الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شقائق النعمان

مهند طلال الاخرس

2018 / 1 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


شقائق النعمان
الشرق عالم ساحر مشرق وهو جنة الدنيا، وهو الربيع الدائم مغموراً بوروده، وهو الجنة الضاحكة، حيث وهب الله أرضه زهوراً أكثر من سواها، وملأ سماءها نجوماً أغزر، وبث في بحاره لآلئ أوفر. هذا هو سحر الشرق، فما أن تبدأ السماء تغمز الارض بأول بسماتها حتى تجود الارض بأروع ما فيها من زهور، وهذا ديدن الارض في علاقتها مع الانسان منذ الازل، حيث لم تكف عن توريثه كل ما يصنع له السعادة وينبت في نفسه الامل، وهذا بالذات ما نجده في قلب كل شتاء وفير حيث يحمل في احشائه ربيع نابض...

في فلسطين يظهر سحر الشرق في فصل الربيع، والربيع في فلسطين لا يبتدىء إلا بعنوانه الاول الزهور، وهذه الزهور لا عنوان لجمالها إلا ضمن مروج خضراء تمتد وتعلوا تغزوا الجبل وتملأ السهل وتصاحب الوادي، وهذه المروج الخضراء لا يزين روحها إلا زهرة حمراء لونها بلون الدم وتاريخها ضارب بالقدم واساطيرها أعجز من ان يلم بها القلم تتقاذفها الحكايات كل منها يحاول ان يضع له فيها موطيء قدم.

في فلسطين يزهر الربيع وكذلك الدم، ولأن الارض كاللغة تُورث وتورث اصحابها اسمائهم وتكسبهم صفاتها وتمنحهم سجاياهم ، كذلك أزهار هذه الارض!

أزهار فلسطين حالها كحال اهلها غارقة بالدم، فكان لزاما عليها أن يتقدم من بينها من ينوب عنها وعن كل فصول ربيعها معركة الهوية والديمومة والبقاء دون انقطاع. هذه المهمة الازلية المستندة الى قوانين الطبيعة والمرتكزة على الحتميات التاريخية كان لابد ان تتصدرها زهرة تشبه اصحابها ووطنهم ولونها من لون دمائهم وعودها لين كعودهم وهش كأشجار تينهم وينبت على الدوام وتتنازعه الفصول والايام، ويأبى صديقاً إلا الربيع، تغتاله الفصول، لكنه سرعان ما يعاود الظهور بعد كل شتاء وفير، ويعجل بالظهور اذا ابتسمت الشمس باكرة، ويطيل البقاء كلما كان الشتاء غزير. فما نفع الربيع السمح إن لم يؤنس الموتى ويُكمل بعدهم فرح الحياة ونضرة النسيان.

هذه الزهرة كان لزاما عليها أن تشبه اشهر اساطير الشعب الفلسطيني حالها كحال اسطورة العنقاء أوطائر الفينيق، فهو ما يلبث أن ينهض من تحت الرماد بعد ان يظن الجميع انه قد مات.

الاسطورة المرتبطة بحياة الشعوب لا تموت، تموت تلك الخرافات المتسللة خلسة الى التاريخ، وحدها الحكايات الاصيلة تبقى تزينها زهور لا تذبل وان حصل وغُيّبت الحكاية وذبلت الزهرة فهي ما تلبث ان تعود من جديد طالما هناك ذاكرة تأبى أن تموت.

قد توجد للامم والشعوب قصص وحكايا مع ايقونات ورموز ابتدعوها او صنعوها لأسطرة بقائهم او لتأريخ وتأكيد وجودهم، لكن في حالة الشعب العربي الفلسطيني تختلف هذه الابجدية بشدة؛ اذ في حالة الشعب الفلسطيني فإن الارض هي من تنجب حكاياها، كما تنجب الزهور، ومن رحمها تولد اسطورتها، وتهبها لمن تريد من ابنائها، وهذا ما كان بالنسبة للشعب الفلسطيني.

لا توجد زهرة مرتبطة بتاريخ شعب وامة كما ارتبطت زهرة شقائق النعمان بتاريخ الشعب الفلسطيني خاصة وامته العربية بشكل عام، وهذه الزهرة اسطرت وجودها ونسجت اسباب خلودها من خيوط الزمن، حالها كحال مطرزاتنا الكنعانية وعروقها والوانها ومن خلفهما حروف لغة بِكر أعطت للبشرية أعظم مآثرها "الابجدية".

الفلسطينيون يعدونها زهرتهم الوطنية التي ترمز لشهدائهم وتأصل لوجودهم وتربطهم بتاريخهم وتراثهم؛ وتدحض مزاعم القادمون عبر الخرافة، ومن هذا المنطلق عدها الكيان الصهيوني زهرة إسرائيل الوطنية، وتعامل معها كما تعامل سابقا مع البرتقال، فالسارق المحتل مغتصب الارض الجديد، أصبح اكثر خبرة في التعامل مع رموز البقاء والهوية، لتعود وتتضح معالم الصراع مرة اخرى، انه صراع على الرواية واصل الحكاية ومن يحافظ عليها يبقى ومن ينساها يفنى.

وليكمل القادمون من الخرافة مشروع سيطرتهم على كل ما يتعلق بهوية أرضنا وتراثنا وتغييبها، فلا بد لهم ان يستولوا على اسمائنا، والذي يتبعه استيلائهم على الامكنة، حتى غدا الاحتلال يصدر 60 مليون زهرة منها سنوياً، إنها محاولة الخرافة ان تلتصق بجسد الحقيقة، لكن ولأن لونها لون الدم فهي لا تليق إلا بفلسطين. فهي ترمز الى الشهداء وتضحياتهم، وهي تأخذ على عاتقها أن تشب وتنموا وتموت على كل قبور الشهداء وفي كل ساحات القتال.

شقائق النعمان زهرة  برية حمراء جميلة، مخملية اللون ان ناظرتها عصرا، ارجوانية ظهرا، دموية اللون احمرها قاني صباحا، والوانها في كل اوقاتها تشبه دم الفلسطيني في كل اوقات استشهاده.

سميت شقائق النعمان (مفردها شقيقة) بالجمع لأنه لا توجد زهرة وحدها، بل تنتشر في جماعات وتعيش كالعائلات الفلسطينية التي يسند بعضها بعضا، ويزيّن بعضها الآخر ويزيدها جمالا، تكاثرها يكون عن طريق البذور وتستعمل للزينة وفي أغراض علاجية كثيرة، ومن أهم فوائدها أنها مهدئة للأعصاب ومسكنة للآلام، وتستخدم في علاج الأرق والسعال والربو، ولتقوية البصر وإطالة الشعر، ولعلاج فرط الحركة عند الاطفال، ولنضارة وصحة البشرة واشهر ادويته «العكار الفاسي» كما يسميه المغاربة أو «دم الغزال» وهو أغلى مسحوق في محلات العطارين، وغير ذلك من المنافع.

زهرة شقائق النعمان التي يطلق عليها الفلسطينييون أيضاً اسم الدحنون والحنون تعيش في كافة ربوع بلاد الشام وخاصة المناطق الجبلية ولها عدة ألوان بينها البنفسجي والزهري والأحمر والأبيض والقرمزي والقرنفلي والأرجواني.

ان لزهرة شقائق النعمان مكانة خاصة في الحضارة  العربية والإسلامية والأدب العربي والموروث الشعبي، وتضمنتها الكثير من الأشعار والقصص والامثال والحكايات الشعبية الفلسطينية، وأكثر مرّوياتها شهرة وإلتصاقا بها حكايتها مع النعمان بن المنذر.

تُنسب "شقائق النعمان" إلى ملك الحيرة النعمان بن المنذر، وتنسبها رواياتٌ أخرى إلى أساطير كنعانية وفينيقية، وقال بعضهم، بل نبتت على قبر النعمان بن المنذر بعد مقتله على يد ملك الفرس، بسبب رفضه تزويج ابنته غصبًا. وقيل في الروايات الشعبية بأن شقيقات النعمان لما جلسن باكياتٍ على قبره حُزنًا على مقتله؛ نبتت هذه الزهرة الحمراء القانية فَنُسبت لهن، "شقائق النعمان"، وذلك لفرط حُبهن له وحزنهن عليه.

فمن هو النعمان بن المنذر الذي نسبت إليه هذه الزهرة؟
النعمان بن المنذر بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، الملقب بأبو قابوس (582-610 م) من أشهر ملوك المناذرة في عصر ما قبل الإسلام. كان داهية مقداما. وهو ممدوح النابغة الذبياني وحسان بن ثابت وحاتم الطائي. وهو باني مدينة النعمانية على ضفة دجلةاليمنى، وصاحب يوم البؤس والنعيم؛ وقاتل عبيد بن الأبرص الشاعر، في يوم بؤسه؛ وقاتل عدي بن زيد و غازي قرقيسيا (بين الخابور والفرات). كان أبرش أحمر الشعر، قصيرا. ملك الحيرة إرثا عن أبيه، سنة 582م، وكانت تابعة للفرس، فأقره عليها كسرى فاستمر إلى أن نقم عليه كسرى أبرويز أمرا بعد أن طلب منه أن يزوجه ابنته فرفض النعمان  فما كان من كسرى إلا أن عزل النعمان ونفاه إلى خانقين، فسجن فيها إلى أن مات. وقيل: ألقاه تحت أرجل الفيلة، فداسته وطحنته، فهلك وكانت هذه الحادثة هي الشرارة التي أدت لاشتعال الحرب بين العرب والفرس في معركة ذي قار والذي انتصر فيها العرب انتصارا كبيرا.
وفي كتاب الجوهري: قال أبو عبيدة: «إن العرب كانت تسمى ملوك الحيرة -أي كل من ملكها - (النعمان) لأنه كان آخرهم».

هذه حكاية التاريخ لزهرة في فلسطين تدحض كل مزاعم شعب الخرافة، القادمين من الاساطير، والعابرين في أضغاث الاحلام، والمتوالدين في منطقة كثيرة الزحام بأسمائها وأسمائنا، وحدهم ابناء الحرام يتميزون كالعُشب الفاسد الغريب حتى على طينة هذه الارض، لكن هي طبيعة الارض؛ كلما نبت فيها عشب ضار دسناه بالاقدام.

هذه حكمة الاجداد الذين تركوا لنا وطناً حزيناً ضائعاً، تركوا الربيع ممزق الأغصان، لكنهم تركوا لنا شقائق النعمان وأوصونا بصوت موجع:" لست مهزوما ما دمت تقاوم".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط


.. جيش الاحتلال يعلن إصابة 4 جنود خلال اشتباكات مع مقاومين في ط




.. بيان للحشد الشعبي العراقي: انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو