الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوسيولوجية الأماكن الدينية بين البنية المزدوجة والوظيفة الضائعة حالة المسجد بالمغرب

وديع جعواني

2018 / 2 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ملخص :
تتعدد أشكال أماكن التعبد في المجتمعات الإسلامية. ويحتل المسجد مكانة متميزة داخل الدولة الحديثة. فهو الذي يمثل ثقافة الدولة ورأيها وهدفها. وهو الذي يختزل فكرها ومنهجها. وبالمغرب لم يعرف هذا الفضاء اهتماما كبيرا من حيث التنظيم والضبط الإداري والتنظيم إلا في العشرية الأخيرة، واعتمدت مقاربات زجرية، أكثر منها وظيفية لتصحيح دوره. ويمكن أن يلعب دورا هاما فيما يتعلق بتقليص كلفة تدبير المجتمع وضبطه والحد من الإرهاب، لكن واقع الحال غير ذلك.


تقديم:
يتم تغييب دور أماكن التعبد بالعالم الإسلامي أو على الأقل في دول شمال إفريقيا، كمؤسسات اجتماعية وتربوية قد تؤدي وظيفة غاية في الأهمية، تتلخص في خفض تكلفة تدبير المجتمعات،حيث بإمكان تغيير النظرة إليه والعمل على إعطائه المكانة التي يستحق ستمكن من تحقيق معدات عليا من النمو الإقتصادي، والإصلاحات الكالفينية على الدين الكاثوليكي خير مثال. جعل منها عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر دافعا إلى الانتقال من نظام إقطاعي تقليدي إلى رأسمالية متطورة. ويعود السبب في تبخيس هذه الفضاءات حقها إلى نظرة الدين الإسلامي إليها وخاصة إلى المسجد، الترهيب من الاعتناء به وتزينه وزخرفته، ومن جهة أخرى إلى تأثير الحضارة الغربية الحديثة، التي لم تولي حظوة لأماكن التعبد داخل التخطيط أو العمارة المعاصرة. كانعكاس للقطيعة بين الحياة المدنية الاجتماعية العقلانية والممارسات الطقوسية الروحانية، القطيعة بين الإجتماعي والسياسي من جهة والديني من جهة أخرى. وبذلك احتلت المؤسسات المدنية والديموقراطية مكان الكنيسة ودور العبادة. ولقد كان للفكر الفلسفي الغربي تأثير على نظرة المجتمعات المعاصرة إلى العبادة وفضاءاتها. تأثر الساسة العرب والمسلمون بالنقد الماركسي الصارم والنتشوي العدمي ونقد اسبنوزا للديانة اليهودية والنقد المعاصر لعالم الاجتماع توينبي للدين عموما وللدين اليهودي على وجه التحديد. فإذا كان ماركس يشبه الدين والمخدر ، فإن نيتشه يتحدث عن إعدام الإله، بينما يربط هيغل من خلال جدلية العبد والسيد بين الدين والله. وفي المقابل نجد اسبنوزا الذي انتقد الدين اليهودي من خلال كتابه"رسالة في اللاهوت والسياسة" حيث نال من الدين اليهودي والأسفار وعناصر الديانة اليهودية الأساسية؛ النبوة والشريعة والكهنوت ..
لكن بالرجوع إلى تاريخ الإسلام يعتبر مكان التعبد، وتحديدا المسجد أول مؤسسة فعلية أقامها قائد الدولة الفتية، وذلك عقب إرساء دعائم المساواة والإخوة والسلم. ومن تم أخذ هذا الفضاء يحتل مكانة جوهرية في حياة المسلم، مكان للتعبد أولا، ثم لتربية الإنسان وتدبير الشأن العام ثانيا، ومع ثورة الإدارة في عهد الدولة الأموية بدأ يتم تهميش دور المسجد، بحيث أصبح للصلاة والتعليم، وانتقلت السياسة وتدبير الأمور الدنيوية إلى البلاط كمكان لتدبير أمور الرعية.
وشهدت أماكن التعبد في الإسلام تنوعا، حسب الدور والمساحة وعلاقتها بالدولة، ولقد صنفها داهر علي إلى تسعة أنواع ، المدرسة، الخنقة، الطاقية، الزاوية، الرباط، المصلى، الحسينية(الشيعية)، المسجد والجامع. ورغم التعدد إلا أنها في الأصل مكان واحد. احتلت منذ فجر الإسلام مركز المدينة-الكعبة نموذجا مركز الكون أو اليابسة على الكرة الأرضية- ، ونفس الشيء بالنسبة لبيت الله قباء في المدينة، كان نقطة انطلاق العمارة والبناء بها، ثم أصبح مكانا للتعبد والتقرب وفضاء سياسيا واجتماعيا، يرسم خطط الدولة الفتية ويعمل على نشر القيم والأخلاق الجديدة، يختزل التربوي التعبدي والسياسي الاجتماعي. وبالتالي فالمسجد في تلك المرحلة يقوم بوظيفة مزدوجة، ساهم في نحت مجتمع بملامح جديدة يمكن وصفها عن طريق استعارة مفهوم المجتمعات العاطفية les communautés emotionnelles لعبد الرحمان المساوي، الذي يرى أن الهوية l’identité داخل أرض الإسلام لا يمكن أن تتكون بعيدا عن مؤسسات الدولة، ومن أهمها المسجد.
وعند الحديث عن مكان التعبد في الإسلام تطرح إشكالية التسمية، لكن الطوبونيميا قد تقدم لنا تفسيرات لتنوع هذه الصفات، حيث تعتبر الوظيفة والبنية والعلاقة بين هذه الفضاءات والسلطة العامل الحاسم في ذلك. فعندما يكون المكان بيتا لله، فالقداسة والعصمة والمكانة المتميز ة تقدم له، وعندما يكون زاوية، تكون قدسيته من قدسية الولي أو الشيخ، باعتباره الساهر عليه والممثل لله ورسوله، أما عندما يكون مسجدا معاصرا فإن قيمته وحرمته من حرمة الدولة وقائدها، خاصة عندما ينصب نفسه وليا باسم الدين وأميرا للمؤمنين أو خادما للحرمين. وهنا تختلف وظيفة هذا الفضاء، بين التقرب من الله وعبادته بهدف الجنة، أو بهدف السعادة الدنيوية أو البحث عن الراحة النفسية أو لحقيق مطالب دنيوية(الزواج، العمل، حب الناس، السلطة..). فمكان التعبد إذن والمسجد على وجه الخصوص مظهر لوعي المجتمع ودرجة تطوره وثقافته وانعكاس للإضطرابات الإجتماعية والاقتصادية التي يعيشها هذا الأخير، علما أن الوعي العربي لا يمكنه أن يتخلص من الفكر المزدوج، التفكير القائم على الموروث والأصولية والدوغمائية dogmatique والسلوك البرغماتي pragmatique العقلاني rationnel . وهنا تبدو الأهمية الكبرى لفضاء التعبد.
لكن رغم الوظيفة النظرية لفضاء التعبد إلا أنه لم يعرف نفس الاهتمام الذي حضي به منذ البدايات الأولى للدين الجديد، خاصة بعد تنظيم الدولة وتوزيع السلط القضائية والجبائية والعسكرية كأول ما تم تنظيمه داخل الدولة الإسلامية الأولى، واستمر الأمر إلى اليوم. ولعل المغرب كدولة يتمازج فيها الديني بالدنيوي والأمازيغي بالعربي والأوروبي، تعرف نوعا من الخصوصية وكثيرا من التبعية، لأن الدولة المغربية الأولى قامت على أسس دينية، وهو ما يؤكده كلفورد جيرتز، حيث يرى على أن الدولة المغربية دولة دينية، بحيث تمت تولية إدريس الثاني ملكا لأنه كان حفيدا للرسول وقائدا حربيا ومصلحا في نفس الوقت وهو نفس الأمر مع مؤسسي الدولة الموحدية والمرابطية الذين كانوا مصلحين دينيين.
ومع الأهمية الكبرى لمكان التعبد في الإسلام إلا أن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا المغربية وخاصة الكولونيالية لم تولي أهمية كبرى لمكان التعبد وبالأساس للمسجد، وهو ما يؤكده كل من عبد الله حمودي في كتابه "جدلية بناء انثروبولوجية الإسلام" وعبد الغني منديب . بخلاف الزوايا، التي شغلت بالهم باعتبارها مؤسسات قوية لها أتباع وغالبا ما تتخذ من الجبال مقرا لها، قائمة على مبدأ العزلة أو الفردانية كرد فعل على الفتن. وتعمق هذا التوجه إلى اليوم، حيث يعاني المسجد كمكان للتعبد من جدلية العلاقة بين الديني والسياسي. هذا واستطاعت الدولة المغربية-العلوية- منذ أزمة الملك عبد الرحمان بن هشام من إعادة النظر في طريقة تدبير الحقل الديني، تم بموجبها خضوع الدين الرسمي لمؤسسة السلطان أو الخليفة أو إمارة المؤمنين، حيث أصبح الديني من اختصاص المخزن والدولة العميقة، ومكن من تعميق ذلك عدم اهتمام التيارات التقدمية المفتونة بالإشتراكية والشيوعية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والحرية والمساواة وتوزيع السلط ودمقرطة البلاد، والتي شغلها ذلك عن الاهتمام بتخليق وتحديث الشأن الديني، وهنا يتكشف التأثير الغربي العميق على الفكر السياسي والاجتماعي المغربي المعاصر وأساسا على تدبير المسجد. بحيث لم تعترف هذه المؤسسة إصلاحات كبرى كما عرفتها باقي إدارات الدولة.
ومما يزيد من تعميق أزمة المسجد وطوباويته هو المرضية والازدواجية بين الفكر والممارسة، بحيث للمهتمين بالحقل الديني والسياسي تصورا شموليا holistique، يرون أنه ليس هناك فصل بين الحياة الروحية وبين الحياة الاجتماعية والسياسية، وهو ما يؤكده داهر علي ، لكن مع ذلك لا يولون الأمر أية أهمية ويبقى الحقل الديني بذلك مجالا للهيمنة la mauvance islamiste والتحكم. لكن الديني بالمغرب له تأثير متسلسل l’efffet domino، في حاجة إلى إعادة الاعتبار.
لكن رغم نظرتنا للدين إلا أنه من الضروري أن نقتحم هذا المجال وأن نعيد بناء وظيفة معاصرة للمسجد كفضاء للتعبد، ويمكن في هذا السياق استعارة قولة الباحث والمؤرخ المغربي عبد الله العروي"الظرف التاريخي يفرض علينا أن نغامر ونتقدم في الحقول الملغومة" . فالمسجد كمؤسسة مستقلة قد ينسج فكرا ووعيا مجتمعيا غاية في التجديد والتغيير، وأزمته الحالية نتيجة لتغييبه عن المشهد السياسي والاجتماعي وجعله مجرد مساحة للطقوسية تبدأ فيه وتنتهي بالخروج منه، وأزمته يمكن تشبيهها بما تعرفه اللغة العربية حسب عبد الله العروي، والتي تعيش وضعيتها بسبب فصلها بين الأحداث الحالية وتأويلاتها، فصل بين الرجوع إلى النص وفهمه من الظاهر . لكن رغم أن مسالة تغير النظرة لفضاء التعبد تبقى أمرا صعبا اليوم، فالدين من المتنازع بشأنه، وتزايد الخلاف بعد تولي حزب بتوجهات دينية مناصب الحكم منذ انتخابات 2011 التشريعية، وما زال يسود الحقل السياسي إلى اليوم، ما يحدث نوعا من الرجة غير المسبوقة والاتهامات بتوظيف الدين في السياسي، وهو اتهام قديم حديث، فقد سبق الفيلسوف ذو النزعة السياسية مونتسكيو في كتابه روح القوانين إلى مهاجمة الديني وتشبيهه بالسياسي بحيث كلاهما يبحث عن منافع.
إن المسجد كفضاء للتعبد قد عانى من تسلط النظام المخزني قبل الحماية وأثناءها، وتعمق هذا التحكم أيام الإستقلال، رغم ما قد يلاحظه المتتبع من إصلاحات في العشرية الأولى من القرن الحالي، وكان الخوف من قدرته على التعبئة أيام الإستعمار، بحيث كانت خطب الجمعة فرصة للتعبئة ورص الصفوف وإعلاء الجهاد ضد الكافر والدخيل، ووعيا من الدولة بعد الاستقلال بأهمية السيطرة على هذا الفضاء الذي يوجد بأعداد هائلة داخل البلد، تفوق عدد المدارس والمعاهد والجامعات العصرية، والذي يمكن أن يوظف كأداة لممارسة السياسة، ما دفعها إلى جعله مجالا بعيدا عن السياسة واتخذت هذه الأسباب بذلك مؤسسات دينية قوية، مثل رابطة علماء المغرب أو المجالس العلمية ونظارة الأوقاف، ودعمت الزوايا والمدارس القرآنية العتيقة، التي تسهر على تكوين جيل من الفقهاء المعتدلين. ومع كل هذا لم يعرف المسجد نفس الاهتمام الذي عرفته الإدارة المغربية، مثل التعليم والقضاء والمؤسسات التشريعية وغيرها.
المسجد إذن يمكن من الحشد الجماهيري فهو مجال لأبحاث علم النفس الاجتماعي، مكان للحد من الصراع بين الأجيال، وللتعبئة ضد مشاكل المجتمع(الفقر، الأمية، البطالة، الجريمة، الصحة...)، ومنه لابد من إعادة النظر في دوره، ولن يتم ذلك إلا من خلال اعتماد مقاربة إصلاحية بروتستانتية لوثيرية، تمجد العمل وأخلاق الفعل وليس الانفعالinteraction.إنه مجال للتواصل والحشد الجماهيري la communication de masse لا يتم استغلاله، مكان لتقبل قيم وعقائد مجتمعية شريطة أن يتم الاهتمام بوظيفيته fonctionnalité وبنيته ونظامه، وهذا لا يتأسس دون تطوير أداء موظفيه وتغيير الخطاب وشكله ودوره ومكانته داخل المجتمع وعدم جعله أداة للتوازن والتحكم والاستمرارية.
لا يمكن إعادة الاعتبار للمسجد إلا من خلال إعادة النظر إلى دور المقدس والديني في حياتنا المعاصرة، وهو ما يمكن فهمه من خلال السوسيولوجيا الوضعية لدوركايم، ويبين أسباب اتخاذ جماعة لشيء مقدس، حيث تسعى من خلاله إلى التماسك والاندماج واللاتمايز عن محيطها الطبيعي والإنساني، فالوظيفة الأساسية حسبه للمقدس هي إحداث تماسك للمجتمع وتنشئة أفراده ، وهو ما يؤكده في كتابه " الأشكال الأولى للتدين" ومما يؤكد هذا المثال الذي يضربه الباحث توينيبي عن تحول اليهود لأسفارهم القديمة إلى نصوص مقدسة، حيث لم تصبح كذلك إلا بعد الأسر البابلي وبعد ترحيل 10 أسباط منهم إلى العراق، والدين لم يجدوا ما يتذكرون به دينهم وما يوحدهم ويحافظ لهم على دينهم إلا هذه الأسفار .
ولفهم علاقة المغربي شعبا وحكومة مع المسجد كفضاء مقدس يمكن الرجوع إلى أفكار الانثروبولوجي والسوسيولوجي ايمل درمنغن في كتابه " عبادة الأولياء في الإسلام ألمغاربي 1954"، حيث يرى على أن العلاقة بين المقدس والمكان المقدس أحد المفاتيح الأساسية المؤدية لفهم مختلف أشكال تمظهرات هذا المقدس وتجسيداته"
ولقد تحول المسجد اليوم إلى أداة للتشرنق والانغلاق، حيث ينعزل شيئا فشيئا عن أحداث المجتمع وخاصة عن الظواهر الجديدة(الفشل الدراسي، البطالة، العنف، التشرميل، العنف، السرقة...) وشبه توينيبي الدين كأداة للتشرنق حيث شبه المجتمعات الإسلامية اليوم بما عاشه اليهود قديما بعد فقدانهم لوطنهم على يد جيوش نبوخدنصر البابلي، حيث لم يجدوا وسيلة ليحافظوا بها على دينيهم وعلى مجتمعهم وسط الشتات سوى الدين، باعتباره وسيلة للحفاظ على الهوية والنفس بعد الضياع الدولة، حيث حصنوا أنفسهم بالشريعة اليهودية، وصنعوا لأنفسهم شرنقة تحميهم .
قد يبدو موضوع من هذا القبيل غاية في السذاجة، لكن هذا لن يكون إلا فكرة كل من ينظر إلى أماكن التعبد نظرة مستخفة ولا يستتبع خطورتها داخل المجتمع، فقد لعبت دورا لا يمكن إنكاره على مر التاريخ، خاصة في الديانة اليهودية والمسيحية، ومحاكم التفتيش المسيحية تمثل نموذجا لتسلط وتحكم المؤسسة الدينية من جهة، ومن جهة أخرى تأسس وعي عشية الأنوار بأهمية الفصل بينها وبين الدولة الديموقراطية في أوروبا. وأماكن التعبد كانت ذات أهمية بالغة حتى داخل الدولة الإسلامية، فهي تتخذ العديد من الأشكال، على الأقل ثمانية أصناف(المدرسة، الخنقة عند الفرس، الطاقية عند الأتراك، الزاوية عند العرب، الرباط، المسجد، الجامع، المصلى، والحسينية عند الشيعة) . ومنه فوظيفة هذه الأماكن تتعدد، من فضاء للتعبد وممارسة الطقوس الدينية، إلى مدرسة للتلقين التعاليم الدينية وتحفيظ النصوص القرآنية أو الإنجيلية، كما تؤدي دور مكان للرباط، الصلاة بعد الصلاة والمبيت والاعتكاف، أو تكون مكانا لذكر الله وممارسة شطحات المتصوفة، أو فضاء لإقامة صلاة العيدين في الإسلام. ويعتبر المسجد أو الجامع من أكثر أماكن التعبد أهمية داخل المجتمع الإسلامي، لما له من وظائف جليلة وخدمات كبرى، تقوم على إقامة الشعائر ومدرسة، وإذا كان المسجد مكانا للصلاة فقط، فان الجامع يختزل كل صفات أماكن التعبد في الإسلام.
يكتسي المسجد أهمية بالغة داخل المجتمعات المعاصرة. فهو مؤسسة كباقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى(الأسرة، المدرسة، الإعلام، الأمن ، القضاء، الصحة...)، بإمكانه أن يقلص من نفقات الدولة على التعليم والصحة والتفكك الأسري والحد من البطالة ومن تكاليف تدبير السجون والحد من تلوث البيئة وغيرها من الظواهر الإجتماعية. لكن التمثل السائد عنه يتناوله بمثابة فضاء فارغ من الروح، مكان للركوع والسجود وانتظار الصلاة والإستماع غير الواعي لخطب ودروس غير واعظة ولا ملهمة، مكان منعزل عن الحي السكني، مكان قريب من الأنشطة التجارية أو محاط بها، لأنه لابد وأن يتوفر على مرافق تجارية تكترى من أجل أن توفر له الإستقلال المالي . والمسجد بهذا المعنى مغيب داخل برامج التخطيط الحضري، مغيب كمركز تدور في فلكه كل الأنشطة والمرافق، مثلما فعلت الدولة الإسلامية في بدايتها، عندما وضعت مسجد قباء كأول بناية في الإسلام، أو عندما جعلت من الكعبة مركزا إسلاميا.
ويشهد المغرب كباقي الدول الإسلامي تخلفا كبير على مستوى تدبير الأماكن الدينية، فالقوانين المنظمة لاماكن التعبد وخاصة المساجد، لا تتحدث عن طريقة تنظيمها وضبطها، ولا تتناول مسألة أهمية وجودة الخدمات المقدمة. وما يزيد من تعميق الأزمة أن هذه الفضاءات تخضع في السنوات الأخيرة لسيطرة مسؤولين ليس لهم علاقة بالفكر الديني. وإذا كان الفكر الديني الغربي قد فصل بين الدين والدولة فإن المغرب والعالم الإسلامي لم يستطع إقامة ذلك، لأن الحقل الدينيle champ religieux قائم على إمارة المؤمنين وعلى التدين الرسمي. ومن المفارقات التي قد نجدها داخل المغرب خصوصا أن علماء الاجتماع الأوائل قد اهتموا بالدين ليس لدواعي الإصلاح بل بدواعي التحكم. لقد اهتم علماء الاجتماع والانثروبولوجيون الأوائل بالمغرب بالزوايا وبالتدين المغربي، لكنهم لم يهتموا بوظائف المسجد وباقي المؤسسات الدينية، في حين يمكن فهم دورها من خلال المقاربات الوضعية الدوركايمية " الظواهر نتيجة للمجتمع" أو المنهج المادي التاريخي الماركسي، القائم على أن الظروف المادية والتاريخية هي التي تنتج حادثة أو فكرا أو سلوكا، أو من خلال المقاربة العقلانية الفيبيرية، القائلة بأن تطور الفكر نتيجة للأخلاق الدينية الجديدة "المسيحية".
والمسجد كبناية تتوسط الحي السكني أو تدور في جنباته، مؤسسة بنيوية داخل المجتمع الإسلامي، تتكفل بعدة أدوار، التربية على القيم الدينية والوطنية والإنسانية، وتقوم على ترسيخ مبادئ الأخوة والفضيلة واحترام الوطن وقيمه، واحترام الإنسان وكرامته وحقوقه كيفما كان نوعه أو جنسه، مؤسسة لترسيخ الوعي المجتمعي وتكوينه، مكان لإذابة الإرادة الفردية في إرادة جماعية، هذا ما يجعل منه مكانا لخفض تكلفة تدبير الدولة لمجموعة من الملفات من قبيل الحد من آثار المخدرات والخمور والتقليص منها مكان لترسيخ الخوف من العقاب الأخروي عن التسبب في حوادث السير والقتل فضاء لتشجيع العمل كأسمى تعاليم الدين الإسلامي ومكان لتخفيف العنف تجاه المرأة والطفل والمجتمع بشكل عام. هذه القضايا تكلف البلد وذلك من خلال اتخاذ العديد من المصالح والإدارات الكفيلة بالحد منها، لكن الحل كل الحل قد يكون في هذه المؤسسة التي تقدم إمكانيات كبرى للتعبئة والحد من الظواهر السلبية، والدولة تمللك فضاء أسبوعيا وشهريا وفي بعض الأحيان يوميا للتأطير والتوعية، لكن ما يعجزها هو الفهم أولا والتقصير ثانيا، فهي لا تعي إلى حدود الساعة الأهمية القصوى لهذه المؤسسة، فالمساجد تجمع أكثر من ثلث السكان في صلاة الجمعة، ومن جميع الفئات . وتتعدد النظريات المفسرة للتدين بالمغرب، بين النظرية السياسية مع محمد ضريف ومحمد الطوزي، إلى النظرية التصوفية وعلاقة المسلم المغربي بالتعبد والزوايا ، وبالتالي يصبح المسجد مجالا للعبادة العابرة، لأن العبادة الأصلية توجد في البيت، ويهو ما يذهب اليه جمال فزة في كتابه " التصوف والحداثة في دول المغرب العربي" 2013.
بينما لا يهتم علماء الاجتماع الأوائل بأهمية أماكن التعبد ولا بضرورتها بل يهتمون بتأثير الكنيسة كفكر وكطقوس دينية على عقلية الشباب. أما بالمغرب فقد تشكلت في بداية القرن مجموعة من النظريات الانثروبولوجية المفسرة لدور أماكن التعبد في العمل السياسي. ومن جهة أخرى لا يمكن إغفال الأهمية التي يعطيها رجالا الدين والمفكرون الدينيون للمساجد ودورها التنظيمي والهيكلي وعلاقته بما يحيط به. لكن مع ذلك قد يكون المسجد مكان للسكيزفرينيا الباطولوجية ولإعادة الإنتاج البوديوزية وللتطبيع الاجتماعي الدوركايمي وللحجر الكانطي على طبقات عريضة من المجتمع، بيد أن بإمكانه تقليص نفقات الدولة في مجالات الصحة والتعليم ويمكن من رفع الهمم وتطوير أداء العمال والتحفيز على العمل المربح بدل انتظار الوظيفة، فكيف يتم إذن النظر إليه، هل باعتباره مؤسسة أم مكانا للتعبد؟ هل هو بيت الله أم مكان مقدس؟ أم مجال لممارسة العبادات؟
2-تدبير أماكن التعبد بالمغرب، الواقع والمطلوب:
لم تهتم الدولة المغربية الحديثة بتنظيم الحقل الديني إلا في فترة الأزمات. وكانت أيام الاستعمار بداية للوعي بخطورته، وكان الخوف من تأثير أماكن التعبد وقدرتها على الحشد ورفع الهمم وتأليب الشعب على الإقامة العامة، ولذلك سرعان ما تم التحكم فيها وبالأساس في المسجد. وكان ظهير 1918 أول تشريع منظم للحقل الديني بشكل عصري. ستليه إصلاحات أخرى، وستعرف البلاد بعيد الإستقلال نوعا من الصراع بين رجال الحركة الوطنية المتنورين ورجال الدين الأصوليين، مما يدفع إلى إحداث رابطة لعلماء المغرب سنة 1960، للحد من الإصطدام بين الفكر التقدمي الحداثي وآخر رجعي. هذه الهيأة سيتم تحويلها سنة 2006 إلى الرابطة المحمدية لعلماء المغرب. كما ستعرف سنوات الثمانينات حاجة ماسة إلى الحد من المد الشيوعي عن طريق دعم الحركات الإسلامية، لضمان التوازن، لكن تأثير هذه الحركات بدأ يتقوى ويتغلغل داخل المؤسسات الدينية، مما دفع إلى إحداث ظهير 1984 وكذلك ظهير 2007 وإصلاحات 2003 و2005. وبعد تزايد خطر الإرهاب والمد الإسلامي داخل الدول العربية وخاصة مع الربيع العربي تمت إعادة النظر في طرق تدبير الحقل الديني وخاصة فيما يتعلق بأحوال القائمين على أماكن التعبد، من خلال إحداث قانون تنظيمي لمهام القيمين الدينين في ماي 2014.
والمسجد كمؤسسة دينية إسلامية، تتمتع داخل التشريع المغربي منذ ظهير 1918 بذمة مالية مستقلة، وأهلية لاكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات، حظي بتنظيم محتشم من قبل المشرع، الذي عمل على وضع بعض القواعد المنظمة له، من خلال ظهير 2 أكتوبر 1984، المتعلق بالأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي، والذي تم تغييره وتتميمه بالقانون رقم 29.04 الصادر في 23 مارس 2007. والذي يحدد الفصل السادس منه أماكن التعب على أنها " تعتبر وقفا على عامة المسلمين، ولا يمكن أن تكون محل ملكية خاصة، جميع الأبنية التي تقوم فيها شعائر الدين الإسلامي، سواء منها ما هو موجود الآن أو ما سيشيد في المستقبل من مساجد وزوايا وأضرحة ومضافاتها" ، وبذلك لم يقدم هذا الفصل أي تغيير أو تتميم، بل يعتبر تكريسا للتوجه الذي سبق وأن تبناه المشرع في الفصل الثاني من ظهير 11 فبراير 1918، الذي ينص على "أن جميع المحلات الدينية الإسلامية كالمساجد والجوامع والزوايا والأضرحة وما يلحق بها، الموجودة الآن والتي سيحدثها الأفراد أو جماعات الناس في المستقبل، تكون حبسا على جماعة المسلمين وتبقى دائما مفتوحة لعامتهم لإقامة الدين وأداء واجباته بها، ولا يجوز لأحد أن يملك شيئا منها بوجه من الوجوه". هذا ولقد عمد المشرع المغربي من خلال مدونة الأوقاف الجديدة على السير في نفس التوجه، حيث نص في الفقرة الثانية من المادة 50 على أنه "تعتبر وقفا عاما بقوة القانون على عامة المسلمين جميع المساجد والزوايا والأضرحة والمقابر الإسلامية ومضافاتها والأملاك الموقوفة عليها" .
ويبنى المسجد في المغرب عادة من طرف المحسنين وفق مبدأ التبرع والعقيدة الراسخة"من يبني لله مسجدا في الدنيا يبني له الله بيتا في الجنة". وبخلاف المساجد العتيقة، كالكتبية بمراكش أو حسان بالرباط، التي شيدت بأموال الدولة، جل المساجد بنيت بشكل تبرعي. ولقد كانت الكثير من هذه الفضاءات تخضع لتسيير سكان الأحياء التي تقع فيها، لكن مع تزايد ضغط الدول الغربية بعد أحداث 11 يناير 2001 ومع تنامي المد الإرهابي بعد أحداث 16 ماي 2003، بسطت الدولة منذ 2007 سيطرتها على معظم المساجد وأغلقت معظم المدارس العتيقة، ولم يعد مسموحا أن تسير من طرف السكان أو جمعياتهم، بل تخضع مباشرة وبعد بنائها لوزارة الأوقاف ولمندوبياتها المحلية. لكن هناك مجموعة من المساجد ما تزال تخضع لتدبير السكان وخاصة بالمناطق النائية، بسبب صغرها وعزلتها.
ولقد بذلت مجهودات من أجل إدخال إصلاحات على أنظمة المساجد وخاصة بالمدن الكبرى والتاريخية، ومنها تزويد المساجد بالمكنسات الكهربائية وأدوات شرب المياه وبالكراسي وأغشية الأحذية، ورغم إحداث مجلس لمراقبة مالية الأوقاف، إلا أن المساجد لم تعرف هي الأخرى طريقة لمراقبتها، علما أنها دخلت في إطار ما يسمى بترشيد النفقات الكهربائية وتم ربط كثير منها بالطاقات المتجددة .
لقد لعبت الدولة المغربية دورا فعالا في تطوير أداء الإدارة من خلال خلق لجان للتفتيش، ومديريات خاصة لهذا الغرض في كل وزارة قطاعية، وتم إحداث المجلس الأعلى للحسابات، الذي يسهر على افتحاص ميزانيات جميع المرافق العمومية. ورغم أن وزارة الأوقاف قد عرفت إحداث مجلس للحسابات خاص بمراقبة مداخيلها ومصاريفها، إلا أن هذه المجالس لا تهتم بمراقبة المسجد كمؤسسة قائمة الذات. وبخلاف الجوانب المالية لا يعرف المسجد أية رقابة أو لجان تفتيش بل يخضع للسلطة المحلية، وتبليغ السكان ومرتادي المسجد وشكايات المواطنين. كما أن ظهير 20 ماي 2014 في شان تنظيم مهام القيمين الدينين وتحديد وضعياتهم لا يحدد أية مسطرة للتفتيش أو لبطلان مهامهم بل تحدث عن أسباب إعفائهم من مهامهم فقط. بخلاف مؤسسة المسجد التي تبقى بعيدا عن أي عمل رقابي، دوري أو دائم، إضافة إلى أن تكوين الأئمة وخاصة ذوي التعليم العتيق لا يتماشى مع المستوى الثقافي والفكري لشباب اليوم وعقليتهم، فهم يضربون في واد وشباب اليوم يعزفون ألحانا مختلفة. إضافة إلى أن مؤسسة الأوقاف لا تخضع لرقابة البرلمان أو الحكومة، بل عملها يشوبه نوع الفوقية التي لا يمكن لأحد محاسبتها لأنها ترتبط بشفاعة ملك البلاد. وبالتالي يصبح المسجد ليس إدارة كباقي مرافق الدولة، التي تستفيد من المال العمومي دون الخضوع للرقابة ولا لمعايير الجودة والتميز، ولا يخضع فيها القيمون في ترقياتهم لمعايير التميز والكفاءة ولا الجهذ والعمل.
لا يمكن فهم طبيعة تدبير أماكن التعبد بالمغرب دون الرجوع للمحطات التاريخية، ودون الإيمان بأن أرض هذا البلد تقوم على التعددية وعلى قيم التعايش والتسامح. ومن جهة أخرى هذه القيم كانت نتيجة لمئات السنوات من الصراع الطائفي والديني، كان أخرها صراع الملوك العلويين مع الزوايا الدينية، والذي انتهى باعتقالها للمولى إسماعيل. قبل أن يهتدي أخيرا إلى الصلح، وإعادة النظر في علاقة نظام الحكم بالزوايا كمؤسسات دينية، لها توجهاتها الخاصة ومصالحها. وبالتالي كان من الضروري الاعتراف بها ودعمها، وتشجيعها على الاهتمام بالجانب التعبدي والدعوى والتفرغ له وعدم إزعاج القائمين على الحكم. ومنه تم الفصل بين الزوايا وبين نظام الحكم أو العمل السياسي، وهو الأمر الذي ما زال سائدا إلى يومنا هذا بالمغرب.
ويمكن الحديث عن طبيعة تدبير الدولة للحقل الديني وخاصة المسجد عبر مجموعة من المظاهر، ومنها السيطرة على الزوايا غير الموالية والتضييق على نشاطها، وتقديم الهبات والعطايا للمولية منها، وإعطاء كامل الحرية للكنائس والبيع، ومراقبة المسجد ودور القران بشكل صارم خاصة بعد أحداث 16 ماي 2003. لكن التدبير هنا لا يقتصر إلا على الزجر، بيد أن الدولة وخاصة فيما يتعلق بالمسجد ومنذ 2007 لم تعد تسمح ببناء المساجد إلا تحت موافقتها، ولم تعد تسمح بأن يفتح مسجد خارج إدارتها ومسؤولياتها، خوفا من كل ما قد يحصل. لكن بالمقابل تجاهلت الدولة الكثير من الجوانب التنظيمية في المسجد. ويكمن الوقوف عند بعضها هنا على الشكل الآتي:
1-1-تدبير روحي - ديني:
يمثل المسجد مكانا للإسترخاء بعد عناء اليوم، لكن مع قربه من الأحياء السكنية لا يمتلئ إلا في صلوات المغرب والعشاء. فضاء للطمأنينة وممارسة "الرياضة الروحية". ولذلك فهو يخضع لروح الجماعة، وليس مكانا للتسلط. لكن في المغرب، تتجلى من خلاله سلطة إمارة المؤمنين، رغم أنه لا يتوفر على صور لملوك المغرب، كباقي إدارات الدولة خاضع لوصاية القصر عن طريق وزارة الأوقاف، ففيه ترفع الأدعية عقب صلاة الجمعة وعقب صلاة العيدين لأمير المؤمنين. ويتجلى التدبير الروحي للمسجد في حرص عاهل المغرب على أداء صلاة الجمعة بنفسه في مساجد مختلفة بالمملكة، وحرص ملوك البلد على توفير المصاحف وتقديم هبات(زرابي، مصاحف حسنية أو محمدية، أفرشة، لوحات للزينة..) من وقت لآخر.
إذا كان الكثير من مرتادي المساجد لا يعيرون اهتماما للمسؤول عنها، حيث لا يهتمون بتنظيمها ولا بغياب الإمام عن الصلوات أو بنوعية الخطاب الديني داخلها ولا بمدى تمكن القيمين الدينين من أداء رسالتهم ومدى حسن صوت الإمام وقدرته على تقديم الدروس الدينية في جو من الخشوع، فإن ذلك أمر طبيعي لأن المسجد بيت الله le foyer de dieu، وهو المسؤول الأول عنه، ولا يحق لأحد انتقاد أحواله والخطاب السائد داخله، لأن ذلك يعتبر نوعا من الشرك بالله أو ذنبا كبيرا. مما يجعل منه فضاء يختلف عن باقي المؤسسات والإدارات داخل المجتمع. ولعل خطاب ملك البلاد الأخير ، الداعي إلى تحسين وتجويد خدمات الإدارة، لم يهتم بالخدمات المقدمة داخل المساجد. وهو ما يجعل منه مؤسسة غير خاضعة للنقد أو لمراجعة وظيفتها ودورها داخل المجتمع، لأن في ذلك نوعا من المعصية، لأنه بيت الله المنزه عن كل نقد أو مراجعة.
إن تدبير المسجد إذن لا يمكن أن يتم في ظروف تدبير الإدارة بشكل عام، لأنه لا يخضع لسلطة سياسية منتخبة، بل خاضع لمبدأ الإمامة، وأي نقد لوضعياته فيه نقد لنظام الحكم، كما فيه نقد للمرجعية الدينية، لأن الإمام خليفة الله في الأرض، وهو الذي يمثل الدين، وتقدم الفتاوى ويتم تعليم الناس دينهم باسمه. وتدبير المسجد الروحي والديني لا يمكن أن ينفصل عن جدلية الإيمان والعقل. فهو لا يخضع للعقل، بل يدخل في إطار مقاربة تصديقية، تعتبره مكانا مقدسا، لا يحق فيه النقاش أو الخصام أو النقد. المسؤولون عنه منزهون بحكم تسلطهم المعرفي-الديني، كما يمر عبر استخلافهم من طرف أمير المؤمنين، ناهيك عن أنهم منزهون عن الخطأ لأنهم أصحاب علم وفراسة دينية. وبذلك لا يعرف المسجد أشكالا عقلانية من التدبير مثله في ذلك مثل الإدارة أو المقاولة. حيث لا تحدد له أهداف واضحة، ولا يوضع تحقيق مصالح مرتاديه في عين الاعتبار مثل باقي الإدارات، بل يقدم خدمات لا يستطيع أحد التأكد من مدى تحققها أو نقصانها. هذا إلى جانب أن الوزارة المسؤولة عن بيت الله لا تملك أدوات كافية لمراجعة وافتحاص طرق تدبيره وتقديمه لخدماته.
1-2-تدبير إداري – رقابي:
لا يخضع المسجد كباقي إدارات الدولة لعمليات المراقبة والتفتيش الدورية، فالقانون المنظم لأماكن التعبد لم يتحدث عن ذلك. ويعود السبب إلى تأخر كبير على مستوى عقلنة تدبير أماكن التعبد من جهة، ومن جهة أخرى ينظر إلى هذه الفضاءات الروحية على أنها لا تحتاج إلى مثل ذلك، ما دامت مجالا للإيمان والتقوى والفضيلة، فالواجب الديني والروحي يحتم على القائمين عليها الالتزام بواجباتهم والقيام بمهامهم على أكمل وجه، لأنه لا يتم النظر إليهم كموظفين، بل كوعاظ ومرشدين وساهرين على خدمة بيت الله وليس على تدبير إدارة عمومية. وهنا يصبح المسجد مكانا للعشوائية، ويصبح مرتادوه المراقبون الحقيقيون للساهرين عليه، مما قد ينتج إصطداما بينهم وبين القيمين.
ورغم التحديث الذي شهده المسجد، على المستوى التقني والتواصلي إلا أنه كمؤسسة عمومية لا يتوفر على مواعيد العطل السنوية للقيمين الدينيين، ولا يتم التصريح بالرخص المرضية أو إخبار مرتاديه بالوضعية الإدارية لهم، بل يتفاجأ الكثير منهم بغياب متكرر للإمام تارة وللمأموم تارة أخرى. علما أن السكان لا يدركون على أن مدونة المسجد تمكن الساهرين عليه من رخص مرضية وعطل سنوية وغيرها. هذا ولا يتوفر على تنظيم زمني يحدد مواعيد تنظيف وإعادة ترتيب المسجد، بل يخضع ذلك للصدفة، وغالبا ما يتم قبيل شهر رمضان وقبيل عيد الأضحى.
ومما يؤكد ضعف الرقابة على المساجد غياب التحكم في عملية تزيينها، حيث يتم من حين لآخر تقديم بعض الهدايا من طرف أشخاص، تختلف نواياهم وأهدافهم، وقد تكون بدافع الأجر أو الدعاية والتحكم في القيمين الدينين. وهنا تظهر الإشكالية الأكثر خطورة، كما لا يخضع تحكم السكان في المسجد لضوابط قانونية، حيث يتدخل بعضهم في شؤونه ويمارسون ضغوطاتهم على المسؤولين عنه. ومنها مسألة تغطية ساحات المساجد المكشوفة والخاصة بصلاة الجمعة وصلاة التراويح في رمضان وصلاة العيدين.
إن عمليات الرقابة داخل المساجد خاضعة للواجب الديني وليس لضوابط محددة، فمثلا ليست هناك قواعد لترشيد استعمال الماء والكهرباء واستغلال مرافق وممتلكات المسجد، وخاصة المصاحف والتسابيح والكراسي والزرابي وغيرها. ومن جهة أخرى يطغى على الوزارة المسؤولة عن المساجد الرؤية المالية والأمن الديني، حيث ترفع تقارير من المجالس العلمية المحلية أو نظارة الأوقاف عن الوضعيات المالية للوقف التابع للمساجد، كما يتم الاهتمام بسلوك وخطب الإمام، من خلال الشكاوي المقدمة من طرف السلطة المحلية، وبالتالي فالأمن المالي والخوف من التطرف أو الغلو في الدين هواجس أساسية لمراقبة الحقل الديني وخاصة أماكن التعبد. ولا يتم رفع تقارير دورية عن وضعية المساجد أو عن طريقة تدبيرها أو عن الصعوبات والعوائق التي تعاني منها. ومن جهة أخرى لا يخضع القيمون الدينيون لنظام التقاعد مثل باقي موظفي الدولة، حيث سكت المشرع والقانون عن ذلك، وهو أمر لابد من إعادة النظر فيه، فليس بإمكان القيمين الدينين القيام بمهامهم إلى أرذل العمر. خاصة وأن المسجد يجب أن يتحول إلى مرفق عام . ومن جهة أخرى لا يحدد القانون عدد مرات تنظيف المسجد. لا يخضع المسجد لأية تدابير رقابية ، دورية أو دائمة، سواء ماليته أو وظيفة القيمين عليه. وهو أمر لابد أن تكون له العديد من الانعكاسات السلبية وعلى وظيفتهم ودورهم ومهامهم داخل المجتمع.
1-3-تدبير صحي – جمالي وعقلاني.
بدأت تظهر بالمسجد في العشرية الأخيرة العديد من المظاهر التنظيمية، تم تخصيص أماكن لوضع الأحذية؛ رفوف بين أعمدة المسجد أو أخرى معلقة على جنبات حيطانه أو بنيت داخل هذه الأسوار. واتخذت أكياس لوضع الأحذية حرصا على عدم نقل الأزبال والمياه إلى أماكن الصلاة. وتطور شكل هذه الأكياس من بلاستكية عادية، ذات ألوان مختلفة إلى أكياس يتم صنعها خصيصا لهذا الغرض، وتحمل اسم وقف على المسجد أو "خاص بالأحذية" أو أرقاما. ومن جهة أخرى تم الاهتمام بترتيب صفوف الصلاة، حيث تم وضع شرائط لاصقة لهذا الغرض أو وضع خيط مكانها، وتزايد عدد مراوح التهوية والساعات المعلقة للتزيين وبطاقات تدعو إلى إقفال الهاتف النقال، وظهور العديد من الكراسي يستعملها غير القادرين على أداء الصلاة ساجدين، إضافة إلى كراسي صغيرة خاصة بالجلوس عليها، والاحتماء بها من برودة المساجد مع وقاية الظهر من التعب.
هذا وتميزت أماكن الوضوء بظهور أوعية بلاستيكية مخصصة للوضوء، مع تزايد الاهتمام بوضع سخانات الماء من أجل توفير المياه الدافئة للوضوء، وتنامي وضع قطع الصابون. وتكليف شخص بنظافة المراحيض مقابل قدر من المال. مع توفير أحذية بلاستيكية خاصة بالوضوء، يتم قطع جزء منها بهدف الحد من سرقتها. وتم تجهيز الكثير من المساجد بكامرات للمراقبة، هدفها الأساس الحد من الإرهاب، لكن في بعض المناطق، لكن وأيضا للحد من سرقة الأحذية ببعض الأحياء السكنية.
هذا وتزايد الاهتمام على مستوى هندسة المساجد وخاصة الحديثة منها بالنوافذ، بوظائف مزدوجة، للتهوية والإضاءة في نفس الآن. وأصبحت رائحة المسجد أكثر طيبة، بعد أن كان مكانا لإنتشار الرطوبة وما تنتجه من طفيلات وأمراض، مثل الحساسية وغيرها. ولم يعد المسجد مكتفيا بحصير تقليدي رث، بل دخلت الزرابي بكل أشكالها، كمادة لتأثيث المساجد والحرص على جماليتها.
إن التدبير الصحي والجمالي يكشف عن حجم القدسية التي يتمتع بها المسجد كفضاء للتعبد في قلوب الناس، لكن الغريب أن نجد أجمل وأنظف المساجد وأغلى من حيث التجهيزات في مناطق راقية، مشهود فيها التحرر من كل ما هو ديني. إن التدبير الصحي يكشف عن تطور وعي تجاه المسجد، وعي يكشف أن المسجد لم يعد بمنأى عن المجرمين(حالات القتل داخل المسجد) وحالات السرقة المتعددة وعن رغبة بعض رواده والقيميين عليه في الحفاظ على نظافته، فالأكياس البلاستيكية تبين أن الإنسان لا يحترم المسجد، ولذلك تم وضع هذه الأكياس ، اعتمادا لمبدأ التربية بالنظير، وذلك لخلق وعي جديد.
لم يستفد المسجد من نتائج الثورة ضد الإرهاب، فكل الإدارات أصبحت تتوفر على رجل أمن، باستثناء المساجد فهي لا تعرف حراسة لا ليلا ولا نهارا. ولعل الأحداث الأخيرة بالمغرب وما تعرف مساجد مثل العراق واليمن ومصر دليل على الحاجة الماسة لتوظيف رجال أمن خاص بها، لأن المجتمع تحول ومن الضروري أن تتحول طبيعة المساجد كذلك. هذا ومن جهة أخرى فالتدبير الصحي عرف العديد من التحسن، على مستوى الجمالية والصحي والعقلاني، لكن ما تزال العديد من النقائص، التي تحتاج إلى إعادة النظر، ليصبح بإمكان هذه المؤسسة أن تضطلع بالدور المنوط بها داخل المجتمع، ويمكن القول أن التنظيم التقليدي لا يستبق الأحداث، ولا يعتمد خططا استراتيجية مثله في ذلك مثل باقي الادارات، بل يقوم على غياب تقاطع المصالح بين الساكنة والدولة، ويمكن القول كذلك أن الحاجة إلى كامرات وإلى رجال امن للحراسة والحاجة إلى وضع أكياس وملصقات للصفوف وأماكن خاصة بالأحذية كلها تبين أن المسجد لا يؤدي وظيفته داخل المجتمع، كما أنه لم يستطع الرقي بالفكر ولا بالممارسة.
لكن رغم ذلك لم يشهد تدبير الحقل الديني اهتماما كبيرا من طرف المشرع، باعتبار التدين ليس إشكالية سياسية ولا اجتماعية بالبلد، فالمغاربة بحكم التوارث مسلمون، يمارسون طقوسهم بكل أريحية من جهة، وعدم اهتمام رجال السياسة بذلك لأن لهم توجهات تقدمية، تبحث عن مزيد من تحرر الإنسان من الموروث، وتحاول معالجة إشكاليات أعمق، تلك المرتبطة بالحريات العامة ودمقرطة البلد وتحرير الإنسان وإعادة الاعتبار للمضطهدين وقضايا التنمية. وكان بذلك الحقل الديني ليس حقلا لتجاذب سياسي ولا احتقان اجتماعي. بل كان مجال صراع خفي بين "الدولة العميقة" والحركات الإسلامية الوهابية والإخوانية والصوفية. لكن لم تستطع هذه الحركات أن تجعل من أماكن التعبد فضاء للحشد، لأن النظام السائد متحكم في آليات وأدوات تدبيرها. ولم تكن لهذه الحركات استراتيجية واضحة تجعل من المسجد فضاء للوعي أو لتنمية فكر ضد الدولة.
3-وظيفية مؤسسة المسجد بين الممكن والواقع:
المسجد بالمغرب إذن مؤسسة قد تؤدي أداورا حاسمة، لكن إلى اليوم لم يستطع أن ينخرط في دينامية التغيير الاجتماعي والسياسي الذي يشهده البلد. لم يستطع إبطال الممارسات الوثنية، بل تحول إلى طرد الشباب من المساجد، وهو ما يمكن تلمسه من خلال كتابات السوسيولوجين المغاربة الشباب من أمثال الديالمي وعبد الغني منديب أو من خلال كتابات الجرموني أو غيرهم. فهو متخلف عن المجتمع مثله في ذلك مثل المدرسة والإعلام وغيرها من مؤسسات الدولة العصرية. مغيب دوره عن قصد ولأهداف سياسوية. لم يستطع أن يتحول إلى مؤسسة وإدارة عصرية بل ما زالت تسيطر عليه الرؤى والمرجعية الدينية التقليدية، التي تتجاهل الظواهر الاجتماعية المعاصرة، ولقد بينت اكتشافات ميشو بلير وروبير مونتاني وجاك بيرك وغيرهم من الانثروبولوجيين الأوائل بالمغرب أن تخلف الدولة هو نتيجة لتخلف الإدارة وأجهزة الرقابة والقانون والمؤسسات الدينية.
المسجد كأول مؤسسة في المجتمع الإسلامي بعد الأسرة، يمثل الإدارة والأكورا AGORA السياسية والثقافية وحلقة العلم ومختبرا للبحث ومركزا علميا وأكاديمية للحد من اختلالات المجتمع، فعندما يقوم بجميع وظائفه يصبح مؤسسة قوية موجهة ومتحكمة في مصير الأمة. والمغرب كدولة اعتمد الإسلام كدين رسمي دون أن يستغل آلياته الأساسية، ومنها المسجد. فهو فضاء للتخطيط ووضع البرامج العسكرية إبان الخلفاء، ومكان لتدبير بيت مال المسلمين، وبرلمان لوضع القوانين وتحديد المسؤوليات وتعيين الولاة، بيت للتربية الربانية والاجتماعية والحد من الانفلات عن القيم المدنية. مكان للوعظ وفق منهجية الترغيب تارة والترهيب أخرى.
إذن فالمسجد دولة داخل الدولة، وأكبر مؤسسة بها، ولقد عرف نوعا من نقل أدوات وآليات التدبير العقلاني الحديث، عن طريق اعتماد مجموعة من المؤسسات للتنظيم البيروقراطي، الذي يقوم على فصل السلط، وتوزيع المهام والوظائف، وما دام المجتمع الغربي قد تخلى عن مؤسسة الكنيسة، ولم يقم لها دورا داخل تنظيماته وهياكل الإدارة الحديثة، كان من الطبيعي أن لا تعمل دول العالم الإسلامي على اعتماد المسجد كمؤسسة كبرى ذات أهمية في التوعية وتجديد الفكر والوعي. ومنه تم إقصاءه.
ويتخذ المسجد داخل المغرب خصوصية فهو إدارة تابعة للنظام، فرغم اعتباره ملكية مشتركة لعامة المسلمين، إلا أنه من حيث التنظيم والتبعية الروحية فهو خاضع لنظام إمارة المؤمنين. والمساجد بالمغرب بعيدة كل البعد عن القيام بمهامها، والسبب يعود إلى الخلل على مستوى تدبير هذه المؤسسة، فهو مجال للصراع والتسلط والتحكم، مجال للتوازنات والتطبيع، آلية قوية يتم من خلالها صناعة وعي ديني مزدوج. فعند قراءة خطب الجمعة أو خطب الأعياد الدينية أو الدروس الليلية، قراءة ابسيتمولوجية أو تواصلية يتضح أنها من حيث المواضيع، تهتم بقضايا معاصرة سياسية بالأساس، وعند اهتمامها بالقضايا الدينية لا تتناول إلا مواضيع لا تثير جدلا ولا تهدف إلى إحداث وعي ديني حقيقي.
أصبح المسجد مكانا لتمرير خطاب تحكمي، يحاول تأسيس وعي من دون سند ديني ومن دون حجة ولا أدلة شرعية، بل أصبح مكانا للخطاب التاريخاني أو الجغرافي ولتكريس الأعياد الوطنية وتمجيدها، عوض توظيفها في قالب روحي مستند إلى روح الدين، لبعث الهمم. فما تقدمه خطب الجمعة ليس إلا تواريخ فارغة من كل معنى، وما تعرضه من مواضيع ورغم أهمية العناوين وجدتها لا يمكن من جعل المتتبعين يؤمنون بالتغير والإصلاح، بل يجدون أنفسهم يبتعدون أكثر عن الدين الحق. فكثير من الناس لا يصلون باقي الصلوات، وتجدوهم يحرصون على أداء صلاة الجمعة أو صلاة العيدين، علما أن الأصل هو أداء الصلاة بالمسجد وفي وقتها.
لقد استطاعت مؤسسة المسجد إفراغ هذه الفضاء من قيمته وغاياته الأولى، لذلك من ما دامت المناهج الدراسية لا تقدم روح الدين ولا تغرس سوى مجموعة من الطقوس التعبدية الظاهرية، وإذا كان المسجد لا يقدم روح الدين لأمة لا تقرأ فمن الطبيعي أن تتزايد ظواهر خطيرة في المجتمع لأن الضابط الشرعي غير موجود، في الوقت الذي تراعي فيه القانونين المدنية الظروف الاجتماعية للخارجين عن تقاليد المجتمع.
أكيد أن البلاد الإسلامية مغيبة لدور المساجد في إشاعة قيم سامية، أخلاق الاجتماع واحترام الآخرين والإحساس بالانتماء وبث روح الجماعة والتعاون والعمل، التي ما تفتأ في تزايد يوما بعد يوم، هذا من جهة ومن جهة أخرى عندما يكون نتيجة لعمل محسنين أو لتبرعات ساهم فيه الكثير من سكان الحي، يصبح المسجد خاضعا لفئة أو طبقة تتحكم بشكل مباشر أو عن بعد في تدبير هذا الفضاء الترويحي عن النفس بالنسبة للبعض، ومكان لالتزام والواجب بالنسبة للآخرين. فالمسجد قد يلعب الكثير من الأدوار إذا تمت عقلنة تدبيره:
• إدارة تمكن من اقتصاد العديد من الأموال، الحد من الجرائم وخلق مواطن واع بقيم وطنه ومدعم لإنتاجه؛
• حفز العمل والجهد، وبالتالي خلق الثروة وفرص الشغل؛
• ضمان نوع من التضامن والتعاون والاتحاد بين الشعب والدولة؛
• خلق أجيال واعية ومفكرة ومبدعة ومنفتحة.
4-المسجد تمظهر لازدواجية تدبير أماكن التعبد(حالة المغرب).
إذا كان المسجد مؤسسة عمومية هدفها الصلاح المجتمعي وليس صلاح الفرد وحده، فإن المتتبع لأحوال البلدان العربية، يلاحظ تعددا في أنواع الجرائم؛ جرائم الإغتصاب ضد الأطفال والأبناء وقتل الأصول، وتعاطي المخدرات والزنا والسرقات والرشوة، ويلمس غيابا صارخا لدور المسجد داخل المجتمع في التأطير والتعبئة وتشكيل الوعي. وغيابه أمر طبيعي إذا لم يسند له دوره التربوي، الترغيبي منه والترهيبي، فحتى خطبة الجمعة والدروس الليلية تم إفراغها من مضمونها الروحي، وهنا نتسائل عن دور مؤسسة ضخمة بأعداد كبيرة، حاضرة في كل الأحياء. قد تكون لها وظائف تربوية واجتماعية وثقافية وأخلاقية ووقائية. مؤسسات لا تقوم على خدمة مصلحة فردية ضيقة، من خلال الرقي الروحي والأخلاقي، ولا تؤثر في الجماعة. بل يكاد لا تجد من لا يذكر ما يقوله الخطيب. وبديهي في ظل غياب منبع للتدين المشهود داخل مؤسسة المسجد يبحث الكثير من الناس عن تدين قد يكون متشددا في قنوات فضائية عربية أخرى. قد تصدر الاختلاف والتحيز والتحامل في كثير من الأحيان، وعلى النقيض من ذلكالوعي المجتمعي بالفصل بين الديني والاجتماعي.
إذا كان التعليم والبيئة وحقوق الإنسان كقضايا كبرى قد عرفت نوعا من التوافق من أجل صياغة ميثاق خاص بها، فإن الحقل الديني ومؤسسة المسجد في حاجة إلى ميثاق. فهو كفيل بالحد من نفقات الدولة الزائدة، سواء على مستوى الصحة أو التعليم(الفشل الدراسي) أو الأمن والصناعة وغيرها. فعندما يقوم المسجد بدوره في الوعظ والتثقيف والتوعية يساهم في الحد من الجريمة، ويمكن من رفع نسب التعليم والتحصيل العلمي ويحد من الهدر المدرسي ومن العنف داخل المدرسة واتجاه الآباء والمجتمع عموما، ويساهم في تكوين وعي بأهمية المحافظة على الصحة كهبة إلهية، ومنه يقلص من نفقات التطبيب وغيرها. وبذلك تمكن هذه المؤسسة من ترشيد نفقات الدولة.
عندما يسهر أمير المؤمنين على تدشين المساجد بنفسه يصبح لهذه الأخيرة قيمة عظيمة داخل البلد. لكن إذا كان هذا من حيث الرسائل الموجة من القائمين على الشأن الديني، وذلك بالتأكيد على الزواج الكاثوليكي بين نظام الحكم وأماكن التعبد، فإنه بالمقابل تكشف لنا الرسائل الوظيفية لهذه المؤسسات عن فكر آخر، ليس فكرا تغييرا ولا مدمجا للمؤسسات الدينية "المسجد في سياقات التنمية البشرية"، فالتنمية معاقة لأنها لا تهتم بالجانب الروحي عند الإنسان المغربي. خطب الجمعة فارغة، والدروس الليلية لا تسمن ولا تغني من جوع، خطباء لا يتقنون الكلام ولا فن الإلقاء أو الخطابة، مواضيع لا تلامس الاحتياجات الحقيقية للمواطنين، من أكثر الأمثلة "ظاهرة التشرميل" أو السرقة بالعنف أو المخدرات كظواهر دخيلة من الممكن الحد منها عن طريق تفعيل دور المساجد وجعلها قاطرة للتنمية.
إن طريقة تدبير أحذية الوضوء وترك المراحيض متسخة بعد استعمالها وسرقة الأحذية من المساجد وتركيب كاميرات للمراقبة كلها تؤكد أن رواد هذا الفضاء التعبدي يعيشون نوعا من البعد الروحي، فمهمتها فاشلة، لأنها لم يستطع القيام بدورها في التأطير والتوعية، من خلال غرس قيم الاحترام. ومن جهة أخرى إن ظهور ممارسات جديدة داخل المساجد من قبيل أكياس للأحذية وتحديد أماكن الصلاة بشرائط يبين وعي مجتمعي آخذ في التنامي بضرورة تدخل ساكنة الحي في تنظيم المسجد لأن الدولة لا تقوم بمسؤولياتها، ولا تريد أن تسمو بهذا الفضاء إلى درجة الإدارة العمومية. فالمسجد الذي لا يستطيع توعية المصلين بأهمية الحفاظ على الهدوء وعلى الالتزام بقواعد المسجد واحترام المصلين وعدم إزعاجهم خاصة من طرف النساء لحظة تقديم الدروس أو عند اصطحابهن للأبناء إلى المساجد، إضافة إلى تنامي ظاهرة الصلاة في صفوف متقطعة خاصة في صلاة التراويح والصلاة على سجاد مع مسافات متباعدة عن الآخرين.
عندما يتقاطع في المسجد كمؤسسة تعبدية الروحي بالمؤسساتي، وعندما يغيب التنظيم العقلاني، وتسود العلاقات غير الإنسانية، ويسطر نظام إمارة المؤمنين، ولا يتم إخضاع الحقل الدين لسلطة سياسية، وعندما يصبح المسجد وسيلة لتصفية الحسابات مع الحركات الدينية المتطرفة، يبتعد هذا الفضاء عن أداء الأدوار المنوطة به، يصبح فقط مجرد مكان لا قيمة له، لأنه ينشر قيم الدين المزيف. ولا تختلف خطورته عن الكنائس التقليدية وما تقدمه للفرد الأوروبي في عصر النهضة من مغالطات. عندما يكون المسجد امتدادا للذات الإلهية ويتمتع بالقدسية ولا يمكن نقد القائمين عليه أو محاسبتهم يصبح بمثابة إدارة لا فائدة منها.
إن تدبير الحقل الديني بالمغرب يوضح ما توصل إليه بيير بورديو كنظرية لإعادة إنتاج المجتمع. حيث تقوم الدولة بمقاربتين مختلفتين، محاولة الإبقاء على الحياة الدينية بشكلها المتوارث، والذي يمكن من استمرارية السلطة الدينية والسياسية دون تغيير. ولذلك تتجاهل المساجد، وتدعم الزوايا، باعتبار هذه الأخيرة تمثل قوة دينية وسياسية موالية للدولة، ويقول عبد الغني منديب" الدولة تدعم الزوايا كمؤسسات دينية من خلال الاهتمام بزعاماتها، ويتجلى الدعم في أقصاه عند تنظيم المواسم والهبات الملكية وزيارات كبار المسؤولين لأنشطتها ونقل احتفالاتها عبر القنوات الرسمية" . فالدولة تكافئ الزوايا على ولائها، وتمتعها بهامش من الحرية، وتتحكم في المسجد بشكل صارم. لأن الديني أو المؤسسات الدينية كانت دائما في خدمة السياسي أو المخزني بالمغرب على الأقل منذ سنوات الثلاثينيات إلى اليوم، وهو ما يؤكده بلال يوسف من خلال كتابه "le cheikh et la calife" . لكن هذا الوضع الذي يعيشه الحقل الديني بالمغرب وخاصة طريقة تدبير المساجد بمثابة الشجرة التي تخفي الجبل، لأن الصراع لا يمكن تجاهله، كمبدأ يتمظهر بقوة بين التدين الرسمي والتدين الشعبي. ولذلك يقول منصور أشرف "الصدام داخلي وليس خارجي بين طبقات عليا أو الدولة وبين مجتمع تقليدي إسلامي" .
إن تدبير المسجد والحياة الدينية بالمغرب يكشف حجم التواطؤ بين الهيئات السياسية والدولة المخزنية. فالكل ينطلق من جذور دينية، لكن يتعاملون بالفصل بين المجتمعي والروحي التعبدي، وهنا يقول الانثروبولوجي والسوسيولوجي كلفورد جيرتز على أن الحياة الدينية بالمغرب تقوم على الازدواجية بين عقيدة البركة وعلمانية الحياة اليومية . وفي نفس السياق يقول حسن أوريد "إن مكانة الدين داخل الفضاء العمومي واحدة من الأسئلة التي ينقسم حولها المجتمع" . وهنا تتم محاكمة الإسلام السياسي كسبب وراء إغلاق المساجد والحد من المد الديني وتغير سياسة الدولة اتجاه الدين بشكل عام.
إن الغريب في المغرب أنها دولة إسلامية ودينية، تقوم السلطة فيها على أسس دينية، لكن السياسة فيها تنزع نحو العلمانية، حيث يرى الانثروبولوجي جيرتز على أنها كذلك فإدريس الثاني يعد أول ملك للمغرب كان في الوقت نفسه حفيدا للرسول وقائدا حربيا ومصلحا إسلاميا ومجددا والصفتان الأخيرتان تعتبران العامل المحدد فلولا توفرها لما أصبح هذا الرجل في الغالب ملكا" ، ويقول جيرتز أيضا إن التاريخ المغربي ديني بالأساس، فالشخصية الصانعة لهذا التاريخ كانت دينية بالدرجة الأولى"
إن تدبير المسجد كفضاء للتعبد لا يمكن أن نتجاهل فيه دور العقلانية الرسمية بتعبيرات ماكس فبير، ولا يمكن أن نتجاهل فيه دور المقاربات الماكيافيلية، التي تسيطر على أنظمة الحم في الكثير من دول العالم العربي، ف فهذا الفضاء ما زال يخضع للبركة وللهبة الإلهية بتعبيرات مارسيل موس، وفضاء للتضامن المجتمعي وان كان الأمر ليس بالمعاني التي تناولها دوركايم، ولكن بتعبيرات طبقاتية فوقية ماركسية، وهنا يصبح المسجد " العلبة السوداء" الأخطر داخل المجتمع، يصعب دراسته واختراقه، ويصعب التجريب عليه أو الاختبار فيه، لأنه قلعة محصنة.
إن المسجد كفضاء عبثي بهذا المعني وكتعبير عن وعي مجتمعي يؤدي إلى تزايد ظاهرة الانتحار، لكن ليس بتعبيرات دوركايم، بل انتحار ايديولوجي وفكري، سببه عدم أيجاد الذات فيه وفي العي والدين المقدم فيه، ما يدفع إلى البحث عن بديل للتدين المرغوب، وان كان فيه نوع من التشدد. إن تطبيق مبادئ التدبير العقلاني أو الإنساني أو القيادي أو البيروقراطي، يكشف لنا حجم الخلل داخل هذه المؤسسات، التي تمارس قمعا ايديولوجيا بتعبيرات عالم الاجتماع ماكس فيبر، وتكرس الطبقية، بتعبيرات نظرية إعادة الإنتاج البورديوزية. فالتفكير في الإصلاحات السياسية والديموقراطية وتحديث الإدارة وتشجيع مقاربات النوع والرفع من معدلات التنمية(التعليم، الصحة، البطالة..)لا يمكن أن تتحقق من دون إعادة النظر في دور المسجد.




لائحة المراجع الأساسية:

 مراجع بالفرنسية:

• Daher, Ali, les lieux de culte islamiques et l’immigration, le cas montrealais, les classique des sciences sociales, 2011.
• Moussaoui, A., « BELAL Youssef, Le cheikh et le calife. Sociologie religieuse de l’islam politique au Maroc, Lyon, ENS éditions 2011, 334 p. », Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée,135 / juillet 2014, consulté le 20 mars 2017.
 مراجع بالعربية:
• امزيان ، محمد، التاريخانية والمقدس، قراءة في كتاب "السنة والإصلاح لعبد الله العروي، مجلة قضايا فكرية معاصرة، المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية، الرباط، العدد 1، 2016، ص 145-159.
• بيهي، سعيد، الأنوار الساطعة على ركائز تدبير الدين النافعة رؤية شرعية لسياسة تدبير الشأن الديني ، مطبعة Force Equipement الدار البيضاء الطبعة الأولى ،2011.
• العروي، عبد الله، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، ط 1، ص 163.
• فزة، جمال، التصوف والحداثة في دول المغرب العربي، 2013.
• ضريف، محمد، الحقل الديني المغربي – ثلاثية السياسة والتدين والأمن، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع ، ط 1، 2017.
• منذيب، عبد الغني، الدين والمجتمع، دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، افريقيا الشرق، 23006، ص 58.
• منصور اشرف، الرمز والوعي المجتمعي، دراسة في سوسيولوجيا الأديان، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010، ط 1، ص 16.
 قوانين
• ظهير 11 فبراير 1918 المتعلق بإخضاع الأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي لمراقبة وزارة الأوقاف.
• ظهير رقم 1.07.56 صادر في 3 ربيع الأول 1428 (23 مارس 2007) القاضي بتطبيقالقانون رقم 29.04 الصادر في 23 مارس 2007 المتعلق بالأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي، الجريدة الرسمية عدد 5513 بتاريخ 02/04/2007 الصفحة 1105.
• ظهير شريف رقم 1.09.236 صادر في 23 فبراير 2010 المتعلق بمدونة الأوقاف، الجريدة الرسمية تحت عدد 5847، ص 3154.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر دولة مسلمة في العالم تلجأ إلى -الإسلام الأخضر-


.. #shorts - 14-Al-Baqarah




.. #shorts -15- AL-Baqarah


.. #shorts -2- Al-Baqarah




.. #shorts -20-Al-Baqarah