الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استانبول

آرام كربيت

2018 / 2 / 7
الادب والفن


كانت الريح تصفر وتهب. وتضرب الأبواب والنوافذ بثقل. والعاصفة ترعد وتصطك. وجذوع الأشجار تكاد تتكسر والأغصان تتمايل كالمراجيح. ومدفأة الحطب تطقطق وتترنح من الهم والوجع.
والليل مظلم وثقيل. وقنديل الزيت يرسل بعض الضوء وينير المطعم.
والنبيذ يدور بيننا، وندور معه. ويمدنا بالدفء والفرح والانتشاء. قال:
هذه البلاد عائمة على تناقضات العالم بشرقه وغربه، شماله وجنوبه ولهذا تصلح أن تكون مركزه.
ـ ولماذا؟
ـ لإن الجنون جزء من ذاكرة البشر ووجودهم.
ثم صمت ليلتقط أنفاسه. أدار وجهه نحو النافذة وعينه تخبو وكأنه يتضرع لي وللمطر. وقلبه وعقله في مكان آخر. ثم قطب جبينه وقال لي بصوت متآوه وموجوع:
ـ مدينة استانبول ولدت عاهرة.
ـ عاهرة؟
وقفت مبهوتًا من هذا الكلام الصريح والمباشر من رجل عثماني. يتكلم بطلاقة وثقة عالية بالنفس.
وفي هذه اللحظة أزداد المطر هطولًا حتى غدا سيل جارف قاشطًا السماء والوديان والجبال. نظرت إلى وجهه المنطفئ وملامحه المنغلقة. والليل ينسحب من نفسه ليتمدد في جوف الليل. قلت له:
ـ يبدو لك أيها المنفي أنك تخجل من ذلك الماضي؟
ضحك بصوت مجلجل وهستيري ومقرف، وقال:
ـ ولماذا أخجل من هذه المتعددة الأبعاد والمرامي. ومدينة الذنوب والإقياء. إنها استانبول مدينة القراصنة والبؤس. وتاجرة الرقيق الأبيض والأسود منذ أن ولدت.
ثم تنهد بعمق. وخرج من صدره حشرجة مخنوقة. وقال:
كما قلت لك أنها عاهرة. تقع في الشرق ورغباتها في الغرب. وعندما تكون في الغرب تكون أحلامها وأمانيها ورغباتها في الشرق. اليوم هي في الشرق. مدينة مأزومة مهزومة من الداخل. إذا لم يستطع أن يقتلها صوتها الداخلي سيمتصها البحر ويغرقها في يمه وتستريح ويرتاح العالم منها.
فكرت في كلمات هذا الرجل الغريب وصراحته وقسوته وحقده. والحديث المباشر لرجل غريب مثلي. وأثنيت على شجاعته وسعة صدره. ثم عدلت موقفي وقلت لنفسي:
إنها لنرجسية غبية أن يسرد هذا الرجل لي تاريخ مملوء بالحيرة. ويجلد ذاكرته المتعبة. إنه شيء رهيب واستعراض مجاني للتاريخ.
ثم استيقظت على صوته، يقول:
إنها امبرطورية فسيحة جدًا واسعة، بيد أنها هشة من الداخل. بلاد بور، عذراء، أراضي شاسعة لم تفتح بعد. فيها أنهار عذبة وبحيرات وسهول واسعة ووديان وجبال. غابات وسواحل طويلة يلفها من كل مكان.
توقف لحظات، شهق خلال ذلك، وتنفس بعمق، أدخل المزيد من الهواء المعبأ بدخان السجائر إلى قصبتيه، ثم أكمل حديثه:
ـ لقد غزت نصف أوروبا ولكن أراضها لم تكتشف بعد. إنها غرة. وأراضيها كذلك. تنهد بعمق وأضاف:
اللحظة التاريخية بدأت عندما فكرت السلطنة في بناء قصر دولة بهجة على الضفة الغربية من البوسفور.
ـ وما علاقة هذا بذاك؟
ـ في هذه اللحظة نغل الشيطان في عقلي وهمس في أذني، وقال:
قم، أنهض يا مراد. لقد ولدت الساعة التي تنتظرها. نضج الوقت الذي كنت تحسب حسابه. شمر عن ساعديك يا فتى السلطنة تريد أن تغير جلدها ووجهها. أنها تريد أن تتخلص من أرثها وثوبها القديم. إنها تتغير!
ـ تتغير؟ إلى أين؟
ـ لا يهمني إلى أين. إنهم يريدون أن يتغيروا. من الصعب تفسير كيف اقتنعوا بذلك. ربما لم يعد يجدي أن تستمر دولة الأتاوات وفق الإجراءات القديمة. ولم يعد يجدي أن يبقى الناس مجرد رعايا وعبيد تحت نير عبودية العسكر ورجال الدين. ومرميون في مجاهيل التاريخ. الزمن قلق، وقلق، ينطنط، يهز العروش القديمة ويبدل أوتاد البناء. وأضاف:
في الحقيقة لم يكن تنقصني المغامرة. سافرت كثيرًا، وصلت إلى المجد. ولم يبق أمامي إلا أن أطرق هذا الباب الشرقي المغلق الذي بدأ يميل مع اتجاه الريح. مبررًا لنفسي مقولة: المصلحة مغامرة وعلي أن أمتحن قدراتي من جديد وليكلفني ذلك ما سيكلفني ليس بدافع المال وشهواته فقط أنما في البحث عن مغامرة جديدة. بحث عن الحرية.
ـ الحرية
ـ بالطبع. المغامرة حرية. كل محرقة تستفز دمك، كل فكرة غريبة تطرق بابك هي حرية. وكل مواجهة جديدة مع القدر هو حرية. وكل باب مغلق تفكر في فتحه هو حرية. إن تطأ أرضًا لم يطأها غيرك هي حرية. لهذا فأنت تدخل فردوسًا من صنع يديك. والمغامرة شيطان نشط نابض بالحركة يدخل عقل الإنسان ويستفز خلاياه ولا يتركه إلا إذا حقق مراده.
عندما عدت من فرنسا وضعت تصورًا عما سأفعله، المشاريع التي سأنفذها. قلت لنفسي:
ـ من أين ابدأ وكيف؟
وبعد أن استرحت بضعة أيام زرت صديقًا أرمنيًا اسمه كرابيت باليان هو أحد المهندسين الذين نفذوا بناء القصر طولمة بهجه مع ابنه ينكوجوس وأشرفوا على وضع اللمسات الأخيرة عليه. وهو صديق حميم للسلطان. وما أن سمع أفكاري حتى دبت الحماسة في قلبه. ومن فوره اتصل برئيس التشريفات السلطانية لترتيب اللقاء. وبعد بضعة أيام جاء الجواب إيجابيًا مضموغًا بموافقة الباب العالي.
فرحت جدًا بهذا الخبر السعيد. ورحت أرسم الأحلام والأماني التي سيخلفها هذا اللقاء. قلت في نفسي:
ـ أنها بلاد قلقة في وجودها وتكوينها النفسي والعقلي. لا تعرف أين تضع قدميها. ولم يعد ينفعها الاحتماء بالماضي وقيمه وثقافته وأفكاره. كما أن الانتقال إلى الضفة الأخرى فيها مغامرة محفوفة بالمخاطر. لهذا هي غير مطمئنة على وجودها ويخيفها إغلاق بابها المطل على الشرق ويتملكها التوتر من هذا الانزياح نحو الغرب. هذا الضياع مفيد وضروري لي، وسأدخله. وأضاف:
هذا القلق والاضطراب هو ما أريده. وأبحث عنه. لا يهمني بحثهم عن موقعهم ووجودهم. المهم أن تستمر الحروب ويتقاتل الناس ويشتروا الثياب والمعدات والأسلحة والطعام والحطب والفحم. تنفس قليلًا، وتابع:
الحرب هي روح المدينة والمدنية. إنها تحرك السوق، تشعله بالنشاط والطاقة، ترمي في أتونه الوقود اللأزم ليبدل الناس من أنفسهم إلى أنفسهم وإلى ثقافتهم وأمزحتهم ونظرتهم إلى أنفسهم وغيرهم. وستتغير الكيانات وتفكك العلاقات وتستبدلها بغيرها وستخلق رغبات وتموت رغبات وسينتعش المال ويحلق وتكبر البنوك ورجال المال، وينحدر بشر إلى الحضيض ويصل البعض إلى قمة المجد.
ثم التفت ألي وملأ كأسه بالنبيذ المعتق تعتيقًا، ورفعه في الهواء وقال:
بصحة الحرب يا عبد الله. الناس يحبون القتال. وأنا أحب المال. ومرات كثيرة أقول لنفسي في الليالي الشتائية الباردة:
ليتقاتل الناس. إنهم مجانين. ليذبحوا بعضهم ولتزداد أموالي وتزدهرت تجارتي وتتكدس في البنوك والمعامل وشركات القطارات والنقل البحري والمائي والبري. الحرب عصب الحضارة ووجود الإنسان على هذه الأرض. أنها جزء من دمه دودة منه وفيه تنهش في كيانه، تغلي في احشائه. وتغيره وتدفعه نحو المزيد من الجنون.
بدأ مزاجه رائقًا. وشعر بالارتياح كأن حصارًا ضاغطًا انزاح عن كاهله. واسترخت عضلات وجهه واستقرت نبرة صوته. وأصبحت حركاته تميل إلى الهدوء والاسترخاء. دققت النظر في ملامحه الذي رسمتها السنين وتضاريس وجهه، انطفاء الحنين إلى الحياة في عينيه. اللهفة الخائبة وغياب ذلك الطموح الجامح الذي يتحدث عنه. ثيابه متسخة، أظفاره طويلة وقذرة. وشعره منتفش وطريقة حديثه المتداخلة، وانزلاق لسانه بصعوبة يمينًا وشمالًا. الاسرار العميقة التي يخبئها في أعماقه.
أحسست أنني أمام رجل خبير عجنته الأيام وعركته السنين وجعلت من قلبه عودًا صلبًا. يعرف الناس والمدن والنفوس. ودون أن انتبه قال:
العلاقات العامة فن. من خلاله تدخل في النفوس، تسيطر عليها، لجامه في يديك. وفي الممارسة تكتسب المزيد من المهارات. وكل علاقة مع رجل جديد أو امرأة جديدة مغامرة. وفي أعماقي رغبة، بحث عن المخبأ في داخله. أريد ان أصل إلى الهدف الثمين. وعندما أكتشف أن الآخر مجرد خواء ابتعد عنه مع شعور جارف بالحزن والانطواء يسيطران علي، ثم أنسحب ككلب أجرب مطوي الذيل.
ودائمًا ابدأ المحاولة. اغوص في العلاقات المشوهة والعابرة. اعاشر النساء وأركض جريًا وراء الرغبات المجنونة، بيد أني أبقى ظمانًا منطفأ الوجد. ومع كل علاقة جديدة اشعر بالمزيد من الخواء والفراغ. عقود عدة وجسدي وعقلي يركضان من واحد إلى آخر والخيبة تجر الخيبة والحزن يجر الحزن.
سهرت في أفخم الفنادق، وجثت أجمل النساء أمام قدمي متضرعة تريد أن أخذها إلى سريري، بيد أن هذا القلب لم يعشق أو يحب.
أنا خواء في خواء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله