الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قارئ لرواية -لحظات لا غير- للروائية المغربية فاتحة مرشد

يوسف الطاسي

2018 / 1 / 29
الادب والفن


قارئ لرواية " لحظات لا غير" للروائية المغربية "فاتحة مرشيد"

تفتتح روايتها هاته التي أزهر بها المركز الثقافي العربي سنة 2007، بعبارة جليلة، جميلة، وفاتنة تطرب القلب نغما، شغفا، وحبا، وتغدي الإرادة، كحكاية قصيرة جدا شخصياتها مغايرة تماما لشخصيات وأبطال الحكايات والقصص، أبطال من طينة أخرى، إنها شخصية "القلم" و"الورقة" مع حب ومداعبة "الكتابة" هذه الأخيرة التي تصنع الخلود، إذ أن كل واحد منا يسعى وينشد الخلود عبر الذرية ، أو عبر الإبداع وما أدراك بخلود الإبداع الذي تنشده الكتابة، هذه العبارة، عفوا هذه القصة هي: " تريث قليلا أيها الموت إني أكتب"، أول مرة أقرأ شيئا أتبناه بصدق دون أن أفحصه وأقلبه، أنا الذي نادرا ما يتبنى شيئا بدون فحصه، فهذا الأمر يشبهني إلى درجة التطابق، كان مضمرا بجوارحي، استطاعت "فاتحة مرشيد" أن تترجمه في كلمات وتكتبني، أعادت لي الحياة من جديد كما أعادتها ل "وحيد الكامل"، فمن هو هذا البطل؟.
"لحظات لا غير" عنوان مغري ومثير وجذاب يحمل في طياته وجعبته العديد من الرسائل تظهر وتختلف باختلاف القراء، لعل أجمل هذه الرسائل والتي استوقفتني متأملا لها هي "أن نعيش لحظاتنا بعشق وحب"، وكأنها أخر لحظة نعيشها في حياتنا، "لنعشها بسلام، لنخلد فيها"، فالخلود كما قالت مرشيد "ليس الامتداد في الزمن، بل الامتداد في أعماق اللحظة"، ولحظة غبطة كاتب هذه السطور هو تعرفه على هذه الروائية التي نصحتني بها "صديقتي الحميمية" غير ما مرة لأقرأ لها ولم يُكتب لي موعد معها إلا في لحظة خصامنا وكأنها رسالة أخرى تصفعني أنا الذي فرط في لحظات، حينها أدركت قول فاتحة: "أن المهم ليس ما نقوم به، ولكن مع من نقوم به، تماما كما ليس المهم الأماكن التي نرتادها ولكن مع من نرتادها"، هذه الرواية هي أول عمل أتعرفه وأقرأه ل "فاتحة" إنها حقا فاتحة حب، فاتحة خير وأمل وحياة جديدة... جعلتني بداية الرواية أفتح مباشرة الشبكة العنكبوتية وأضغط على هذه الحروف "ف ا ت ح ة م ر ش ي د" للتعرف عليها: من هي؟ ومن أي كوكب نزلت؟ ومن أين اكتسبت هذه اللغة الشاعرية التي تخترق القلوب بلا منازع؟.
لحظات لا غير ترسم وتختزل لنا تجربة الطبيبة النفسية "أسماء" التي صارعت "المرض اللعين" الذي يفتك بالجسم والروح والإرادة...، وتغلبت عليه. هذا المرض الذي يحرم الأنثى جمال أنوثتها باقتلاع نهدها أو نهديها معا، مرض لا أستطيع حتى أن أذكر اسمه فلي معه قصة انتهت بسلام مع "شمسي" أنا أيضا، ثم تجربة مريضيها "وحيد الكامل" أستاذ الفلسفة وشاعر انقطع وتوقف عن الكتابة، كان يعيش حالة اكتئاب دفعته لمحاولة الانتحار، استطاعت الطبيبة "أسماء" أن تغوص في سبر أغوار "وحيد" وأن تخرجه من سوداويته وظلمته الحالكة التي كان يعيش في غياهب لب لبها، كان السبب وفاة والده، الذي كان في علاقة تنافر وتباعد معه في طفولته وشبابه ، لأنه كان اليد المتهورة والرأس المخمور والرجل التي لا تعرف التريث...،في وفاة أمه على إثر حادث سير بسياقته المتهورة وهو تحت تأثير الكحول يتمتع بالسرعة رغم مناداتها ومناجاتها بأن يخفض السرعة إلا أنه لم يبالي ولم ينصت لكلامها . حينها كان وحيد طفلا يبلغ من العمر عشر سنوات. بوفاة أمه " شمسه" فقد طفولته وودعها، أمه كانت سيدة التضحيات تعيش من أجله، صورها "بالشمس التي كانت تداعب وجهه كل صباح ولا تغرب قبل أن ينام"، بعدها دخل في صراع مع والده الذي انقطع عن شرب الخمر وعاد إلى-(الطريق المستقيم)- إلى حد التطرف والغلو وكلما حاول والده الاقتراب منه ازداد وحيد منه نفورا وبعدا، تزوج والده بعد ثلاث سنوات على وفاة الأم، وحيد اعتبر هذا الزواج خيانة عظمى لأمه، وأعتبر أن قبوله بهذا وتواطئه مع الزوجة ستكون خيانة أعظم، فكانت هي الأخيرة عدوة له... وبعد أن حصل على شهادة الباكلوريا توجه إلى مدينة "الجن والملائكة" ليتم دراسته هناك، اختار شعبة "الفلسفة" نكاية في أبيه، وما أدراك ما الفلسفة...، عاش علاقات صاخبة هناك... أدمن الكحول، طرد من العمل الذي كان يعين به نفسه، خرج عن النسق.... لكن لقاءه ب"سوزان" زوجته الآن التي أخرجته من إدمانه الكحول وأتمم دراسته وحاولت ما في جهدها أن تصالحه مع والده وعلى هذه المحاولة أضحت علاقته بوالده يطفو عليها شيء من التواصل تبادل بعض الرسائل المحتشمة والقليلة، لكن فجأة وصله خبر وفاته "تعرض لحادثة سير" رجل تحت تأثير الكحول يدهسه بسيارته ، حين كان والده متوجها إلى المسجد لصلاة الفجر وكأن القدر يعيد نفس الحكاية بممثلين جدد كان "وحيد" يتمنى وفاة أبيه من قبل، وكأن القدر استجاب لدعواته والاستجابة هذه وصلت متأخرة شبيهة بقطاراتنا ومواعدنا...، فدخل في حالة ندم ولوم النفس واكتئاب، وكأن دعواته هي السبب... "ألم يقرأ هذا الشاعر أن الندم هو الخطأ الثاني الذي نقترفه؟". هذا ما جعله يتوقف عن الكتابة بل عن التنفس بالرئة الثالثة التي يتنفس منها الشعراء والكتاب، لكن الطبيبة جعلته يخرج من هذه العالم الكئيب ليتنفس من جديد ويفض بكارة الورقة كل يوم كما كان يعيش علاقاته الحرة في باريس... استعاد لياقته في الكتابة وعافيته في إبداع وصنع الأفكار والأشعار...، لكن الغريب هو أنه أعاد طبيبته إلى الحياة أيضا، تلك الطبيبة المطلّقة التي كانت ترفض أن تقوم بإجراء عملية تجميل أو ترميم لنهديها، لكنها تراجعت عن هذا من خلال حصص علاجها معه وعودتها إلى حضن الكتب والقراءة، وقراءة أعمال ودواوين مريضها "وحيد"، تصالحت مع القلم وبدأت ترسم كلمات وحروف من نور على صفحات من ذهب لا يلمس سحرها وجمالها إلا من اخترق قلبه رمح الحب ومن يغريه بياض الورقة. هذا جعلها تتساءل " أتراني أحلله أم يحللني؟".
أسماء كانت تحب وتهوى الكتابة في صغرها وشبابها لكن اختيارها لمهنة الطب جعلها تنقطع عن الكتابة...، صالحها مع نفسها فاستعادت الحياة والحب والأمل وأعادتها حصص علاجه إلى نفسها.. كما صالحته هي وأعادته إلى روحه، عاد للكتابة فأصدر ديوان شعري" أبراج الروح" حضرت لحفل توقيعه، وكيف لا تحظر وهي من ساهمت في عودته إلى الكتابة، هو الذي لا يعلم أنه أعادها للحياة، فكتب لها إهداء بقلمه، إهداء لها، لا لغيرها، يخصها وحدها "إلى من أعادت روحي إلى أبراجها ". وقعا في شباك الحب، هذا الحب الذي صالحها مع نفسها ومع العالم، بدأت علاقتهما كإبحار دون احتمال العودة إلى اليابسة...، استدعتها هيئة الأطباء للمجلس التأديبي حيث أن مثل هذه العلاقات ممنوعة بين المريض والطبيب، وكأنها محرمة من السماء، بحجة أن الطبيب يكون في كامل قواه العقلية والمريض يكون منهار قد يقع في أي مستنقع عاطفي يجده أمامه، واجهت كل شيء مقابل الحب -أمها وظيفتها ومهنتها التي...، أصدقائها...، وتراجعت عن القسم الأبوقراطي، وقدمت استقالتها، هذا كله من أجل الحب الذي لا يعلم أحدا متى يصادفه...، تزوجا لكن. " وآلماه " من ذلك المرض اللعين الذي أصابه بعد مدة قصيرة من زواجهما، صار طريح الفراش تحت رحمة الآلات والأدوية، حرصت على الاهتمام به بالمنزل وليس في العيادة نقلت جميع الآلات الطبية والأدوية التي يحتاجها، تكلفت وحدها دون مساعدة أي ممرضة رغم إصرار طبيبه على ذلك، لكنها رفضت أن يتقاسم أحد معها لحظاتها الأخيرة ويزعج خلوتهما، أليست الحياة لحظات لا غير، قامت بواجبها ليس فقط كزوجة مخلصة ومحبة، بل كممرضة أيضا، ترعاه تقدم له الدواء... وكأنها خلقت لتدرس الطب من أجل أن تعتني به، وتطعمه، تنظف جسمه، تحلق ذقنه، تقرأ له الشعر وبعض الراويات... إلى حين وفاته وفاة صامتة، وهي نائمة جنبه غاب بهدوء متحاشيا إزعاجها كما قالت...،و بعد أربعينيته، " استيقظًتْ ( أسماء ) مع الفجر، والنور لا يزال مشتعلا بالغرفة وقصيدته فوق صدري، وأنا لا أعلم إن كنت أحلم أم أن طيفه فعلا هناك: كان بوسامته المعتادة، يراقصني، حاضنا جسدي بين ذراعيه، ويهمس في أذني: "اكتبي كما للأموات... لتزدادي حياة". نهضت وصوته يملأ مسامعي، دخلت المطبخ وحضّرت فنجان قهوة وجلست على المكتب، أخذت ورقة وقلما، والبيت غارق في صمت رهيب.. وكراهب يفتتح طقوس الصلاة، جهرت: أيها الموت تريث قليلا إني أكتب، منحت القلم زمام نفسي وتركته يقودني في سراديب البياض....". وكأنها أخذت على عاتقها إرث الكتابة لكي تَخلد وتُخلد حبهما، وهكذا بدأت من حيت انتهت "تريث قليلا أيها الموت إني أكتب"، وكاتب هذه السطور تعلم منها أن يبحث عن "أناه" عن ذاته، أين أبحث عن أناي؟ وكيف لا أبحث عنها وأنا قارئ ل "فاتحة مرشيد" صاحبة الرواية! التي تتقن بالحروف فن الغواية، القلم والورقة هما البداية والنهاية، تجردك وتحررك من كل وصاية، فأن ترفع القلم وتكتب هي أجمل حكاية، بحثا عن أناك عن حبك في أعماق لحظاتك فالحياة لحظات لا غير، وهكذا صرت أبحث عني، أينك يا أناي؟
أنا هنا بحثا عني!
وكأنني انفصلت مني
لا أدري هل أنوح أم أغني!؟
فقد أصبحَتْ هوة كبيرة بيني وبيني
لم أعد أعرفني.
صارت أشياء تافهة تستفزني
أحتاج إلى أن أضمني، أقترب مني
أحسني أشعرني أنني افتقدني
لم أعد أميز بين زماني ومكاني
اختلطت علي جمع المعاني
وكأنني في حرب خسرت فيها كل كياني.
ما هو دائي؟ وأين أجد دوائي؟
سأترك كل ما يستفزني ورائي.
وأدنو مني، وأسمعني
وأنثر في شعرا يهزني
يأخذني من عالمي إلى عالمي
سأكتبني، وأرسمني
فهاهنا "أنا"، رفقة القلم والورقة أجدني.
فالقلم وحده من يمنحك أجنحة تحلق بها في سماء الحب والصفاء والإبداع الذي ينشد الخلود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا