الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمي

آرام كربيت

2018 / 2 / 4
الادب والفن


صور كثيرة تتزاحم أمامي في هذه اللحظات مترافقة مع مشاعر غريبة تأخذ بيدي إلى البعيد.
مشاعر ليست جديدة علي أنما تنوس في ذاكرتي بين الحين والآخر. أبعدها مرات وأشرد معها مرات. هي ساكنة معي بشكل دائم، بيد أني اطمرها حتى تبقى في وادي الخلاء الذاتي إلى أن يحين زمنها. أقول لنفسي:
ـ أتركها الأن سيأتي الوقت الذي ستخرجها من مخبأك وتنثرها في الفضاء لتتحول إلى كائن حي يغني ويعلن بوحه القديم للزمن القادم.
في تلك الليلة جاء والدي إلى قرية دبانة بعروسته، بدلوعته الحلوة الشاحنة الشيفرولية ذات اللون الفستقي الفاتح موديل عام 1958 وقال لنا:
سنذهب إلى قرية اسكندرونة، إلى بيت جدكم لأمكم. سنقضي بعض الوقت من الليل هناك.
كانت والدتي امرأة جميلة جداً في صباها، بيضاء اللون، متوسطة القامة، وجهها مثل التفاح في أول قطافه. عنيدة وقوية ومحافظة جدًا. بمعنى أنها تقليدية جدًا. كانت محور تفكير والدي وعقله وحياته. عشقها لدرجة الجنون. غيور على أنفاسها الذي يخرج من صدرها. لم اكتشف هذه الغيرة المجنونة، والعشق العميق لوالدي إلا عندما وصلتُ إلى منتصف الشباب.
في ذلك المساء، ذلك الصيف الجميل والليل في أوله ينسج خيوطه الليلكية الناعمة ليحوله إلى فراشة ملونة تنسج خيوطها فوق فراش السماء.
الإضاءة المنبعثة من مصابيح الشاحنة تبدد السواد الذي يلفنا ويفتح لنا بوابات السهوب ومسارات الليل وسره. وشق لنا انحناءات المكان.
الطريق ترابي متراقص غير محدد الأبعاد، رسمته حركة الناس والعربات التي تجرها الدواب كالبغال أو الخيول والحمير وبعض السيارات العابرة إلى تل حميس ـ القامشلي وبالعكس.
سارت الشاحنة التي يقودها والدي إلى الأمام دون أن أدري كيف تسير آلية في ليل غريب لا يعرف حدود المكان. مضت تلتف وتنحي وتتمايل كالعروس في أول زفتها على الهودج. كنت أقول لنفسي:
ـ كيف يعرف والدي الطريق المتعرج في هذا الليل المعتم الذي ليس له حدود.
أمد نظري في الخلاء الذي تفتحه مصابيح الشاحنة فلا أرى إلا الصمت المختلط بلون الطبيعة والأرض. كانت أختي التي تصغرني بسنتين جالسة في حضن أمي تنظر مثلي إلى الطريق مستغربة من عذوبة النسيم الذي يهب علينا صافياً، رقيقاً مثل وجه أبناء الجزيرة المترامية الأطراف، في يدها الصغيرة باقة ورود برية جمعتها والدتي من الأرض السماء وفي اليد الآخرى عدة شموع بيضاء لتزين ليل ابويها في هذا الزمن الهارب، قالت وقتها:
سنغني هناك، ننثر الورد ونشعل الشمع ونطوف حول بيت أبي وجدكم.
كل شيء كان مثيراً لي:
اطلالات الصمت في وهاد الصمت، شروقات الصيف ومساءات الليل. واكتشاف المكان الذي يمتد إلى لا نهاية في جماله:
حيث الخلاء الصافي وامتداد الاصقاع المغرية، المجهولة النائمة وراء هذا الكم الهائل من الفراغ والعذوبة.
كان بيت جدي لأبي مثل قبلة الشمس، بابه يشبه محراب الكنائس القديمة ومفتوح الأبعاد. يمكنك أن تراه من كل الاتجاهات. بابه يعانق الشمس في الصباحات، ويعتقها عند غروبه. شبابيكه صغيرة لخوف جدي أن يهرب ضوء القنديل من بين ثناياه.
هناك في غرب دبانة تنام المدرسة الترابية للقرية إلى جوار بيت فارس:
إنه علامة من علامات القدر إلى جوار شجرة توت خضراء وأرفة الظلال تتمايل مثل ضفاف نهر جاف في فضاء بيته المفتوح. وحيدة كأنها فتاة دون عشيق. ما أن أمشي عشرين متراً نحو الغرب حتى أصل إلى البئر الوحيد للقرية. لقد قالوا لي:
ـ أحذر. الكثير من الأطفال سقطوا فيه عندما هموا في استجرار الماء من لدنه.
ربما ذاكرتي العجوز تسترق بضعة مشاهد مما كان:
ـ جسد الطفل ينزف عندما سقط في البئر. وأصيب بجروح عميقة في كل مكان منه، الرأس والأطراف. ومات بعضهم.
كنت استمتع بصوت اللقلق في ربيع دبانة. يبني عشه فوق منارة صغيرة بجانب بيت جدي. يأتي مرات كثيرة من صوب رافد لنهر الجغجغ الذي يحدد حدود دبانة حاملًا في جعبته زوادة لأطفاله ونسله. أصوات صغاره عذبة، مشوقة. أقف مذهولا من منقاره الطويل. اللقلقة تزداد عندما تأتي والدتهم من بحار الأراضي البعيدة، محملة بالطعام، ديدان وأفاعي، تدسه في أفواههم السوداء الجميلة. وما أن تبدأ الحياة في تغيير جلدها حتى يرحل الصغار بصحبة الكبار إلى بلاد الدفئ والشمس. لكنهم يقطعون الوعود بالعودة في ربيع السنة القادمة.
لا أعرف لماذ اختار أحد اللقالق أن يضرب أختي انجيل بمنقاره. ربما علم أنها غريبة عن المكان. بيد أن صراخها كان موجعًا. لم يرموا أهل القرية الملامة على اللقلق. ولم يأذوه. أخذه جدي في احضانه وعالجه بأدويته الطبيعية.
كنت انتقل مع مجموعة من صبية الضيعة باتجاه ضيعة حربة، نعبر الجسر الخشبي الذي بناه الفلاحون حتى يستطيعوا المرور عليه مع دوابهم، الكثيرة كالأغنام والأبقار وحمار الراعي.
الفرع الصغير لنهر الجغجغ يمر سريعا من الجهة الغربية. كثيرة هي المرات التي يجف في الصيف ولكن سرعان ما يعود إلى سابق عهده في الخريف.
إحدى المرات كنت جالساً برفقة والدتي في منزل الحاج منصور، مالك الضيعة بحضور ابنته عرنة. اندلق كأس الشاي الساخن على فخذي الايسر. رحت أصرخ وابكي وأنط وأرقص من الوجع. ولأنني مندفع دون ضوابط، دون قيود مثل أي طفل شرقي مملوء بالنشاط والحيوية والطاقة. لم اتوقف ثانية واحدة عن الصراخ ودون مراعاة للحرج الذي سببته للعائلة المضيفة ولأمي. صبوا الماء البارد علي. وعندما عدت لبيت جدي وضع عليه صفار بيضة وبعض الأعشاب. وكان يبدل الادوية على المكان المحروق بين الحين والأخر.
وإحدى المرات كنا جالسين في بيت الحاج منصور بالقرب من مجرى الرافد، سمعت حركة على الأرض كالزلزال، أرض الجغجغ الجاف اهتز وصرخ بوجع وأهتز معه أركان البيت. حدث على أثره تحت ملمح ووقع بصري صوت الماء قادمًا كالهدير الجارح جاريًا بسرعة كهارب من نفسه. بدأ حضوره طاغيًا. فرش الأرض وملأ الفجوات والشقوق وتابع مد ذراعيه في مجراه وكأنه يعرفه منذ أزمان موغلة في القدم.
وعندما عبرنا الجسر الخشبي، دخلنا في سواقي حقول القمح والشعير. رأينا الجرار الزراعي من نوع فورسن، صغير الحجم قوي، وراءه قاطرة عليها مجموعة من الفلاحين يغنون بحزن شديد وعلى ظهر كل واحد منهم معوله.
السهوب وحدها التي تتكلم وتفتح ذراعيها للحياة والعشب الأخضر يعانق شروق الشمس في الصباح وغروبها في المساء.
كنت استغرب الحجم الكبير للطائرة المدنية عندما تحط رحالها أو تقلع من مطار القامشلي في مواجة دبانة.
بوصولنا إلى بيت جدي لأمي في ضيعة اسكندرونة التي تبعد عن دبانة بضعة كيلومترات. كان الليل عروس في كامل زينته وجماله وهياجه. عندما هممنا بالنزول من السيارة بدأ السكون مخيماً على كل شيء. حتى حيوانات البراري البعيدة بقيت صامتة، خاشعة، تستهوي النوم والرقاد في ظلال النسيم العليل.
كانت والدتي كالفراشة تتمايل رقة ونعومة وخجل، تمد خطواتها القصيرة الى الأمام وفي عينيها دمعة حزينة لأنها وقفت ضد إرادة والدها وتزوجت والدي الفقير.
أنزل والدي أختي التي تكبرني بسنة ثم أخذ بيدي ويد أختي الأصغر مني بسنتين ومشينا بضعة خطوات بصعوبة. بعض القناديل الفاترة تأخذنا إلى وميضها، إلى بعض بريقها.
لا أعرف مناسبة مجيئنا في زيارة لهذا المكان، بيد أن والدي المتبختر بنفسه وشاحنته قادنا أمامه. صوت كلاب الضيعة ملؤوا الفضاء ضحكًا على فرح. سرحوا بعيونهم نحونا وكأننا في مضافة القدر، بيد أنهم لم يتحركوا.
وقفنا أمام باب الحوش. طرق والدي الباب فخرج علينا صوتًا مناديًا، قال:
ـ من القادم.
وما أن عرفونا حتى فتحوا الباب بسرعة. قابلتنا والدة أمي بالترحاب وأدخلتنا إلى مكان مكوث جدي العجوز المريض. أخذنا في احضانه. عانقنا. واجلسنا بجانبه. ومضى يداعب شعري ووجهي. ويمازحنى. كان صوت الغنم النائم في الاسطبل والحوش واضحاً. مد جدي يده في العتمة إلى ثياب أختي الصغيرة الجديدة ذات الألوان الفاتحة البيضاء والصفراء والحمراء والنهدية وراح يثني على جماله وينظر إلى حذائها الأبيض. قال لها:
ـ من أين هذه الثياب الحلوة يا ابنتي الصغيرة، يا حبيبتي.
ـ ماما اشترتهم لي من السوق عندما كنا في مدينة الحسكة.
ـ هل تذهبين إلى المدرسة يا صغيرتي؟
ـ نعم يا جدي، أنا وأخي وأختي نمسك أيدينا ونمشي في الشارع. أحياناً تقف الشرطة على طرفي الجسر, يقولون لنا:
ـ ممنوع التجول. ويمنعوننا من المشي والسير إلى المدرسة.
ـ لماذا يا صغيرتي.
ـ يبحثون عن السياسيين؟
ـ ولماذا السياسيون؟
تدخل والدي في محاولة تغيير مسار الحديث:
ـ للقمر سحره في هذا الوقت من الليل، أليس كذلك؟.
مد جدي يده فوق شعري وراح يكلم والدي:
ـ ماذا تفعل هذه الأيام؟
ـ لقد حصلت على وظيفة لدى الحكومة براتب مغري، 160 ليرة سورية في الشهر.
ـ الله. إنه مبلغ كبير.
رأيت السعادة في عيون والدي. والاحساس بالتفوق والنجاح.
سهرنا تلك الليلة هناك، شربنا الشاي وتعشينا. لقد غمرنا جدي وجدتي بالحنان والحب. واغدقوا علينا هالات الفرح عبر الترحاب الرقيق والحديث الدافئ. على عكس بيت جدي لأبي. فهولاء قساة في طبعهم وسلوكهم وممارسة حياتهم وأفراحهم. لكن علاقتي بهم كانت أكثر وتواجدي بينهم كانت أوفر، لن اسكندرونة كانت على مشارف أن تنتهي أن تبقى ضيعة.
عندما كان يمر بائع البوظة ويتوقف في دبانة، أركض إلى القن، يدخل أنفي رائحة التبن الرطب والدرق، أبحث عن بيضة طازجة لابادلها بقرن من البوظة.
وعندما أرى الدجاجة فوق البيوض أهرب منها قبل أن تهجم علي. تكون في هذه اللحظة شرسة قاسية لا تعرف الرحمة أو الشفقة. تقاتل كاللبوة.
رأيت جدي لأمي مرة واحدة. ربما كنت في الثالثة أو الرابعة من العمر. لا أتذكر أي شيء منه. لقد توفي في وقت مبكر.
غاب والدي عدة أيام قضاها في مدينة القامشلي. عندما عاد قال لي:
ـ سأذهب في جولة تمتد لأيام. يجب أن أقود السيارة مسافة 1500 كيلو متر على الطريق المعبد. لقد غير ملك اللاندروفر فاسيكن قمصان الصبابات لهذا يجب أن لا اضغط على المحرك في أراضي الجزيرة الوعرة. ودون تردد قلت له:
ـ بالطبع، ولما لا؟
ـ سنأخذ اذنًا من والدتك وأخواتك ونمضي على بركة الشمس والهواء والمطر.
ـ والمدرسة.
ـ آه، أعرف. أنت في الصف الخامس الابتدائي، أليس كذلك؟ سأتكلم مع المدير، لن يخيب ظنّا. ثلاثة أيام أو أربعة ونعود. سنختار يوم السبت بعد الظهر والأحد. ستغيب الأثنين والثلاثاء. ليس هناك مشكلة. نتسلى معًا.
ـ من أين سنبدأ؟
ـ ما رأيك أن ننطلق من هنا، من رأس العين. نذهب باتجاه الحسكة نشتري من هناك بضعة سندويشات، وعلبة جبن فرنجي وخبز ثم نتجه إلى القامشلي. إذا تعبنا، نذهب إلى ضيعة دبانة، إلى بيت جدك ننام هناك وفي الصباح نكمل طريقنا إلى المالكية.
هذا ما كنت أرغب به. وأتمناه. وجاء إلي على طبق من ذهب. رحلة مجانية وطويلة ومتعة مفتوحة وسرور لا قيد عليه. ولم اسأل والدي:
ـ كيف سنسير على الأرض الموحلة، والمحرك خرج من التصليح ويحتاج إلى راحة، خوفًا من أن يغير رأيه في انتهازية قذرة.
كان المهم أن أبحث عن سعادتي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا