الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرجعية الخلافة الذاتية عند محمد عبده

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2018 / 1 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن صعود فكرة الخلافة الإسلامية (العربية) للمرة الثانية في التاريخ العربي الحديث بعد انقطاع قرن من الزمن يشير إلى أنها مازالت إشكالية وقضية في الوعي السياسي والثقافي. وهي، شأن اغلب قضايا التاريخ العربي الإسلامي، لم يجر حسمها بطريقة عقلانية بحيث تجعل منها أما قيمة عابرة في تجارب الماضي، أو نفيها بالشكل الذي يجعلها ذائبة في مسام الوعي الذاتي الثقافي والقومي التاريخي.
ففي المرة الأولي، ظهرت بأثر انهيار السلطنة العثمانية، التي كانت الخلافة بالنسبة لها مجرد غطاء قومي للسيطرة التركية في العالم العربي. ومن ثم كانت الدعوة العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص لاسترجاع الخلافة إلى أصولها من جانب العائلة الخديوية استمرار من حيث الجوهر للتقاليد التركية وثقافة المماليك. أما بالنسبة للتيار الإسلامي السلفي (رشيد رضا)، فإنها كانت تعبر عن معنى وقيمة الفكرة الإسلامية بتقاليدها العربية الأولى. بمعنى أنها كانت تحتوي على أبعاد قومية وثقافية، لكنها سلفية ومعارضة لمنطق التطور والتقديم الحديث. وقد جرى نقدها آنذاك من جانب الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم).
أما الصيغة المحدثة لفكرة "الخلافة الإسلامية" التي تقدمها "داعش" فإنها تحتوي على كل مثالب الفكرة الدينية اللاهوتية الإسلامية، ومخالب التخلف والانحطاط الفكري والثقافي والسياسي القومي العربي.
والجانب الأول جلي في أن خارطة الجغرافيا السياسية "للخلافة" هي خارطة المشرق العربي، أي لا علاقة لها بالجزيرة والشمال الإفريقي والعالم الإسلامي ككل. بمعنى أنها خلافة "سياسية" من طراز غريب. ومن ثم لا تستجيب ولا تتوافق مع تقاليد فكرة الخلافة والإمامة الإسلامية على امتداد تاريخها وأصولها وفرقها (السنية والشيعية وغيرها). كما انه لا اجتهاد فيها.
أما الجانب الثاني (القومي) فإننا نكتشف فيها بعدين متناقضين وغريبين بقدر واحد. فمن الناحية الشكلية تستعيد خارطة "الخلافة الإسلامية" الجغرافية الخارطة التي رسمها انطون سعادة في نظريته عن القومية والدولة السورية (التي كان يقصد فيها سوريا الطبيعية والعراق). بمعنى وضع طبقة "إسلامية" طائفية (سنية) بدوية تقليدية على خارطة وجغرافية ودولة انطون سعادة العربية الدنيوية العلمية الثقافية. وهي مفارقة غبية وبليدة تؤكد الفكرة القائلة، بأن التاريخ يعيد نفسه مرة بهيئة مأساة وأخرى بهيئة مهزلة. وليست مساع "الخليفة" "القرشي" "الحسيني" سوى الصيغة الأكثر إثارة للسخرية. بمعنى محاولة انتحال تقاليد ميتة ومزيفة شأن أسلافه العثمانيين، مع فارق جوهري. الأولى كانت تجري ضمن سياق وتقاليد بناء الإمبراطوريات الإسلامية، والثانية ضمن سياق وتقاليد تخريب وتخريف الوعي القومي العربي. وقد يكون أكثرها إساءة للتاريخ العربي الإسلامي هو انتحال اللقب العربي (القرشي) والعربي الإسلامي (الحسيني) من قبل أعراب لا عروبة فيهم، وصعاليك المماليك الجدد. واقل ما فيها إن اللقب لا يستقيم مع غريزة العداء للتقاليد الحسينية (العلوية أو الشيعية).
إن هذه الحالة الغريبة والشاذة تستعيد بوعي أو دون وعي ما سبق للمفكرين الإصلاحيين الإسلاميين الكبار أن أشاروا إليه قبل قرن من الزمن. بمعنى التوكيد على أن محاربة التيار العلوي (الشيعي) كان من حيث الأصل والجذر السر القائم وراء انحدار الإسلام وتحلل كيانه السياسي والقومي. بمعنى وصولهم إلى فكرة مفادها إن الموقف المعادي للشيعة لا يؤدي إلا إلى تحلل الفكرة الإسلامية العربية. ومن الممكن رؤية ذلك بوضوح في أفكار ومواقف واستنتاجات الشيخ محمد عبده بهذا الصدد. فقد أدى مسار الأشواط الإصلاحية في استنهاضه للتراث إلى أن يقف أمام قيمة العربية ومكوناتها في الوجود التاريخي والثقافي للإسلام. وان يبنى عليها بالتالي أحكامه السياسية.
ففي تناوله أهمية القرآن باعتباره معجزة الإسلام الكبرى، نراه يشدد على مظهرها اللغوي العربي. مما الزمه بالتالي القول بان من الصعب معرفة حقيقة الإسلام دون معرفة لغته. ومن هنا وضعه مهمة معرفة عادات العرب واعتقاداتهم وتقاليدهم كشرط ضروري لمعرفة ما في القرآن. وليس مصادفة أن يستنتج قائلا بأن إحدى الجنايات الكبرى التي جرت على الإسلام هي "جناية الجمود على اللغة العربية وأساليبها وآدابها". لهذا نراه يضع في شروط المجتهد "أن يكون عالما باللغة العربية وما معها". وبما انه اشترط في الخليفة أن يكون مجتهدا فان ذلك يعني بالضرورة إتقانه العربية في آدابها وأساليبها.
وحاول من خلال هذا الاستنتاج تفسير احد الأسباب الكبرى وراء انهيار الخلافة وكيانها الإسلامي الحق. فقد كان الإسلام دينا عربيا، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا بعد إن كان يونانيا، ثم "اخطأ" خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا له. فقد ظن هذا الخليفة (العباسي) إن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي (شيعي)، لأن العلويين كانوا الصق ببيت النبي، فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم". وهو الخطأ السياسي الذي أدى فيما بعد إلى ما اسماه محمد عبده "باستعجام الإسلام وانقلابه أعجميا".
وهو الخطأ التاريخي الذي أدى إلى انهيار دولة الإسلام العربية. وذلك يسبب افتقاد هؤلاء (الترك والديلم آنذاك) إلى قيم الثقافة وإسلامها الحق. وإذا لم يكن لهم، كما يقول محمد عبده "ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم ولبسوا الإسلام على أبدانهم". وأدت هذه العملية إلى انهيار الكينونة الثقافية للعرب والإسلام، بحيث جعلت محمد عبده يصف الخطأ التاريخي ـ السياسي ـ الثقافي للخليفة العباسي بعبارة: "وبأس ما صنع بأمته ودينه!". لأنه وجد فيها العملية التي أدت في حصيلتها إلى ما آلت إليه أمور العرب حتى نهاية القرن التاسع عشر.
لقد كان ذلك يعني بالنسبة لمحمد عبده ضرورة إعادة بناء الدولة العربية الجديدة في كيانها السياسي والديني وبالتالي القومي، أي وضع مهمة القضاء على السيطرة التركية (العثمانية) باعتبارها شيئا لا علاقة له بالإسلام ومكوناته الجوهرية. وبالتالي جوهرية الاستنهاض الجديد للوجود التاريخي والثقافي للعرب. فالنهضة الإسلامية الحقة في جوهرها هي نهضة العربية، تماما بالقدر الذي يعني نهوض العرب الثقافي والسياسي نهضة الإسلام الحق. وهي الحصيلة التي نقف الآن أمام من يحاول نفيها وندميرها بعصابة تسعى "لتجديد الدين" بطريقة اشد بدائية من غرائز الأغراب!
وبغض النظر عن كل مفارقات هذه الظاهرة في العالم الحديث، وبالأخص مفارقة السطوة المستفحلة لعصابة بدائية جلفة وهمجية واستحواذها على "إسلام سني" متزايد الغلو والانحراف عن ابسط مقومات العقل الحر والضمير الحي، إلا أنها تكشف بالقدر ذاته عما يمكن دعوته بموت الإسلام اللاهوتي وانهيار الإسلام السياسي السني الذي جعل من سنة الإرهاب وإرهاب "السنة" شيئا واحدا! وهي "الفضيلة" الوحيدة لداعش! بمعنى أنها أوصلت كل هذا النمط اللاعقلاني إلى مشارف الهاوية الحتمية، لكي يجري حقا استنهاض الفكرة القومية العربية وخلافتها لذاتها بوصفها فكرة اجتماعية دنيوية (علمانية) ومستقبلية لا مكان فيها لدواعش فواحش، وفواحش دواعش!!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية