافي المحلي والإنساني، ويجعل التلميذ يتعايش ويتفاعل مع تلك المعارف والقيم. أما منطق تكوين الكفايات فيهدف إلى جعل تلك المعارف والقيم في خدمة اكتساب الفرد لكفايات تكون نافعة ومفيدة.

الأساس السياسي-الاقتصادي للمقاربة بالكفايات:

ما هو الأساس السياسي-الاقتصادي لهذه المقاربة؟ وما هو تأثير هذا الأساس على تطبيقها؟ وهل ينسجم الأصل الاقتصادي والسياسي لهذه المقاربة مع طبيعة التربية والتعليم؟ وهل تنسجم مع متطلبات التلميذ وتوْقه لتكوينِ شخصية منسجمة ومتحررة ونقدية؟
إن المقاربة بالكفايات ترتكز على مفاهيم اقتصادية مثل: الكفاية - الفائدة – المنفعة – النجاح – القابلية للتشغيل – المرونة – الملاءمة – الإشباع – التحفيز – المنافسة – اقتصاد المعرفة – اقتصاد التربية والتعليم – النمو – الرأسمال البشري ....
يرى غاري بيكر Gary Becker (وهو أول اقتصادي منظر لمفهوم الرأسمال البشري) أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فرضت سنة 1962 الفكرة القائلة بأن "التعليم هو مصدر للنمو الاقتصادي بالنسبة للدول، لأنه يسمح بتنمية الرأسمال البشري". وأنه ليس فقط قطاعا يبتلع نفقات عمومية هائلة. فهو يمكنه أن يُدرَّ مداخيل وأرباحا. وتم اعتبارُ التعليم العامل الثالث من عوامل النمو الاقتصادي إلى جانب العاملين الآخرين وهما: الرأسمال والشغل. وهذا يعني أن الزيادة في عدد الكفايات التي يكتسبها الأفراد سيجعل التعليم ينمي الرأسمال البشري والقابلية لتشغيل الأفراد.
إن مصدر التصور القائم على الكفايات هو عالم المقاولات، وعالم التدبير الاقتصادي في ظل أزمة الرأسمالية في منتصف السبعينيات. إن عالم المقاولات هو عالم المنافسة انطلاقا من مواجهة مشاكل من قبيل: تقليص الفارق بين "العمل المتوقع إنجازه" و"العمل المنجز فعلا"، وتدبير الصراعات الاجتماعية من خلال منطق المشاركة.
إن تصور الكفايات هو استجابة لمتطلبات المقاولات، لذلك برز مفهوم الرأسمال البشري (الذي يعني مجموع الكفايات التي في حوزة المقاولة)، ويسمى أيضا بالرأسمال المعرفي، والذي صار المصدر الأساسي لتنافسية المقاولات في الغرب. إضافة إلى أن مفهوم الكفايات يسمح بتعبئة الموارد لاستعمالها في وضعيات محددة وهو ما ينتج عنه مفهوم "النجاح في الحياة". وكل ذلك يؤكد إخضاع البعد البيداغوجي في التربية والتعليم للبعد الاقتصادي، الذي صار يتحكم في إدارة الأنظمة التعليمية.
تتضمن عبارة "اقتصاد التربية والتعليم" "الفاعلية الداخلية" للأنظمة التربوية والتعليمية (التي تتمثل في نجاح التلاميذ) و"الفاعلية الخارجية" (التي تتمثل في القابلية للتشغيل). إن الأنظمة التعليمية مطالبة، حسب المنظور الاقتصادي المتحكِم فيها، أن تحقق فعالية أكبر، أي إنجازَ أكبرَ ما يُمكن إنجازه من نتائج بأقل تكلفة ممكنة. كما يحتل مصطلح الملاءمة مكانة هامة في العمل بتصور الكفايات: فالملاءمة تعني عدم تجاوز حدود معينة وأفق معين.
يرى كريستيان لافال أن التصور القائم على الكفايات تمتْ صياغته عبر "حوار" حوار غير مباشر تم بين أرباب الشغل والسياسيين والإدارة التربوية وبعض الخبراء البيداغوجيين. ولق تم ذلك في أمريكا ما بين سنة 1880 و1990. ثم انتشر في أوربا. وجعلتْ الدول الأوروبية من المنهج القائم على الكفايات معيارا عالميا من خلال "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، ومن خلال الاتحاد الأوربي. إن التصور القائم على الكفايات يجمع بين منطقين: منطق البيداغوجيا ومنطق التدبير الاقتصادي.
ويخلص كريسيان لافال إلى أن "اعتبار الأنظمة التعليمية عبارة عن مقاولات تُنتجُ الرأسمال البشري يقتضي أن يكون المعيار العام الذي يجب أن تخضع له المدرسة هو: القابلية للتشغيل". وانطلاقا من هذا التصور المقاولاتي للمدرسة سيصبح الهدف الحصري للمدرسة هو: إنتاج قوة عمل قابلة للبيع.
إن الواجب المطلق الذي فرضته السياسة الليبرالية على المدرسة هو: القابلية للتشغيل. وللخضوع لهذا الواجب يجب القيام بتنسيق جميع مكونات العملية التعليمية حسب متطلبات الرأسمال البشري: وهكذا يمكن القول أن الكفايات هي وحدات أولية للرأسمال البشري والتي يحددُ عددُها وتركيبتُها مطلبَ القابلية للتشغيل. والقابلية للتشغيل مقولة مركزية وملائمة لسياسة التشغيل ولسياسة التربية، لأن الأمر يتعلق بقدرة كل فرد على "بيع قوة عمله" في سوق الشغل، في إطار رأسمالية تستهلك بكثافة الكفايات التي ينبغي تحيينها باستمرار بسبب وتيرة التغيرات التكنولوجية وإعادة بناء الاقتصاد. إن هذه المقاربة تجعل كل فرد "هو المسؤول عن تدبير رأسماله القابل للتشغيل". فالبراديغم الجديد للتعليم يرتكز على مطلب: "التكوين طيلة الحياة"، هناك إكراه يفرض على كل فرد تجديد "مخزونه من الكفايات" باستمرار. لقد تمت إعادة تعريف محتويات التعليم في إطار عقلة عامة منظمة بناء على إكراه "القابلية للتشغيل".
لقد صارت هذه المقاربة عالمية تدعمها العديد من الدول المنضوية في "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" التي تبنت رسميا اختبارا أطلقت عليه "البرنامج الدولي لتتبع مكتسبات التلاميذ" (PISA)، أما بالنسبة لتقويم الراشدين فلقد تم اعتماد برنامج آخر هو: "البرنامج من أجل التقويم الدولي لكفايات الراشدين" (PIAAC). وحسب هذا البرنامج يخضع التلاميذ البالغين 15 سنة من العمر، في كل ثلاث سنوات، لاختبارات يجريها "ائتلاف دولي" يقوم بتقويم الكفايات في المواد التالية: الرياضيات، العلوم الطبيعية، فهم النصوص.
تم تبني المقاربة بالكفايات للمساهمة كما - يزعم روادها - في تقليص كلفة التعليم المرتفعة. ولتحقيق ذلك الزعم تقبلُ المقاربة بالكفايات، اعتمادا على نظام الأسلاك التعليمية، انتقالَ التلاميذ، الذين يعانون من مستوى ضعيف، إلى المستوى الأعلى بحجة أن الكفايات غير المكتسبة ستُكتسب في المرحلة العليا، لأن الهدف هو محاربة التكرار للتخفيض من كلفة التعليم، ولتحقيق ذلك تم الاعتماد على المراقبة المستمرة بدل الامتحانات: إنه منطق اقتصادي بامتياز.
على المدرسة المعتمدة على منهج الكفايات أن تنتج عاملا قادرا على إنجاز عدة مهام في نفس الوقت عوض توزيعها على عدة عمال. بل إن "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" تعترف بكل صراحة "بأن أغلبية التلاميذ لن يحققوا النجاح المهني في ظل الاقتصاد الجديد الذي هو اقتصاد المعرفة، لذلك لا ينبغي إعداد البرامج الدراسية كما لو أن جميع التلاميذ سيحققون نجاحا مهنيا".
ويعتبر اقتصاد المعرفة إستراتيجية جديدة للمنافسة تقتضي الاستثمار في الموارد البشرية باعتبارها المصدر الأساسي للربح الاقتصادي. ولقد حل مجتمع المعرفة محل المجتمع الصناعي في الدول المتقدمة، ويسمى أيضا بالاقتصاد غير المادي ويرتبط بمفاهيم نجدها في صلب المنهج القائم على الكفايات من بينها على سبيل المثال: الكفاية، التعلم طيلة الحياة، المرونة، القابلية للملاءمة، تعدد كفايات الفرد الواحد.
يتعلق الأمر في عصرنا بعولمة المنظومات التربوية والتعليمية، وهذا يعني أن كل إصلاح تعلمي يخضع لغايات سياسية. فالمدرسة في ظل هذا الوضع تتبع للاقتصاد أكثر مما تتبع للدولة، بل إن تبعيتها للاقتصاد تكرسها الدولة سياسيا. فعلى المدرسة أن تُكوّن كفايات تحقق الربح والأداء الجيد المنافس، ولتحقيق ذلك يتم تقليص التخصصات التي تسمى ثقافية، وسوف لن تحتل إلا مكانة ضئيلة في المنظومة التعليمة في المستقبل باسم عدم مردوديتها، ولن يتم التركيز إلا على: الرياضيات والعلوم الطبيعية واللغات الأجنبية.
إن العالم السوسيو-اقتصادي – حسب جون ماري دو كيتيل De Ketel Jean Marie- هو الذي حدد مضمون الكفاية لأن الراشدين الذين كونتهم المدرسة لم يكونوا مؤهلين بما فيه الكفاية لولوج عالم الشغل".

مكانة التلميذ في المقاربة بالكفايات:

تزعم المقاربة بالكفايات أنها وضعت التلميذ في قلب عملية التعلم، مُنطلقة من مسلمة مفادها أن التلميذ يمتلك بطبيعته قدرة على تطوير الكفايات المطلوبة، وأنه هو المسؤول على تعلماته، وأن عليه أن يبني معارفه بذاته، وما هو مطلوب من المدرس والمدرسة هو: تمكينه من الأدوات اللازمة لذلك.
أدى منطق الكفايات إلى "جعل التلميذ موضوعا مرنا قابلا للتلاؤم والتكيف والانصياع". أي يتم التلاعب به والتصرف فيه. تهدف هذه المقاربة حسب فيليب ميريو إلى "مراقبة العمليات التربوية والتعلمية والتأثير على المتعلم باسم مصلحته، وجعله منتوجا من منتوجات المدرسة". وهذا ما يعبر عنه غريغوري باتيسون Grégory Bateson بالقول بأن المقاربة بالكفايات تقوم "بإجبار التلميذ على الانخراط في بحرية في ما يُفرض عليه وهذه مفارقة مزدوجة". إن حرية التلميذ تعني في هذا التصور استعماله وتوجيهه لأغراض محددة خارج حاجياته. تتصور هذه المقاربة التلميذ بدون "ميزات ولا خصائص "، بحيث ينبغي أن تُلصقَ به الكفايات لكي ينجح في الحياة ضدا على رغباته وميولاته واختياراته وميزاته الخاصة: إن الأمر يقود للإستيلاب.

بعض الانتقادات الموجهة للمقاربة بالكفايات:

- إن التصور القائم على الكفايات تصور يضع الاقتصاد في قلب المنظومة التربوية والتعليمية وذلك بجعل التلميذ وتعلمه "موردا بشريا" يجب توظيفه في خدمة الاستراتيجيات الجديدة للمنافسة. فالحديث عن حاجيات التلميذ هي في الحقيقة مغالطة، لأن هذا التصور يهتم بحاجيات الاقتصاد عبر الرأسمال البشري.
- إن التصور القائم على الكفايات تصور سلعي للتعليم، وقد صار تصورا مهيمنا في معظم أنحاء العالم الغربي وغير الغربي، وهو تصور منافس للتصور الإنساني التحرري والتحريري للتربية والتعليم. فالتعلم لم يعد مصدرا للعقل المؤسس للقيم الجماعية المؤسسة للعيش المشترك، وإنما صار موضوعا سلعيا رأسماليا فرديا ومصدرا للاستثمار وللربح.
- لقد تم فرضُ العمل بالكفايات عالميا عبر التخطيط التربوي والتدبير المقاولاتي وليس انطلاقا من نتائج البحوث في علوم التربية.
- يتم تقويم النظم التربوية والتعليمية من خلال "النتائج"، أي من خلال المردودية، وذلك على أساس هدف اقتصادي فعال هو: القيام بعمل بأقل تكلفة.
- إن هذا التصور البيداغوجي تصورٌ غريب عن المدرسة التي عرفت تصورا تحرريا للتربية والتعليم وهي في حاجة دوما لتصور تحرري يُعنى بأنشطة التلميذ وبتحرره، وعوض ذلك يقوم هذا التصور بجعل المدرسة في خدمة الاقتصاد، إنه تصور نفعي يضع التلميذ وتربيته وتعليمه في خدمة التنافسية الاقتصادية.
- أدى هذا التصور إلى تفكيك المعارف في المدرسة وإضعافها وذلك باهتمامه بالمعارف العملية والنافعة، فليس مهما حسب هذا التصور تمكين المتعلم من معارف تجعله يفهم العالم وإنما المهم هو تسليحه بما يجعله يتلاءم ويتكيف مع معارف جديدة تضمن قابليته للتشغيل طيلة حياته. فالمعارف التي لن يتمكن التلميذ من تعبئتها واستعمالها في وضعية معينة هي معارف ميتة لا حاجة له بها.
- تُعتبرُ هذه المقاربة مصدرا للامساواة بين التلاميذ بل وتضر بالإنصاف في المدرسة: فالتلميذ الذي يملك "رأسمالا ثقافيا" بفضل محيطه سيتفوق على تلميذ آخر لم يُمكّنه محيطه من ذلك الرأسمال الثقافي. والسبب هو أن المدرسة حسب هذا التصور لا تساهم في تنمية هذا "الرأسمال الثقافي" لأنها تقتصر على المعارف القابلة للتعبئة من طرف التلميذ في وضعية معينة.

استنتاج:

وفي الأخير: يمكن القول أن لهذه المقاربة دور كبير في تدهور الرأسمال الثقافي للتلميذ المغربي، ولها دور أكبر في تراجع الدور الريادي للمدرسين فكريا وتربويا وفي مجال الأنشطة التثقيفية الموازية. فبالإضافة إلى كونها مقاربة فُرضت من خارج المدرسة المغربية، وبدون الارتكاز على بحوث ودراسات من علوم التربية، فإنها مقاربة صيغت من أجل مدرسة المجتمعات المتقدمة التي دخلت عهد اقتصاد المعرفة، والتقدم التكنولوجي المتجدد، وتوفر إمكانيات موازية، في إطار حقوق المواطن في الليبرالية الفعلية، للتثقيف وتنمية الرأسمال البشري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التبليغ
رشيد ( 2018 / 1 / 21 - 21:12 )
مقالة محفزة و باعثة على الرغبة في الفهم. أرجو من الكاتبة المحترمة أن توضح لي الأمر التالي : إذا كانت الكفايات تعتمد على البعد اللإقتصادي المقاولاتي ، فعلى ماذا كان التبليغ يعتمد كمنهج ؟
ما تثيرينه يبعث على نوع من القلق، إلا أنني أجدك في آخر المقال لا تعتبرين منهج الكفايات مضرا بالإنسان الأوروبي أيضا.
كما يواجهني تساؤل يجعل قلقي من هذا المنهج يفتر، و هو عندما أرى أن ديننا الذي يتعلق بالأمر الروحي للإنسان يجعل من علاقة الإنسان بربه علاقة تجارية فيها اللإقتراض و الربح و الخسارة وأن الله يشتري من المؤمنين أنفسهم و أجرهم (le salaire ) عند الله ... و ذلك لأن الرسول (ص) كان يعيش في بيئة تجارية بامتياز. هذا الأمر يقلل من تخوفي من مغامرة الكفايات هذه.
كما أنني متوجس أيضا من مسألة (Lévaluation) لذي صعوبة في الإقتناع بأنها إجراء مجدي لمعرفة ما تمكن المتعلم من تحصيله و تعلمه أم لا.
أتمنى أن تتفضل الكاتبة برد كريم منها و السلام.

اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس