الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة علم الغدد الصمَّاء

محمد عبد القوي

2018 / 1 / 27
الطب , والعلوم


بيت كبير موجود في أحد الأماكن من العالم يسكنه جيشٌ من الأشباح التي لا تُري
إنه جيش قوي بحيث إنه إذا أراد أن يدخل غرفة من غرف البيت المحكمة الغلق فإنه يقتحمها فوراً ليستقر ويسكن فيها ...إن هذا البيت هو جسدك الموجود في أحد الأماكن من العالم الآن ...والأشباح التي تسكنه ولا تُري هي منظِّمات كيميائية تتدفق عبر أرجاء جسدك وتتحكم في أشكالنا وألواننا وهويتنا ...إنها (الهرمونات) التي تعد إحدي الدعائم الأساسية التي يقومُ عليها بنياننا لنصير إلي ما نحن عليه الآن

في الحقيقة هناك أنواع مختلفة من الهرمونات منها الهرمونات (الأمينية) و(الببتيدية) و(الستيرويدية) وكل هرمون من هؤلاء يتكون من بنية جزيئية كيميائية توافق التركيب الكيميائي للخلية (الغرفة) الذي سيقتحمها ويسكنها ويؤدي دوره فيها حيث يستهدف كل هرمون خلايا محددة في كل رحلة يقوم بها عبر مجري الدم
وما أن يصل الهرمون إلي الخلية المستهدفة فإنه يُحفِّزُها لتؤدي وظيفتها ولنتخيل كم هو مذهلاً أن الهرمون إذا وصل إلي خلايا أخري أثناء رحلته عبر الخلية المستهدفة فإنه لا يُحفِّزها بل لا يستطيع حتي أن يقترب منها ليقتحمها ويؤدي دوره فيها ولكن السؤال هنا : كيف عرفنا وظيفة هذه الهرمونات وكيفية عملها ونحن لا نراها أصلاً ؟!

إن ذلك يعود بنا إلي تتبُّع تاريخ المحاولات الفاشلة والموفقة أيضاً لإكتشاف هذه الهرمونات ووظائفها وكيفية عملها
لقد أجري الفيزيولوجي (أرنولد برتولد) في عام 1849 عدداً من التجارب العملية علي (الدجاج) ليعرف تأثير عملية الإخصاء علي كامل الجسم وفي عام 1889 أجري الطبيب والعالم (موريشيوس تشارلز إدوارد براون) عدة تجارب أنتج خلالها خليط دوائي من دم الأوردة والمني وعصارة مستخرجة من خصية أحد الحيوانات ثم في جرأةٌ عجيبة حقن نفسه بهذا الخليط أمام حشد من العلماء المستمعين له ثم أخبرهم أنه أصبح يمتلك مزيداً من القوة والحيوية والقدرة علي فعل كل شيء وإعتقد الكثيرين وقتها أن هذا الخليط هو (إكسير الحياة) ولكن في الحقيقة كان هذا مجرَّد إدعاء علي الأكثر
وبرغم أن هذه التجارب لم تؤتي أكلها إلا أنها دفعت الأبحاث قدماً إلي الأمام وفتحت لنا طريق كبير من المحاولات التي أجراها عدد من العلماء الآخرين ومن إحدي المحاولات الرائدة في هذا الأمر هي أبحاث الطبيب (فيكتور هورسلي) حول الغدة الدرقية وهي غدة توجد في الرقبة حيث أثبت أن سبب حدوث (الوزمة المخاطية) و(التورم) هو نتيجة قصور في الغدة الدرقية وبعد فترة من البحث المضني إقترح علاجاً لذلك
ويكمن العلاج في زرع أنسجة من الغدة الدرقية للأغنام في المرضي من البشر ومع ذلك لم يكن هذا العلاج نهائياً
ففكر أحد تلامذة (هورسلي) وهو (جورج مورا) في طريقة يجعل من خلالها العلاج فعالاً ونهائياً فأتي بطريقة عبقرية للغاية حيث قام بتقطيع الغدة الدرقية للأغنام إلي قطعٍ صغيرة ثم وضع القطع في زجاجات تحتوي علي حمض (الكربوليك) وقام بتغطية هذه الزجاجات جيداً وتركها لفترة ثم أخذ عدة مناديل وإستخدمها في عصر وترشيح هذه القطع الصغيرة وهو ما نتج عنه ما سمَّاه (عصارة الدرقية الوردية)
لقد كانت فكرة خارقة مثَّلت حدثاً ثورياً عظيماً لأنه بذلك يكون قد قدم طريقة رخيصة من جهة وفعَّالة من جهة أخري وما أن مرت سنوات عديدة من التفكير في طبيعة هذه الهرمونات وكيفية عملها حتي إخترع الفيزيائي (جورج أوليفر) جهازاً ثورياً يُسَمَّي (مقياس الشرايين) وهو جهاز متميز قادر علي رصد الهرمون أثناء تأدية وظيفته

ولقد كان (أوليفر) يتطلع دائماً إلي إيجاد علاج مرض (إنخفاض ضغط الدم) بإستخدام خلاصة (الغدة الكظرية) وهي غدة موجودة فوق الكليتين وعندما أراد أن يجرِّب علاجه قام بحقنه في الأرانب فماتت لكنه مع ذلك كان متأكداً أنها ستكون مقصورةٌ علي البشر فقط
وفي واحدة من أغرب وأطرف التضحيات الإنسانية في سبيل العلم والمعرفة قام (أوليفر) بتجربة هذا العلاج علي إبنه والمفاجأه أن إبنه نجي وعندما فحصه أوليفر بمقياس الشرايين وجد أن شرايينه قد إتَّسعت وهو ما نتج عنه زيادة في ضغط الدم وبعد ذلك أقدم علي خطوة أخري وهي قياس مستوي (الأدرينالين) في الدم وكانت هذه الخطوة إنطلاقةٌ مذهلة وخيطاً مهماً ألهم فيما بعد الفذ (جوزيف خالبان) الذي وضع أول تصور واضح لكيفية عمل الهرمونات وهو أول من أشار بكل وضوح علي أن الهرمونات عبارة عن رُسل كيميائية تتدفق عبر مجري الدم إلي جميع أنحاء الجسم وتؤثر فيها بعملها وهذه الرسل تُفرز من غدد معينة موجودة في الجسم بحيث يكوِّنان معاً نظاماً متكامل يُدعي نظام (الغدد الصماء)
إن لدي جسم الإنسان أكثر من ثمانون هرمون مثل (الدوبامين والسيروتونين والأكسيتوسين وغيِّرِهـــم الكثيــــر) ولتوضيح دور الهرمونات أكثر يمكننا أن نتحدث عن قصة هي بحق من القصص المثيرة في تاريخ علم الغدد الصماء

والقصة تروي أن رجلاً عملاقاً من (أيرلندا) أتي إلي (لندن) ليعمل في سيرك يقدم فيه أحد العروض المسرحية ونتيجة لطوله الفائق الذي يعود بالطبع إلي تورم في الغدة النخامية مما جعلها تفرط في إفراز هرمون النمو فإنه توفي وهو في عمر 22 عاماً فقط
وما أن سَمِعَ أحد علماء الفيزيولوجيا (جون هنتر) بموته حتي سرق جثَّته وأقام دراساته عليها وقام بعرضها فيما بعد في أحد المتاحف العلمية ...وبقدر ما كان هذا العمل غير أخلاقي إطلاقاً إلا أنه خلَّف للعلماء كنزاً لا يُقدَّر بثمن حيث قام العديد من هؤلاء العلماء بالبحث والدراسة حتي توصلوا إلي معرفة وظيفة الغدة النخامية ووظيفة هرمون النمو وآلية عمله وعلاجه أيضاً
وبالإضافة إلي هذه القصة يمكننا أن نلحظ التأثير البالغ للهرمونات علي الإنسان من خلال ما تروه في حياتكم
إنكم علي مدار حياتكم وأنتم تسمعون عن كثيرين مرضي بمرض السكر فما هو سبب هذا المرض بالتحديد ؟!
إن سببه هو نقص في هرمون (الأنسولين) حيث لا ينتج جسم مريض السكر هرمون الأنسولين وبالتالي لا يتحول السكر إلي طاقة يستفيد منها الجسم وإنما ينتقل عبر الجسد ليخرج في البول وهذا سبب دخول مريض السكر إلي المرحاض بكثرة وهو أيضاَ السبب في تسمية هذا المرض بـ(السكر) ...وفي الحقيقة لقد مات الكثيرين أو عُذِّبوا في حياتهم بسبب هذا المرض ولم يكن هناك علاجٌ له حتي جاء العبقري (فريدريك بانتينج) وتوصَّل إلي علاجه الثوري لمرض السكر
لقد كان (فريدريك بانتينج) رجلاً فقيراً معدوماً ومديوناً لا يجد كفاف يومه وفيما بعد عمل حِرَفِيَّاً في وظائف مختلفة وفي نفس الوقت كان يعطي محاضرات لطلبة الطب ليُنفق علي نفسه وإهتماماته العلمية وبالأخص معمله المتواضع الموجود في بيته المتواضع هو الآخر في (أونتاريو) بكندا إلا أن هذا الرجل أصبح فيما بعد أحد أهم العباقرة الذين تَغَنَّي بهم العالم لكونه مسؤول عن أحد أهم الإكتشافات العلمية في تاريخ الطب كله ...ليتحول من رجل فقير معدوم إلي رجل يتسابق الملوك والأمراء لكي يجلسوا معه والي إنسان عبقري (رحيم حقاً) لأنه أزال عن كاهل المرضي أعباءٌ ثقيلة

ولقد تم منحه جائزة نوبل في الطب وتحديداً في علم الغدد الصماء ليبرهن لنا أن الإنسان إذا أراد تحقيق شيء فلن يُعيقه أية ظروف مهما كانت صعبة وثقيلة ولكن السؤال هنا : ماذا فعل هذا الرجل ليوقف عواقب هذا المرض ؟!
من المعروف أن جسدنا يحتوي علي عضو (البنكرياس) وهذا البنكرياس له وظيفتين : الوظيفة الأولي والرئيسية منهم هي إفراز العصارات الهاضمة والثانية هي إفراز هرمون الأنسولين ولما كان البنكرياس في أغلبه يتكون من خلايا تفرز الإنزيمات المسؤولة عن الهضم لذلك لو قطَّعنا بنكرياس أحد الحيوانات (كما فعلنا في حالة الغدة الدرقية) وقُمنا بعصر قطع هذا البنكرياس فلن نجد أية أنسولين بل سوف نجد عصارات هاضمة فقط ...وعندما كان (فريدريك بانتينج) يفكر في هذا الأمر إنتفض فجأة لإلهام مفاجئ خطر علي باله بفكرة عبقرية
هذه الفكرة تمثَّلت في ربط جميع القنوات الهضمية التي تفرز العصارات الهضمية مع بعضها وبذلك سوف تتعرض الخلايا المنتجة لها إلي التآكل والتحلل مما يمكننا من إستخلاص (خلايا بيتا) وهي تُمَثِّل عدد قليل جداً من خلايا أو جزر (لانجر هانز) البالغة حوالي مليون جزيرة في البنكرياس ...وخلايا بيتا هذه هي التي تفرز الأنسولين ووقتها سنكون قادرين علي جعلها تفرز كمية إضافية من الأنسولين الذي يمكن إستخلاصه وحقنه في مرضي السكر تعويضاً لهم عن الكمية التي لا يستطيع البنكرياس لديهم أن يصنعها

ولعل سؤالاً هنا يراود بعض الناس (غير المنتبهين) : لماذا لا نصنع هذه القصة بداخل بنكرياس المريض نفسه بصفة دورية ونعفيه من حقنه خارجياً ...والإجابة ببساطة أنه بالإضافة إلي صعوبة هذه العملية أمام سهولة الحقن الخارجي فإنك وقتها ستعالج جزء وتخرِّب جزء آخر لأن البنكرياس له وظيفتين كما ذكرت
في النهاية يمكن أن أقول أن الحقيقة لا يُمكن أن تكتشف دفعة واحدة وإنما خطوةٌ بخطوة - تستصفي من الخرافات والأساطير والألغاز وعدم وضوح الرؤية ولكن (الحقيقة نفسها) هي حقيقة منذ الأزل الحقيقة دائما هي التي تفرض نفسها بغض النظر عن قناعتنا ومنطقنا وما نشاهده ونسمعه ونشعر به لهذا كانت الحجة التي تقول ببشرية الإسلام لمجرد أن بداية الدين كانت خرافات وأساطير هي حجَّة واهية ساقطة لأن هذه هي رحلتنا نحن كي نُدرك الدين ...هذه الرحلة تخبطنا فيها نحن وضللنا الطريق طويلاً حتي نصل إلي الصواب تماماً كمعرفة حقائق الكون الآن من خلال العلم
حقائق الكون ثابتة بينما نظرتنا نحن وتفاسيرنا ورؤانا هي التي تتغير – التفسير هو الذي يتغيَّر وليس الشيء نفسه
يجب أن نركِّز علي هذه التفرقة الهامة جيداً
وكالعادة - يعلِّمُنا العلم التواضع والإيثار – يُعلِّمُنا الإنصاف ومراجعة آرائنا وعدم التعصب لها لنختار الصواب دائماً بدلاً من الإستمرار في الوهم والخطأ والتمحّور حول الذَّات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معهد في كاليفورنيا يجمع أكبر كاميرا فلكية في العالم


.. وضع لؤي وائل لاعب المقاولون تحت الملاحظة الطبية 24 ساعة بعد




.. رئيسة جمعية العون الطبي للفلسطينيين تحذر من كارثة صحية في غز


.. بلع لسانه.. وضع لو?ى واي?ل لاعب المقاولون تحت الملاحظة الطب




.. دعوى قضائية: أطباء يابانيون يطالبون غوغل بتعويضات بسبب نشر -