الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلم أنسنة الكون

حسن عجمي

2018 / 2 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يبدو أنَّ النموذج العلمي الأساسي يصف الكون على أنه إنسان. بذلك العلم أنسنة الكون فيؤنسن بدوره الإنسان أيضا ً. من منطلق أنسنة العالَم يصبح الكون حيا ً و عاقلا ً و موسيقارا ً.

أنسنة الظواهر الطبيعية

بعض النماذج العلمية المعاصرة تصوّر الكون على أنه حي و عاقل فيولد و ينمو و يُنتِج المعلومات و يتبادلها. لكن هذه صفات الإنسان. من هنا , هذه النماذج العلمية تؤنسن الكون لكونها تصوّره على أنه إنسان. هكذا العلم أنسنة الكون. في هذه العلوم , يولد العالَم من الانفجار العظيم فيتمدد و ينمو. و بما أنَّ صفات الولادة و النمو صفات إنسانية , إذن هذه العلوم تؤنسن الكون. يدفع الفيزيائي لي سمولن هذا النموذج المعرفي إلى نتائجه القصوى فيصر على أنَّ الانتقاء الطبيعي حاكم عالَم الأحياء يحكم أيضا ً الوجود و تشكّل الكون الذي نحيا فيه و الأكوان الممكنة المتحققة في الواقع. يقول سمولن إنَّ الأكوان الممكنة تولد في الثقوب السوداء و بذلك الانتقاء الطبيعي يختار الأكوان التي تملك ثقوبا ً سوداء أكثر فتوجد تلك الأكوان دون غيرها. و لذا اختار الانتقاء الطبيعي وجود عالَمنا بالذات لكونه يمتلك ثقوبا ً سوداء كثيرة ما يجعله قادرا ً على إنجاب أكوان جديدة و عديدة من جراء تعدد ثقوبه السوداء. يضيف سمولن قائلا ً إنَّ الأكوان الأبناء ترث صفات الأكوان الآباء و الأمهات. و لذلك يتصف الوجود و أكوانه بالصفات الأساسية للكائن الحي كصفات الولادة و الوراثة و تعرضه للانتقاء الطبيعي (1). أما بالنسبة إلى نموذج علمي آخر فالكون معلومات و إنتاجها و تبادلها. يقدِّم الفيزيائي بول ديفيز هذه النظرية العلمية فيصف العالَم على أنه يتكوّن من معلومات فأحداث العالَم و حقائقه ليست سوى معلومات. أما العلاقات بين الظواهر الطبيعية كالعلاقات السببية فليست سوى عمليات تبادل للمعلومات (2). لكن امتلاك المعلومات و انتاجها و تبادلها صفات الكائن العاقل كالإنسان. من هنا , يصوّر هذا النموذج العلمي الكون على أنه إنسان عاقل ما يدعم صدق فرضية أنَّ العلم يؤنسن الظواهر الطبيعية. كل هذا يشير إلى أنَّ العلم أنسنة الكون. فالعالَم حي و عاقل و يُنجِب الأكوان الأبناء و بذلك لا يختلف عن الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك , العلم يصف الكون على أنه ديمقراطي. مثل ذلك النموذج العلمي الذي يقدِّمه الفيزيائي "غوث". يؤكد "غوث" على أنَّ الكون ينشأ من العدم. فالعدم يتكوّن من طاقات متعارضة ما يؤدي إلى اختزالها فيتشكّل العدم. لكن من الممكن أن لا يحدث اختزال طاقة معينة في العدم من جراء التقلبات الكمية التي تصيب العدم كما تقول نظرية ميكانيكا الكم. و بذلك تتحرر تلك الطاقة فيولد الكون من نقطة معينة من العدم. و بما أنَّ العدم يتشكّل من نقاط عديدة إن لم تكن لا متناهية في العدد , إذن من المحتمل نشوء أكوان ممكنة عديدة و متنوّعة من نقاط العدم المختلفة. هكذا يستنتج الفيزيائي "غوث" أنه على الأرجح توجد الأكوان الممكنة المختلفة في حقائقها و قوانينها الطبيعية (3). هذا يرينا أنَّ الوجود ديمقراطي لكونه يسمح بوجود كل الأكوان الممكنة المتنوّعة فيُعاملها بمساواة فلا يفضّل وجود عالَم معين على عالَم ممكن آخر تماما ً كما لا تفضّل الديمقراطية سلوكيات و معتقدات معينة على أخرى فتضمن الحرية للجميع. لكن أن يكون هذا الكائن أو ذاك ديمقراطيا ً هي صفة إنسانية. لذلك هذا النموذج العلمي الذي يصر على وجود أكوان ممكنة متحققة بالفعل يصف الكون بصفة إنسانية ما يدل على أنَّ العلم عملية أنسنة الوجود و الكون. و تتعدد الأمثلة الدالة على مقبولية هذه الفرضية منها نظرية الأوتار العلمية التي تصف الكون على أنه أوتار و أنغامها. و بذلك يغدو الكون سمفونية موسيقية. فالعالَم يتشكّل من أوتار و ذبذباتها و تختلف مواد الكون و طاقاته باختلاف أنغام الأوتار الكونية (4). لكن إذا كان الكون أوتارا ً و أنغامها , إذن الكون يُنتِج الموسيقى و بذلك هو موسيقار كالإنسان. هذا مثل آخر على أنَّ العلم أنسنة الكون و الظواهر الطبيعية علما ً بأنَّ العلم يصوّر أيضا ً الكون على أنه إنسان عازف.

العلم أنسنة الإنسان

كما أنَّ العلم أنسنة الكون , العلم أيضا ً أنسنة الإنسان. فالعلم يحرر الإنسان من خلال تقديم معارف صادقة فيؤنسن بذلك الإنسان. و العلم عملية تصحيح مستمرة و عملية بحث دائمة حيث تستبدَل النظريات العلمية بنظريات أخرى عبر التاريخ. مثل ذلك استبدال نظرية النسبية لأينشتاين بنظرية نيوتن العلمية. فبينما الزمن مطلق و غير نسبي في نموذج نيوتن العلمي أمسى الزمن نسبيا ً و يختلف باختلاف السرعة في نظرية أينشتاين. و بذلك انتقل العلماء من الاعتقاد بلا نسبية الزمن إلى الاعتقاد بنسبيته حين تم استبدال نموذج أينشتاين بنموذج نيوتن العلمي. هكذا النظريات العلمية تتصارع و تستبدَل بشكل مستمر فينتقل العلماء من قبول نظرية علمية معينة إلى قبول نظرية علمية أخرى فيتطور العلم و تتطور المعارف ما يتضمن أنَّ العلم عملية تصحيح و بحث لا تنتهي و لا تتوقف ما يضمن بدوره استمرارية البحث العلمي وتطويره. و الأمثلة عديدة على ذلك منها استبدال الكثير من العلماء نظرية ميكانيكا الكم بنظرية أينشتاين. فالعديد من العلماء اليوم يعتمدون على نموذج ميكانيكا الكم العلمي و يدرسون الكون على ضوئه بدلا ً من الاعتماد على نموذج أينشتاين العلمي. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم , القوانين الطبيعية احتمالية و ليست حتمية بينما من منظور نظرية النسبية لأينشتاين القوانين العلمية حتمية على نقيض من نظرية ميكانيكا الكم. كل هذا يرينا أنَّ العلم عملية استبدال مستمرة لنظريات علمية بنظريات علمية أخرى على ضوء اختبار الواقع و اكتشاف حقائق و ظواهر طبيعية جديدة تدعم مصداقية بعض النظريات الجديدة و تنفي مصداقية بعض النظريات الأخرى.

لكن حقيقة أنَّ العلم تصحيح مستمر و بحث دائم تبرهن على أنَّ العلم هو أنسنة الإنسان. فبما أنَّ العلم عملية تصحيح مستمرة بحيث تستبدل نظرياته الجديدة بنظرياته القديمة , إذن لا يقينيات في العلم بل العلوم تقدّم ما هو ممكن أو ما هو محتمل أن يكون صادقا ً و لذا يتصف العلم بتغيير معتقداته و نظرياته. أما اليقينيات فهي التي لا تقبل الشك و المراجعة و الاستبدال على نقيض من العلم القابل للمراجعة و النقد و استبدال فرضياته و مبادئه. و بما أنَّ العلم لا يحتوي على يقينيات بل هو نقيضها , إذن حين نقبل العلم و التفكير العلمي تتحوّل معتقداتنا إلى لا يقينيات ما يجعلنا لا نتعصب لها و ما يحتّم بدوره قبولنا للآخر و إن اختلف عنا في معتقداته و ثقافته. هكذا العلم يقضي على التعصب و يؤدي إلى قبول الآخرين. و أنسنة الإنسان تكمن في التحرر من التعصب و اعتماد قبول الآخر المختلف. من هنا , العلم أنسنة الإنسان. فلا إنسان بلا علم تماما ً كما لا علم بلا إنسان. و أنسنة الإنسان هي إنتاج إنسانية الإنسان و تحقيقها في الواقع المعاش. و جوهر إنسانية الإنسان يكمن في قبول الآخر و معاملته على أنه إنسان مالك للحقوق الإنسانية كحق كل فرد في أن يكون حرا ً و أن يُعامَل بمساواة مع الآخرين. لكن العلم أنسنة الإنسان فعملية تحقيق إنسانيته. و إنسانية الإنسان كامنة في الحقوق. بذلك العلم أساس نشوء الحقوق الإنسانية و احترامها.

كل هذا يدل على العلاقة الضرورية بين العلوم من جهة و القضاء على التعصب بكافة أشكاله و قبول الآخر و تحقيق الحقوق الإنسانية من جهة أخرى. و لذلك نجد أنَّ الشعوب المتطورة في العلوم متطورة أيضا ً في إنسانيتها بينما الشعوب التي لا تشارك في صياغة العلوم متخلفة في إنسانيتها و تعاني من الصراعات و الحروب. فالخطوة الأولى نحو تحقيق السلام كامنة في قبول العلم و المشاركة في إنتاجه لأنَّ العلم كنقيض لليقينيات هو الوحيد القادر على تحريرنا من التعصب فتحريرنا من حروبنا و صراعاتنا. إنسان بلا علوم شبه إنسان. الإنسانية هي أن تؤنسن الآخر فتتأنسن الأنا. لذا العلم كأنسنة للكون هو أنسنة للإنسان أيضا ً. حين يصبح الكون إنسانا ً يتمكن الإنسان من اكتساب إنسانيته لكون الإنسانية علاقة تبادلية تعتمد على معاملة الآخر و النظر إليه على أنه إنسان. و أنسنة الكون و الإنسان عملية لا تنتهي. لذا لا ينتهي الإنسان و لا ينتهي الكون.


المراجع


(1) Lee Smolin : The Life of the Cosmos. 1997. Oxford University Press.


(2) Editors : Paul Davies and Niels Gregersen : Information and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press.


(3) Alan Guth : The Inflationary Universe. 1997. Jonathan Cape.


(4) Michio Kaku : Parallel Worlds. 2005. Doubleday.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية