الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 4

دلور ميقري

2018 / 2 / 17
الادب والفن


المرافقة، كانت بعد وليمة الشواء الدسمة غافيةً في الكنبة الوثيرة، ثمة في ركن الصالة القصيّ. آنَ تناهي غطيطها من هنالك، نهضَ المسيو نحوها كي يرمي على جرمها الثقيل غطاءً صوفياً، محبوكاً من نسيجٍ محليّ. ولكنّ تواصلها مع العالم المحسوس، لم يتأخر كثيراً. ذلك جدَّ في الآونة نفسها، التي كانت فيها سيّدتها قد تهيأت للإفضاء أمام الرجل بما يعتلج في داخلها من أمور تخصّ السبب الحق للزيارة. ألقت " سوسن خانم " على مرافقتها، المتيقظة للتو، نظرةً تكاد تكون حانقة. هيئة المرأة البدينة، المتطاير منها أطيافُ حلمٍ سخيف ( لم تنسَ فيما بعد، مُتطيّرةً، قصَّ تفاصيله للخانم! )، كأنما كانت مبرراً للنظرة المَوْصوفة. على أنّ السيّدة لم تلبث أن نهضت رشيقةً، راضيةً على ما يبدو عن فكرة أكثر جدّة راودت رأسها الجميل. تنقلت في أرجاء الصالة بلا إبطاء، ملقيةً نظراتٍ خاطفة على اللوحات الفنية، المزدحمة بها الجدران.
" أظنّ أنّ المزيدَ من رسومك تدخره حجرة المكتب، أليسَ كذلك؟ "
خاطبت مضيفها، وهيَ تحدّق في عينيه عن قرب. فهمَ العجوزُ، بحَسَب تألق عينيه بلمعة الذكاء، أنها تريد الاختلاء به بعيداً عن أسماع الأخرى. أرادَ دعوتها إلى الخلوة، ولكنه لبثَ جامداً بلا حراك. لقد عمدت الضيفة، في اللحظة التالية، إلى إخراج زجاجة عطر صغيرة من حقيبة يدها. شعرَ بهبوب أنفاس الأنثى نحوَ رقبته، لتمسّها بعطرٍ يمتُّ لوردةٍ مستحيلة. لمحض المصادفة، أنه عطر موطنه الأول، " سلفادور دالي "، وكانت تؤثره حبيبته الراحلة. العَبَقُ شتت عندئذٍ ذاكرته في كلّ مهب، قبل أن تتجمّع من جديد على شكل ذكرى واحدة من جناحين: هنا على الأريكة مقابل المدفأة، كانت ذاتَ أمسية ربيعية تركبُ على ركبتيه كأنها تمتطي الفرس خلال جولاتهما في أنحاء الضاحية. وكان يحيطها بذراعيه، اللذين كانا ينتهيان بعضلاتٍ يُرى مثيلٌ لها في لوحات كلاسيكية تصوّرُ مصارعين عبيد من روما. نوبتها العصبية، المرفقة بعبرات نحيبها، بدت حينئذٍ أنها قد هدأت أسرعَ من المعتاد. كان فظاً معها للغاية، حينَ عمدت مذ بعضَ الوقت لرمي مسودة سيرتها الذاتية داخل فم الموقد، الممدودة ألسنة لهيبه ـ كتنين حكايات الجدّة أيام طفولتها في نيويورك.

*
" لقد وُجِدَ الفنُّ ليخلّدَ العطرَ، فيما الوردة قد تحوّلت رماداً؛ مثل جسدي حينَ يحينُ أوانُ الأجلِ "
لم يجد جواباً لسؤالها، سوى التمتمة بهذيانٍ من لغته الأم. ألقت عليه السيّدة نظرةً ذاهلة، كما لو أنها لم تسمع ما قاله. إذ كانت ما تنفكّ أسيرةَ أفكارها، المداورة حول هدف الرحلة إلى هذه الضاحية. وإنها مرافقتها، " للّا عيّوش "، من بادرت للقول من مكانها المريح وبلغة فرنسية أيضاً: " أيمكن ذلك، يا سيّدي؟ إنهم الهنود الكفار، من يحرقون أجسادَ أمواتهم! ". كانت ما تفتأ عابسةً، تنتظر جوابَ هذا " الكَاوري "، المُفترَض أنه اهتدى إلى دينها القويم من زمن مديد. العجوز، وكان مذهولاً بدَوره من تأثير عطر الذكرى، ما عتمَ أن أفاقَ على نفسه. التفتَ نحوَ المرأة، متبسّماً لسذاجتها: " سبحانَ من يُحيي العظامَ وهيَ رميم "، أجابها باللغة العربية وكان لا يجيد منها سوى بعضَ العبارات الدينية المبتسرة.
" سبحانه، سبحانه.. "، رددت المرأة الطريفة بلهجتها المغربية. ثم تابعت بلغة مُجادلها، قائلةً بصوتٍ أقلّ حدّة: " الآن فهمتُ حقاً ما أُشكِلَ عليّ، وأنّ ذلك كان مجرّدَ بيتٍ شعريّ! "
" وهل أنت بنفسكِ، تحفظين أشعاراً باللغة الفرنسية؟ "
" لا، ليسَ الأمرُ كما تتصوّر. لقد أخذتُ، أيها السيّد، قسطاً صغيراً من العلم في المدرسة "
" ولكن ألا ترين كيفَ أن فرنسيتك جيدة، لدرجة معرفتك ذلك البيت الشعريّ؟ "
" فرنسيتي تحسّنت، نتيجة خدمتي في منازل مواطنيكَ.. أعني، من كانوا كذلك في الماضي! "، قالت بجفاء. استعادت شيئاً من عبوس سحنتها، وقد فطنت إلى النبرة الساخرة في كلام المُضيف. هزّ لها رأسه ببطء، دلالة على فهمه أيضاً ما في جملتها الأخيرة من لمز، ثم ألتزمَ الصمتَ. همّت المرافقة بنطق شيئاً، وقد راقها على ما يبدو مُجادلة رجلٍ عالي المقام. إلا أنّ مخدومتها قطعت عليها الطريقَ، بأن أمرتها المكوثَ في الصالة: " لديّ ما أقوله لمسيو جاك، هنالك في حجرة مكتبه ".

*
وجدت نفسها في حجرةٍ فسيحة نوعاً، بابها الوحيد ينفتحُ على الصالة. بل وإنّ الطابقَ الأرضيّ برمته يُعطي انطباعاً للزائر بكونه صالة معرض ( غاليري ). فإنّ اللوحات الفنية كانت تحَدّقُ بالمرء من أمكنتها الحميمة، هنا على أربعة جدران حجرة المكتب. سجادة بربرية فاخرة، مفروشة على طول المكتب، شاءت أيضاً الإيحاء بذلك الانطباع، بما طُبِعَ عليها من نقوشٍ بألوان قوس قزح. الخانم، المعروفة بظمأ لا يرتوي للقراءة، أراحها ولا غرو أن تُحْدِقَ الكتبُ بهذه الخلوة. لا محلّ للظن بأنها كتب الزوجة الراحلة، التي كانت تشكّل جزءاً من غيرة رجلها الفنان. ستعلم الضيفة لاحقاً بتفاصيل علاقتهما المعقّدة، آنَ تقع في يدها نسخة من مذكرات صديقهما الأقرب؛ " مسيو غوستاف ".
لم يكن عسيراً على " سوسن خانم "، وهيَ امرأة أعمال ثابتة الجنان، الدخول رأساً في المساومات التجارية. الجانب الآخر من طبعها، الجامح والمرهف في آنٍ واحد، كان يضعها كذلك بين مصافي أهل الثقافة. وإنها تعتقد قبل كل شيء، بأن الفنانَ رساماً كان أو شاعراً، لا يمكنه تحقيق ما يصبو إليه من مكانة رفيعة ما لم يتحلّى بصفة رجل الأعمال.. على الأقل، لناحية إجادة المساومة والتسويق. لقد أُتيحَ لها الوقتُ الكافي للتحدث بهذا الشأن مع مضيفها، خلال ما يقرب الثلاث ساعات من خلوتهما في حجرة المكتب. ولكن كان عبثاً، ما بذلته من جهد في محاولة الإيحاء لهذا الرجل الذكيّ بأنّ ذلك كان سببَ حضورها إلى الضاحية. كان صعباً عليها، من ناحية أخرى، أن يأخذ عنها انطباعاً في غير محله؛ كأن يعتقد بأنها تخادعه للوصول إلى بغيَة غير شريفة. المفردة الأخيرة، لشدّما يُرهقها لفظها حتى في سرّها.. إنها اسمُ تلك المرأة، التي تريد الخانم أن تتواصل مع زوجها بوساطة المسيو الفرنسيّ. ما لم يكن يدور في خاطرها قط، وهيَ ترشفُ النبيذَ مشغولة البال، أن تلتقي في ظهيرة الغد مع " الشريفة " أثناء جولة مع المضيف في البستان المتصل بأملاك الفيللا.






















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في