الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر الإسلامي و إشكالية القطيعة .

مهدي جعفر

2018 / 2 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقوم مختلف المجتمعات القديمة على تكوين موروث ثقافي يجيب عن أهم أسئلة الإنسان الوجودية ، كما يصوغ نموذج الفعل الإجتماعي و الأخلاقي و السياسي ، و ذلك ما يخلق بنية عشائرية أهم وظائف ثقافتها هي إبعاد أفراد هذه العشيرة عن الشرود ، الذي قد يؤدي إلى ما يسميه الأنثروبولوجي الفرنسي "إميل دوركايهم" بالأنومي أو ضعف الإنتماء إلى المجتمع ، لذلك تعمل الثقافات بواسطة أديانها و أساطيرها و عاداتها على ضمان حد أدنى من اللحمة الإجتماعية بين أفراد جماعة أو عشيرة ما ، و بهذه الطريقة تتقلص الفوارق و الإختلافات بينهم ، ما يجعل حياتهم تتأسس على التشابه و الأحادية و ليس على الإختلاف و التعدد .

بالإضافة إلى ذلك ، تتميز ثقافات المجتمعات القديمة بالجثوم أما حياة أسلافها ، فلا تقعد إلا كما قعدوا ، و لا تجلس إلا كما جلسوا ، و لا تحكم إلا كما حكموا ، و لا تقرأ إلا ما قرؤا و لا تتعلم إلا ما تعلموا . أو بكلمة علمية ، تحافظ الثقافات القديمة على "نظرية المعرفة" بمعناهى الإبستمولوجي الذي ترثها عن أجدادها ، ذلك بما تتضمنه من معنى العالم و الذات و الماضي ، و الآخر الذي لا ينتمي لثقافة السلف ، و نمط السياسة و الحكم ، ثم المصير أي ما بعد الموت .

أما ثقافة المجتمعات الحديثة ، فإنها تقوم على "القطيعة" مع موروث أجدادها ، و تصوغ نظرية معرفتها الخاصة بالعالم و الطبيعة و الإنسان ، و تخلق نموذج حكم و سياسة جديد ، كما تبدع منطق فعل أخلاقي مغاير ، و ذلك ما يفتح أمامها سبل اكتشاف ما لم يكتشفه أو يعرفه أسلافها ، الإكتشاف الذي يعد أساس كل مبادرة إنسانية تروم التقدم و التطور و الإرتقاء . لا يحصل ذلك إلا عن طريق إحداث قطيعة مع نمط تفكير الأجداد و إبداع نمط تفكير جديد هو أقرب إلى روح زمن الخلف منه إلى عبق أيام السلف ، و في ذلك تظهر أحد أهم سنن الطبيعة و الحياة ، و هي التغير و التبدل و التقدم ، إذ أن كل ظواهر الطبيعة تتعرض للتغير و تتميز بالإختلاف ، و ذاك نفس ما يتصف به تاريخ الإنسان .

غير أنه يبدو أن التغير و التجديد كأهم سنن الطبيعة ، تعارضه بعض الثقافات الجاثمة أمام العالم و ليس الواقفة بإزائه . لعل الثقافة الإسلامية بمعناها "السياسي" في الوطن العربي تعد أبرز و أوضح نموذج عن ذلك ، إذ يرفض الإسلامي مصدر المعرفة المعاصرة و هي "العقل" و يُصر بأن مصدرها "الغيب" حصرا ، كما يرفض نموذج أخلاقي معاصر و لا يقر نموذجا أخلاقيا إلا ما ما أقره السلف ، يستنكر نمط الحكم الجديد و يصفه بالجاهلي و يستمسك بنمط حكم عتيق بيننا و بينه من الزمن آلاف السنين ، يلعن و يكفر أهل الأرض كلهم و لا يستسيغ بأن منطق التكفير لا يتيح سبل العيش في عالم مُعَوْلَمٌ ، كل شيء فيه مرتبط بكل شيء ، فكيف تكفر من يصنع لك حتى السجاد الذي تصلي عليه .

لكن المفارقة ، عندما تجد إسلاميا يستعمل و يتمتع بشكل الحياة الحديثة و في نفس الوقت يكفر من أبدع هذه الحداثة ، فلو قلت لسلفي: إذا أردت أن تحرث أرضا فاستعمل المحراث الخشبي القديم ، لتعجب و رد عليك بأن البشرية اخترعت المحراث البخاري الجديد الذي يتحرك بالديازيل و ليس بالدابة . لو اقترحت عليه أن يكتب رسالة لأخيه في أقاصي الأرض ، و يبعثها مع مرسول يوصل الرسالة على قدميه أو عبر حصان ، لضنك أهبلا و رد عليك بأن البشرية طورت وسيلة تلحق الرسائل بأهلها في ثوان فقط . أما لو اقترحت عليه أن نسافر بعيدا عن طريق دابة أو فُلك ، لشك في عقلك و قال: البشرية اخترعت الطائرة توصل المسافر حيث ما يريد في ساعات بل دقائق . غير أن مع تمتع السلفي الإسلامي بكل مخترعات الإنسانية الجديدة ، لو عرضت عليه ، تأسيس الدولة على أساس المواطنة الجديدة ، و السياسة على أساس العلمانية الجديدة ، و المجتمع على أساس القانون الوضعي الجديد ، لكفرك و لعنك و هددك بالويل و الثبور و عظائم الأمور ، و لاستمات في المطالبة بدولة إسلامية و تطبيق الشريعة التي يقطع كل عاقل باستحالة عودتها في ثوبها السلفي القديم.

و ممن أجمعوا على هذه الإستحالة ، أهم المفكرين -من غير السلفيين- الذين ظهروا في العالم الإسلامي، من بينهم الثلاثة الكبار المغاربيين ، "محمد عابد الجابري" ، "محمد أركون" و "عبد الله العروي". إذ لاحظ الجابري أن العقل العربي انحط عندما تحالف العقل العرفاني -الصوفي- مع العقل الفقهي ، و هو ما هَمَّشَ العقل البرهاني أو الفلسفي أو العقلاني ، الذي أتبث التاريخ أن لا نهوض و لا تحضر إلا بعقل برهاني ناهض و متحضر ، و كحل لمعاودة النهوض يقترح الجابري إحداث قطيعة مع العقلين البياني و العرفاني ، و بالمقابل إحداث "الوصال" بين المسلمين و العقل البرهاني ، أي العقل الفلسفي و العلمي ، الذي ينزع إلى التقدم و الإرتقاء و هو ما من شئنه أن يسهل قيام الحضارة المنتظرة ، عكس العقل البياني و العرفاني الذي يتميز بالنكوص و بمنطق قياسي إلى ما فات ، و الذي غير مهتم بالتنظير لأسس جديدة ليقوم عليها المستقبل.

أما "أركون" ، فقد لاحظ أن تراث المسلمين (حتى لا نقول تراث الإسلام) أصابه الجمود و التكلس في مختلف مظاهره نظرا لتحالف الخليفة مع الفقيه ، أي تحالف الدين مع السياسة ، ذلك ما دعاه إلى المنادات بتحييد الدين من حقل السياسة ، ثم إحداث قطيعة "جزئية" مع الأسس الفكرية التي تقوم عليها ثقافة المسلمين ، سواء البيانية أو العرفانية أو البرهانية ، و هو ما من شأنه أن ينتج ثقافة جديدة قد تيسر الطريق نحو الخروج من حالة العطالة الحضارية ، التي يعيش فيها المسلمون منذ ما يقارب سبعة قرون .

من جانبه فإن "العروي" يتجاوز الموقفين السابقين ، و يرى بأن لا سبيل للإنخراط في الحداثة و الحضارة إلا بقطع تام مع تراث السلف ، حيث ينظر هذا المفكر إلى الثقافة التي أنتجها المسلمون في القرون السابقة على أنها لا تتلاقى و لا تتوافق في شيء مع ثقافة عصر الحداثة الذي نعيش فيه ، ما يستدعي لا الإستمساك بشيء من تراث السلف و ترك أشياء كما دعى إلى ذلك الجابري و أركون ، بل يقتضي ترك كل ما لو علاقة بثقافة السابقين ، و بالمقابل إبداع تراث حداثي لا يرتبط بأي علاقة مع تراث الأجداد . لأنهم لم يعيشوا إطلاقا ما يعيشه الأحفاد من مشاكل لم تكن لتظهر إلا في هذا الزمن ، ما يستلزم إبداع مخرج جديد ، قطعا لا يوجد أساسه عند أحد من السلف، لأن الحل يختلقه إلا من يعيش المشكل لا من لم يخطر على باله قط. هكذا فالقطيعة عند العروي إما أن تكون كلية و إما لا تكون .

هكذا إذن فلم يخفى على مفكري هذه الأمة من غير السلفيين و الإسلاميين ، أن العودة إلى التاريخ و الحضارة تقتضي إحداث قطيعة مع ثقافة الأجداد و تأسيس ثقافة حديثة ، رغم اختلاف مستويات القطيعة بين المفكرين الثلاثة ، إلا أنني أجد نفسي مناصرا للمستوى القطيعة الذي اقترحه العروي ، أي القطع كليا مع ثقافة السلف و إبداع تراث و ثقافة جديدة تتأسس على المنطق الحديث ، و ليس على منطق من عاشوا في القرون الوسطى ، إذ بدون هذه القطيعة الكلية فلا مستقبل غير ما في الحاضر من ضنك و انحطاط .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah