الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسطورة كمُعيق للتاريخ ، والعقل كمشترك إنساني

مهدي جعفر

2018 / 2 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يمكن القول من خلال استقراء التاريخ ، أن تاريخ الإنسان ليس سوى تاريخ ارتقاءه في سلم العقل ، ليس سوى تاريخ العداوة أو الصداقة مع العقل ، إذ كلما استعمل الإنسان عقله كلما رغد عيشه ، و سهلت حياته و انبلج معنى الحياة أمامه ، أما لو استدار و هرب عن العقل ، لهربت عنه الراحة و لهجره المعنى و خيب ظنه الحدس ، و لأتخمه الجهل و أهلكه العنف .

لا يختلف المؤرخين كما لا ينكر الواقع المُعاش أن الإنسان لم يَستهل مسيرة الحياة ، باستخدام العقل بل كانت تحركه العواطف و لازالت ، ففي بدايات حياته على هذه الأرض ، كان الإنسان بسيطاً في تفكيره خائفا من الوجود من حوله ، سادجا في استيعابه للظواهر الطبيعية مثل الليل و النهار ، والمطر والرعد والبرق وما شابه ذلك، إذ كان يعتقد الإنسان القديم أن هناك مخلوقا كبيرا يسقط المطر و كان يفسر النجوم و الشهب على أنها شضايا لهيب مدفئة المخلوق الكبير الذي يعيش في السماء ، و نظرا لضعفه و حداثة حياته كانت هذه الظواهر تثير الخوف والرعب في نفس الإنسان ، و لما عجز البدائي هذا عن تفسير هذه الظواهر عزاها إلى قوة خارقة تتحكم فيها و في حياته ، هذه القوة الخارقة لم تكن محسوسة لديه ، أي كانت قوة ماوراء طبيعية أي قوة "ميتافيزيقية Métaphysique". وبالتالي اعتقد البدائيون بوجود "كيان روحي Entité spirituelle" يتحكم في الظواهر الطبيعية و في حياة و مصير الإنسان ، إذ تلخص هذا الإعتقاد في وجود خالق و محرك خفي للطبيعة ، وهكذا اختلقت في البداية فكرة الإله عند الإنسان تاريخيا .

أليس حري بنا أن نتساؤل و الحالة هذه ، أن اختلاق الإنسان البدائي لفكرة "المحرك الخفي" أثناه عن استعمال عقله ؟ أليس رمي علة الوجود و الطبيعة على محرك خفي ، هي الوجه الآخر لكسل الإنسان في استعمال عقله ؟

قد نتفهم كون ثني فكرة المحرك الخفي الإنسان البدائي عن التفكير العقلاني ، على أنها شيء مستساغ نظرا لوضعه الإستهلالي للحياة و الطبيعة ، و انصدامه بعضمتها ؟ غير أنه كيف يمكن تفسير استمرار الإستمساك بنظرية المحرك الخفي في زمن العلوم الدقيقة و التجريبية و الموضوعية ؟ كيف يمكن فهم استمرار تقاعس الإنسان عن استخدام عقله متكئا على فكرة باتت تصنف في خانة خرافات التاريخ ، في زمن الفلسفات التجريدية و الفكر العقلاني الخالص ؟

معلوم من حقل الميثولوجيا ، أن الأسطورة تتضمن "نظرية معرفة" ، أو بكلمة أخرى تتضمن مجوعة من الأجوبة عن أهم أسئلة الإنسان الوجودية ، كأين وجد الإنسان قبل الحياة ؟ و أين كانت الطبيعة قبل الوجود ؟ ثم ما هدف و ما مصير الإنسان و الطبيعة ؟ إذ تقدم الأسطورة أجوبة عن هذه التساؤلات ، كما تحقق شرط أساسي للإجتماع الإنساني القديم و هو خلق "هوية ثقافية" للعشيرة ، و هي التي تشعر أفرادها بالإنتماء إلى بعضهم البعض ، و بذلك تبدع الأسطورة معنى الوجود للإنسان و لحياته ، و بالتالي تخلق له إيمانا جماعيا تنصهر فيه ذوات الأفراد و تتعايش.

غير أن هذا المعنى بما أنه يمثل الجماعة ، يكلف الخارج عنه غاليا ، فبما أن الإيمان تخلقه الجماعة و ليس الفرد ، فإن خروج الفرد عن المعنى الذي تقدمه أسطورة الجماعة (الكفر بها) ، يعتبر خروجا و خيانةً للجماعة كلها ، إذ يعتبر الإيمان عند الإنسان البدائي اختيارا جماعيا و ليس فرديا ، و لا يخفى استمرار و توارث هذا الشكل من الإيمان الإكراهي في أديان العصر الوسيط ( كالهرطقة في المسيحية و الردة في الإسلام) إذ لا يعتبر ذلك إلا إيمانا بدائيا ، هكذا فإن الأسطورة خصوصا في نسختها المتطورة في أديان التوحيد الثلاثة ، تبتكر كتبا مقدسة تستعملها لجعل نظرية المعرفة التي تقدمها "بنية مغلقة" ، تصبح معها إيمانيات الإنسان غير قابلة لا للشك و لا لإعادة الإختبار ، و بما أن نظرية المعرفة هذه تقدم كل الأجوبة عن كل أسئلة الوجود و الحياة ، و بما أن وضع الفرد في المجتمع البدائي يكون مرتبطا بباقي الأفراد ميكانيكيا ، تصبح لا حاجة للتفكير و لا داعي لاستعمال العقل ، فإذا كانت الأسطورة أو الديانة تجيب عن كل ما يطرحه الإنسان من تساؤلات ، فلا تصبح للعقل ضرورة و لا لاستعماله غاية أو عائد نفعي ، خصوصا إذا علمنا أن السؤال هو ما يبني موضوعات التفكير العقلاني . هكذا فإن تاريخ الأسطورة و الدين ليس سوى تاريخ استقالة العقل عن التفكير .

هكذا فإن شرط ممارسة التفكير و استعمال العقل يكون غير متوفر في المجتمع البدائي الذي يتأسس على الدين أو الأسطورة ، هذا الشرط هو "الحرية" و "الإستقلالية" ، إذ لا يمكن للعقل أن يفكر إلا إذا كان حرا و مستقلا عن ما تؤمن به باقي العقول ، لا يمكن له أن يبدع إلا خارج تصور الجماعة عن الإبداع ، لا يمكنه أن يجيب إلا إذا تجاوز سداجة أجوبة الأسطورة ، و بالتالي فلا يمكن للعقل أن يفكر إلا خارج البنية المغلقة التي تخلقها الأسطورة ، لا يمكن له أن يمارس نشاطه إلا إذا فتح بنية التساؤل التي أغلقتها الديانة عن طريق التقديس و الوعيد بالعقاب الدنيوي و الأخراوي لمن يشك في حيازتها الحقيقة المطلقة . هكذا فالتفكير العقلاني يقتضي بالضرورة الجحود و الكفر بالحقيقة ، التي لا تحتازها الأسطورة إلا على سبيل الإدعاء .

إذن فسير الإنسان في مسير و طريق الأسطورة منذ البداية ، جعله يؤسس عشائره أولا و مجتمعاته تاليا على أفكار ديماغوجية غير قابلة للشك بل محذرة منه ، و بالتالي محذرة إياه من التفكير ، على اعتبار أن الشك هو بداية ممارسة التفكير العقلاني . لعل غياب هذا الأخير هو ما ترك الإنسان في يقين مزيف و جهل مقدس ، و نتاجاً لذلك ظل الإنسان عاجزا على اكتشاف سر الوجود و الإقتراب منه ، إلا بعد أن أتى اليونانيون ، أي إلا بعد أن ظهرت "الفلسفة" بمعناها المتكامل ، فلم تظهر إلا في المجتمع الإغريقي الذي تميز عن غيره في منح هامش كبير للفرد من الحرية ، كما توفرت فيه أسس سياسة ديموقراطية ، أبدع بواسطتها الأفراد لأنفسهم قدرا مهما من الإستقلالية على الأقل فكريا ، ما وفر أهم شرطي التفكير العقلاني (الحرية- الإستقلالية) ، و بذلك ستبدأ بالظهور نظريات فلسفية تقدم أجوبة حول الحياة و الطبيعة هي أقرب للعقل منه إلى الخوارق و الأساطير ، هنا سيلمع وميض العقل و يرقرق تفكيره لأول مرة بعد قرون عجاف من الكساد و الضياع في جهلوت الخرافة و العقيدة المقدسة .

و بذلك فإن بنية المجتمع البدائي التي لا توفر للفرد الحرية و لا تمنحه الإستقلالية ، لا تتيسر في ظروفها للإنسان مبادرة استعمال العقل و التفكير المنطقي ، هكذا فإن أي مجتمع لا يفكر أفراده عقلانيا و لا يبدعون فهو مجتمع بدائي بالضرورة ، و عليه فإن امتلاك حقل التفكير العقلاني يبدأ بهدم أسس المجتمع البدائي الذي تأسس على الأسطورة ، و تأسيس آخر جديد على أساس العقل ، و كذا الحرية و الفردانية و العقلنة و الإستقلالية و القانون الوضعي و المساواة و العدل ، و ذاك هو المعنى الحقيقي و الشامل "للثورة" ، إذ إن تغيير أساس المجتمع لا بد أن يوازيه و ينتج عنه تغير الثقافة -بمعناها الأنثروبولوجي- و الأفكار و القيم و الأخلاق ، تغير نمط الإقتصاد و نوع السياسة و شكل الفعل الإجتماعي عموما ، إن لم أقل تتغير كذلك المشاعر و الأحاسيس اتجاه الوجود بكل مكوناته و في طليعتها الإنسان ، إذا تغير التفكير من الأسطوري إلى العقلاني .

لا يمكن للمفكر و المؤرخ أن يجد هذا التغيير في شكله التام إلا في أوربا ، و من بعد في أمريكا و بعض دول الشرق الأقصى كاليابان و استراليا ، التي تحقق فيها ما يمكن نعته مع عبد الله العروي بـ"سقف التاريخ" ، أي التغيير الجذري للمجتمع من أساسه الأسطوري إلى أساسه العقلاني . و هو المعنى المعاصر للحضارة ، إذ كلما ارتقت أمة من الأمم صوب العقل كانت متحضرة ، و كلما ارتدت و هوت نحو الخرافة و الأسطورة كانت متخلفة .

هكذا فإذا أردنا أن نجمل أهم علل و أسباب التخلف و تقاعس العقل و كسل الإنسان في استعماله ، قلنا "المجتمع" ببساطة و ما يتضمنه من ثقافة أسطورية و دينية ، لأن المجتمع (التاريخي) هو أهم أسباب ثني العقل عن التفكير ، إذا علمنا أن أسسه لا تعدوا كونها بناءا أسطوريا ، و إذا علمنا أيضا أن المجتمع البدائي لم ينقرض بعد كليا بل لا زالت نسخه الكربونية منتشرة في مختلف أسقاع الأرض ، و هو ما يؤثر على البشر الذين يعيشون في هذه الأسقاع و يبعدهم عن التفكير الحر العقلاني ، و ذلك ما يفرض عليهم العيش في ظروف متخلفة ، إذ أن التخلف يبدأ في الذهن ثم ينتقل إلى الواقع . لذلك فهدم هذا المجتمع و رمي ثقافته في الماضي حصرا ، شرط تحقق سقف التاريخ و استعمال العقل و بالتالي الخروج من التخلف و صناعة الحضارة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل