الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 3

دلور ميقري

2018 / 2 / 15
الادب والفن


الصدى الصامت للذكرى الحزينة، والمخزية في آنٍ واحد، كان من الوضوح في ملامحه أنه أسترعى انتباه الضيفة. داخله، كان إذاك أنشودة تردد لازمةً لطالما عذبته في ماضي وحدته، المُقيمة: " لا، لم يكن في مقدورها أن تحبني.. لم يكن ذلك من حقها، أيضاً! ". لحُسن الحظ، أنّ هذه النوبة من الحزن قد قطعها، أخيراً، صدى آخر لا علاقة له بالذكرى. إذ تناهى عن قُرب وقعُ الخطى الثقيلة لمرافقة الخانم، والذي ما لبثَ أن اخترق الصمتَ الجاثم في حجرة المطبخ. فهبّ المسيو فجأةً من مجلسه، دافعاً كرسيه إلى الخلف في نزقٍ وكأنما يُحمّله وزرَ الذكرى. المرافقة، وكانت تقف عندئذٍ على عتبة الحجرة، أفتر فمها الغليظ الشفتين عن بسمة ساخرة بالكاد تلحظ، قبل أن تبلغ " الكَاوري " بانجاز مهمّتها ـ كجزّارة لطرائد اللحم الحلال.
" عذراً يا عزيزتي، سأعود إليكِ حالما أنتهي بدَوري من مهمّة تحضير الشواء "
قالها العجوزُ بالفرنسية للخانم، وقد اكتست غضون وجهه بتعبير طفلٍ خجول أرتكبَ زلّة ما. هزّت رأسها، دلالة على التفهّم. مع أن داخلها، المتهّكم بلا رحمة، كان له رأيٌ مغاير: " وعلامَ الاعتذار، فيما لو أصررتَ على شيمة الصمت! ". القلق بشأن نجاح مهمتها، قد جعلها ولا غرو نافدة الصبر. تدبّرت الأمرَ، كما وسبقَ لها أن تفكّرت فيه ملياً، لدرجة اليقين باستبعاد الفشل. ليسَ ذلك بخصوص " فرهاد " حَسْب، بل وشمل أيضاً امرأته على ما فيها من دهاء ومكر. مثلما أنّ الأمرَ ليس خطة محكمة، بقدر ما هوَ خطوط عامة.
في هكذا حالة، اعتادت أن تطرحَ جانباً عواطفها الشخصية كيلا يخونها سدادُ الرأي ورزانة الفكر. ولكنها في التعامل مع سكرتيرها السابق ذي الشعور المرهف، تحتاج ولا شك إلى إيلاء المزيد من العناية لجانب الرقة والطيبة. فلم يكن عبثاً، مجيئها إلى الضاحية صُحبة المرافقة. لأنّ الخانم لو اصطحبت سكرتيرها الجديد، المتألق الوسامة، فلا يمكن ألا يثير ذلك غيرة في غير محلها لدى " فرهاد ". زوجته، من جانبها، ستعلم اليوم أو غداً ( على لسان المسيو على أغلب الظن )، أن المرافقة الجديدة امرأة لا تملك حظاً من الجمال فضلاً عن أنها ورعة وتقية. بعدئذٍ ستتقدم منهما الخانمُ بعرضٍ مُغرٍ، تأمل ألا يرفضانه وهما في حالتهما المزرية الراهنة.

*
" سوسن خانم " ثابت إلى هدوء البال، حينَ تعيّن على مضيفها أن يذكّرها لاحقاً بحقيقة طبع الفرنسيين وأنهم لا يجيدون الثرثرة سوى على مائدة الطعام. بيْدَ أنه كان على هذا الطفل العجوز، وبشكل لا يعوزه التكلّف، أن يوحي للمرأتين بمقدار ابتعاده عن مسقط رأسه مسلكاً وعقليةً وليسَ فقط مسافةً وزمناً. طوال وقت تناولهم الطعام، ترجّل الرجل عن جواد اللغة الفرنسية ليمتطي جواده المفضّل. لقد أجاد المسيو المحكيةَ الدارجة أفضل بكثير، ولا ريب، من السيّدة السورية. في المقابل حرصت هيَ خلال تلك الساعة، التي استغرقتها الوليمة، ألا تفاتحه بالسبب الحق لزيارتها. ففي أعمالها، كانت معتادة على المكاشفة الخلوية بعيداً عن حضور آخرين لا يعنيهم الأمر ـ كمن يخدمونها في المكتب، سواءً بصفة المرافق أو السكرتير.
" أكنت تراه ضرورياً، الاستغناء عن تقديم النبيذ على المائدة وذلك مراعاةً لمشاعرنا كمسلمين؟ "، سألته حالما أختلت معه في الصالة. عيناه الغائرتان، حدّقتا بالوهج المنبعث من الحطب المشتعل في الموقد. الجو، وبالرغم من كونه ربيعاً مبكراً، فإن لياليه كانت ما ترين باردة. قبل قليل، كان المسيو يقول لمضيفته أن البرد يمنعه من التجول خارجاً. فسألته عند ذلك، ما إذا كانت الضاحية على هذا الحد من الأمان ليلاً. وكان قد أجابها غامزاً بعينه، أنه أضحى مذ زمن بعيد مواطناً لا مقيماً. هو ذا يستعد الآن للرد على تساؤل الخانم، فما لبث فمه أن انفرج عن ابتسامة مقتضبة. أومأ برأسه إلى ناحية المرافقة، المنزوية قبالتهما في أقصى الصالة، قائلاً بالفرنسية وبصوت منخفض: " أنتِ بالطبع، تقصدين مرافقتكِ المغربية. يمكن أن يكون الأمرُ كما تفضلتِ، لو أنني كنت حديثَ عهدٍ بالإقامة في المغرب. ولكنني أظنني عرفتُ أشياء كثيرة، عن هذه البلاد، خلال الأربعين عاماً المنصرمة. بمجرد أن يعلن المرءُ إسلامه ـ وأعني الكَاوري ـ يصبح في حلّ من المحاسبة عن أيّ انتهاك يرتكبه بحق محرمات الدين؛ كتعاطي الخمر على سبيل المثال... "

*
" نعم، لقد لحظتُ بنفسي أن الزنا أيضاً يعدّ شأناً خاصاً بالأجانب، يمكن التغطية عليه من جانب المجتمع "، قالت الخانم مشددة على المفردة المحرّمة. لعلها شاءت أن تقاطع مضيفها، لأجل فكرة معينة خطرت لها خلال إنصاتها للجملة الأخيرة في حديثه. الأقاويلُ تلك، حولَ دم " الكَاوري " المتغلغل في عروق مرافقتها السابقة، كانت ما تنفكّ ترفرف فوق رأس الخانم ـ كالوطاويط الهائجة، المنتشرة في ظلام ضاحية النحس هذه.
ربما أدرك المسيو، بنباهته وذكائه، كنه فكرتها المَعلومة. إذ دارى احمرار وجهه بابتسامة تكاد أن تكون ساخطة، قبل أن يستمر بكلامه: " كنتُ شاباً إذاً، لما جئتُ كي أستقر هنا. الحقيقة فقد كان ينقصني آنذاك الاحتشام والتحفظ، أكثر من التجربة والمعرفة. كنتُ متزوجاً، ولكن امرأتي لم تستطع اللحاق بي إلى المغرب إلا بعد مضي نحو ثلاث سنوات على وصولي إليه. وأعترف، بأنني كانت لي حياة سرية حتى بوجودها إلى جانبي ". توقف الرجلُ عن الكلام. بقيَ يتملى في ملامح محدثته، وكما لو أنه يبغي سبرَ أثر حديثه فيها. اهتبلت هيَ الوهلة السانحة، كي تحاول حرف اتجاه الكلمات. ربما شعرت بالحَرَج، مثله سواءً بسواء، لتهاوي الحديث في بئر الماضي؛ في بئرٍ شبيه بذاك الذي عثروا فيه على جثة والد " الشريفة ".
" كنتُ أعتقد كذلك، أن خلوّ مسكنكَ من كلبٍ ما عائدٌ لمراعاتك المشاعر الإسلامية؟ "، تساءلت بنبرة متفكّهة وهيَ تشير بيدها إلى لوحة فنية تمثل ذلك الحيوان الأليف. رفعَ المسيو رأسَه إلى ناحية اللوحة، فتأملها بعينين ينعكسُ فيهما، كمرآتين، أطيافُ الماضي الآفل: " لقد رسمتها منذ عهد بعيد، وكان كلبي ما يني يانعَ العظم. بعد موته عن عُمر معقول، آليتُ على نفسي ألا أقتني كلباً آخر كي لا يسبب لي رحيله ألماً ليس بطاقتي احتماله وأنا في سنّ الشيخوخة "، قالها بلهجة رجلٍ باتَ يُدرك قدَرَ وحدته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة