الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
وعي جماهيري شعبي اجتماعي امْ وعي طبقي ؟ ( 2 )
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
2018 / 1 / 26
مواضيع وابحاث سياسية
هناك فرق بين الوعي الشعبي الجماهيري ، وبين الوعي الطبقي .
الماركسيون واللينينيون بمختلف تجمعاتهم ، يؤمنون بالوعي الطبقي الذي لا يوجد إلاّ في فكرهم ومخيلتهم ، وهم يختزلونه بطبقة البروليتارية غير الموجود بالمغرب بالمفهوم الماركسي للعمال حين خاطبهم ماركس في حقب مختلفة .
الوعي الطبقي والصراع الطبقي ، كان يخاطب بنية صناعية متقدمة ، وكان يعني العاملين بهذه البنيات المختلفة ، لكنه لم يكن يعني طبقة أخرى من الطبقات الاجتماعية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي للمجتمع .
الوعي الطبقي والصراع الطبقي فشل فشلا ذريعا في المجتمعات الصناعية التي خاطبها ، لكن الثورة نجحت في بلدان زراعية لم تكن البتة صناعية ، مثل روسيا والصين الفلاحيتين .
وإذا كان الوعي الطبقي والصراع الطبقي قد تحول من دغدغت عقل الطبقة التي فقدت حسها الطبقي ووعيها الطبقي الثوري كذلك ، حين اندمج العمال في النسيج الاجتماعي الذي سيطر عليه النمط الاستهلاكي ، فان نفس الوعي ونفس الصراع الطبقي ، فشل فشلا ذريعا بالمغرب ، ليس بسبب غياب الطبقة العاملة بالمفهوم الماركسي ، بل بسبب بنية المجتمع المغربي المحافظة والماضوية ، التي تغلب عليها الأساطير ، والخرافات ، والاعتقاد باللاّهوت وبالغيب .
والسؤال الذي نطرح الآن وفي غياب عمال بالمفهوم الماركسي . كيف يمكن تفهيم عامل أمّي متدين ، بان صاحب المعمل يستأثر بقسم من عمله وأتعابه ، إذا كان هذا العامل يؤمن بان الاستغلال هو من قضاء الله وقدره ، او هو امتحان في الحياة الدنيا قبل الآخرة ، او هو جزاء وعقاب عمّا اجترمه من آثام في الأجيال والأيام السابقة من حياته وغيرها ؟
فهل هذا النوع الذي نسميه مجازا بالعمال في بلادنا ، هو ما قصده ماركس عندما خاطب العمال في أوربة وأمريكا الصناعيتين ، ولم يخاطب الفلاحين ، ولا المثقفين البرجوازيين ، ولا البرجوازية الصغيرة ، ولا المتوسطة ، ولا فوق المتوسطة ؟
ان العامل الغارق حتى الأذنين في الموروث ( الثقافي ) الماضوي ، والمتشبث بالإصبع عشرة ، بالتقاليد المرعية والعشائرية ، ليس هو العامل المعني عند ماركس . لذا سنجد ان مثقفي اليسار الماركسي ، حين يعالجون إشكالية ما يسمونه بالطبقة العاملة ، فهم ينطلقون من مسميات ونظريات مستوردة ، تصلح لبيئة غير البيئة الماضوية القبائلية ، ومن ثم فان الإسقاط الذي قام به الماركسيون على بيئة مغايرة ، فشل في ملامسة حقيقة البنية الاجتماعية المغربية التي ظلت في واد ، وبقيت التنظيرات في آخر .
ان هذا الفشل ، في إصباغ بينة تنطق بلغة مختلفة ومغايرة ، جعل المنظرين الماركسيين ينظرون للمجتمع المغربي ، من زوايا عاجية ، في حين كان يجب ان يكون التنظير في الساحة ، ومن داخل المجتمع لا خارجه .
هكذا وبمثل الحلقية الضيقة التي قتلت التنظيمات في السبعينات بدعوى السرية ، فان سياسة الإسقاط ، جعلت من أصحابها كغرباء في بيئة لم يفهموا قوانينها الكونية ، والاجتماعية ، والتراثية .
ان الهبّات والانتفاضات التي عرفها المغرب في كل تاريخه ، 23 مارس 1965 ، يونيو 1981 ، يناير 1984 ، فاس 1990 ، لم تكن طبقية ، بل كانت انتفاضات جماهيرية شعبية .
كذلك فان هبّة وانتفاضة حركة 20 فبراير لم تكن طبقية ، بل كانت جماهيرية شعبية . ان الشعارات التي تم ترديدها في 20 فبراير من قبيل " الملكية البرلمانية " كانت ضد طبقية المجتمع ، بالدعوة لطبقة عاملة مُهجّنة ، ومبعثرة ، وتفتقر إلى حس تمايزها كطبقة ، حين تعتبر نفسها ضمن النسيج الاجتماعي المكون للمجتمع المغربي .
لذا فالمشكل ، هو في من يتولى إسقاط مفاهيم ونظريات على مجتمع تقليدي يلفظها ، ولا يؤمن بها ، بسبب الأمية وانعدام الوعي ، وغياب الثقافة الثورية . والى الآن ، لا يزال هؤلاء المتمركسون ، وعلى اختلاف مجموعاتهم ينادون بالجمهورية ، في الوقت الذي يفتقر فيه المجتمع المهجن اي ثقافة تحث على الجمهورية .
فمن السهل الحديث عن الوعي الطبقي ، والصراع الطبقي ، والحديث عن الجمهورية ، لكن من الصعب تجسيد ذلك في مجتمع بنيته ماضوية أركاييكية . لذا وتجاوزا للخلط المفاهيمي بخصوص ، وحول الوعي ، هل هو وعي طبقي ام وعي اجتماعي ، فإننا سنستفيض في مناقشة مقولة الوعي الطبقي المفروض ان يؤدي إلى الصراع الطبقي الحقيقي ، لانجاز الثورة الطبقية ، طبقة العمال التي ستفرض دكتاتوريتها ، ولو بحد السيف على باقي الطبقات الاجتماعية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي المغربي .
ان أصحاب دعوة الوعي الطبقي ، يبقون أقلية ، مقارنة مع الأكثرية الشعبية التي تؤمن بالوعي الجماهيري الشعبي ، الذي يؤدي إلى نظام الشعب ، لا الى نظام طبقة من الطبقات .
إذا كان موضوع الوعي الطبقي بالغ الأهمية ، فان معالجته لا تخلو من العديد من المزالق والانحرافات التي لابد من الإشارة إليها .
أ ) النزعة الموضوعاتية ، وهذه ترْبِط بشكل ميكانيكي بين الوضع المادي الاقتصادي ، ومستوى الوعي الطبقي ، وتجعل هذا الأخير مجرد انعكاس للشروط الموضوعية .
إذا كان ماركس قد غذى هذا الانحراف ، ببعض مقولاته الشهيرة حول انعدام أية استقلالية للفكر / الوعي بالنسبة للأوضاع المادية ، وخصوصا في مؤلفه " الإيديولوجية الألمانية " ، حيث أدى به صراعه ضد النزعات المثالية في الفلسفة المثالية ، واليسار الهيگلي بشكل خاص ، إلى التأكيد الأحادي الجانب على أهمية وأولوية العوامل الاقتصادية الموضوعية ، دون غيرها كمحددات للفكر / الوعي ... الخ ، فان عودة ماركس وانگلز إلى إبراز الدور الهام الذي تضطلع به العوامل الغير اقتصادية في تحديد الفكر / الوعي ، وتفاعل هذه العوامل السياسية الإيديولوجية الفكرية مع الواقع ، وصراعهما المرير ضد كل التفسيرات المادية الميكانيكية ، والاقتصادية لمذهبهما حيث يقول انگلز " .... حسب النظرية المادية للتاريخ .. ان العامل الحاسم في التاريخ ، هو آخر المطاف ، انتاج واعادة انتاج الحياة الملموسة .... ان الوضعية الاقتصادية هي الاساس ، لكن العناصر المختلفة للبنية الفوقية .... تمارس هي كذلك ، تأثيرها على مسار الصراعات التاريخية ، وكثير من الحالات تحدد بكيفية اساسية شكلها ... " .
ان هذا النقد ، وكل التوضيحات المتكررة التي اعطاها كل من ماركس وانجلز ، لم تثن اقطاب الاممية الثانية عن الاخذ بفهم اقتصادي للماركسية ، وانتهاج سياسة اقتصادوية ستكون لها نتائج نتائج وخيمة على المسيرة النضالية للحركة العمالية .
وتعتبر " القدرية – الميكانيكية " على حد تعبير جورج لوكاتش ، ان البروليتارية مثلا ، تبلغ مرحلة الوعي الطبقي ، كنتيجة حتمية لنموها في المجتمع الراسمالي ، وهذه النظرة تبني علاقة حتمية احادية الجانب ، بين الاوضاع المادية للطبقات الاجتماعية ووعيها ، فتفضي ان يتولد عن الفقر الذي تعاني من ويلاته الطبقات المُستغِلة ، وعي طبقي متقدم ، بل وعي ثوري . وبذلك تعجز هذه الرؤية عن تفسير عدم الانسجام القائم ، بين تردي الاوضاع المعاشية للجماهير الكادحة ، والتخلف الفعلي لوعيها الطبقي ، اي ادراكها لمصالحها الحقيقية .
ان عدم ادراك هذه النظرة القاصرة للعوامل المعقدة ، التي تبلور الوعي الطبقي ، وتطوره ، يؤدي بها الى وصف الجماهير الكادحة بالرجعية والتخلف الاصلي . وتقود هذه النظرة المادية المبتدلة الى رؤية سوداوية وتشاؤمية للحاضر والمستقبل ، الامر الذي يتولد عنه اليأس ، وانسداد الآفاق في العديد من المجالات .
وليس من الغريب في شيئ ، ان تشكل هذه النظرة الميكانيكية ، التي تخلص وبسرعة ، الى عجز وتخلف ، وعدم ثورية الجماهير الكادحة ، ارضية خصبة للاتجاهات النخبوية ، التي تخول نفسها احقية النيابة عن الجماهير في عملية تحررها ، ما دامت هذه الاخيرة عاجزة عن الاضطلاع بمهمة تحرير نفسها .
وقد ارتبطت هذه النظرية تاريخيا ، بالطروحات الكارثية التي تدعي ان تطور النظام الراسمالي ، يؤدي حتما الى التفقير المطلق ، لأوسع الفئات والطبقات الكادحة ، وعلى الخصوص البروليتارية ، الامر الذي يقود وبشكل حتمي ، الى نمو الوعي الثوري لدا هذه الفئات ، والطبقات الكادحة ، مما يتولد عنه دك هذه الاخيرة لأركان النظام الراسمالي .
ان التجربة التاريخية لبلادنا تؤكد ، وبكيفية لا تترك مجالا للشك ، ان الفقر والتشرد ، لا يمكنهما ان يُولّدا إلاّ التمرد والانفجار ، في غياب الوعي الطبقي ، والتأطير السياسي الذي يُحوّل التمرد الى ثورة . ذلك ان الوعي المتمرد الذي يأتي نتيجة اوضاع الفقر والتشرد والظلم ، وهي سمات تميز قطاعا واسعا من الجماهير الشعبية ببلادنا ، وعي عفوي بالظلم والاضطهاد والقهر ، إلاّ انه يبقى قاصرا عن ادراك الاسباب الحقيقية للاوضاع المزرية التي يعيش فيها ، ويقف هذا الوعي عند حد المظاهر . ولذلك نرى ان حَملةُ هذا الوعي ، يركزون في حالات الانفجار ، على كل المظاهر الاجتماعية التي ترمز الى الغنى الفاحش ، والتي يعتبرونها بمثابة استفزاز لوضعهم الشقي .. وفضلا عن ذلك فهذا الوعي المتمرد ، لا يتحكم في الوسائل النظرية ، والسياسية ، والتنظيمية لمشروعه . انه وعي خاضع للاديولوجيا البرجوازية بقدر ما هو وعي خاطئ .
ب ) النظرة الذاتوية ، وهي على نقيض الاتجاه الماضوي ، حيث انها تقفز عن الظروف الموضوعية والاقتصادية ، وتعتبر ان المسألة الحاسمة في بروز الوعي الطبقي وتبلوره ، هي بالاساس ، توفر / فعل العوامل الايديولوجية الفكرية والسياسية ، ولا تتم الاشارة للعوامل الاقتصادية إلاّ للتأكيد على كونها ظواهر ثانوية .
وبقدر ما تعزل هذه النظرة الوعي عن الشروط الموضوعية / التاريخية لظهوره ، تفْصِل الفكر عن الواقع ، والذات عن الموضوع ، وتَسقْط في متاهات المثالية ، بدعوى التصدي للانحرافات المادية الميكانيكية .
ان هذه النظرة الأحادية الجانب تفضي عمليا ، اي على مستوى العمل السياسي ، الى تغليب العوامل الذاتية ( الحزب الثوري بالنسبة للطبقة العاملة ) ، والى التضخيم من اهمية دور هذه العوامل ، الى حد ان الحزب يصبح بديلا ينوب عن الطبقة التي من المفروض ان يمثل مصالحها . وليس من الغريب في شيئ ان تعشعش هذه النظرة المثالية الذاتية عند المثقفين ، الذين يميلون دوما الى النفخ في دورهم الاجتماعي ، والى التضخيم من اهمية الفكر الذي همْ حملته طبعا ، والذي هو عين الحقيقة ، او هو الفكر الثوري دون سواه ، الامر الذي يؤدي بهم الى تنصيب نفسهم ، طليعة عن الشعب وعن الجماهير ، والاستغناء عن هذا عن هذا الاخير في نهاية المطاف للتّيه في مستنقع النخبوية .
وبإغفالها لأهمية الظروف الموضوعية ، فان هذه النظرة تذكي روح الإرادوية ، الأمر الذي لا يخلو من مخاطر ، إذ تشكل الإرادوية أرضية خصبة لكل الاتجاهات المغامرة / النخبوية ، سيما ان القفز عن الواقع الموضوعي يصاحبه ، دوما ، سوء تقدير للأوضاع الاجتماعية العامة ، وللوضع السياسي بشكل خاص .
وإذا كانت هذه الملاحظات لا تدعي الإتيان باي جديد ، فانها تشكل مع ذلك ، مدخلا ضروريا لمعالجة الوعي الطبقي ، ومسلسل تبلوره التاريخي ، وكذا مختلف معوقاته الموضوعية والذاتية في المجتمع المغربي المعاصر .
لكن ما هو الوعي الطبقي ؟
المقصود هنا هو الوعي السياسي الطبقي ، واساسه ، وشرطه الاولي والضروري ، هو الانتماء لطبقة اجتماعية متميزة وقائمة الذات ، لها مصالحها التي تجعلها في تعارض / صراع صريح او خفي ، مع باقي الطبقات الاخرى اولا ، ووعي هذه الطبقة لذاتها ، ووعي افرادها لإنتماءهم لها ثانيا .
وبديهي ان هذا الوعي لا يرتكز على علاقات الدم والقرابة ، بل يستند الى احتلال مجموعة بشرية ، لنفس الموقع في مسلسل الانتاج الاجتماعي ، ولنفس المركز الاجتماعي . ويعتبر هذا الوعي حاصلا ، على الصعيد الفردي ، كلما ادرك الفرد انتماءه لطبقته ، وسعى الى الدفاع عن مصالحها ، والى تغليب هذه المصالح على كل المصالح الفردية والفئوية الاخرى .
بيد ان الوعي على صعيد الطبقة ، ليس مجرد جمع حسابي لوعي الافراد المكونين لهذه الطبقة ، والذين تتفاوت درجات وعيهم ، بل يتجاوزها الجمع ليشكل حصيلة / تركيب واقع ، ومجمل ممارسات وافكار الطبقة المعنية على كافة المستويات الاجتماعية .
غير ان الوعي الطبقي على مستوى الفرد ، سابق تاريخيا ، من حيث بروزه ، وتشكله للوعي الطبقي الجماعي ، اي وعي الطبقة لذاتها ، وتحولها الى عنصر فاعل في التاريخ / الصراع الاجتماعي على اساس وعي وادراك مصالحها الحقيقية القريبة منها والبعيدة .
ان الطبقة في ذاتها ، مجرد نتاج للتطور الموضوعي ، لمسلسل الانتاج الاقتصادي . انها مجموعة من أكياس البطاطس على حد تعبير كارل ماركس ، وهي لم تلِجْ بعد حتى المرحلة الاولى من الوعي الطبقي ، ولم تعي وجودها كطبقة اجتماعية قائمة الذات ، فبالاحرى مصالحها التاريخية الحقيقية .
امّا الطبقة لذاتها ، فهي كاملة الوعي بذاتها / وجودها ، وبمصالحها الحقيقية . انها ليست مجرد مجموعة من الافراد الذين يشكل الصراع / التنافس الاقتصادي الطابع الرئيسي لعلاقاتهم ، بل اصبح التضامن / التعاضد ، هو الطابع الرئيسي لعلاقاتهم في مواجهة الطبقات / الفئات الاجتماعية الاخرى .
ان الطبقة لذاتها ، كيان اجتماعي فاعل ، وبشكل واع في حركة التاريخ ، وهي طبقة قد تحررت من وصاية او هيمنة الطبقات الاخرى ، واصبحت تسعى بدورها الى الهيمنة الاجتماعية . لكن هذا الوعي لا يتأتي لكل الطبقات الاجتماعية في المجتمع الراسمالي ، بل انه من نصيب ومميزات طبقات اجتماعية دون اخرى .
ويعتبر كارل ماركس ، ان الطبقة العاملة تتحول من طبقة في ذاتها ، الى طبقة لذاتها ، من خلال / عبْر مسلسل النضال التاريخي الذي تخوضه ، في حين يعتقد لينين ، ان تدخل المثقف الجماعي ، حاسم وضروري لتحقيق هذه القفزة النوعية في وعي الطبقة العاملة ، التي يقودها التطور التلقائي لنضالها في الوعي النقابي .
وإذا كان الوعي الطبقي لا يحصل دفعة واحدة ، وانما بشكل تدريجي تصاعدي عبر مسلسل تاريخي ممتد ، لا يلغي القفزات النوعية الى الامام ، بحرق المراحل خلال الفترات الثورية ، والنكوص في بعض الحالات ، فان الوعي الطبقي يجتاز عدة مراحل ، ينتقل خلالها من مستويات دنيا ، الى مستويات عليا تبلغ فيها الطبقة ، درجة الوعي الطبقي الحقيقي ، كما يقول لوكاتش .
يتدرج الوعي الطبقي من مرحلة حِسّية تغلب فيها الاحساسات ، والانفعالات ، والمعرفة الحسية السطجية التي لا تنْفُذْ الى جوهر الاشياء ، وفي هذه المرحلة الدنيا الحسّيّة للوعي ، تغلب ردود الفعل الطبقية على الفعل الطبقي الواعي ، وفي اقصى الاحوال ، تعي الطبقة الاجتماعية مصلحتها المباشرة / الآنية ، وتغيب عنها مصالحها البعيدة . بمعنى ان الطبقة لا تدرك مصالحها في كليتها وشمولها . هكذا يدفع صاحب الرأسمال باستغلاله للعمال ، الى مداه الاقصى دون مراعاة نتائج ذلك على المدى المتوسط والبعيد ، في حين لا يركز العمال ، في نفس المرحلة من الوعي ، إلاّ على النضال النقابي الاقتصادي ، لبيع قوة عملهم بأغلى ثمن ممكن .
ان هذا الوعي ، لا يمكنه ان يُولّد لدا العمال ، إلاّ التضامن الاولي ، ولا يمكن ان يتمخض عنه ، إلاّ التمرد الذي هو تعبير عن الغريزة الثورية للبروليتارية .
ان تكسير الآلات ، ونسف المعامل والمناجم ... الخ ، كشكل للنضال العمالي ، يشكل الترجمة العملية لهذا الوعي الخاطئ ، من حيث انه يركز على النتائج وتغيب عنه الاسباب . ان هذه المرحلة من الوعي ضرورية ، لانه من خلال تجربة العمال ، والتراكمات الكمية التي تشهدها هذه المرحلة ، تحدث في ظل شروط معينة ، قفزة نوعية ، وبلوغ الطبقة الاجتماعية مرحلة الوعي الطبقي الحقيقي ، وبالتالي تحولها من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها ، اي للجماهير الشعبية .
تتميز هذه المرحلة ، مرحلة الوعي العقلاني ، بكون الطبقة الاجتماعية ، تعي ذاتها كطبقة اجتماعية ، وترقى الى ادراك مصالحها بكيفية شمولية ، ولا ينحصر وعيها في ادراكها لوضعها الخاص ، وانما يمتد ليشمل معرفة / استيعاب الواقع الاجتماعي في كليته ، وادراك التناقضات الحقيقية التي تحرك الواقع ، ومن ثم الفعل فيها من اجل نصرة وسيادة مصالحها .
في هذه المرحلة تسقط الغشاوة والضبابية التي تُعتّم وعي الطبقة بمصالحها ، وتنخرط الطبقة الاجتماعية في الصراع كعنصر فاعل لا يكتفي برد الفعل ، بل يروم دفع مسار التاريخ باتجاه تحقيق اهدافه / مصالحه الخاصة ، والتي غالبا ما تقدمها الطبقة ، على انها اهداف ومصالح المجتمع برمته ، وليس فقط مصالح البروليتارية غير الموجودة بالتعريف الماركسي للعمال .
ان هذا الوعي الطبقي ، ليس مقسما بشكل متساو بين مختلف مكونات / عناصر الطبقة الواحدة ، بل هناك دائما عدم تساوي ، وتفاوت في درجة ومستوى وعي المكونات المختلفة للطبقة الاجتماعية . فعلى العموم ، ثمة فئة واعية تشكل طليعة الطبقة ، في حين يكون مستوى وعي فئة اخرى متوسطا ، بينما يتميز وعي فئة ثالثة بكونه متخلفا . غير ان هذه المستويات المختلفة من الوعي ، ليست جامدة ولا قارة بشكل نهائي ، وانما تعرف تطورا / نكوصا مستمرا ، وتمر بعدة تموجات ، حسب مجموع الظروف الاجتماعية التي تمر منها الطبقة الاجتماعية والمجتمع ، اي الجماهير الشعبية ، وبارتباط مع مستوى تطور / إحتدام الصراعات الاجتماعية التي تخوضها الطبقة ، والملاحظ هنا ان درجة الوعي الطبقي ، ترتفع بشكل متوازي لدرجة تطور / تقدم الصراع الاجتماعي الجماهيري الشعبي لا الطبقي .
يعتبر جورج لوكاتش ان الوعي الطبقي نوعان . النوع السيكولوجي ، والوعي الطبقي الحقيقي .
يشكل الوعي السيكولوجي الوعي المباشر ، وهو حصيلة ما يفكره ، ويدركه ، ويحسه الافراد المُكونّون لطبقة ما ، وهو وعي خاطئ لا يدرك نفسه بشكل مناسب .
اما الوعي الطبقي الحقيقي ، فهو الوعي الذي قد يكون لطبقة معينة في وضعية حيوية محددة ، إذا كانت قادرة على ادراك هذه الوضعية بشكل كامل من وجهة نظر مصلحتها الطبقية . غير ان الوعي الملموس لأغلب الطبقات الاجتماعية ، لا يتماثل مع وعيها المعطى ، لأن الوعي الطبقي حسب جورج لوكاتش ، هو ذلك رد الفعل العقلاني المناسب الذي يجب ان يعطى في وضعية نموذجية محددة في مسلسل الانتاج .
ويشكل الاستقلال الايديولوجي ، والسياسي ، والتنظيمي للطبقة الاجتماعية عن باقي الطبقات الاخريات ، المدى الاقصى لوعيها بمصالحها . غير ان بلورة ايديولوجية خاصة ، وبلوغ الاستقلال الايديولوجي ، ليس في متناول كل الطبقات الاجتماعية ما دام بعضها عاجزا أصلا ( الفلاحون مثلا ) ، عن إفراز مثقفيها العضويين ، وبالتالي غير قادرة على بلورة ايديولوجية خاصة ( انطونيو گرامشي ) .
يؤكد نيكوس بولنزاس ، ان البروليتارية والبرجوازية ، هما الطبقتان الوحيدتان ، اللتان تملكان ايديولوجية شمولية توتاليتارية ، وممنهجة في المجتمع الرأسمالي الغربي ، في حين ان باقي الايديولوجيات الطبقية ، تابعة لاحدى الايديولوجيتين الاساسيتين . وإذا كان دور المثقفين العضويين لا يقتصر فقط على بلورة ونشر ايديولوجية المجموعة الاجتماعية التي انشأتهم ، واعطاءها انسجامها ، ووعيها بوظيفتها الخاصة ، ليس فقط في الميدان الاقتصادي ، وانما كذلك في الميدانين السياسي والاجتماعي ، فان هذا الدور الدقيق والمعقد ، من اهم الادوار التي يضطلع بها المثقفون العضويون ، الذين تسعى من خلالهم طبقاتهم الاجتماعية ، الى بسط هيمنتها الايديولوجية – الفكرية على باقي الطبقات الاجتماعية .
اما الاستقلال السياسي والتنظيمي ، فيتمثل في تكوين الحزب السياسي الطبقي ، الذي يفترض فيه ان يكون المعبر الأمين ، عن المصالح الاجتماعية الحقيقية للطبقة التي تشكله . وإذا كان الحزب اداة للصراع الاجتماعي / الطبقي ، فضلا عن كونه ميدانا لهذا الصراع ، فانه التعبير الواعي عن مصالح طبقية او فئوية محددة ، اضافة الى كونه يركز الوعي الطبقي الاجتماعي ، ويشكل احد العوامل الاساسية لتطويره ، وتعميمه على صعيد الطبقة الإجتماعية ككل .
غير ان هذا الدور الموكول الى الاحزاب يحمل في طياته ، سيما ان المثقفين هم الذين يشكلون عادة قيادات الاحزاب مهما كانت اختيارتها وانتماءاتها الطبقية ، خطر استبدال الحزب للطبقة والنيابة عنها ، بمعنى ممارسة وصاية سياسية عليها .
وإذا كانت المعرفة العلمية ، والادراك العلمي لمختلف الظواهر الطبيعية ، والاجتماعية والأخذ بالعقلانية في مختلف مجالات الحياة ، من المقومات الاساسية لبروز وعي طبقي اجتماعي حقيقي ، ولسيادة المنطق الطبقي في العصر الحاضر ، فان الصراع الاجتماعي المتعدد الأشكال ، يشكل عنصرا يكتسي اهمية بالغة في مسلسل تبلور الوعي الطبقي الاجتماعي ، الى حد ان كارل ماركس اعتبر ان " الاشخاص المعزولين ، لا يشكلون طبقة إلاّ بقدر ما يتوجب عليهم القيام بنضال مشترك ضد طبقة اخرى ، وما عدا ذلك فانهم يصبحون اعداء في التنافس .. " .
وليس من المغلات في شيئ ان يقال ان الطبقات الاجتماعية لا يكتمل تكوينها الا من خلال الصراعات الاجتماعية التي تخوضها والتي تضع الحد الفاصل على الصعيد السياسي / بين مختلف الطبقات / الفئات الاجتماعية . وهكذا فان الطبقة الاجتماعية تعي ذاتها وتدرك مصالحها وحقيقة الطبقات الاخرى ، وبالتالي التناقضات المصلحية التي تحرك الصراع الاجتماعي الجماهيري الشعبي عبر ومن خلال هذا الصراع نفسه .
ان الوعي لا يحدد لوحده الوجود الاجتماعي ، لكن هذا الاخير هو الذي يحدد الوعي ، ولئن كان التفكير الوعي في رحاب القصور يختلف عن بالتأكيد عن التفكير / الوعي في قعر الاكواخ ، فان هذه العلاقة الوطيدة بين الوعي والوجود الاجتماعي ، لا تفرض تحديدا حتميا للوعي ، وليس هناك تطابق بين الوعي الاجتماعي ومستوى الوعي الطبقي . وخير دليل عن ذلك وجود عناصر برجوازية تنخرط في صفوف الحركة الثورية ، والعناصر الشبة بروليتارية التي تساند الحركات الرجعية والارتدادية ، بل وحتى اللاهوتية والفاشية .
لذلك لا يمكن تحديد شكل وطبيعة الوعي الطبقي الذي قد يبرز في كلتا الحالتين ، القصر / كوخ ، الا بكيفية احتمالية تقريبية . وعلى صعيد آخر ، فان فترات الازمة الاقتصادية وانتشار البطالة لا يصاحبها بالضرورة ، تصاعد نضالات الطبقة . فمثلا ، إذا لم تتوفر الشروط الذاتية لضمان هذا النهوض النضالي وتأطيره ، وفي غياب تلك الشروط ، قد تؤدي الازمة الى سيادة الفردانية واحتدام التنافس بين العمال ، بل حتى تفكيك اشكال التضامن العفوي / الغريزي في صفوف الطبقة الاجتماعية .
ان الوعي السياسي الاجتماعي الطبقي هو اجمالا الوعي الكلي والشمولي لطبقة اجتماعية بمصالحها الحقيقية القريبة والبعيدة المدى ، وانخراطها في الصراع الاجتماعي / التاريخي كعنصر فاعل واساسي انطلاقا من هذا الوعي لا غيره .
ان هذا الوعي الذي ليس بالوعي الشقي ، يتبلور عبر / خلال مسلسل تاريخي معقد زمحدد اجتماعيا تتداخل فيه الذاتية والموضوعية ، وتتفاعل فيه العوامل الداخلية والخارجية .
ان هذا الوعي متطور بطبيعته ، اي انه يعرف تحولات وتغييرات ويتدرج من مرحلة دنيا الى مرحلة عليا ، بيد ان هذا التطور لا يعني ان الوعي الطبقي يسير حسب خط مستقيم ومتصاعد ، بل انه قابل للانتكاس ، وقد يشهد مراحل نكوص ، وتحكم هذا التطور مجمل الاوضاع الاجتماعية بما فيها الوضع الخاص للطبقة الاجتماعية المعنية ، وبالاساس واقع / مسار الصراع الطبقي الاجتماعي في كل مرحلة تاريخية محددة .
ان عدم الاخذ بالاطروحة القائلة ان المكر والخداع والتضليل الذي يمارسه النظام والطبقة السائدة ، هي العوامل الاساسية التي تعوق تبلور وعي الطبقات المستغلة بمصالحها ، يرجع لكون هذه النظرة احادية الجانب فضلا عن كونها تبريرية في جوهرها ولا تقدم البحث في هذا الموضوع . ان رفض هذا التعليل ( بالرغم من كون الدور التضليلي الذي يقوم به النظام لا يمكن نكرانه ) يفرض بالضرورة الكشف عن الاسباب الحقيقية الاقتصادية السياسية والايديولوجية – الفكرية التي تحول دون وعي الطبقات / الفئات الاجتماعية المسودة بمصالحها الطبيقة .
ان الفرق واضح بين الوعي الطبقي الصرف ، وبين الوعي الجماهيري الشعبي ، الذي هو الوعي الاجتماعي . ان الوعي الطبقي يهدف في آخر المطاف الى الوعي بالصراع الطبقي ، وهذا الصراع ، هو صراع ( طبقة ) تُسمّى البروليتارية ، لبناء دولتها البروليتارية التي ستجسد دكتاتوريتها المعروفة ب ( دكتاتورية البروليتارية ) . ان هذه الدكتاتورية لا يمكن الوصول إليها بالانتخابات ، بل بوسائل القهر والسلطان ، ضد الطبقات الأخريات التي يتكون منهم المجتمع .
ان السؤال هو ، كيف فشلت البروليتارية في بناء دولتها بالدول الغربية التي تستجيب نظريا لشروحات ماركس حول العمال ، حيث أصبح العمال مُندمجين ضمن النسيج الرأسمالي ، بعد ان إنسلخوا رويداً عن التمايز كطبقة تنتج ومُستغِلة من طرف الرأسمال الذي يستحوذ على الاقتصاد ومنه على الدولة ، وكيف التنظير لهذه الطبقة التي ستقوم بالثورة لبناء دولتها الدكتاتورية بالإكراه ، والسلطان والعنف ، في الوقت الذي تنتفي فيه ما يسمى بالطبقة العاملة بالمفهوم الماركسي للعمال بالمغرب ؟ .
ان ما يسمى بالطبقة العاملة المغربية ، يفتقر الى الميكانيزمات السوسيولوجية ، لتمايزها كطبقة تفتقد إلى الحس والشعور الطبقي ، الذي يميزها عن غيرها من الطبقات الأخريات .
ان ما يسمى بالطبقة العاملة المغربية ، هي من يشكل الخزان الانتخابي للأحزاب الإدارية ، كما تشكل اكبر خزان انتخابي للأحزاب اللاّهوتية والرجعية والدينية . فالدعوة إلى الوعي الطبقي الغير الموجود ، لإذكاء الصراع الطبقي ، بغية بناء الدولة البروليتارية ، هو ضرب من الجنون الذي يقود الى الانتحار الاجتماعي . ان الدولة التي من المنتظر بناءها من قبل العمال ، لن تكون أبدا لائيكية شيوعية ، بل ستكون دولة فاشية تؤسس لدكتاتورية الفقيه ، والمرشد ، وأصحاب الحل والعقد . وعند بناء هذه الدولة سيتولى أمرها اللاّهوتيون الذين يتكلمون باسم الله الذي يستمدون السلطة منه ، وليس العمال الذي ينظّر بدلا عنهم المثقفون العضويون الحالمون بالجمهورية الديمقراطية الشعبية .
ان من ينظر للوعي الطبقي بالمغرب ، يكون بمن ينظر خارج المجتمع الذي يعيش فيه ، ومن ثم يكون غريبا عن الواقع الذي ينطق بأشياء لا أساس لها بما ينطبق على الواقع .
أمّا الوعي الجماهيري الشعبي ، الذي هو الوعي الاجتماعي ، فالمقصود منه الوصول لبناء حكم الشعب ، لا حكم الطبقة الغير الموجودة . ان كل الانتفاضات التي عرفها المغرب في تاريخه ، كانت انتفاضات اجتماعية / جماهيرية شعبية ، ولم تكن طبقية . والشعارات التي رددتها الجماهير في حركة عشرين فبراير ، لم تكن طبقية ، بل كانت اجتماعية / جماهيرية شعبية . ان مطلب الملكية البرلمانية الإصلاحي ، يتعارض كليا مع مطلب الطبقة العمالية التي تبحث عن بناء دولتها الدكتاتورية . ففرق شاسع بين الجمهورية وبين الملكية البرلمانية .
إذن ما هي اسباب معوقات بروز وعي طبقي اجتماعي ؟
( يتببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببع )
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الاحتلال الإسرائيلي يغلف عدوانه على غزة بأردية توراتية
.. بالأرقام.. كلفة قوات الاحتياط بالجيش الإسرائيلي منذ بدء الحر
.. تزوجتا من شخص واحد.. زفاف أشهر توأم ملتصق من جندي أميركي ساب
.. لحظة اقتحام القوات الإسرائيلية بلدة المغيّر شمال شرق رام الل
.. نساء يتعرضن للكمات في الوجه من شخص مجهول أثناء سيرهن في شوار