الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مفهوم السلطة

مي كمال أحمد هماش

2018 / 1 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في مفهوم السلطة
جميعنا لدينا السلطة في أجسادنا، ولكن مدى الارتباط والتأثير والإنعكاس بسلوكياتنا سواء السلطوية أو الخضوعية يعتمد على طبيعة فهم السلطة وكيفية التأثر بها، والمجال الذي نسمح له بالتأثير في السلوك الإنساني. وهنا يتطلب من الوعي البشري بشكل عام تعزيز معرفته بألية عمل السلطة الغير مباشرة قبل المباشرة لتكون ممارساته غير معززة ومولدة للسلطة.
عَبَرَ مفهوم السلطة منذ القدم بالإرتباطات التي قسّمها "كونت" للمجتمعات البشرية، حيث حملت معاني ميتافيزيقة ولاهوتية بعض الشيء. ما جعل مفهوم السلطة محاصرا بالسلطة السياسية، سلطة الرّب، المؤسسة الدينية، المعتقدات والعادات والتقاليد، وفيما بعد انتقلت السلطة لرب القبيلة، وبعدها، التحقت السلطة بتشكل الدول، وأصبحت تُشرع ويُبايع عليها من قبل الشعب لممارستها عليهم؛ بحجة تنظيم حياتهم وملكيتهم الإقتصادية على وجه التحديد.
بهذا، ستقوم هذه الورقة على إخضاع مفهوم "السلطة" للدراسة في مواقعها السياسية، والثقافية، والإجتماعية، والأنثروبولوجية والقانونية. محاولة الوصول لتاريخية الكتابة في مفهوم السلطة كقوة للسيطرة والإخضاع الفيزيائي والسيكولوجي والسياسي. وأبرز النقاط التي يتم تعريفها بها، والجدالات حول هذا المفهوم في ذات الحقل ومع الحقول الأخرى.
تأخذ الورقة أهميتها من مقولة فوكو الشهيرة في كتابه "إرادة المعرفة": "إن السلطة تُمارس، تتحرك، تنتشر.. تتداول تشكل نسيجا". فهذا النسيج يُبنى عليه ومن خلاله العلاقات الإنسانية داخل المجتمعات.
بداية بالفكر العربي القديم المؤسس لتشكل المجتمعات، وبروز الدول، وتبادل السلطات. نرى بأن ابن خلدون قد وضع السلطة في مفهومها السياسي، ومفهومها الرمزي. في هذا، نرى أن العصبية في فكره أساس قيام السلطة، هذا يعني أن العصبية تتزامن في ظهورها مع ظهور العلاقات الاجتماعية، أو على الأقل مع بروز الروابط الفردية في مجتمع ما. ولا شك أن الأفراد ينشئون بنشوء سلطة لا تزول، هي شرط وجودهم وتنظيمهم الاجتماعي
انتقالا للفكر الغربي، المفكر فوكو الذي لم يبحث في تشكل السلطة والسيادة، بل بحث عن السلطة في مفهوم الممارسة، أي في أسفل المجتمع، فرأى السلطة على أنها "بمنزلة شبكة منتجة تمر عبر الجسم الاجتماعي كله، ووظيفتها ممارسة القمع. فالسلطة ليست مؤسسة، كما أنها ليست قوة معينة وهبت للبعض، إنها الإسم الذي نطلقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين" . ويخلص ميشيل فوكو الى أن تمظهرات السلطة تبنيان على فرضيتين أساسيتين، وهما الفرضية الأولى: يربطها فوكو بوليام رايش؛ ويطلق عليها اسم علاقات السلطة القائمة على القمع. الفرضية الثانية : يقرنها فوكو بنيتشه؛ تتمظهر فيها علاقات السلطة على أساس المواجهة الشرسة بين القوى السلطوية في المجتمع .
في حين أن بورديو أعتمد منهجية خاصة به في فهم السلطة؛ من خلال الرموز، أي الكشف عن الهيمنة السياسية من خلال التحليل المادي للمنتوجات الثقافية، ومن خلال هذه المنتوجات يحلل الهيمنة والسلطة التي يتعرض لها الأفراد في البُنى الاجتماعية . ويعرّف بورديو السلطة "على انها ليست شيئا متموضعا في مكان ما إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ويجب على كل بنية اجتماعية أن تخضع لتحليل؛ لفهم طبيعة الهيمنة والسيطرة " ويعتقد بورديو أن من أهم أشكال السلطة الواجب دراستها والتي تكفل بها هي "السلطة الرمزية" كونها تمتاز بالتستر وتمارس سلطتها بشكل غير مباشر. إضافة إلى ذلك، مع تقدم الدول أصبح من أكثر أشكال السلطة استخداما وفعالية "السلطة الناعمة" .
أجهزة الدولة الأيديولوجية مولدة للسلطة هذا ما يحصر به ألتوسير مفهومه السلطة، فإن أجهزة الدولة القمعية والأيديولوجية مثل الشرطة والمحاكم والجانب القضائي والقانون. هي من تعيد إنتاج العلاقات داخل المجتمع، وما يترتب على هذه العلاقات من هيمنة وسلطة ، ففكرة إعادة الإنتاج بحد ذاتها هيمنة. وهذا لا ينطبق فقط على الجزء الأمني أو القضائي من أجهزة الدولة؛ فإضافة لذلك الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب.
في السياق ذاته نرى بأن غرامشي من خلال تفحصه لمفهوم السلطة من خلال البنى الفوقية والتحتية التي أسسها كارل ماركس، فإنه يشير إلى أنه لا يمكن فهم هذه البنى إلا من خلال فهم التاريخ والواقع معا. وقام بإعادة البناء على مفهوم البنى باعتبار البنية الفوقية هي بنية سياسية وهي الدولة، أما البنية التحتية وهي "المدنية" أي الحيز الذي يتم فيه إنتاج السلطة وهي الأسرة والجامعات والعادات والتقاليد وغيرها وصولا لأجهزة الدولة وهنا يظهر التقاطع مع بورديو الذي ذهب في سياق السلطة الناعمة وألتوسير وفهمهه لطبيعة تشكل السلطة في العلاقات المتشابكة حيث وجدت عبر التاريخ بتاثر العلاقات والقوى الانتاجية واراد ألتوسير أن تتفاعل هذه البنية (العلاقات والقوى الانتاجية ) مع الممارسات الانسانية وإعادة توليدها لنفسها باستمرار كما يتفق فوكو مع هذا السياق بأن السلطة ممارسة تولد نفسها بنفسها.
يرى ماكس فيبر أن العنف هو الشكل الطبيعي للسلطة من حيث احتكارها وشرعنتها، ويبحث فيبر عن شرعية هذه السلطة في ثلاث نماذج، وهي: السلطة التقليدية المعتمدة على الأعراف وعادات السلف، سلطة الخوارزماتية التي يكتسبها شخص لمميزات دينية أو رمزية أو بطولية معينة، السلطة القانونية المستمدة من معقولية التشريعات والقوانين . إلا أن فوكو ينتقد مسلمة أنماط التأثير التي مفادها أن السلطة تستعمل العنف وتلجأ إلى القمع تارة، أو توظف الإيديولوجيا تارة أخرى. وتكشف لنا المقاربة الفوكوية بأن العنف ليس سوى مظهر أو أثر سطحي للقوة المسلطة على شيء أو كائن ما، وبأن العنف والإيديولوجيا لا يفسران مفهوم السلطة، بل يفترضان توفر تنظيم سابق ضمنه يبسطان تأثيرهما . وهنا التقاطع بأن فيبر يعتبر العنف شكل طبيعي للسلطة بينما فوكو يعتبره أحد أشكال الممارسة وليس شكل قائم بحد ذاته فمفهوم السلطة أعمق من الاستخدام للعنف.
السلطة في رؤية ماركس هي حصيلة انقسام المجتمع إلى طبقات، أي أن نشوء ما يرتبط بالظاهرات المؤسسية و الأيديولوجية الكامنة في أساس الحياة الاجتماعية، ذلك الأساس المتمثل واقعيا بالإنتاج المتزامن مع نشوء الروابط الاجتماعية الرئيسية، من هنا نرى أن كارل ماركس يحاول تقديم تعريف للسلطة ينبني على جوهر اقتصادي، حيث يلمح في معرض حديثه إلى فكرة مفادها أن قيام السلطة يعتمد أو يقوم على الوضعية الاقتصادية أو على الجانب الاقتصادي بشكل عام، حيث أن الإنتاج وعلاقته بالروابط الإجتماعية بين الأفراد داخل المجتمع يؤسس لشكل معين من السلطة .
لقد قدّم المفكر الفرنسي ريموند آرون مفهومه الخاص للسلطة، بأنها: "السلطة هي المقدرة على الفعل أو التدبير". ويتخذ هذا المفهوم بعده الحقيقي عند ممارسة الافراد سلطتهم على الآخرين فيما اعتبر برتراند راسل السلطة هي عبارة عن القوّة والمقدرة، قائلا: يمكن تعريف السلطة بأنها "عبارة عن إيجاد التأثيرات المنشودة، إذاً فهي مفهوم كمي ".
في كتاب "الحقيقة والتطببيق"الصادر عام 1999، يتناول هابرماس مفهومه الخاص حول الديمقراطية باستعراض سوسيولوجي لتطور نظرية الديمقراطية، ونتج عن هذه المحاولة نظرية التعددية . إن هذه النظرية للتعددية تحاول ان تفهم السياسة كوسيلة فقط. ولهذا فان السلطة السياسية والإدارية هي شكل اخر للسلطة الاجتماعية وهذا ينشيء جسرا ما بين النموذج الليبرالي للديمقراطية والتجربة العلمية. وفي مفهوم هابرماس فان السلطة الاجتماعية تعتبر كمعيار لكفاءة تحقيق مصالح منظمة التي تتجسد في المنافسات الحزبية والانتخابات والحكومة والمعارضة
نُظر إلى الأدب باعتباره موضوعة سلطة من قبل المفكر روجيه غارودي ، فهو يخالف هيجل الذي يعتقد أن الفن صورة خالصة من المعرفة، مبررا ذلك بأن الفن لا يعلمنا ما تعلمنا إياه الفلسفة والتاريخ بالمفاهيم. مشيرا إلى أنه لا يمكن تفسير "هاملت" لشكسبير، أو أي قطعة موسيقية إلى مفاهيم. ذلك أن الأدب له ميزته بأنه لا ينضب؛ ذاك لأن الأدب والفن لهما تأثير كبير في تذكير الإنسان بأنه مسؤول وواع ومُبدع، فلغة الفن هو وثيقة السلطة بموضوعة، وهي خالفة لأساطير، أي خالقة لنموذج الإنسان وهو يتخطى لذاته .
وفي الجوانب السياسية والتقليدية يُعرف كوجيف الاساسي للسلطة هو ان السلطة تعني القبول الحر والواعي للفرد لأوامر فرد آخر. ويرى أن جميع السلطات تعود في أصلها الى ما يسميه السلطة الدينية او سلطة الاب، وهو يعرّف السلطة الدينية كـ "اي شيء يستطيع الفعل تجاهي دون ان تكون لديّ الامكانية للتصرف" (ص12). النقطة الاساسية في هذا التعريف هي ان الفعل السلطوي الحقيقي لا يواجه اي معارضة من اولئك الذين تُفرض عليهم، وبهذا هي تختلف عن ممارسة الحق الذي فيه يمكن مواجهة نوع من المعارضة. من الضروري ملاحظة انه مع ان ارندت وماركوس يفضلان التعريف السلبي للسلطة فان كوجيف يميل للتعريف الايجابي وهو التعريف الذي يمكن استخدامه سياسيا اثناء الحرب العالمية الثانية .
وللنظر في مفهوم السلطة في حقلها القانوني، فلا بد من الإشارة إلى أن الهدف الأساسي من القانون هو الحصول على السيادة، سيادة القانون وسيادة السلطة، فالقانون هنا هو غاية تستخدمه السلطة لتمرير سلطتها وشرعيتها وبالتالي سيادتها على الواقع الذي تريده. يشير "صراع العمالقة حول الفراغ" أحد أهم فصول كتاب حالة الاستثناء لصاحبه أجامبين إلى حالات الاسثناء القانونية أو الحكمية التي لا تلتصق بها أي صفة قانونية، ولا يترتب على ممارستها أثار قانونية. وبالتالي حالة الاسثناء هذه تفسح المجال دائما أمام وجود سلطة سيادية تستشعر خطر تعده استثنائيا وتتخذ في أثره إجراءات استثنائية تؤدي بحياة الألاف من الناس. وهذا ما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث استغلت الولايات المتحدة هذا الحدث لتصدر قوانين محاربة الإرهاب وحققت كافة مطامعها في ظروف "استثنائية" ليعم الأمن والسلم الدوليين .
لهذا، يقول الكاتب البريطاني جورج منبيوت أن الاستعمار لم ينته ولكنه جاء بحلة جديدة تسمى القانون الدولي الذي بموجبه تفرض القوى الغنية والقوية هيمنتها على الدول الضعيفة. ويأكد على أن شكل الاستعمار التقليدي لم ينته إلا بعدما أنشأ وسيلة أخرى للحفاظ على الهيمنة ، بالإضافة إلى أن القانون كما وذكرت سابقا جاء من الدول الاستعمارية الكبرى للهيمنة ليس فقط على الانسان ضمن منظومة موخدة، لا بل للسيطرة على الموارد وتنظيمها وحمايتها
إن اللغة نفسها سطة كما عبر فوكو عن سلطة المعرفة أيضا، هذه السلطة تستمد نفسها من شرطها الإجتماعي الذي شكلها، والشرط الإجتماعي الذي ستشكله باللغة. ولهذا فالنص القانوني هو السلطة الحقيقية وليس المؤسسة التنفيذية لهذا القانون. قد يتم تجيير القانون واستخدامه، ولكن هذا جزء أيضا من سلطة النص، بليونتها وإمكانية تحويرها واستخدامها.
يقول بارت في اللغة ورمزيتها: إن كشف الكامن يبحث عن الأيديولوجيا خلف أقنعته، وهنا يتفق مع دي سوسير الذي رأى أن ما وراء اللغة بنية خفية لا يمكن للفرد أن يتصرف بها، إذ هي بمثابة العقد الإجتماعي الملزم لكل من يريد التواصل وأنها مؤسسة إجتماعية ونسق من القيم، ولكن بورديو نظر إلى اللغة على عكس دي سوسير أن تدرس كموضوع مستقل يبحث عن الدلالة في باطن اللغة دون البحث في الشروط الإجتماعية لاستخدام الكلمات، فإن قوة الكلمات وسلطتها لا تنبعان من ذاتها بل من الإستعمالات الإجتماعية لها، ذلك أن قدرة العبارات على التبليغ لا يمكن أن توجد في الكلمات ذاتها بل تستمد سلطتها من الخارج وأقصى ما تفعله اللغة هو أنها تمثل هذه السلطة وترمز إليها.
كذلك الأمر بالنسبة للخطاب، المهم في الخطابات هو الخطاب نفسه والكلمات نفسها فكاتبها غير مهم ولا يمتلك سلطة بقدر السلطة التي تمتلكها الخطابات، وموقف فوكو من المؤلف أو كاتب الخطاب، قريب من موقف "بارت" الذي أعلن عن "موت المؤلف" باسم النص. حيث يرى أن المؤلف شخصية حديثة النشأة، ووليدة المجتمع الغربي، وبالرغم من كونها جديدة، إلا أن بعض الكتاب حاولوا خلخلتها، أمثال "مالارميه" الذي دعا إلى إحلال اللغة محل من كان يعد مالكها
يتعامل فوكو مع رمزية الخطاب على النحو الذي لا يبقى فيه مجرد خطاب، كما يعتقد بأن الموقف التفسيري له كنزا مليئا لا ينفذ بل إنه سيغدو ثروة متناهية، ومحدودة ومرغوبة ومفيدة لها قوانين ظهورها، وأيضا شروط تملكها واستثمارها، ثروة تطرح بالتالي ما إن تظهر إلى الوجود مسألة السلطة، ثروة هي بطبيعتها موضوع صراع سياسي، ويفترض فوكو أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع، هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته، ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل