الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتخابات البرلمانية المصرية

حازم نهار

2006 / 3 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


و الحاجة إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية

استراح المصريون، مؤقتاَ، من عناء ووطأة الانتخابات التشريعية، التي لم تكن هذه المرة كمثيلاتها السابقة، فقد جاءت الانتخابات الحالية في ظل حراك اجتماعي وسياسي لم تشهده مصر خلال العقود الأخيرة التي سيطرت فيها، شأنها في ذلك شأن بقية البلدان العربية، رتابة الحياة السياسية وانسداد آفاق التحول الديمقراطي .
عوامل هذا الحراك الجديد تتحدد من جهة في اشتداد الأزمة الداخلية، ومن جهة ثانية في ارتفاع وتيرة الضغوط الخارجية على المنطقة، خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف إحداث بعض الإصلاحات فيها تبعد عنها ، على حد زعمها، شبح الإرهاب، بعد أن وصلت بالتجربة إلى أن دعم الاستبداد لم يفض إلا لتهيئة التربة الخصبة لنمو التطرف بكل أشكاله ومستوياته .
هذه العوامل دفعت السلطة المصرية إلى إجراء تحول نسبي بتعديل المادة 76 من الدستور المصري في شباط الماضي، والتي هيأت لأول مرة في تاريخ مصر لانتخابات رئاسية تعددية مباشرة في أيلول الماضي، وأعقب ذلك – طبقاَ للدستور – دعوة الناخبين إلى الانتخابات النيابية لاختيار أعضاء مجلس الشعب .
بعد انتهاء الانتخابات بمراحلها الثلاث، كنا أمام مجلس جديد يختلف في تركيبته عن المجلس السابق ، رغم الكلام الصحيح الذي يقال عن محدودية تأثيره في إحداث نقلة نوعية على صعيد التحول الديمقراطي ، بحكم أن الحزب الحاكم لا زال يحتفظ بحوالي ثلثي المقاعد النيابية.
في المجلس السابق كانت المعارضة المصرية بكل أطيافها تشغل 12% من المقاعد، تتشكل من 17 نائباَ من الأحزاب المعروفة، ومعهم 37 نائباَ مستقلاَ ( منهم 17 نائباَ ينتسبون إلى التيار الإسلامي ). في الدورة الجديدة تضخمت نسبة المعارضة لتصبح 25% ( 20% للإخوان المسلمين و 5% لمن فضلوا البقاء مستقلين ولشريحة محدودة من ممثلي تجمع أحزاب المعارضة).
أولا
انطوت العملية الانتخابية ونتائجها على حقائق كبيرة، ورغم أن الوقت لا زال مبكراَ لمعرفة آثارها على المدى القريب والمتوسط، إلا أنه سيكون لها أثر كبير على الوضع السياسي في مصر:
(1) إن موقف المصريين من هذه الانتخابات كانت له دلالات بالغة الأهمية ، وكانت أهم هذه الدلالات مقاطعة الأغلبية العريضة منهم للانتخابات ، فقد كانت نسبة المشاركة تقريباَ 25% ، وهذا يعني أن هناك 75% ممن لهم حق الانتخاب ما زالوا على موقفهم من عدم الثقة في العملية الانتخابية ، الأمر الذي يعني في المحصلة أن ظاهرة اللامبالاة السياسية ما زالت تعيد وتؤكد ذاتها، كما يعني أن هذه الانتخابات لا تعكس إرادة الأغلبية من الشعب المصري، فالإقبال على صناديق الانتخابات يمثل طاقة الحشد لكل من الحزب الوطني الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين ، وكل منهما لا يمثل أغلبية المصريين.
(2) كشفت العملية الانتخابية بمراحلها الثلاث عن ممارسات و خروقات غير قانونية عديدة، مثل إدراج الموتى وتكرار الأسماء في قوائم الناخبين الموجودة واعتماد التزوير في بعض الدوائر ، كما قام بعض المرشحين، خاصة رجال الأعمال الذين أصبحوا لاعبين مهمين في الساحة السياسية، بتجاوزات واسعة تمثلت في شرائهم للأصوات بمبالغ كبيرة ودفع الرشى الانتخابية، بالإضافة إلى إنفاق مبالغ خيالية في مجال الدعاية الانتخابية . ظاهرة الفقر الشديد دفعت أعداداَ غفيرة إلى قبول الرشاوى الانتخابية، مما يعني عدم اعتدادهم أصلاَ بمسألة الاختيار الحر المباشر للمرشحين في ضوء برامجهم السياسية، ومدى تحقيقها لمصالح الناس.
(3) تدخلت قوات الأمن المصرية على نطاق واسع لمنع الناخبين المؤيدين للإخوان المسلمين من الإدلاء بأصواتهم، وقامت بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف الإخوان قبل أيام من إجراء المرحلة الثالثة والأخيرة من الانتخابات، وظهرت إلى العلن طاقات مكبوتة من العنف الشديد، إذ استخدمت البلطجة والأسلحة البيضاء، وفي بعض الأحيان الأسلحة النارية لفرض مرشحين معينين .
هذه الأمور ، وأخرى غيرها، بعثت بمؤشرات واضحة للداخل والخارج حول مدى جدية الإصلاح السياسي الذي تدعيه السلطة المصرية ، مما دفع القضاة ، الذين أوكل إليهم الدستور مهمة إدارة العملية الانتخابية، إلى تبرئة ذمتهم من نتائج الانتخابات و التصريح عن عدم تمكينهم من أداء واجبهم .
(4) فريقان كانا خارج العملية الانتخابية هما الأقباط والنساء. لم يرشح الحزب الوطني الحاكم سوى اثنين من الأقباط من أصل 444 مرشحاَ ضمتهم قوائم الحزب، ولم يكن حال الأحزاب المعارضة أفضل. الغريب أن أكبر تمثيل برلماني للأقباط في تاريخ مصر الحديث بلغ ذروته في الفترة الممتدة من العام 1924 وحتى العام 1950، إذ بلغ نحو 13.6%، ثم بدأ بعد ذلك بالتدهور، ليتراوح في عهد مبارك ما بين 4-6 نواب فقط ( بينهم اثنان معينان على الأقل )، لنكون مع المجلس الجديد أمام نجاح قبطي واحد فقط. الأقباط أيضاَ لم يرشحوا أنفسهم، ولم يشاركوا في المعترك السياسي، بسبب اعتقادهم بأن الدولة تتجاهلهم سياسياَ، وبأنهم ليسوا موضع ترحيب من أحد، سواء من الدولة أو من الأحزاب السياسية. ومن البديهي القول أن نتائج الانتخابات الأخيرة، خاصة مع الصعود الاخواني إلى المجلس، لا تطمئن الأقباط بصفتهم جزءاَ لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصري. لا يغير من هذه الحقيقة شيئاَ محاولة ضم قبطي أو أكثر إلى المجلس ضمن العشرة المبشرين بالحصانة الذين يعينهم رئيس الجمهورية. وفي غياب مشاركة الأقباط في العملية السياسية أعلن في منتصف تشرين الثاني المنصرم عن إطلاق أول قناة فضائية تلفزيونية تبث التراتيل والمحاضرات والصلوات في اتجاه الشرق الأوسط وأوربا، في محاولة من الكنيسة القبطية للتواصل مع أبنائها في الخارج ؟!! .
بالنسبة للمرأة ، لم يرشح الحزب الوطني الحاكم سوى ست سيدات ، وحزب التجمع لم يرشح سوى خمس، والوفد اكتفى بثلاث ، في حين اقتصرت ترشيحات " الناصري " و " الأخوان " و " الكرامة " على سيدة واحدة . يحدث هذا رغم أن الدستور المصري الصادر عام 1956 قد منح المرأة المصرية حق الانتخاب والترشيح ، إلا أن الممارسة العملية والواقع السياسي أثبتا بالتجربة ، وبعد مرور نصف قرن تقريباَ ، أن مشاركة المرأة لا تزال متدنية للغاية فيما يتعلق بالاقتراع أو الترشيح ..
(5) نجح الحزب الوطني الحاكم في الاحتفاظ بثلثي مقاعد مجلس الشعب، لكنه أخفق في اختيار الإصلاح الديمقراطي. حصل الحزب من خلال مرشحيه الرسميين الذين خاض بهم الانتخابات تحت رايته وبرنامجه على نسبة 42% من مقاعد المجلس ، ووصلت النسبة إلى 75% مع المستقلين الذين ينشقون على الحزب الحاكم قبل المعركة الانتخابية، ويعودون إليه بعد انتهائها . معنى هذا النجاح أن الحزب الحاكم ليس بحاجة إلى تأييد أي حزب آخر من أجل تمرير سياساته في المجلس . رغم الفوز المتوقع للحزب الوطني، إلا أنه من زاوية التحليل السياسي، فإن الفائز الأكبر هم "الإخوان المسلمون"، فقد تقدمت الجماعة للانتخابات البرلمانية بأكثر من 120 مرشحا، وفازت ب 88 مقعداَ، أي ما يعادل حوالي 20% من مقاعد المجلس.
باستثناء الحزب الحاكم، فإن جميع الأحزاب المصرية المعترف بها، ومنها 12 حزباَ شاركت قي الانتخابات، لم تقدم نتائج مرضية، في حين أن حركة الإخوان المسلمين، المحظورة قانوناَ، حققت فوزاَ كبيراَ لتكون القوة الأساسية المعارضة في المجلس. ليس هذا فحسب، إذ لم يحصل أي من الأحزاب المعارضة على نسبة ال5% التي أوجبها تعديل المادة 76 من الدستور للترشيح للانتخابات الرئاسية في العام 2011، وهذا يعني أن حظوظها في برلمان 2010 قد لا تسمح لها بتقديم مرشح لانتخابات الرئاسة, خاصة مع حقيقة الصعوبة البالغة لحصول أي مرشح مستقل على تفويض من 250 شخصا من أعضاء مجلس الشعب والشورى وأعضاء المجالس المحلية في إحدى عشرة محافظة حتى يسمح له بالتقدم إلى الترشيح.
ثانيا
تأسست جماعة الأخوان المسلمين في مصر في العام 1928, إلا أنها حلت في العام 1954 بعد محاولة اغتيال عبد الناصر. مع مجيء السادات إلى الحكم وجدت الجماعة متنفسا لها، حتى أن السادات عرض عليها التحول إلى العمل القانوني والشرعي شريطة التخلي عن اسمها، لكنها رفضت ذلك، وآثرت العمل بشكل غير شرعي تحت لافتة " الأخوان " . منذ ذلك الوقت والساحة السياسية المصرية يتقاطع فيها السياسي والديني بدرجات مختلفة، إذ لم تكن مشاركة جماعة الإخوان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة هي المشاركة الأولى، فقد خاضت انتخابات سابقة بالتحالف مع الآخرين أو باستخدام أسماء قوى أخرى.
في انتخابات عام 1984 خاضت الانتخابات البرلمانية بالتحالف مع حزب الوفد العلماني، وقد حصل هذا التحالف على 57 مقعداَ كان من بينها 8 مقاعد للإخوان. و في العام 1987 خاضت الانتخابات من خلال " التحالف الإسلامي " وقتها بين حزب العمل وحزب الأحرار والإخوان المسلمين، ليحصل التحالف على 64 مقعداَ، بينها 31 مقعداَ للإخوان. الجديد في الانتخابات الأخيرة هو مشاركة الجماعة باسمها الصريح، إذ رفعت شعاراتها ونداءاتها في كل أنحاء مصر، وأثبتت حضوراَ واسعاَ في الإدراك الشعبي وفي الشارع السياسي ووسائل الإعلام، لم يتوافر لها منذ خمسين عاماَ، وهي صورة لم يألفها المجتمع المصري منذ حل الجماعة، ويمكن القول أن هذا الحضور المكثف للإخوان في المشهد الانتخابي كان أحد المكاسب الأساسية التي حصدتها الجماعة من وراء الانتخابات، حتى أن شعار " الإسلام هو الحل " المثير للجدل ، لم تجد فيه محكمة القضاء الإداري أي مخالفة قانونية حين عرض عليها الأمر من قبل أحد المرشحين المنافسين الذي طلب وقف استخدام الشعار .
رغم كل الضغوط وحملات التعبئة التي استهدفت تشويه صورة الإخوان المسلمين وحصارهم سياسياَ ، فإن نسبة ناخبيهم شكلت 35% من مجموع الناخبين ، وهذا رقم مرتفع له دلالته البالغة. أسرار هذا النجاح الإخواني تعود أساساَ إلى ما ارتكبه الحزب الحاكم من أخطاء جسام على مدى عقود منذ حكم السادات، فالاستبداد السلطوي والفساد المتراكب معه هيئا تربة خصبة لتوجه كتل بشرية عديدة نحو الإسلام الذي يحتل مركز الصدارة في الذاكرة الشعبية، خاصة في ظل ضرب الحركة الحزبية وإضعافها، بالإضافة إلى قدرة الجماعة على تنظيم صفوفها ، وبراعتها في تقديم نفسها للناخبين كبديل أخلاقي نظيف للنظام الحالي ، من دون أن تبالغ في المطالبة بتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية .
السؤال الهام الذي يطرح نفسه بعد النجاح الفريد للإخوان هو : كيف سيتصرف الإخوان فيما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة وشراكة مصر معها عسكرياَ واقتصادياَ وسياسياَ ، وفيما يتعلق بمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، وكيف ستتعامل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي مع ظاهرة صعود الإخوان إلى المجلس ؟
يمكن القول أن "البرغماتية" هي العنوان الرئيسي المشترك، كما تشير الوقائع والتحولات، بين سياسة الولايات المتحدة وتكتيكات الإخوان، وهذا ليس عيباَ في حقل الممارسة السياسية. بالنسبة للأمريكان لا يوجد موقف ثابت إزاء الإخوان المسلمين أو غيرهم، وإنما توجد لديهم مواقف متغيرة، فاليوم بدأت نظرية مادلين أولبرايت تكسب رضاَ في دوائر صنع القرار الأمريكي، وهي النظرية التي ترى أن أنجع وسيلة لانحسار "التطرف" في الشرق الأوسط هي فتح الباب للمعارضة الإسلامية المعتدلة، غير العنيفة، للمشاركة في الحياة السياسية ، ويبدو أن هذه النظرية مرشحة للتفعيل، بكل ما سينجم عن ذلك من تغيرات في التحالفات والتكتيكات، وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية ستضع جماعة الإخوان المسلمين تحت الاختبار في الفترة المقبلة . جماعة الأخوان بدورها بدأت في بث رسائل وإشارات لطمأنة الأمريكيين وتبديد خوفهم ، إذ كان الموقف السابق للجماعة رافضاَ للحوار مع أمريكا قبل سعي هذه الأخيرة لتغيير سياساتها في المنطقة ، ثم أصبح موقفها يتحدد بأنها لن تدير أي حوار مع أمريكا إلا من خلال الخارجية المصرية أو في وجود ممثلين عنها، وإعلان الجماعة مؤخرا عن التزامها بالمعاهدات والاتفاقيات التي أبرمتها الدولة المصرية مع إسرائيل، ولنسمع مؤخراَ عن فتح حوار سري من قبل عدد من أعضاء الجماعة المنتخبين مع أعضاء من الكونغرس الأمريكي .
يمكن فهم هذه الوسائل والإشارات في سياق العملية الانتخابية، وفي سياق التكتيك السياسي والدبلوماسية، طالما لم تتمخض عن شيء ذي بال. لكن إذا كانت الجماعة ، شأنها شأن أي قوة سياسية، محكومة باعتبارات الخارج وسياساته، فإنها محكومة أيضاَ، وبدرجة أكبر، بالأوضاع الداخلية وتوازناتها وتوجهات الرأي العام، لذا ينبغي الانتباه إلى أن جزءاَ من التأييد الذي حصلت عليه جماعة الإخوان المسلمين يعود إلى الصورة التي حاولت رسمها لنفسها، باعتبارها معادية للسياسة الأمريكية وإسرائيل، وبالتالي سيكون من الصعب حدوث انقلاب جذري في هذا التوجه، لأن من شأن ذلك إلحاق ضرر سياسي كبير بها ينال من شعبيتها ومن حظوظها في الداخل .



ثالثا
حصل الحزب الوطني الحاكم على "الأغلبية"، و جماعة الإخوان المسلمين على " الفوز"، فيما كان الفشل من نصيب الأحزاب المصرية التسعة عشر ( ومنها 12 حزباَ شاركت في الانتخابات )، خاصة الأحزاب العريقة منها، فالوفد حصل على 6 مقاعد والتجمع الوطني على مقعدين فقط، فيما لم تحصل بقية الأحزاب على أي مقعد .
هذا الأمر يدعو إلى الدهشة، إذ بعد أكثر من 25 عاماَ على الأقل من العمل السياسي لأحزاب المعارضة، وخوضها لأربعة انتخابات برلمانية، ظهرت كأحزاب ضعيفة ومحدودة الفعل والتأثير وبعيدة عن الأحزاب الحقيقية الفاعلة.
يقيناَ أن السلطة المصرية وحزبها يتحملان المسؤولية الأكبر عن هشاشة الحياة الحزبية في مصر، إذ ما كان ذلك ليحدث لولا إفراغ الحياة السياسية من مضمونها بتقييد المعارضة وتجفيف منابعها وحركتها، بل والسعي المقصود لبث عدم الثقة بالأحزاب والحياة الحزبية بين الناس ، وفي هذا السياق نذكر مثلاَ إعطاء رخصة حزب سياسي إلى عائلة أحمد الصباحي الموظف المصري الذي يشتغل بقراءة الكف والفنجان ، وأعضاء حزبه الذين لم يتجاوز عددهم المائة طوال هذه السنين ، تنتهي معظم أسمائهم بلقب الصباحي ، في حين حرمت قوى ناصرية أو ليبرالية أو إسلامية من حق الحصول على رخصة حزب لأنها، على ما يبدو، لم ترق إلى مستوى أحمد الصباحي .
هذا لا يمنع من رؤية مسؤولية الأحزاب المصرية عن هذه النتيجة البائسة. فهذه الأحزاب، على ما يبدو، ركنت إلى واقعها وتأقلمت مع واقع الكسل، ولم تسع لعمل سياسي جاد بعيدا عن الوجاهة والشعارات والمصالح الضيقة، كما إن بعضها مطمئن إلى مهنة الارتزاق السياسي.
لقد دخلت هذه الأحزاب في المعركة الانتخابية بغير إعداد مسبق ، محرومة من قواعد جماهيرية قوية، وهذا ليس فقط نتيجة التضييق على نشاطاتها الحزبية، بل أيضاَ بحكم مشكلاتها الداخلية، والتي تتمثل في شيخوخة القيادات، وعدم قدرتها على التطور، وتحجيمها للديمقراطية الحزبية، والانفراد باتخاذ القرار داخل كل حزب، والتضحية بأجيال الوسط من الشباب الذين كانت لديهم القدرة على تجديد شباب الأحزاب .
تحدث الإعلام كثيراَ في الأشهر الماضية عن حركة كفاية وحزب الغد ، إلا أن هذه المجموعات النشطة في ديناميكية الإصلاح السياسي، وإن تمكنت من بناء قوة ضغط فعلية كان لها بعض الأثر في تقديم النظام المصري للتنازلات الأخيرة التي حسنت نسبياَ من قواعد المنافسة الانتخابية، لم تنجح في تحويل مكاسبها المذكورة إلى رصيد سياسي قابل للتوظيف والاستثمار، ويدل على ذلك محدودية استقطاب حركة كفاية للجموع الشعبية، على الرغم من الضجيج الإعلامي الواسع الذي واكب نشاطها في تجمعاتها الصغيرة وسط القاهرة، إذ لم تتجاوز هذه التجمعات بعض رموز المجتمع المدني، وعناصر من الوسطين الفني والإعلامي .
عناصر البيئة السياسية المصرية ، من سلطة تريد الاستئثار بالحكم ولا تقدم التنازلات في الداخل إلا مضطرة، ومن أحزاب معارضة هشة ومقيدة ، ومن تيار ديني ناشط، تكاد لا تختلف عن العناصر الموجودة في بلدان أخرى، فالساحة المصرية ليست بالاستثناء، بل إن الظاهرة نفسها تكاد لا تختلف من بلد عربي إلى آخر .
رابعا
لا يمكن توصيف ما جرى في مصر في الشهور الأخيرة بأنه تحول ديمقراطي، و إنما محاولة من قبل النظام الحاكم لامتصاص الضغوط الداخلية و الخارجية و ضمان الاستمرارية و إعادة إنتاج السياسات القديمة في ثوب و إخراج جديدين، فبرامج الإصلاح التي تتخذ من جانب واحد، و تفصل على مقاس طرف محدد، لا يمكن النظر إليها إلا بوصفها مناورات لإقصاء الإصلاح الحقيقي. لكن هذا التجاذب بين الانخراط المجبر للنظام في الإصلاح و رغبته الحقيقية في الاستمرارية و تفريغ أي تغيير من مضامينه الجوهرية، يقود تدريجيا إلى تآكل النظام السياسي، و هنا تصبح الاحتمالات مفتوحة الأبواب.
أظهرت الانتخابات وجود تنازع قطبي ثنائي بين نظام يعاني أزمة شرعية و تيار إسلامي نشط و ديناميكي، لكن رغم هذا التقييم العام و الصحيح لمجمل التغييرات الحاصلة في مصر، إلا أنه يمكن القول أن الانتخابات النيابية المصرية انطوت على مجموعة من الإيجابيات ، رغم ما أحاط بها من قصور، ورغم محدودية المشاركة الشعبية فيها، مثلما قدمت عدداَ من المؤشرات حول مستقبل الإصلاح السياسي والحياة السياسية في مصر ، وحددت المستلزمات المطلوبة و الضرورية أمام مختلف القوى والتيارات السياسية .
بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين ، فقد أثار نجاحها ردود أفعال متباينة في الشارع المصري، وفي أوساط النخبة السياسية والمثقفة حول ماذا سيكون عليه شكل الأداء البرلماني في الدورة المقبلة، بالإضافة إلى التخوف السائد والمشروع من تكرار الإخوان لنموذج الثورة الإيرانية إذا ما توافرت لهم أسباب القوة والسلطة . هذا يتطلب من جماعة الأخوان تبديد هذا القلق الطبيعي الناشئ عند فئات اجتماعية مختلفة، ومنها الأقباط وفئات إسلامية أخرى لا تنتمي للجماعة ، أي لا بد من التخلي عن التوجه الذي يدعو إلى " أسلمة " الدولة والمجتمع وقيام دولة دينية.
ما يواجه الجماعة مستقبلاَ هو ضرورة التحول من الحزب الديني أو الطرح الديني إلى حزب سياسي ذي مرجعية دينية، يمارس السياسة وفقاَ للدساتير ولقواعد اللعبة السياسية، كما هو الحال في الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب، وفي بلدان أخرى قريبة كتركيا والمغرب، عندما تحولت جماعات الإخوان المسلمين إلى أحزاب مدنية تمارس الديمقراطية، وعلى استعداد لتداول السلطة ن وهذا يتطلب من ضمن ما يتطلبه التخلي عن الشعارات الدينية لصالح شعارات سياسية قابلة للنقد والمراجعة، وعدم شهر السيوف في وجوه المنتقدين لهذه الشعارات أو المختلفين معها . باختصار فإن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت مطالبة، خاصة مع خروجها للعلن ونجاحها في الانتخابات، بالتحول من جماعة أيديولوجية إلى جماعة سياسية، لأن ما سيقرر مستقبلهم في الدرجة الأولى هو برامجهم وسياساتهم. وهنا بالمقابل يلزم اعتراف المتخوفين من نجاح الجماعة أن صعود التيار الديني إلى السطح وخروجه إلى النور أمر له دلالات إيجابية عديدة على صعيد الحياة السياسية، إذ لا يمكن إنكار أن مشاركة الجماعة رفعت كثيرا من سقف التعبير وحرية الحركة، كما أن هذا النجاح سوف يلزمها بتقديم برامج واقعية جادة ومقنعة لتحديات المرحلة المقبلة، بدلاَ من آليات النفخ الأيديولوجي، واللعب على وتر توصيف نفسها بالضحية التي تعرضت في السابق للمنع والاضطهاد ، وهي الآليات التي تكسبها الكثير من الأنصار دون استحقاق سياسي حقيقي .
بالنسبة للنظام الحاكم والحزب الوطني، سيصلان عاجلاَ أم آجلاَ، إلى الاقتناع بأن التعامل الأمني في الماضي مع جماعة الأخوان المسلمين وأنشطتها لم يقدم أي فائدة، ولا بد بالتالي من التعامل معها في سياق سياسي، وهذا يقتضي ضرورة دمج التيار الإسلامي في النظام السياسي المصري ، شريطة التمسك بالطابع المدني للدولة ، أي لا بد من حل مشكلة القوى الإسلامية عبر الاعتراف بها كقوة شرعية داخل النظام السياسي، بدلاَ من بقائها في حالة غير محددة، أي لا هي محظورة ولا هي شرعية.
نتائج الانتخابات ووجود منافسين حقيقيين للحزب الحاكم، تفترض أن الحزب الوطني الحاكم أصبح مطالباَ بعمل سياسي جاد، والتحول إلى حزب سياسي حقيقي، أي الانتقال من حالته الراهنة كحزب سلطة إلى "حزب في السلطة" يقبل التداول و التعددية. نتائج الانتخابات كفيلة أيضا بأن تضع الأحزاب المعارضة أمام مسؤوليات تطوير وإصلاح أوضاعها الداخلية وآليات عملها وخطابها السياسي و محاولة جر الأغلبية الصامتة من المصريين إلى ساحة المشاركة و الفعل السياسيين، كما يمكن لها أن تدفع باتجاه تشكيل أحزاب جديدة لغرض الدفاع عن مصالح فئات اجتماعية ورؤى فكرية وسياسية مشروعة في المجتمع المصري .
مصر ما بعد الانتخابات النيابية الأخيرة أصبحت بحاجة إلى " عقد اجتماعي جديد " تصدر في ضوئه قوانين وتشريعات جديدة تسمح للجميع بالتنافس الديمقراطي الحر. المغزى الرئيسي للانتخابات الأخيرة هو أن الطريقة التي تحكم بها مصر يتعين أن تتغير، لأن تحولات كبرى حدثت في المجتمع المصري، وفي الجوار، وفي المجتمع الدولي برمته، ولأن هذا الثبات ما عاد يتوافق مع روح العصر وقيمه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يواجه محاكمة جنائية بقضية شراء الصمت| #أميركا_اليوم


.. القناة 12 الإسرائيلية: القيادة السياسية والأمنية قررت الرد ب




.. رئيس الوزراء العراقي: نحث على الالتزام بالقوانين الدولية الت


.. شركات طيران عالمية تلغي رحلاتها أو تغير مسارها بسبب التوتر ب




.. تحقيق باحتمالية معرفة طاقم سفينة دالي بعطل فيها والتغاضي عنه