الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزء العاشر والأخير/ غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة

فواد الكنجي

2018 / 2 / 3
الادب والفن


-142-

من أي بهاء أبدا وأية شفاه اقبل؟
الشفاه الحجرية الحية للتماثيل من " ساحة الكونكورد" ام تماثيل حديقة"اللوكسبورغ"؟
ام شفاه لوحات مجانين الرسم في "مونتماتر" حول " الساكريكور"؟
هل اقبل شفاه "الحي الاتيني"
التي تروي تاريخا من الجنون والذكريات والشمس الغاربة؟
أنا امرأة عربية عمرها ألف عام من الحروب والغزوات والحرائق والإحزان والفجائع
وبين هدنة وأخرى يشن على بعض ذكور القبيلة حروبهم
وكلما نجحوا في وادي قرنا طلعت من تحت رمالي لأطير
تعبت من الموت وحضارة الموت وإعلامه وأصواته المعولة ونياشينه "وميكروفوناته" وجماجمه المرسومة على الأبواب
أريد إن أعانق حياتي لا موتي
فكيف لا أعانق تظاهرت الحياة اليومية على رصيف " الشانزيليزيه" ومهرجان الفرح والسياح والعشاق؟
وكيف لا أضم الى بسطات الكتب الجميلة
على أرصفة "الضفة اليسرى " والسان ميشيل"؟
وهل اصدق ان " الحبيب الفرنسي" الذي راقصني
على سطح مركب يتهادى فوق نهر السين
و حقا احد إبطال رواية من روايتي
وانه ولد على أوراقي وسيموت عليها حين اقتله؟

-143-

في قصرك الخرافي "نويشفنشتاين"
التقيتك يا ملك الوسامة والحب والجنون والموسيقى
يا لودفيك الثاني عاشق موسيقى فاغنر وولي نعمته
اقتدتني إلى شرفاتك التي تطل من
على خضرة بحيرة وسط خضرة الوادي
وأفهمتني إن "اللانهاية" بحيرة بافاريه
وجبلا "البيا" من جبال القلب قبل جبال الألب
لكنك لم تدلني على البحيرة التي قتلوك فيها
و زعموا فيما بعد انك انتحرت
قال لي شبحك انك انتشرت في الريح بعد موتك
شعاعا بين المطر والبحيرة والأفق
صرت بعضا من موسيقى فاغنر .. وكنت تكذب يا مولاي الملك فقد التقيتك بعدها في قبو كنيسة "ميكايل كيرشة" في ميونخ
كنت هذه المرة داخل تابوت يحمل اسمك بحروف نصف ممحية
اه يا صديقي الملك لودفيك الثاني
كلنا نمشي في الجبال والغابات والعصور والمدن والأبجديات مرحا
كلنا نمشي في الارض مرحا
وننتهي كأي صعلوك صغير تجلد في حديقة عامة
داخل تابوت اقصر من قامة أحلامنا
وحتى اقصر من قاماتنا
كتابوتك في الركن المعتم في قبو الكنيسة
كأننا لا نتعلم الحكمة الا داخل القبر !

-144-
في الطائرة إلى "انسبروك"
كنت احلم بشهقة من الأوكسجين النقي بين الجبال المحيط بها
وبكلمة "احبك"
تحت "السقف الذهبي" الشهير في الحي التاريخي القديم
كان تمطر حتى الانتحاب
حين التجأنا إلى مقهى " غدينا" في شارع" برادلسترابه" وجاءت الطيور تاكل عن شفاهنا بقايا الحلوى
بالعسل الأسود والقبلات الضجرة
وتحت "السقف الذهبي" قلنا وداعا للعصر الذهبي لحبنا!
الحمقى وحدهم يبكون رحيل الحب
فالحب كالورود الجميلة ولد ليموت
لكن عمره ملايين الأعوام...كالوردة

-145-

تعول الريح الخريفية الأوربية فوق جسر نهر سالز
تعول النوافذ المغلقة لبيت كتب على لوحته الرخامية
هنا ولد قائد الاوركسترا الكبير فون كاريان..
تطالع اللوحة كمن يقرا شاهدة قبر ..
تطالع الريح كمن يقرا الوداع والفراق والنسيان والذاكرة
بين أصوات الكمنجات والبيانو.. وانتحاب القيثارات
تعول الريح حول البيت الذي ولد فيه موزار والساحة امامه
وانا لا اسمع شيئا غير موسيقة موزار في مدينته الأم
أطارده و هو يركض إمامي طفلا ضوئيا
يعزف على " المزمار المسحور"
الحق به وهو يتسلق جبال الالب من دون ان تمس قدماه الأرض
اركض في الجبال خلف موسيقى " المزمار المسحور"
وإذ بي وجها لوجه مع حبيبي الدائم " رجل الثلج"
أجمل ما في الجليد لحظة الذوبان فالغليان
فيا سحر رجال الثلج!

هنا نشعر حقيقة مدى حرقة (غادة السمان) وتأجج فوأدها وهي تسرد وتروي ما وغز ضميرها من صور الخداع والتزييف والتملق الزائف وبناء العلاقات وفق المصالح، فهي مقرفة من هذا النفاق فتصور البلادة والضجر والملل ضمن بيئة ملوثه فيجتاح أعماقها ثورة تمرد عارمة بما تعانيه من قلق وصراعات وإحباط، و بما ترى وتسمع من صور واقعية وهي تعلم عما يدور حولها فتلتمس كل ما يهري مجتمعاتنا العربية من تفشي آفات مرضية و حدة التناقضات، فراحت تسخر من هذا الواقع عبر صور ومشاهدات فتصور وتلتقط مشاهد من هنا ومن هناك وبأسلوب رمزي تعاينه في كل لقطة وهي تحدد ملامحه عبر رؤية من خلال زاوية التي تقف فيها (غادة) وبما تضفر رؤاها الذاتية وإحساسها والذي يمكننا ان نعينه بكونه شديد الخصوصية بتحديده في النص المقدم، لندرك حجم القسوة التي تعانيها، ليتم لها أبرز هذه الأمكنة والأزمنة بما يدار حولها الآن......!
فتذكر (قصر الحمراء في غرناطة) و (ساحة الكونكورد) و (حديقة اللوكسبورغ) و (مونتماتر) و ( الساكريكور) و(الحي الاتيني) و (الشانزيليزيه) و( أرصفة الضفة اليسرى ) و (السان ميشيل) و(نويشفنشتاين) و(موسيقى فاغنر) و ( بحيرة بافاريه) و (جبلا البيا) و( جبال الألب) و(ميكايل كيرشة) و( ميونخ) و(الملك ودفيك الثاني) و (انسبروك) و(مقهى غدينا) و(شارع برادلسترابه) و(فوق جسر نهر سالز) و(قائد الاوركسترا الكبير فون كاريان) و(موزار ) و(المزمار المسحور) و (رجل الثلج)، فهذا التكثيف في ذكر الأماكن والأسماء هي رموز لتحريك خيالنا الذي يمهد لنا قيمة التعبير الشعري عند (غادة السمان) باعتبار الخيال يبث في الأعماق (الإيحاء) الذي هو تعبير الحرمان والمكابدة لرغبة البقاء في بيوتنا و أوطاننا كما نشتهي البقاء من خلال أحلامنا محققين طموحاتنا كبشر، فتكثيف ألماكن والأسماء ليست إلا مجاز رمزيا رائعا تقدمه (غادة السمان) بلغة شعرية رصينة وهي متيقنة بهذا الهذيان ألذي يشاطرها في الإحساس المتكئ على نزيفها وبما يجيش في أعماقها من انفعالات عاشتها في تفاصيل الإيحاء والإسقاط الصورة عن صورة والماضي على الحاضر وتطرحه وهي محملة بالدلالات كرسائل موجه لعالمنا العربي (المحاصر) بالقسوة والحرمان فهي غير أسفه ولن تبكي عن كل ما ضيعته فتقول بقسوة بالغة التعبير عن الألم وأعماقها متكسرة ولكن بلغة التمرد والتحدي. فان كان نص (غادة السمان) ذو مسحة تشاؤمية يهيمن عليه الحزن والفراق والألم والعذاب ولكن لمجرد تعبير عنه هي ملامح للبشارة الخلاص من ذلك الواقع المتأزم فخرجت لنا بهذا المقطع المعافى :
((الحمقى وحدهم يبكون رحيل الحب
فالحب كالورود الجميلة ولد ليموت
لكن عمره ملايين الأعوام...كالوردة))، وهذا يعني ان (غادة السمان) كشاعره وكاتبه بالرغم كل ما أحاطها من حصار ما زالت كاتبه وشاعره متألقة تمارس دورها في التحدي والتمرد من خلال كتاباتها الرائعة وهي وليدة العاصفة وعدوة الكذب، والتملق، والدجل، والجهل، وهي شاكست هذا الأفق من التنميق الغير المجدي .

-146-

لكثرة ما الصقوا الصدفة على أذانهم
توهموا انها الناطقة باسم البحر
وصوت الموج على الأرض
ترى هل النجوم
ثقوب حفرها الشعراء في جدار الليل الصلد
ليرى الناس عبرها المدى و الأبدية؟
تتسكع البومة بين النجوم والمجرات
في مركبتها الفضائية الروحية
محفوفة بالأشباح اللطيفة
وتسبح الخالق العظيم للأكوان واللانهايات
ولا تسمع أصوات ضفادع المستنقع
وهي تتآمر على أجنحتها ...

-147-

كيوبيد اله الحب يشع كراهية وعدوانية
وهو يرسل سهام الحرب الملتبسة
التي يلقبها الناس بالحب
يكره كويبيد العشاق جميعا
ولذ لا يرشقهم بوردة بل بسهم الحب
المغموس في سم المرارة والخيانة و المكائد
ألهذا ما من حب سعيد
إلا في لحظة ما قبل إطفاء الضوء؟
ألهذا يشبه الحب العداوة أكثر من الصداقة والود ؟
فليكن حبنا مرحا بالغرم من انف كويبيد
ولنعش معا حكاية حروب مرحة لا منسية
ففي الحب الكل غالب ومغلوب!



-148-

لن اغفر يوما
لمن أكل السكر واللوز والحرية على يد لبنان
ثم عض الأصابع التي أكرمته
لن اغفر لمن شرب الضوء من بئره ثم رمى بأصبع ديناميت
ارحل وعلى كتفي حقيبتي
وعلى الكتف الأخرى رجل جمارك
يصرخ بي في مطارات ثلاث قارات:
ما الذي تخفينه في حقيبتك ؟
اخفي في حقيبتي حبا لا منسيا
وملايين الخيبات واللحظات الدهرية
حقيبتي مثل قبعة الساحر
مليئة بالأرانب والمناديل الملونة للوداع
والدموع السرية والإزهار والتنهدات
في حقيبتي تعويذة هي حفنة من تراب لبنان
لقلبي سقف من القرميد
لم يعد قلبي يشبه صورته في كتب الطب
بل صار شبيها بخارطة لبنان
يا من غدرتم بذلك الوطن النادر
انظروا إلى حالكم
انتم دونه في عراء التاريخ ..!


حين تختم (غادة السمان) قصيدتها (الرقص مع البوم) بهذه الأحاسيس المرهفة التي اجتاحت وجدان الكاتبة والتي أفرزت كل المشاعر التي أرادت ورغبت في إيصال معانيها إلى ضمير الإنسان الحي، وفعلا قد وصلت رسالتها إلى عمق تذوقنا لجماليات القصيدة بشقيها الظاهري والباطني رغم إن ثقل القصيدة يرتكز في عمقها الباطني، فالماضي ضل حاضرا يطارد الشاعرة بغيابه وحضوره، لان (غادة) تعبر عن أزمتها الوجودية بطريقتها ومن خلا ل اعترافاتها للخلاص من اللعنات التي تطاردها، فالهروب من الوحدة والاختناق هو الذي يخلق في ذاتها عوالم من الخيال تنثر بذور زراعتها بكل إحساسات ليثمر إنتاجها هذا الكم من التعبير النابع مما عانته من صراخ الروح ومن تمزيق القلب، وما التجائها إلى الحلم إلا بعد إن وجدت استيقاظها مستحيلا في وقت الذي هي مستيقظة وفي أوج الاستيقاظ، وفي عمق وجودها وإدراكها، وهذا التناقض هو الذي يفرز هذه الصراعات النفسية التي تعاني منها ويجعلها تصرخ بوجه الأخر لاستيقاظه بما هو ماضي إليه دون مبالاة، فالسهم (كيوبيد) اله الحب ليس كما يضن بان يرشق سهامه لإيقاع المحب بحبه بل هو كما تضن (غادة السمان) سهام ( يشع كراهية وعدوانية.. وهو يرسل سهام الحرب الملتبسة..التي يلقبها الناس بالحب ) فـ(كويبيد) كما تقول:
((يكره كويبيد العشاق جميعا
ولذ لا يرشقهم بوردة بل بسهم الحب
المغموس في سم المرارة والخيانة و المكائد
ألهذا ما من حب سعيد
إلا في لحظة ما قبل إطفاء الضوء؟))، ومن هنا فان الرمز الذي يفصح عنه بهذه الجمل مراده... بأن (غادة) لا ترسل لنا نصا لمجرد قراءته وإنما ترسل نصا هو كسهام (كويبيد) مغموس في سم المرارة.. والخيانة.. والمكائد، لنستيقظ على نصوصها إلى أين نحن ماضون ......!
فالصورة الشعرية هنا هو جزء من أسلوب (غادة السمان) في رفض الاجترار الزائف لما هو سائد، ليأتي نصها بصورة صادمة لملتقييه لأنها تنبئ عن واقع وحقيقة (ما) دامغة يخشاها المجتمع، وهذا في اعتقادي الإلهام الذي يعتبر نضجا مفاجئا غير متوقع لكل ما طرحته (غادة السمان) من قراءات ومشاهدات وتأملات و معاناة من تحصيل وتفكر في اختيار المفردات الرمزية او الأسطورية الموحية والمشعة بالصور، بحيث توحي اللفظة بأجواء نفسية خاصة وانفعالات عاطفية التي تكابدها (غادة)، فقلبها الذي تفطر بتصدعات الكذب والخيانة وذاقت المرارة لدرجة التي أوصفت حالتها بكونه صار شبيها بخارطة (لبنان) كما تصف نفسها، فتصرخ بعبارة جدا قاسية بوجه المجتمع لتختم كتابها ( الرقص مع البوم) بعبارة لا يمكن نسيانها في المطلق لحجم قسوة العبارة فتقول:
(( يا من غدرتم بذلك الوطن النادر
انظروا إلى حالكم
انتم دونه في عراء التاريخ ..! ))، نعم نقولها نحن أيضا مع (غادة السمان: (( يا من غدرتم بذلك الوطن النادر
انظروا إلى حالكم
انتم دونه في عراء التاريخ ..! ))، هذه هي البلاغة الحقيقية، وقمة التعبير الشعري، والتي انطلقت منها (غادة السمان) من خلال لهيب التجربة والمعانات، صورة مدهشة وملتهبة في آن واحد، وهذه الصورة هي مظهر من مظاهر خصوصية (غادة السمان) على مدى قدرتها على (الابتكار) و(الإبداع) و(الخلق)، كونها جندت كل مقومات اللغة وتعاطت مع أدواتها ومع العناصر المختلفة في قصيدة (الرقص مع البوم)، من الإيقاع، والموضوع، والرمز، والأسطورة، داخل النص، فهذا التكثيف الذي لاحظناه في القصيدة تم بتقنية ومغامرة في الترميز والسرد الروائي بين الشكل والمضمون القصيدة ليبقى النص في التشكيل الشعري بصمة من بصمات الحداثة والمعاصرة حيث استحدثت قصيدتها المطولة هذه (الرقص مع البوم) بمشاعر صادقة فرضت نفسها على النص لتلامس جماليات التعبير لتصطبغ بها قصيدتها بعمق وجمالية فنية عالية الدقة والتصوير والترابط بين أجزائها وتتابع المعنى وخلوها من الحشو، لتجعل (غادة) من النص الشعري في (الرقص مع البوم) لها ثقله و وزنه لما تحمل القصيدة في أعماقها من معاني عميقة وعميقة جدا يصعب الغوص فيها إلا من له اطلاع موسع للإعمال (غادة السمان) ليكون على بينة بأسلوبها، لان أسلوب (غادة السمان) وتحديدا في هذه النص من (الرقص مع البوم) الشعري معمق جدا لما يحتمل التأويل بكل الاتجاهات، فتكثيف الصور عند (غادة السمان) يعطي ثراءا في النص الشعري لما له من دلالات رمزية يعمق عطاءه فيما وراء النص لأنه يساعد على إثراء المعنى وهذا ما يكسب لنص قيمته في الفكر الإنساني ويحقق انفتاح نحو عوالم غير مرئية عبر إيحاءات اللغة التي تساهم تجربة الكاتبة باكتشافها في عوالم غير محدودة، فالرمز هنا هو الدلالة اللا متناهية يضاء وجوده حينما نتقصى ونبحث عن منابعه عبر القصيدة، فقصيدة (الرقص مع البوم) فيها الشيء الكثير من إسقاطات هذه الرموز ما بين الماضي و الحاضر وخروجها من ذلك الماضي إلى الحاضر وهذا ما يجعل نص القصيدة أكثر عمقا لما له من بعد إسقاطي بعد إن يمنح التعبير الذاتي بعدا دلاليا معمقا بما يحمله الرمز المقدم من خلال النص إلى معاني أكثر شمولية من نص ذاته، وهذا الفعل ضل حافز عند (غادة) لإخراج نصوصها بهذا البعد الفكري والفلسفي .
فتكثف الرموز الأسطورية والإيحاءات وجمل القصيرة والطويلة ودلالاتها تصنعها (غادة السمان ) في نصوصها الشعرية كأي صناعة بمهارة وتحبكها بإتقان بغية تحقيق الاندهاش وفعل المفاجئة الغير الماطر بحدود معينه ليبقى النص مفتوحا لكل الاتجاهات والى ما لا نهاية، فخطوط كتاباتها هي أشبه بخطوط سريالية وتكعيبية و وحشية و واقعية مبلورة كل خطوط هذه المدارس الفنية في صنعتها الكتابية لتشكل كتاباتها وتحديدا في هذا النص في (الرقص مع البوم) كنص معاصر حداثي وبإيحاء ومحاكاة المفردة الالكترونية التي ليس لها نهاية لحجم الخيال والحلم والانفتاح والدهشة والمغامرة المكثفة في صور النص وهو بذلك يكتنز كل الدلالات الجمالية المفتوحة والمتحررة في أفاق الفن من حيث الألفاظ والتراكيب المنجزة في العمل ليكون لنا وعلى طوال رحلتنا في قراءة النص(الرقص مع البوم)، عالم متحرر يكشف ما فيه من عوالم إبداعية مبهرة في بنائه. فـ(غادة السمان) عبر هذا النص بما يحمله من صور ورموز والمحبوك موسيقيا بالألفاظ ومخارج صوتية جميله عبر تقنية الحوار الفني جمعتها معا لدلالات نفسية إرادتها إيصالها للقارئ عبر النص، فهذا النص المفتوح يوازن بين مشاعر الكاتبة وانفعالاتها وطريقة تعبيرها وإيصال صوتها إلى الأخر لتأكيد الحالة النفسية التي تندبها ليتم توازن إثناء التعبير عنا كحال لإفراغ الشحنات العاطفية من أعماقها، فيخرج النص على مستوى من الجمالية وبأسلوب فني متميز أتى بصدق الإحساس المعبر عن وجدانها بعمق وبكل شفافية و وضوح، ومن هنا يأتي الإيقاع الداخلي منسجما مع النص و موازيا بين الشكل والمضمون فالتوازن بين الصورة والدلالة النفسية نكتشفه من خلال إيقاع النص ومن خلال مداخله ومخارجه والذي يعبر بمجمله بما يواكب حالة الكاتبة الانفعالية والنفسية وهذا ما يميز به هذا النص في (الرقص مع البوم) بكونه شكلا تعبيريا متقن بمعطياته من التخيل والرؤية والرمز في سياق التراكيب الجملة مع وحدة الموضوع و شفافية الرؤية وبرؤيته معاصرة وحداثية ومتجاوزا النمطية والقوالب الجاهزة ليواكب المعاصر والحداثة ويساير حركة الحياة ومتطلباتها، إن لغة (الرقص مع البوم) التي تنطلق منها (غادة السمان) هي لغة شفافة موازية بين الواقعية والوضوح، و هي سمة كتاباتها وهذا المسعى يأتي حين تكون الشاعرة واعية بأدواتها الفنية، وهذا ما يتطلب منها الانغماس في كل تفاصيل الحياة التي عاشتها وتعيشها ومن حيث الاستحضار والتمعن بكل تراكمات النفسية ليتم استنطقها في ظروف هذه القصيدة فنحس بأجوائها المؤثرة وكأننا نعيش تجربتها من جديد وهنا تفاجئنا القصيدة بالوقائع ما تثير دهشتنا وكأننا جزء من الحالة المطروحة في موضوع القصيدة سلبا وإيجابا.
فحين تترجم القصيدة لغة (الخير) و (الشر) في الإنسان وترسم ملامحه بهذا الشكل او ذاك وتكشف كل ما في أعماقه من رغبات ومشاعر وأمال وطموح والآم لتشكل منها صورا بلاغية عبر التخيل والمجاز لتعبير عن التساؤلات التي تطرحها قصيدة (الرقص مع البوم) وعن كل ما تحجبه في تأويلات الرمزية للمواقع والوقائع والواقع .
فتنوع صور التعبير ومعانيه وتعريف الأشياء عند (غادة السمان) هي سمة المفاجئة في شعرها لان عالمها الفكري غير متناهي و الأمر الذي يدعونا إلى مزيد من التأمل في قوالب التي تسكب فيها (غادة) مفرداتها بلغة منتقاة بدقة وإبداع لا يخلو من الدهشة والإثارة، ونحن لا نقول ذلك جزافية بقدر ما نصل إليها كحقائق نستشفها من خلال النص ذاته كون ما يورد فيها هو محاولة منها لـ(تغير) الحياة وليس (التعبير) عنها فحسب، وهذا ما يقودنا إلى تعميق في قراءة النص عند (غادة السمان) لان النفس الشعري في كتاباتها قائمة على المعرفة من جهة ومن جهة أخرى يؤدي إلى الدلالات والتعدد والتأويل والتنوع، ومن هنا لا تكون كتاباتها مجرد تعبير أو تحليل أو تفسير واقع معين بقدر ما هو محاولة لتغير وبناء كيان في خلق جديد ونقد للحياة وتحدي يتسم بوعي، ولا شك بان في ذلك يكون غايته خلق عالم غرائبي ولغايات جمالية أكثر رونقه للحياة يبدع في مكنوناتها كل الإبداع، وهنا تكمن الحداثة والمعاصرة في كتابات (غادة السمان) .
فالنموذج الذي تقدمه (غادة اسمان) في (الرقص مع البوم) يتمتع بكل عناصر المعرفة كنموذج إبداعي له مكانته ودلالاته الفكرية لحجم ارتباط النص بواقع الحياة وأحداثها والتي تتغذى بجذوره عبر الزمان والمكان من لحظة ولادة النص عبر لغة متحررة التي تمهد مداخلها لـ(تغير) نمط الحياة عبر تعميق الفكر بالمعرفة، فيحمل في جوهره توازنا (هارمونيك) بين المحتوى والمظهر وفي عمقه يوازي ضمنا سمات النقد في الطرح والتحليل والتقديم كعملية إبداعية موحدة في النص ذاته، فتكون أداة هذا التعبير هي اللغة المتحررة التي تلجئ إليه (غادة السمان) في التعبير، كتجديد وكمسار للمعاصرة النص والانغمار في أسلوب الحداثة والإبداع بأي قالب كان دون تحديد مقوماته سلفا وإنما وفق ما يأتي التعبير في سياق السرد النابع من المخيلة وهي لا تأبه بالمألوف بل تتجاوزه، ولا بالاختلاف فتشاكسه، ولا بالهدوء بل بالجنون، بغية التعبير بأقصى درجات التعبير هروبا من التكرار والملل والقوالب الجاهزة والنمطية الغير المجدية في زمن الحداثة والمعاصرة، فيتم معالجة النص وفق هذا السياق، ولذا فان النص الشعري المقدم في نصوص (غادة السمان) يكشف ملامحه عبر تفكيك هذه الشفرات بكونه نصا صيروريا (دايلكتيكيا) عبر ولادة صورة وموتها ثم ولادة صورة جديدة وموتها وهكذا يتطور المشهد الشعري والدرامي عند (غادة السمان) ليقدم إنتاجا إبداعيا ملئه بالحيثيات الدلالية ضمن منظومة النص . فالنص ليس كلمات بل منطلقات فكرية التي تتوارد عبر الكلمات أو المفردات التي تتجسد في النص عبر الرموز والدلالات والإيحاءات واليات التعبير والتي هي مقومات النص المعاصر في تعمق الرؤية بين الفكر والمضمون من جهة ومن جهة أخرى بين الفكر والشكل وبطبيعي الحال فان التعبير هو من يغير لا شعوريا في نمطية هذه القوالب بغية التنوع وتقديم ما هو مفاجئ لتجاوز إشكالية الرتابة والتخبط العشوائي للمفردات والتي وان أتت في النص المعاصر إنما هي رموز ومختصرات للرؤية من هنا ومن هناك لتقديم حجم التشويش الحاصل في الحياة المعاصرة في تفكير الإنسان وهي في جلها مناورات الشاعر للكتابة الإبداعية لتجسيد تحرره، فتجليات الرؤية هي مسلمات الإبداع والاندهاش في أسلوب اللغة وصولا للرؤية الجمالية عبر مظاهر (فينومينولوجيا) التي تتمخض في الرؤية عبر الخيال الذي يقوم بدوه في تزويد الفكر بصور لتعبير عن المضامين المعبرة داخل النص والتي يقوم الشاعر بابتكارها في نص القصيدة عبر الرؤية والتركيب .
فالحداثة في (الرقص مع البوم) ليست سمة كتابات (غادة السمان) الشعرية فحسب، وإنما هو موقف من الحياة للانطلاق الشامل بالفكر الإنساني والحضاري والمعرفي لفهم الحياة وفق المنظور المعاصرة والتطور، وإعادة صياغة قيم الإنسان بالثقافة والفكر وخلق العالم وفق قيم العدالة والحرية، فـ(غادة) تطرح فلسفة الحياة والحب بالمفهوم الحضاري والتطور والمعاصرة، ولهذا فان أطروحاتها الفكرية ومواقفها من خلال ما تكتبه من نصوص هو بحد ذاته مظهر من مظاهر الحداثة والمعاصرة وليس (التجدد) لأنه يفوق عنه، لان يقيننا بان (ليس كل جديد هو حديث)، لن الحداثة تطرح مواقف فكرية وقضايا إنسانيه بكون الحداثة الشعرية التي نقف عنها في تفسير نصوص (غادة السمان) لا يتعلق مفهومه بقضايا المتعلقة بشكل القصيدة العربية من حيث الوزن والقافية و من حيث نثريتها وتجديد في تفعيليتها، وإنما في مضمونها الفكري والإبداعي والجمالي والتعبيري وهو يمثل (الشهيق) الذي تتنفس من خلاله القصيدة المعاصرة، وبغيره فان القصيدة تولد وهي ميتة ليس فيها الروح، لان الروح تعيش في هذا (الشهيق) الذي يغذي النص بالحياة والحيوية، وهو شهيق الشاعر، شهيق (غادة السمان) فنصوصها الشعرية تتميز بهذا الشهيق الذي نتنفس به كما تتنفس به (غادة السمان) عبر ابتكارها للغة تعبيرية مليئة بالأفكار الفلسفية والقيم والحب، وهذا الابتكار هو ما يخلق النص المفتوح في المعاصرة والحداثة بكونه نص مليء ومشحون بالعاطفة والإحساس والتعبير المتميز بلغة (غادة السمان)، فصور الشعرية التي تقدمها (غادة) تنبثق من أعماق ذاتها انبثاقا سلسا وشفافا ومحاكا بأسلوب فني ليكون وسيله تعبيرها عنه بصور شتى مبدعة عبر التجريد و الرمزية والأسطورة فكل ذلك يأتي انسيابية لغزارة ثقافتها وإمكانياتها الإبداعية، ومن هنا فان قيمة الصور في النص الذي تقدمه (غادة السمان) وهو نص مبتكر بكونه وسيلة أي كاتب وشاعر يبحث عن المعاصرة والتجديد وفي إيجاد الترابط والعلاقات بما يتجاوز المألوف والدارج وفيه من الدلالات الفكرية وهو ما يجذب القاري بشكل ملفت إلى هذا النموذج من النص، الأمر الذي يقوده في الإبحار فيه، لان كل صورة مقدمة في النص إنما هي صور لها صلة بنفسية ومشاعر (غادة السمان) -لا محال- ولهذا فان فهمنا نص المقدم والغني بالصور يجد ثنائية مع روح (غادة السمان) في المجاز والحقيقة، ليكون التعبير بحالة نفهمها من عمق النص بين الصور والمعنى ومن خلال مفردات اللغة والتراكيب والدلالات الإيقاع وبين التقابل والتجانس وبين التضاد والترادف، وكل ذلك يعتمد على ثقافة (غادة) وأسلوبها في بناء الصور والأفكار والتي معا تكون جسد النص في نصوص الشعرية لـ(غادة السمان) وتحديدا في (الرقص مع البوم) حيث الفكر يكون سمة أساسية بنص الشعر موسوما برؤية جمالية لتتكامل شخصية (غادة السمان) ككاتبه كتاباتها متوازنة بين التعبير الفكري و التعبير الشعري ليكون الترابط بين عالم الشعر وعالم الفكر كفضاء مشترك فيم بينهما لتعبير والكشف واختراق المغلق وهو عمل تنفذه بجهد و برغبة وابتكار في صميم ما تقدمه من الإعمال الشعرية كما جاء في (الرقص مع البوم) .

نعم إن القصيدة (الرقص مع البوم) فيها من الألم.. والشجن.. والوجع.. والقلق.. والحزن.. و المشاعر الملتهبة.. والجنون.. والغربة.. والاغتراف.. والكثير من هذه المعاني المخبأة في ثنايا القصيدة نصل إليها عبر كل قراءة لها بشكل أخر، وهذا هو قيمة القصيدة الحديثة والمعاصرة التي تعطي معاني متعددة وكثيرة تتعدد وتتنوع بتعد وتنوع القراء لها، وهذه الديناميكية في الحركة وصيرورة القصيدة يجعل من فهم القصيدة يتنوع ويتعدد معانيها عن الآن عما يفهم عنها في المستقبل، وهذا الرؤى تستشف معانيها عبر تأويلات القصيدة والرموز واللغة المشفرة المحبوكة في الدلالات التي تنشطر وتتعدد وتتنوع وتتشظى بتلك الذات التي عبرت عنها من خلال ذات (غادة السمان) الشاعرة والكاتبة والإنسانة لأنها تستحضر (ذات تصرخ) من الأعماق بوجه الأخر، ليتعدى صراخها حواجز الزمن والمكان، لأنه صراخ الضمير، ومن خلاله تتحدى مأساة الغربة.. والاغتراف.. والانا المعذبة، وفي قصيدة (الرقص مع البوم) غربة (الأنا) هي لست غربة (الأنا) لوحدها، بل تتعدى غربة الذات الآخرين، بكون (غادة السمان) في (الرقص مع البوم) قد شحنت مشاعرها بشكل مضغوط، وقد أشارت الدلالات في سياقها الشعري كل الإبعاد النفسية والفلسفية التي كانت حاضرة مع (غادة السمان) إثناء كتابة العمل، وهذا التحليل التمسناه من خلال النص وليس من خارجه، لان ظلاله كانت محسوسة ومنها كنا نستوحي قراءتنا متابعين أثارها النفسية العميقة في عمق النص، وكيف إن (غادة السمان) تنتقل من العقل الباطني إلى الظاهري، ومن الشعور إلى اللاشعور، فتبرز مخزونها الفكرية في الأحلام وأحلام اليقظة، وتتبحر في العالم الخارجي كما في العالم الباطني، لتأخذ منافذها لنفوذ بخلجات نفسها في أعماقها لتعبير عنها وبلغة (المخالب) كما اصف لغة (غادة السمان) الأدبية في هذا العمل، الذي لا يوصف إلا بكونه من روائع الإعمال النصوصية الشعرية في الحداثة والمعاصرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق