الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتلة المدنية

فارس تركي محمود

2018 / 2 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


الكتلة المدنية
في بداية القرن العشرين كانت المجتمعات العربية كلها مجتمعات بدائية ومتخلفة وساذجة فكرياً ، وكانت البدائية مسيطرة ومستحوذة على كل مناحي الحياة وجزئياتها ومتغلغلة في أدق تفاصيلها وفي كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كطريقة الحكم وفلسفته والنظرة الى الحاكم وولي الأمر ، والنظام الاقتصادي السائد والمسيطر والعلاقات البينية بين افراد المجتمع والنظرة الى المرأة والحرية وحقوق الانسان والتراتبية الاجتماعية والعلاقة مع الله والدين والمقدسات والغيبيات والخرافات والاساطير ، لتصبح تلك المجتمعات عبارة عن كتل بدائية بلحمتها وسداها لا تلمس فيها أي أثر أو ملمح من ملامح المدنية والحداثة والتحضر ، فنظام الحكم فيها دكتاتوري وقمعي واستبدادي لا يمتلك فيه المواطن أي حق في نقده أو تقويمه وتغييره وليس هناك دستور او مؤسسات دستورية ، ونظامها الاقتصادي ليس اكثر من نظام رعوي زراعي وفي أحسن الحالات حرفي بسيط وصناعة تعتمد على المهارة اليدوية والانتاج المحدود ، ونظام التعليم يعتمد بشكل كامل على الكتاتيب التي لا تقوم سوى بتحفيظ وتلقين الأطفال بعض السور والآيات القرآنية وكانت العلوم كلها تنحصر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث وتفسير القرآن ، ولقب عالم لم يكن يطلق إلا على من يدرسون أو يدرِّسون تلك العلوم ولا يزال هذا الأمر مستمر إلى وقتنا الحاضر فما أن نسمع لقب عالم حتى نعلم أن الحديث متعلق برجل الدين ومنها جاءت بعض التسميات كهيئة علماء المسلمين وهيئة كبار العلماء – هكذا يسمون أنفسهم - والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين . والعلاقات الاجتماعية قائمة على النسب وصلة القربى والروابط القبلية والعشائرية ، والمرأة كانت في مرتبة متدنية وتعامل باحتقار ولا تملك أية حقوق وهي مرادفة للعيب والعار .
والأنكى من ذلك أن تلك المجتمعات لم تكن تعي أنها مجتمعات بدائية لعدم معرفتها أصلاً بوجود مجتمعات ليست بدائية أو مغايرة لها ومختلفة عنها فكانت تعتقد أنها على ما يرام وأنه ليس هناك ما يمكن فعله أو القلق بشأنه أي أنه ليس في الإمكان أروع مما كان .
ألا أنه ومع بداية القرن العشرين بدأت رياح التغيير تهب على المنطقة العربية فبعد انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 ونتيجة لانهزام وتفكك الدولة العثمانية خضعت اغلب البلدان العربية للسيطرة الاجنبية وبخاصة البريطانية والفرنسية لتبدأ بعدها عملية خلق وإنتاج ما يمكن أن نسميه بالكتلة المدنية . حيث شهدت تلك البلدان تغييرات جذرية وأساسية وفي مختلف المجالات فعلى المستوى السياسي بدأت تظهر الإرهاصات الأولى لظهور النظام الديمقراطي أو شبه الديمقراطي إذ تمت كتابة الدساتير وتشريع القوانين وإنشاء البرلمانات وتم تأسيس الأحزاب والجمعيات السياسية ، وعرفت المنطقة العربية ولأول مرة في تاريخها فكرة الانتخابات والمشاركة الشعبية ومارس المواطن العربي ولأول مرة حقه في التعبير عن رأيه بحرية ، وانتقاد الحكام في العلن وليس خلف الابواب المغلقة كما كان يفعل طوال تاريخه المرير ، وبدأ يعي أن الحاكم ليس ظل الله على الأرض وليس مقدساً وليس تجسيداً للإرادة الإلهية بل هو بشر كباقي البشر يخطئ ويصيب وقابل للمساءلة والمحاسبة والثواب والعقاب ويمكن تنحيته وحتى محاكمته ، كما تعلم هذا المواطن أن من حقه الخروج في مظاهرات وإصدار وتداول الصحف والمجلات والمنشورات والترشح لشغل المناصب السياسية ، وبدأ يحس أنه فرد قائم بذاته وليس من عبيد السلطان أو مقتنياته ، وأن له دور في صنع الحاضر والتخطيط للمستقبل وغير ذلك من مظاهر وتجليات الحكم الديمقراطي .
كذلك شهد الميدان الاقتصادي تغييرات كبيرة إذ وجدت البلدان العربية أن إقتصادها البدائي والبسيط بات يقف وجهاً لوجه أمام النظام الإقتصادي الرأسمالي وأن عليه أن يتطور ويتحول ليماشي الرأسمالية الحديثة وإلا فإنه مهدد بالزوال والإندثار مما أدى إلى ظهور بدايات الصناعة الحديثة وأدى كذلك إلى تغيير الأنماط الإقتصادية والعلاقات الإنتاجية التي ظلت سائدة لقرون كثيرة وفي مختلف الأنشطة الإقتصادية كالصناعة والزراعة والرعي وتربية الحيوانات ، فضلاً عن ظهور الإقطاعيات الواسعة وطبقة الإقطاعيين والأسر والعوائل الصناعية والتجارية وتنامي وتعاظم دورها الإقتصادي والسياسي والإجتماعي . أما نظام التعليم فقد إنقلب رأساً على عقب وتحول من نظام تعليمي كتاتيبي ساذج إلى نظام حديث ومتطور يعتمد أحدث وأفضل نظم وآليات التعليم في مراحله كلها بدءً بالابتدائية وانتهاءً بالتعليم العالي حيث يدرس العلوم العقلية والرياضية والإنسانية ويستهدف بناء جيل متعلم عقلاني وناضج ومفكِّر وخلَّاق وليس جيلاً ملقناً ساذجاً تقليدياً كما كانت تفعل الكتاتيب . كذلك بدأت بعض المفاهيم والأفكار الغربية كالعلمانية والحرية وحقوق الإنسان تفعل فعلها داخل المجتمعات العربية وتؤثر فيها بشكل كبير مما أدى إلى تغيير نظرة الناس إلى الحياة والغاية منها وكيف ينبغي أن تعاش ، وكذلك تغيير النظرة إلى المقدس والدين والمرأة ، وانتشار بعض الأفكار والنظريات العلمية الغربية التي تتناول أصل الإنسان والحياة والكون برمته وغير ذلك من أفكار ومقولات تندرج ضمن ما يمكن تسميته بالفكر العلماني .
إن كل هذه التغييرات والإنقلابات الجذرية التي شهدتها المجتمعات العربية تحولت إلى عوامل ومغذيات ساعدت على خلق كتلة بشرية فكرية إقتصادية سياسية علمية أكاديمية يمكن أن نسميها بالكتلة المدنية لم تشهد المجتمعات العربية البدائية مثيلاً لها في السابق فهي كتلة تمتلك أفكار وسلوكيات ومنطق وفلسفة ونظرة الى الحياة تختلف جذرياً عن كل ما سبقها بل وتتناقض معه تناقضاً تاماً . فهي تتميز بالسلوك المدني المتحضر وطريقة التفكير العلمية والمنطقية والبعيدة عن الخرافات والأساطير والمقولات الساذجة ، كما تتميز بتناغمها وانسجامها إلى حدٍ ما مع الكثير من الأفكار والمفاهيم الغربية كالديمقراطية والعلمانية والإنفتاح على الثقافات والأفكار الأخرى والحرية وحقوق الإنسان وبخاصة حقوق المرأة وحريتها واستقلاليتها وباختصار يمكن إعتبارها تمهيد أو بداية لمجتمع غربي ينمو ويتوسع داخل المجتمعات العربية .
إن ظهور هذه الكتلة وتمددها واتساعها - والذي استغرق طيلة النصف الاول من القرن العشرين - لم يكن ظهوراً تلقائياً فالمجتمعات العربية كانت ولا زالت غير مؤهلة بل وعاجزة تماماً عن إنتاج مثل هذه الكتلة ، ولولا التدخل الخارجي لما ظهرت هذه الكتلة إلى الوجود فالبريطانيون والفرنسيون هم من أوجدها من العدم وهم من دعمها وساندها وهيأ لها اسباب البقاء والاستمرار والتطور ، وهم من حشرها حشراً داخل المجتمعات العربية غير المرحبة بها وبأفكارها والمتوجسة منها خيفةً بل والمعادية لها لذلك بقيت هذه الكتلة غريبة عن المجتمع ومعزولة ومحدودة الحجم والعدد وضعيفة وتحتاج بشكل دائم إلى الحماية الخارجية .
وعلى الرغم من كل ذلك فإن هذه الكتلة المدنية تمكنت خلال النصف الاول من القرن العشرين - وبمساعدة حلفاء الخارج - من إنتاج وتأسيس دول وبلدان ونظم سياسية حديثة ، ونظام تعليمي خرَّج الكثير من المفكرين والفلاسفة والاساتذة والاطباء والمهندسين وغيرهم من ذوي الكفاءات والإختصاص وفي مختلف المجالات ، وارتقى بالمستوى الثقافي لشعوب المنطقة ، هذا فضلا عن الكثير من الإنجازات في ميدان الاقتصاد والإعمار والخدمات كشق الطرق وإنشاء شبكة المواصلات وبناء المستشفيات والمعامل والمدارس والجامعات وتطوير الزراعة والصناعة والتجارة ، والإرتباط بشكل وثيق وبنَّاء وصحي بالعالم المتمدن ، بالإضافة إلى إنشاء جيوش وطنية وأجهزة الشرطة والأمن الداخلي ، والأهم من ذلك كله تمكنت هذه الكتلة من ترسيخ وتعزيز منطق وفلسفة الدولة الحديثة .
وعلى الرغم من أن أغلب المجتمعات العربية شهدت ولادة وانبثاق الكتلة المدنية وعلى الرغم من أن هذه الكتلة بقيت وبكل المقاييس محدودة الحجم قياساً بالمجتمع الذي ظهرت فيه ، إلا أن حجم وتأثير هذه الكتلة كان يختلف من مجتمع لآخر نتيجة لعوامل متعددة أهمها الموقع الجغرافي والظروف المناخية لذلك المجتمع وأسبقيته في الإحتكاك بالحضارة الغربية ونوع وعمق ومدى ذلك الإحتكاك .
لقد إستمرت الكتلة المدنية في التأثير بالمجتمعات العربية حتى بداية عقد الخمسينيات من القرن العشرين عندما بدأت تظهر علامات ضعفها وتقهقرها أمام الكتلة البدائية الهائلة المحيطة بها والتي بدأت تضغط عليها بقوة كبيرة نتيجة لعوامل كثيرة أهمها أن الكتلة البدائية هي منتج طبيعي للمجتمعات العربية ولا يحتاج ظهورها وتوسعها وتمددها إلى أي تدخل أو دعم من أية جهة لذلك كان إنتصارها على الكتلة المدنية محتماً في نهاية المطاف . وقد بدأت بوادر هذا الإنتصار مع وقوع الإنقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد العربية إبتداءً من خمسينيات القرن الماضي والتي قضت على أنظمة وفلسفة الحكم التي كانت قائمة آنذاك ، وكان ذلك إيذاناً بتراجع وتقهقر وتلاشي الكتلة المدنية وجوداً وتأثيراً ، وتآكلها وانحسارها لصالح الكتلة البدائية التي بدأت بالإجهاز على كل ما حققته وأنجزته الكتلة المدنية ، وبدأت تعود بالمجتمعات العربية وبشكل تدريجي إلى النقطة التي إنطلقت منها في بداية القرن العشرين مستهلكة في أثناء ذلك كل الرصيد والخزين المدني الذي أنتجته الكتلة المدنية حتى وصلت المجتمعات العربية إلى درجة الإفلاس والخواء والعجز التام ، ولم يعد لديها أي أساس حقيقي يمكن الإعتماد عليه في بناء دولة حديثة فبدأت تنهار الواحدة خلف الأخرى كما هو حاصل في العراق وسوريا وليبيا وكما سيحصل أو بدأ يحصل في مصر ولبنان وتونس والجزائر والمغرب والتي تأخرت وقاومت مدة أطول لأن كتلتها المدنية أكبر حجماً وأكثر رسوخا ً، ومن المتوقع أنها ستستمر في المقاومة لفترة قادمة أخرى إلا أنه وفي نهاية المطاف ستنتصر كتلتها البدائية وستوصلها إلى مرحلة الإفلاس والعجز التام ومن ثم الإنهيار والقضاء على فكرة ومنطق الدولة ، والدخول في المجهول الذي يشتمل على إحتمالات كثيرة أحلاها مر كالفوضى وعدم الإستقرار وانعدام الأمن والأمان والتصدعات الإجتماعية والانتكاسات الإقتصادية والثورات والحروب الأهلية وتقسيم الأوطان والخضوع لمنطق العشيرة والقبيلة والجماعة والتنظيم في ظل غياب وتلاشي منطق الدولة أي وباختصار العودة مرة أخرى لتصبح المجتمعات العربية مجتمعات بدائية بامتياز بدون أي وجود للتمدن أو لفكرة المدنية بسبب غياب الكتلة المدنية . وإذا كانت بعض القوى العالمية قد عملت على خلق كتلة مدنية داخل مجتمعاتنا في بداية القرن العشرين ، فليس من المحتمل أن تتكرر هذه العملية مرةً أخرى في بداية القرن الحادي والعشرين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة