الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرّة صغيرة

فيحاء السامرائي

2018 / 1 / 22
الادب والفن


"With mirth and laughter let old wrinkles come."

في طريقها الى الحديقة، بدا لها انه يوم عادي كما الأمس، سحاب قطني يحجب شمساً خريفية، تكشف عن ضوئها بين الفينة والأخرى كأنها تلاعب السحاب لعبة توارٍ ضوئية.
أزاحت عن المصطبة أوراق شجر متساقطة من شجرة تتوسط الحديقة، خلدت الى مكان اعتادت الجلوس فيه منذ زمن لا تتذكر بدايته.. وبعد أن تناولت شطيرتها وفرغت من إطعام حمائم تجمعن عند قدميها، وقرأت صحيفة يومية ومسحت نظارتها قبل حفظها في حقيبتها كما فعلت يوم أمس وكل يوم، راحت تجول ببصرها فيما حولها.
ما أروع الركون الى راحة وهدوء! المكان هنا مناسب تماماً لراحة نفسية ولإغفاءة ممتعة على بساط ذكريات عائم، لولا ضجيج ومرح أشقياء صغار في ساحة الألعاب القريبة منها.

لمّا انتقلت أسرتها الى دار جديدة، اعتادت والدتها أن تصحبها في نزهات متواصلة الى هذه الحديقة ذاتها.. كانت لا تملّ أبداً من ملاحقة حمائم متمهّلات ومن مراقبة فراشات ملوّنة، ومطاردة سحب متحركة وظلالها على حشائش وأعشاب تلك الحديقة الغنّاء.. أما في أيام الشتاء، فكانت تتراشق مع آخرين بكرات ثلج صغيرة تجمعها بكفيها الصغيرتين بمرح وجذل.
اعتادت على هذا المكان، ألفت تلك المصطبة، اكتست بملامحها واكتسبت صمتها وتوحّدت معها، تفتقدها إن لم تأت الى الحديقة، وتنزعج لو جلس عليها غيرها.

تمرّ من أمامها صبيتان تحاولان التشبه بالكبار في طريقة لبس ومشي وتزيّن مثلما كانت تفعل في الحديقة ذاتها وهي بعمريهما وتستحث باستعجال قدوم أنوثة متبرعمة.. يومها، كان لديهما، هي وصديقة لها، "أسراراً خطيرة" عن صبيان يتتبعونهما ويغازلانهما، وتحت شجرة كانت هناك، كانتا تقهقهان وتتسابقان في الحديث عن مغامرتيهما، حتى تفوح في الحديقة حكايا فرح وعشق وليد تحتضنها الطبيعة بحنانها.

على مصطبة مجاورة، جلست فتاة جميلة مع شاب وسيم يوشوش في أذنها فتروح باسمة ثم ضاجّة بضحكة ناعمة متناغمة، وتبتعد بدلال وغنج مبتعدة عن عاشق يرنو الى إرتشاف قبلة من حبيبة.
قرب بحيرة بط في الحديقة، اتفقت أن تلتقيه ذات يوم.. كان شاباً ممتلئأ فتوة وثقة ووسامة.. كم كان كلامه ساحراً وجميلاً، وكم كانت أحلامهما باهرة وضّاءة! طافت ببصرها باحثة عن شجرة بلوط عجوز حفر اسمهما عليها يوماً، قطعوها وبنوا مكانها ملاعب لأطفال وساحة لصبايا ولصبيان يلعبون ويمرحون على أرضها.

تغيرت المعالم والأشجار، لكن محطة القطار ما تزال قريبة من هنا، يأتي منها مارّون قاطعين الحديقة الى دورهم اختصارا للمسافة، محمّلين بأكياس وحقائب تسوّق وهموم يوم عمل طويل، غير عابئين بورود وأشجار وأطيار.
كانت مثلهم، تهرع الى بيتها عبر الحديقة ذاته، يثقل مشيتها ما تحمله من أكياس ومشتريات، ولما تصل الى دارها، تنشغل كليّاً حتى وقت النوم باعمال شتّى، تعدّ طعاماً، ترتب المنزل، تغسل الصحون، تتابع دراسة أولادها ويومهم، تجلس أمام شاشة التلفزيون أو تفتح كتاباً وتقرأ، حتى تغفو من تعبها على أريكة في الصالة.
اليوم لم تعد تقطع الحديقة بأكياسها وحمولتها، ولا تسرع الى دارها لإعداد وجبة لمساء مزدحم، فأنها لا تأكل كثيراً، كما لا يوجد من ينتظرها هناك.

تتأمل حالها وما حولها.. "هل يعقُل انه لم يبق لي شيء سوى هذه المصطبة، وهل كل ما أفعله اليوم هو الجلوس عليها والتأمل؟ ألا يحسّ بي ويحتاجني أحد آخر غير قطع الخشب تلك؟"

تعود بعد برهة الى حالتها الاعتيادية مختبئة بين ثناياها، تبعد عن بالها كل تفكير بماضٍ أو بآتٍ، بل وتستريح لفكرة عدم تغيير حياتها ونمطيتها التي تكلّفها عناءً وجهداً هي في غنى عنهما راهناً.
تمتعض.. "ماذا تريد هذه الطفلة منّي، لماذا تنظر اليّ هكذا؟"
فتاة صغيرة على مسافة بضع خطوات منها، وقفت وجِلة مترددة تنظر الى كرتها المتدحرجة بين قدمي الإمرأة العجوز.
تشيح ببصرها عن تلك الصغيرة وعن ضفائر ذهبية وعينين زرقاويتين ناصعتين، وعن بريق بريء أخّاذ يطلّ منهما.. ستصمت ولا تلاطفها، انها تريد أن تستمع بخلوتها، يكفي أن تجلس على مصطبتها وتستمتع بصفو سكونها.
نظرت مرة أخرى الى وجه الطفلة المبتسم.
في غفلة منها، تحرك شيء ما بداخلها.. ما هذا اللون الأخضر الساطع اليانع الذي غمرها وشعّ من روحها؟.. هوى شيء غريب بعذوبة في أعماقها، أذهتلها رعشة لذيذة مفاجئة وغمرتها بروح جذلة توّاقة نابضة بحياة وألفة:
"هيا اقتربي ياصغيرتي، لا تخافي، ماذا تريدين؟"
بقيت الطفلة في مكانها وجلة.. أمسكت السيدة كرة تدحرجت تحت المصطبة ورمتها نحوها.. ارتسم على وجه الصغيرة ارتياح واطمئنان، سرعان ما تحول الى ابتسامة عريضة.. بادرت برمي الكرة مرة أخرى الى السيدة التي أعادتها اليها ضاحكة.

مارّون في الحديقة ابتسموا لما يرونه أمامهم من صورة حية لنشاط ومرح، كانت السيدة مع الطفلة تقفزان وتجريان وراء الكرة وتضحكان بصفاء وانشراح.
أحد المارّين، رجل يقارب سن السيدة، وقف أمامها برهة باسماً، غمز لها بعينه وتمنى لها يوما بهيجاً.


* مستوحاة من قصيدة "مناظر من متنزه" للشاعرة سيليا آن كَلوفر*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني