الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثانوية ابن خلدون

آرام كربيت

2018 / 1 / 21
الادب والفن



أصبحت في الصف السابع وانتقلت إلى ثانوية ابن خلدون المجاورة للدائرة التي يعمل بها والدي.
هذه الثانوية, فتحت لي أفاق جديدة على الحياة. ووسعت مداركي. وأحسست أنني كبرت عشرات السنين دفعة واحدة. كانت الإعدادية والثانوية تابعتان لإدارة واحدة, لكن في مدرستين متجاورتين.
لأول مرة احسست بالحرية والسعادة. تحررت من عبء الذهاب إلى الكنيسة. وسيطرة القسيس كيفورك وهوسه وقسوته وحبه للقومية والدين. بالمجمل تحررت من الدين والقومية بضربة واحدة, وفي بضعة أيام. أصبح لي أصدقاء في المدرسة من جميع القوميات, ارمن, سريان, أكراد, أشوريين, شيشان. الجميع سواسية, لا فرق بيننا. والدولة لا تميز بين زيد أو عبيد داخل المدرسة. جميعنا أبناء وطن واحد. وكل مدرس كنت اعتبره باقة ورد عطرة. واتحين فرصة مجيء مدرس اللغة العربية, بيجو, بحكاياته الجميلة, قصصه. ودائمًا لديه أفكار جديدة تغني عقل الطالب وفكره. من خلاله عرفت طه حسين, العقاد, المازني. والكثير من شعراء المهجر, وأدباء النهضة العربية. كنت انتظره بشغف لأعرف الكثير عن حياة الأدباء والكتاب. ويقص علينا, القصص البوليسية. وعن أبي نواس وابن الرومي وطرفهم. عن شكسبير وسرفانتس وهوميروس.
واستغربت ان لكل مادة دراسية مدرس, بمجرد أن ينتهي وقته يخرج ليأتي مدرس آخر. لدينا مدرس للغة الانكليزية والاجتماعيات والرسم والرياضة والعلوم والديانة والرياضيات وغيرهم من المواد. وجميع المدرسين أكفاء, خريجي الجامعات ومختصين في موادهم. هذا الشيء لم يكن متوفرًا في المدرسة الخاصة. ولأول قرأت عن تاريخي المنطقة قبل المسيح, الفراعنة, الانباط, الاكاديين والبابليين والاشوريين والفرس والرومان واليونان, الاسكندر وكليوبترا وانطونيوا.
كنا, الطلاب نلتقي ونتحدث مع بعضنا وكأننا رجال كبار في السن
إن المدرسة العامة للدولة, تلغي الحواجز بين أبناء الوطن الواحد. وتوحد مشاعرهم وأفكارهم وتربطهم ببعضهم البعض دون أن يحس المرء بأن هذا ابن فلان أو علان. ولم تكن المدرسة تسمح بالتمايز بين الناس من باب ديني أو قومي أو طائفي, غني أو فقير. ولم اشعر يومًا أن هذا الطالب مختلف عني في أي شيء. قلت لوالدي:
ـ يجب علي أن اشتري كتب للدراسة. قال:
ـ أليست الكتب بالمجان؟
ـ هذا في المرحلة الابتدائية. أنا الأن في المرحلة الاعدادية, وعلي شراء الكتب من حسابي.
ـ كم ثمن هذه الكتب يا ترى؟
ـ حوالي ستة وثلاثون ليرة, إلى الأربعين.
ـ إنه مبلغ كبير. من أين لي أن أدبرها لك!
ـ لا أعرف. الحياة تمشي دون توقف, وكل يوم يمر اخسر فيها كثيرًا ان لم أومن الكتب.
ـ سأحاول أن أدبر الأمر.
بعد يومين قال لي والدي, أنه تحدث مع المدير ووعده أن يمنحني كتبًا بالمجان على حساب اتحاد طلبة سورية.
وفي اليوم التالي جاء طالب إلى الصف برفقة زملاء له. وما أن دق الباب وفتح له حتى سأل:
ـ من اسمه آرام؟
ـ أنا.
ـ نحن اعضاء في اتحاد طلبة سورية في رأس العين. اسمك عندنا, وبمجرد ان تصلنا الكتب سنعطيك حاجتك. ما هي الكتب التي تحتاجها.
ـ جميع الكتب.
ـ هذا كثير جداً. لا نستطيع أن نؤمن لك جميع الكتب. لدينا الكثير من الطلاب المحتاجين. على كل حال سنرى ما يمكننا أن نفعله. ثم سمعت صوتًا يتكلم بثق:
ـ اعتمد علي. سأحاول أن أدبر الأمر. ثم التفت إلى بقية الطلاب وقال:
ـ من يحتاج إلى الكتب الدراسية التي يمكن لاتحاد الطلبة تأمينها لهم. رفع الكثير من الطلاب أصابعهم. ودون هذا الشاب الذي كان في الصف العاشر. ومسؤولًا عن الاتحاد أسماء الذي احتاجوا.
بعد شهرين من هذا التاريخ لم يستطيع الاتحاد تأمين الكتب لنا. وكل يوم يطلب منا المدرسون تقديم الواجبات الدراسية. ودائما نهرب من الجواب ونحيل الأمر إلى اتحاد الطلبة إلى أن تكلم معي طفل بالصدفة, من بيت الكسان على ما اذكر, قال:
ـ هل تريد شراء مجموعة كتب الصف السابع؟
ـ بالطبع أريد. أين, ومن يبيع؟
ـ فتاة من أقربائي, انتقلت إلى الصف الثامن.
ـ هل لنا أن نراها.
بالطبع.
تواعدنا عند الساعة الرابعة أن نكون عند باب بيتها. ما أن وصلت حتى قرع الجرس. خرجت فتاة جميلة, انيقة, بيتها بالقرب من شارع تصليح السيارات وسينما الأهرام. قدمت نفسها بكل ثقة بالنفس والاحترام:
ـ ماري
ـ آرام
جلسنا عند مصطبة باب بيتها. قالت لي:
ـ هل تريد الكتب؟
ـ نعم.
سأحضرهم لك في الحال.
عادت برفقة مجموعة كاملة. كتب مجلدة بورق أزرق غامق, وعليه جلاتين, نايلون. وعلى كل كتاب ورقة مثل الطابع, بيضاء اللون عليها اسمها واسم المادة. في الحقيقة ذهلت للإناقة والترتيب والنظافة التي كانت عليها الكتب. بالإضافة إلى اناقة الفتاة وترتيبها. نظرت إليها وإلى نفسي. إلى همشريتي, فوضويتي وثيابي الشبيه بالأسمال. احسست بالفارق الثقافي والمادي والحياتي بينها وبيني. شعرت بالخجل من رقتها ونعومتها وطريقة حديثها. سألتها:
ـ ما هو سعرهم
ـ عشرة ليرات. قلت في نفسي:
كتب بهذه الاناقة والجمال بعشرة ليرات. يا لي من فتى محظوظ. واتعامل مع فتاة مثل غيمة في حدود السماء. ولماذا اشحذ من اتحاد الطلبة واكسر نفسي لهم مدة شهرين؟ ولماذا خسرت شهرين من الدراسة عبر وعود كاذبة؟ قلت لها:
ـ عشرة ليرات كثيرة علي. هل لك أن تنزلي السعر. لقد فاتنا الفصل الأول, وموعود بكتب جديدة
ـ استطيع. ما هو المبلغ الذي تستطيع أن تدفعه.
ـ ثمانية ليرات. قالت:
ـ اتفقنا. ثمانية ليرات.
استغربت من هذه الثقة التي كانت تتمتع بها هذه الفتاة التي كانت في مثل عمري. إن تقرر بالنيابة عن أهلها الأغنياء. المبلغ كبير. حزنت على نفسي الهاربة، وفي لحظة انكسار قلت:
ـ الكثير من العائلات الغنية يتعاملون مع أبناءهم عبر الحوار. ينمون في أنفسهم الثقة بالنفس. عدد أفراد العائلة الواحدة لا يتجاوز الأربعة, طفلين وأم وأب. أما العائلات الشوربة التي تنجب عشرة أطفال أو أكثر فمصير أولادهم الشارع أو الضياع أو الشحاذة أو الفشل. قلت لها:
ـ هل لي أن أخذ هذه الكتب, اليوم. وسأخبر والدي بالموضوع. وأعطيك النقود غدًا.
ـ خذهم, وأجلب المال عندما يتوفر لديك.
استأجرت دراجة عادية من السوق ب 60 قرشًا في الساعة، ووضعت عليها الكتب. وسرت. وكأنني أحمل كنزًا. كتب نظيفة وجميلة ومرتبة، ومن فتاة أنيقة وجميلة وجذابة. ذهبت إلى البيت. قلت لأبي:
ـ سعرهم ثماني ليرات. أريد منك أن لا تخجلني أمام الفتاة. أن لا تكسرني. أما اتحاد الطلبة, شغلتهم فاضية, سنبقى منتظرين مجيء كتبهم مدة طويلة جدًا. أريد أن ألحق بالفصل الأول. والامتحانات قبل أن يشارف على الانتهاء. ربما ارسب في حال قصرت بالواجب.
ـ ثماني ليرات. إنه مبلغ زهيد. سأستدين هذا الملبغ من زميلي في العمل. ما تستاهل أن نكسر أنفسنا للآخرين من أجل ثماني ليرات. غدًا سأجلب المبلغ. وفي التالي لم يكذب والدي خبرًا. جلب المبلغ وأعطاني إياه. وكنت في قرارة نفسي متشوقًا أن أرى الفتاة, ماري, مرة ثانية.
ذهبت إلى بيتهم. وقرعت الجرس بكل ثقة, طلبتها. خرجت. وكنت قد لبست طقمي المخطط الذي اشتراه والدي لي بعد مساومات طويلة بثمانية وعشرين ليرة, بيد أن الفتاة لم تبال بثيابي واناقتي. ولم تهتم لمظهري. أخذت المبلغ من يدي مع ابتسامة لطيفة, ثم ودعتني, ودخلت البيت. بقيت وحدي في الشارع خائبًا. التفت نحو اليمين واليسار, ثم دفعت قدماي للمشي, لاعنًا الفقر والحاجة والأهل الغير مسؤولين عن مشاعر واحاسيس أولادهم وما يعانونه من مشاكل على الصعيد النفسي والروحي.
في هذه الفترة, بعد أيام من شراء الكتب. دخل علينا أفراد من اتحاد الطلبة, قالوا:
ـ البلاد في حالة تحول جذري. نريد همتكم , أن تقفوا مع الشرعية. القوى الانعزالية تريد إعادة الحزب والبلاد إلى الوراء. الحزب في حالة صراع, يقوده رئيس الجمهورية الرفيق نور الدين الاتاسي والأمين العام للحزب الرفيق صلاح جديد ضد رجل أمريكا في بلادنا, وزير الدفاع حافظ الاسد. ثم طلبوا منا أن نذهب إلى البيت إلى إشعار آخر. قالوا:
ـ ستعودون عندما ينتهي الحزب من تصفية هذه الزمرة.
لقد وقف الحزب والدولة وجزء من قطاعات الجيش إلى جانب الرئيس نور الدين الاتاسي وصلاح جديد. وكانت جميع منظمات الحزب, اتحاد الفلاحين, العمال, الطلبة, وغيرهم. وكوادره إلى جانب القيادة السياسية ضد مشروع وزير الدفاع حافظ الاسد.
اغلقت المدارس ثلاثة أيام. وانقطعت الأخبار. وفي اليوم الرابع عاد الجميع إلى عمله ودوامه وكأن شيئًا لم يكن. والتحقت جميع المنظمات المعارضة لوزير الدفاع, ووقفت إلى جانبه دون أي تبرير لموقفهم المخجل والمعيب. حتى أولئك الذين اخبرونا عن خيانة حافظ الاسد للوطن, بائع الجولان. هم أنفسهم بلعوا كلامهم مثل أي جرو صغير لا يقوى على رفض أوامر سيده.
في طريق العودة إلى البيت قال أولاد بعض المزارعين:
ـ إن حافظ الاسد رجلهم, رجل المزارعين. وأنه سيعيد الزمن إلى الوراء, ويلغي التأميم والاصلاح الزراعي. بيد أن الواقع كان مختلفًا.
وبينت لنا الأيام أن مشروع حافظ الاسد كان مختلفًا تمامًا عن حسابات الجميع!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن