الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرهاناتُ الخاسرة لسياسةِ الهيكلة بالتقشّف

مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي

(Magdy Abdel-hadi)

2018 / 2 / 1
الادارة و الاقتصاد



* الاقتصاد المصري : اختلال مالي نقدي أم اختلال تطور هيكلي ؟!
------------------------------------------------
وكأنما لم تكف أربعون عاماً من "الانفتاح والإصلاح" لدحض صحة النهج الليبرالي في إدارة الاقتصاد المصري ، الأمر الذي لا يتعلّق هنا بنقد ذلك النهج في ذاته (وهو جدير به على أية حال) ، بقدر ما يتعلّق بمدى ملائمة هذا النهج للاقتصاد المصري ، أو بالأحرى بكيفية تجسّده الواقعي في هذا الاقتصاد .

ويمكن تلخيص الجدل الاقتصادي في مصر في خطين رئيسيين ، خط رسمي يرى مشكلات الاقتصاد المصري من منظور عولمي استشراقي مُستمد من أدبيات النيوليبرالية الجديدة في المراكز الرأسمالية ، خصوصاً أدبيات المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، التي تزعم الحياد الاجتماعي المنطلق من التركيز على الكفاءة المُجردة ، مقابل خط مُعارض يرفع لواء التنمية المُستقلة ، انطلاقاً من رؤية سوسيوتاريخية لهذا الاقتصاد تعيه ضمن موقعه الدولي وفي إطار طابعه المحلي وخلفيته التاريخية ، بعيداً عن اختزالات وتعميمات الأجندة أو "الشربة" النيوليبرالية المُنطلقة من خلفية تاريخية وظروف اجتماعية ومصالح اقتصادية مغايرة تماماً .

ويتمثل الاختلاف العملي بين الخطين في الاعتراف بهدف وضرورة التنمية من عدمهما ؛ فالخط النيوليبرالي منذ السبعينات ، ومع تفكك معسكر التحرر الوطني ، يقوم على افتراض عملي بنهاية التنمية ، فيساوي بين ظروف الدول المتخلفة والدول المتقدمة ، ويفرض أجنداته عبر منظماته الدولية دونما مراعاةً للاحتياجات التنموية الخاصة المرتبطة بمستويات تطور الاقتصادات المتخلفة ، مع تجاهل عملي لمفهوم "نمط النمو" الذي يمثل الإطار الحقيقي لصياغة أي سياسة اقتصادية واقعية .



( 1 ) سياسة الهيكلة بالتقشّف :
--------------------------
وقد تبلّورت السياسات الأساسية لها الخط النيوليبرالي في مجموعة من سياسات الضبط المالي والنقدي والانفتاح التجاري الهادفة لتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد وتحرير السوق بزعم الضبط والكفاءة ، مع فتحه للتجارة الدولية في السلع والخدمات ولحرية انتقال رؤوس الأموال ، وهو ما يتوافق مع جوهر نظرية التنمية الرأسمالية التي تقوم بالأساس على وجود فجوة موارد تتمثل في قصور مادي وتكنولوجي مقابل فائض سكاني ، أي فجوة رأسمال حلّها هو جذب الاستثمار الأجنبي .

والأصل التاريخي لهذا النموذج في صورته الحديثة هو السياسات الفريدمانية التي نشأت تاريخياً لمواجهة حالة الركود التضخّمي في الدول الرأسمالية ، بعد عجز الوصفة الكينزية عن علاجها ، وركّزت هذه السياسات على علاج التضخم ولو على حساب البطالة ، مع افتراض معدل طبيعي لها ، وهو ما ناسب مصالح رأس المال ؛ كون الضبط المالي والنقدي يخفضان الأعباء الضريبية عليه ويقلّصان دور الدولة في الاقتصاد لصالحه من جهة ، وكون التخلّي عن سياسة التوظف الكامل الكينزية ، ومع فتح الأسواق لمزيد من حركة التجارة ورأس المال ، حطمّ النشاط النقابي العمالي وخفض الأجور ؛ بما زاد نصيب رأس المال في الدخل والثروة من جهة أخرى .

وتم نقل هذا النموذج للعالم الثالث بزعم أنه يرفع الكفاءة الاقتصادية الغائبة عن اقتصاداته المتخلفة بسبب مرضها بتدخل الدولة بالقطاع العام والتحكم في حركة النقد ورأس المال والتجارة (وكأنما الدولة لم تكن تتدخل في العالم الأول نفسه أوائل حياة الرأسمالية بها) ، فأصبح النموذج كسرير بروكرست ، يتم إخضاع كافة الدول وملائمتها لمعاييره كوصفة علاج لا تتغيّر مهما اختلفت الدول وتباينت الظروف ومستويات التطور ، بدلاً من العكس كما يُفترض بأي طبيب ناجح أن يفعل .



( 2 ) الخلفية العامة لاقتصاد مريض : أزمة عرض أم أزمة طلب ؟
------------------------------------------------
ويؤكد الخطاب الاقتصادي الرسمي في مصر منذ السبعينات التزام الحكومة بهذا الخط ، فمُجمل مشاكلنا الاقتصادية هى عجز الموازنة (بكل توابعه من الدعم والتشغيل الحكومي .. إلخ) وسعر الدولار (تملّق الجهات المقدمة للقروض والمساعدات وتحويلات العاملين بالخارج والخفض المستمر للجنيه مقابله) وزيادة السكان (تناول القضية من منظور خفض الخصوبة لا تعميق التنمية) وجذب الاستثمار الأجنبي (تقديم المزايا والإعفاءات المُبالغ فيها وتغيير قوانين العمل لصالح المستثمرين والخصخصة .. إلخ) .

ولأن الدواء به سم قاتل ، أو في أحسن الأحوال لا يناسب المريض ، فقد عمّق من مشكلات الاقتصاد المصري بدلاً من أن يعالجها ، وأصبح كماء البحر كلما شرب منه المريض ازداد ظمأً ، في مماهاة واقعية ساخرة لقول الليبراليين بأن حل الليبرالية مزيد من الليبرالية !

فبالنظر للمريض نفسه ، نجد لدينا نمطاً للنمو "أقرب" لنمط فخ الموارد منه لنمط التصنيع التنافسي [1] ، حيث الاقتصاد المُحتجز في مصيدة الاعتماد على الموارد الريعية المشابهة لعوائد الإنتاج الأوّلي أو المرتبطة بها [2] ، ما يؤخر التصنيع التنافسي به ، ويطيل فترة طفولة الصناعة (بقاؤها في حدود التصنيع الخفيف محدود العمق الصناعي) ، بكافة ما لذلك من آثار سلبية على التحضّر وعلى معدل الإعالة ؛ ومن ثم على الادخار وتراكم رأس المال البشري والإنتاجي ، فضلاً عن استمرار حالة فائض العمل بما يرتبط بها من تفاوت دخول يضعف الاستهلاك وغياب حوافز وبنية تدفع للتصنيع الثقيل ، كما لا يشجع السياق الريعي المرتبط بهذا النمط الاستثمار ، خصوصاً بما ينتجه من دولة نهب أوليجاركية ، تعزز حالة السعي للريع وتنشر المصالح الفئوية على حساب السياسات المُتماسكة والرفاه طويل الأجل .

وهكذا فبالنظر للهيكل الاقتصادي المصري ، نجد أمامنا اقتصاداً تسيطر عليه الخدمات بنسبة 55 % من الناتج المحلي الإجمالي ، مقابل 12 % منه للزراعة و15 % للصناعة الاستخراجية و 17 % للصناعة التحويلية عام 2016م [3] ، وبحكم ضعفه الإنتاجي ومحدوديته السلعية الواضحة وتضخّم القطاع غير الرسمي به والتشغيل محدود الإنتاجية عموماً ؛ تضعف القاعدة الضريبية داخلياً والقدرات التصديرية خارجياً ، كما يكون اقتصاداً هشاً تجاه الصدمات الخارجية .

وهذا الهيكل ذا الطابع الخدمي ، لابد وأن تختل فيه العلاقة بين رأس المال الثابت والعامل ؛ ما ينعكس على العلاقة الهيكلية بين العرض والطلب (والتي تتعزز بالاختلال الاجتماعي والمؤسسي بين رأس المال والعمل أي الربح والأجر ، كما تعززه) .

فهذا الاختلال بين العرض والطلب هو الأساس التحتي لكافة الاختلالات التجارية والمالية والنقدية ، تلك الاختلالات المشغول بها كلٌ من الصندوق والبنك الدوليان والحكومات التي تسير على خطاهما ، حيث يبرز التناقض فيما يُتخذ من سياسات تعالج العرض (العجز المالي والتجاري والتشوّه النقدي) فيما تفاقم المرض (بتقليص الطلب وإنهاء أي دور إنتاجي وتنظيمي حقيقي للدولة لصالح قطاع خاص عاجز وتابع للخارج ؛ ومن ثم تحجيم الجهاز الوحيد القادر على اتخاذ سياسات علاج المرض نفسه من تشوّه هيكلي وعجز إنتاجي) .

وعملياً ، تعمل القطاعات الرأسمالية والحكومة المرتبطة بها والمنظمات الدولية المذكورة على أساس أن أزمة هذا الاختلال سببها فائض الطلب وليس قصور العرض ، أي ناتج عن مجرد الزيادة السكانية ، وليس عن قصور العرض الناتج عن الضعف الإنتاجي المذكور ، وليس مهماً ما يعكسه انحطاط مستوى المعيشة العام (على ما سيكشف البند التالي) من تأكيد لأن الأزمة أزمة عرض ؛ فالمهم هو الإجراءات التقشفية السهلة ، التي توفّر الموارد المالية للحكومة (تحقيق فائض سهل في الموازنة) على حساب الرخاء الاقتصادي والاجتماعي للشعب (إضعاف النمو الاقتصادي وتقليص نطاق السلع العامة) ، كما توفّر الفرص الاستثمارية السهلة لرأس المال الخاص (بإتاحة فجوات جديدة في قطاعات استهلاكية وخدمية مضمونة ، وبخفض مستوى المعيشة ومن ثم خفض المستوى العام للأجور) .



( 3 ) البؤس المصري قبل وبعد إجراءات الهيكلة بالتقشّف :
------------------------------------------------
تكشف اتجاهات مستوى المعيشة والفقر العام عن اتجاه تصاعدي عموماً منذ بدأت سياسات الانفتاح الاقتصادي في السبعينات ، والتي تمثل الإجراءات الأخيرة امتداد وتعميق لها ، وربما كبحت فوائض تحويلات العاملين بالخارج قليلاً من هذه الاتجاهات (أثر كمي ظاهري بتكلفة كيفية وكمية عالية اقتصادياً واجتماعياًَ وسياسياً وحتى ثقافياً) ، لكن بالتركيز على السنوات الأخيرة ، ارتفعت نسبة الفقراء وفقاً لخط الفقر الوطني من 21.6 % إلى 27.8 % من السكان بين عامي 2008 و 2015م [4] ، بما يتسق مع ارتفاع مؤشر الجوع العالمي بمصر (الذي يمثل أعتى أشكال الفقر) بنسبة 174 % بين العامين [5] .

كما تقدّمت مصر على مؤشر البؤس العالمي (أي ازدادت بؤساً !) من المركز الثامن عشر عالمياً عام 2015م [6] إلى المركز الخامس عالمياً عام 2016م [7] ، مع تحوّل المصدر الرئيسي للبؤس عبر العامين من البطالة إلى أسعار المستهلك ، تماشياً مع سياسات التعويم وتقليص الدعم .

ومن المؤكد أن كافة المؤشرات السابقة قد ارتفعت بحدة أوائل عام 2017م (لم تصدر تقارير مُوثقة بعد) ، مع صدمة التعويم الضخمة في نوفمبر 2016م ، ومع معدلات تضخّم تجاوزت الـ 30 % (وفقاً للأرقام القياسية لأسعار المستهلكين بالحضر) خلال النصف الأول من عام 2017م [8] .



( 4 ) بنية مستوى المعيشة : مفصّلي مستوى الدخل ونمط توزيعه :
------------------------------------------------
أما عن نقطتي التمفّصل بين نمط النمو ومستوى المعيشة ، فهما مستوى الدخل ونمط توزيعه ، ومعروف انتماء مصر للشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل ، فيبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بتعادل القوة الشرائية حوالي 12500 دولار عام 2016م ، ما يمثل عُشر أعلى نظير له عالمياً (قطر) ، وثلثي نظيره الإيراني ونصف التركي كدول مقاربة في عدد السكان والمستوى التنموي [9] ، وهو مستوى منخفض لا يسمح بسقف عال لمستوى المعيشة ، وهو السقف الذي ينخفض أكثر مع أخذ سوء توزيع الدخل بالاعتبار ، حيث تشير دراسة روي ويد وزملائه الصادرة عن البنك الدولي إلى أن معامل جيني الرسمي المعتدل نسبياً البالغ 36.4 عام 2009م ، يرتفع بدرجة كبيرة إلى 47 إذا أُخذ بالاعتبار مؤشر واحد فقط من مؤشرات الدخول العليا التي لا توجد تقديرات دقيقة لها ضمن حسابه الرسمي ضعيف المصداقية [10] ، وهو مؤشر أسعار المساكن [11] ، ولعل هذا ما يفسّر الفجوة الكبيرة بين الأرقام الرسمية المعتدلة لتفاوت الدخل والشعور العام بفجاجته [12] ، ذلك الشعور المنطقي في ضوء الاتجاهات التاريخية الملموسة عياناً من تدهور نصيب أجور العمل (لصالح حقوق الملكية الأقلوية بطبيعتها) من الناتج المحلي الإجمالي من 40 % أوائل الثمانينات إلى 26 % عام 2011م [13] .

ويتسق هذا الاتجاه في توزيع الدخل مع طبيعة توزيع الثروة ، حيث اعتبر تقرير الثروة العالمي ، الذي تصدره وحدة بحوث بنك كريدي سويس السويسري ، مصر ثامن أسوأ دول العالم توزيعاً للثروة [14] ، فوضعها ضمن مجموعة الدول الأسوأ توزيعاً للدخل التي يحوز فيها العُشير الأعلى من السكان أكثر من 70 % من الثروة [15] ، وهو ما زاد سوءاً مع الإجراءات الأخيرة (التي زادت التضخم وقلّصت الدعم) بآثارها السلبية على توزيع الدخل والثروة ، بتحويلهما من أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة (المُكتسبة الناتجة عن العمل غالباً) إلى أصحاب الدخول المتغيرة والكبيرة (غير المُكتسبة الناتجة عن الملكية غالباً) ، حتى أن تقرير الثروة العالمي المذكور لعام 2016م وصل بمعامل جيني "للثروة" في مصر إلى 81.1 % ، وقدّر أن أكثر من 92% من الشعب لا يزيد إجمالي ثروتهم عن 10 آلاف دولار للفرد [16] .

ويكمن الادعاء الليبرالي في هذا الشأن في زعمه أنه يركّز على زيادة الكعكة (مستوى الدخل وحجم الثروة) لا على كيفية تقسيمها (نمط التوزيع) ، أي أنه يسعى لزيادة النمو الذي يرفع مستوى البحر ، فترتفع معه جميع المراكب صغيرها ككبيرها في الأجل الطويل ، على حد تعبير أحد الرؤساء الأمريكيين ، وهو تعبير مُبسط عن فلسفة تساقط الثمار trickle down ، حيث الافتراض بأنه لابد وأن تنعكس زيادة ثروة الأثرياء أصحاب اليد الطولى في النمو بشكل إيجابي على دخول الفقراء ، وهو ما أثبت عدم صحته توماس بيكيتي في كتابه الشهير ، بتأكيد تعاظم التفاوت لا تقلّصه .



( 5 ) الهيكلة الوحيدة المُؤكدة : العلاقة بين رأس المال والعمل :
------------------------------------------------
من خلال ما سبق ، وقبل أن ندخل في مناقشة جدوى سياسة التقشّف المذكورة على مسألة الهيكلة المُستهدفة ، يتأكد لنا أن الهيكلة الوحيدة المُؤكدة التي تحققها تلك السياسة هى هيكلة توزيع الدخل والثروة لصالح رأس المال على حساب العمل ، وهو ما يتسق مع التوصيف الإستسهالي للأزمة الاقتصادية باعتبارها فائض طلب يجب تقليصه لا قصور عرض يجب علاجه ، فيتم تحويل الموارد من العمل إلى رأس المال ، أو من رأس المال العامل إلى رأس المال الثابت ، انطلاقاً من وصفة فريدمانية تحوّل الثروة للملاك بخفض الضرائب وتقدّم كبح التضخّم على معالجة البطالة لمصلحة رأس المال ، فتكبح الطلب الاستهلاكي وتقدم المزايا للمستثمرين ؛ علّها تحفز الطلب الاستثماري الخاص المحلي والأجنبي .

لكن مشكلة هذه الوصفة التي ربما تلائم اقتصادات متقدمة لديها جهاز عرض مرن قادر على الاستجابة لتلك الحوافز ، أنها لا تعمل غالياً في اقتصادات العالم الثالث ؛ فهي لا تعظّم الإنتاج فتحل مشكلة العرض مادمنا في إطار هيكل اقتصادي غير مرن بسبب احتكاريته ، كذا يغلب عليه الطابع الريعي (ومن ثم محدود الحوافز الاستثمارية ويفتقر للمُنظم الرأسمالي) وتسيطر عليه الخدمات (ومن ثم محدود الإنتاج السلعي والتشغيل الإنتاجي فمحدود المضاعف العمالي والاستثماري) ؛ وهكذا فجلّ ما تحقّقه هو زيادة صغيرة محتملة في التشغيل والإنتاج كأثر كمي مباشر لزيادة الفوائض بأيدي الملاك (الذين يهرّبون جانباً معتبراً من ثرواتهم للخارج و/أو يكتنزونه في أصول مُضاربية غير مُنتجة) ، مقابل خسارة كبيرة مؤكدة فيهما كأثر كمّي مباشر لانخفاض الطلب ، وكأثر كيفي غير مباشر على رأس المال البشري ؛ أي إضعاف النمو في الأجل القصير بضرب القدم الوحيدة السليمة لهذه الاقتصادات المتخلفة (الطلب الاستهلاكي) ، وفي الأجل المتوسط والطويل بضرب المورد الوحيد المُمكن تطويره بسرعة نسبياً ضمن هذه الاقتصادات (رأس المال البشري) !

إن اختلال العلاقة بين العمل ورأس المال يمثل خطراً معتبراً على التنمية في الأجلين المتوسط والطويل ، وهو ما أكّدته أطروحات نظرية البُنى الاجتماعية للتراكم Social Structure of Accumulation Theory ، ذلك أنه "إذا كان رأس المال قوياً جداً بالنسبة للعمل ؛ فستبقي الأجور منخفضة ، لكن مع مخاطرة بعدم إمكانية الحفاظ على المستوى القائم من الطلب الكلي ؛ بما قد يقود لأزمة محتملة في مستوى الاستهلاك (وهيكله) ، أي ستبقى الأرباح مرتفعة ، لكن مع تقلص المبيعات نتيجة تدهور القوة الشرائية ؛ بما لا يشجع على بدء استثمارات جديدة ، ومن جهة أخرى ، إذا كان رأس المال ضعيفاً جداً بالنسبة للعمل ؛ فستحدّ الأجور العالية من الربحية برفعها لتكاليف الإنتاج ؛ بما يقلل أيضاً من الاستثمارات الجديدة (وهيكلها)" [17] .

ومن الواضح أن الإجراءات الأخيرة تعمّق عموماً مشكلة ضعف العمل مقابل رأس المال ، التي تكلّفنا أساساً – إلى جانب غيرها من العوامل والآثار بالطبع - تعميق ضعف الحوافز للتطوير التكنولوجي ، والميل لاستيراده لا غير !



( 6 ) الآثار الاقتصادية والاجتماعية للهيكلة بالتقشّف :
------------------------------------------------
ومن خلال ما سبق ، تتجلّى لنا الآثار الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية للهيكلة بالتقشّف فيما يلي :

- لن تحقق الهيكلة بالتقشّف تغيراً باتجاه اقتصاد تصنيع تنافسي ؛ ومن ثم لن تغيّر نمط النمو للأفضل ؛ لأن الضبط المالي والنقدي لا يكفيان لتحقيق هذه المهمة ؛ إذ لابد من سياسة ضبط تجاري لحماية الإنتاج المحلي وتحفيز الاتجاه لإنتاج صناعي غير احتكاري ، وهو ما يتعارض مع أجندة المنظمات الدولية المُعبرة عن مصالح رأس المال الدولي من جهة ، ومع مصالح رأسمالية المحاسيب المحلية الكومبرادورية من جهة أخرى ، كما لابد من سياسة استثمارية تصنيعية تشترط في السياق المتخلف دوراً ريادياً للدولة كأداة لتعبئة الفائض الاقتصادي وليس الدولة النهبية ناشرة الريع التي تعمل كأداة لتحويل الموارد لصالح بيروقراطيتها المُتصلة برأس المال الخاص ، في ظل نمط فخ الموارد المذكور .

- لن ترفع الهيكلة بالتقشّف حتى المعدل الكمّي للنمو ؛ كونها أضعفت أكبر محركاته الحالية وهو الطلب الاستهلاكي المحلي ، ولضعف تأثيرها على الواردات ضعيفة المرونة لأسباب هيكلية في التكوين الإنتاجي والاستهلاكي للاقتصاد المحلي ، كما لا توجد أي إشارات لاحتمالية تغيّر هذا الوضع بشكل جوهري في الأجل الطويل دون سياسة استثمارية تقودها الدولة وتجارية تحمي السوق المحلية .

- لن تحسّن الهيكلة بالتقشّف مستوى المعيشة ، لا من خلال مفصل مستوى الدخل كونها لن ترّفع النمو غالباً ، ولا من خلال مفصل توزيعه كونها أعادت توزيعه للأسوأ بالفعل ، ولا يُنتظر لها آثاراً مختلفة في الأجل الطويل ؛ فضلاً عن أنه لا توجد أصلاً علاقة تاريخية تثبت تحسّن توزيع الدخل مع ارتفاع معدل النمو (أسطورة أثر التساقط) ، كما أثبتت فترة النمو السريع نسبياً قبل ثورة 25 يناير ، وكما أثبت العديد من الدراسات [18] .

- تؤدي الهيكلة بالتقشّف ، من خلال أثرها السلبي على مستوى المعيشة ومن ثم خصائص السكان ونوعية رأس المال البشري ، إلى الإضرار بمعدل النمو بشكل مباشر عبر ضعف الإنتاجية ، وبشكل غير مباشر عبر مفاقمتها الاضطراب الاجتماعي وضعف التوافق حول سياسات وخطط التنمية (إن وُجدت أساساً !) ؛ ومن ثم استحالة استدامة أي تنمية [19] .



* رهانات خاسرة !
----------------
وبجمع أطراف المناقشة ؛ يتبيّن أن تقريباً كل ما عُلّق من آمال على سياسة الهيكلة بالتقشّف ليس سوى رهاناتً خاسرة ! فهي لن تحقق تغييراً هيكلياً إيجابياً ولن ترفع النمو الاقتصادي الكمي ، فقط حمّلتنا التكلفة الباهظة لخفض مستوى المعيشة وتعميق تفاوت الدخل ، بزعم أمل موعود لن تحققه ؛ لكونها لا تعدو أن تكون إعادة هيكلة مالية ونقدية لصالح البيروقراطية ورأس المال المحلي والدولي على حساب باقي فئات الشعب وفي قلبها الفئات العاملة المُكتسبة للأجور ؛ وهو ما يؤكد أن كل شيء يبدأ وينتهي بالسياسة .

فلن تتحقق تنمية في هذا البلد دون بناء دولة تنموية بتوافق اجتماعي يعبر عن كافة المصالح الوطنية غير المرتهنة بارتباطات خارجية ، دولة تنموية تعيد الهيكلة باتجاه بناء اقتصاد إنتاجي لا ريعي ، وسلعي قبل أن يكون خدمياً ، عبر سياسة تنموية مُستدامة تنطلق من المصالح الجمعية للمُنتجين ..، تقوم على الكفاءة وتستهدف التقدم الاجتماعي .


-----------------------------------------------------------------------------------------------------


[1] Auty, R.M., “The Political Economy of Resource-Driven Growth”, European Economic Review , 45, 2001, 839-846.

[2] قدرت بعض الدراسات متوسط نسبة ريوع الموارد الإجمالية من الناتج المحلي الإجمالي في مصر خلال الفترة (1970-2013م) بحوالي 15 % ، وهو معدل عالي بالمقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 8.7 % ، علماً بأنه قد يكون أكبر لو أُخذت بالاعتبار كافة الأشكال غير المباشرة للريوع من ريوع جيوبوليتكية وتحويلات ذات مُكون الريعي وغيرها ، أنظر :

- Bassem Kamar and Raimundo Soto, Monetary Policy and Economic Performance in Resource Dependent Economies, The Economic Research Forum (ERF), Working Paper 1123, July 2017, p 27 .

[3] https://data.albankaldawli.org/country/egypt-arab-rep .

[4] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ، مؤشرات الفقر طبقاً لبيانات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاكي :

http://www.capmas.gov.eg/Pages/StaticPages.aspx?page_id=7183

[5] Egypt - World Rankings - Global hunger index : https://knoema.com/atlas/Egypt/topics/World-Rankings/World-Rankings/Global-hunger-index .

[6] Amanda Macias, The 29 Most Miserable Countries In The World, Business Insider, 23/1/ 2015 (Viewed in 30/8/2017) : http://www.businessinsider.com/the-29-most-miserable-countries-in-the-world-2015-1 .

[7] Steve H. Hanke, The World’s Most – And Least – Miserable Countries in 2016, Cato Institute, 17/1/2017 (Viewed in 30/8/2017) : https://www.cato.org/blog/worlds-most-least-miserable-countries-2016 .

[8] البنك المركزي المصري ، النشرة الإحصائية الشهرية ، العدد (244) – يوليو 2017م ، ص 20 .

[9] Gross domestic product per capita based on purchasing-power-parity in current prices :

https://knoema.com/atlas/ranks/GDP-per-capita-based-on-PPP?baseRegion=EG .

[10] محمد جاد ، بيكيتي: عدم نشر بيانات الثروة لم يمكنني من التوسع في دراسة مصر ، أصوات مصرية ، 2 يونيو 2016م ، (شُوهد في 30 أغسطس 2017م) : http://www.aswatmasriya.com/news/details/63334 .

[11] Van Der Weide, Roy Lakner, Christoph Ianchovichina, Elena. 2016. Is inequality underestimated in Egypt ? evidence from house prices. Policy Research working paper no. WPS 7727. Washington, D.C. : World Bank Group, p 24-25 .

[12] باولو فيرمي ، الحقائق مقابل التصورات: محاولة لفهم انعدام المساواة في مصر ، مدونات البنك الدولي ، 25 يناير 2013م ، (شُوهد في 30 أغسطس 2017م) :

http://blogs.worldbank.org/arabvoices/ar/facts-vs-perceptions-understanding-inequality-egypt-arabic .

[13] محمد نور الدين ، حول الخلفية الاقتصادية والاجتماعية لثورة 25 يناير ، الطليعة 25 ، العدد (1) شتاء 2012م ، القاهرة ، ص 82 .

[14] تقرير الثروة العالمي لكريدي سويس: مصر ثامن أسوأ دول العالم في توزيع الثروة ، أصوات مصرية ، 20 نوفمبر 2014م ، (شُوهد في 30 أغسطس 2017م) : http://www.aswatmasriya.com/news/details/46547 .

[15]Credit Suisse Global Wealth Databook 2014, October 2014, p 124 :

https://www.credit-suisse.com/corporate/en/research/research-institute/global-wealth-report.html.

[16] Credit Suisse Global Wealth Databook 2016, November 2016, p 107 :

https://www.credit-suisse.com/corporate/en/research/research-institute/global-wealth-report.html.

[17] [17] Victor D. Lippit - Social Structure of Accumulation Theory - Paper prepared for conference on Growth and Crises: Social Structure of Accumulation Theory and Analysis, National University of Ireland, Galway, Ireland, November 2-4, 2006 .

[18] د. محمد محمود عطوة يوسف ، تطوير مقياس معامل جيني كمؤشر تحليلي لاتجاهات سياسة التنمية الاقتصادية ، بالتطبيق على الاقتصاد المصري ، المجلة المصرية للتنمية والتخطيط ، المجلد العشرون – العدد الأول – يونيو 2012م ، معهد التخطيط القومي ، القاهرة ، مصر ، ص 69 : 105 .

[19] د. لمياء محمد المغربي ، البعد الاقتصادي للتنمية المُستدامة وخصائص السكان..دراسة حالة الصين بالتطبيق على مصر ، المجلة المصرية للتنمية والتخطيط ، المجلد الثامن عشر – العدد الثاني – ديسمبر 2010م ، معهد التخطيط القومي ، القاهرة ، مصر ، ص 86 : 133 .


====================================================================


نُشر لأول مرة بمجلة "الديموقراطية" المصرية ، العدد 68 ، المجلد 17 ، أكتوبر 2017م ، التي تصدرها وكالة الأهرام بجمهورية مصر العربية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 23 أبريل 2024


.. بايدن يعتزم تجميد الأصول الروسية في البنوك الأمريكية.. ما ال




.. توفر 45% من احتياجات السودان النفطية.. تعرف على قدرات مصفاة


.. تراجع الذهب وعيار 21 يسجل 3160 جنيها للجرام




.. كلمة أخيرة - لأول مرة.. مجلس الذهب العالمي يشارك في مؤتمر با