الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهافت الأدلة على وجود الله

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2018 / 2 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مسألة البرهنة على وجود كائن خارق وميتافيزيقي يرجع إليه الكون وكل المخلوقات، مسألة اهتم بها العديد من الفلاسفة والمفكرين وذلك محاولة منهم لعقلنة الإيمان وإعطائه صورة منطقية لا تتناقض مع العقل. وهي مسألة لا تتعلق مباشرة بالحقل الروحي أو بالديانات، بل هو موضوع يتعلق بالدراسات الفلسفية وبالميتافيزيقا بالذات. موضوع يتعلق بالفلسفة لأنه يقوم على اللجوء إلى العمليات العقلية المختلفة وذلك بتقديم الأدلة والبراهين وإثبات وجود هذا الكائن المسمى بالله. وهو في نفس الوقت موضوع يتعلق بالميتافيزيقا، من حيث أن هذا الكائن موضوع التساؤل، الله، ليس كائنا ماديا - وليس موضوعا للإدراك الحسي ولا يمكننا رؤيته أو الحوار معه.
ما وراء الطبيعة أو المَاوَرَائِيَّات أو الغَيْبِيَّات، فلسفيا تسمى "الميتافيزيقيا"، شُعبة من الفلسفة تبحث في ماهيّة الأشياء وعلّة العلل أي القوة المحرِّكة لهذا العالم. فقد اعتقد الإنسان منذ القِدم أن الكون بمخلوقاته المتعددة وعناصره المادية لم يُوجد بذاته، وأن وراءه قوة مطلقة هي التي أوجدته وهي التي تسيِّره. ومع التطور الفكري والعقلي أخذ الإنسان يفكِّر في هذه القوة العُلوية تفكيراً فلسفياً، وعن هذا التفكير الفلسفي نشأت الميتافيزيقيا. وكلمة "الميتافيزيقيا " Μεταφυσική تتألف في الأصل من لفظتين يونانيتين هما meta Μετα ومعناها وراء أو بَعد، وكلمة physika φυσική ومعناها الطبيعة. والواقع أنّ هناك من يظن بأن إطلاق اسم الميتافيزيقيا على هذا الجانب من الفلسفة الذي يبحث في علّة الموجودات مردُّهُ إلى المصادفة وحدها. ذلك بأن مُصنِّفيّ مؤلفات أرسطو وضعوا رسائله الخاصة المتعلقة بالإلهيات بعد رسائله الخاصة بعلم الطبيعة، فعُرفت هذه المباحث منذ ذلك الحين بالميتافيزيقيا أي ما بعد الطبيعة. وأصبحت لفظة الميتافيزيقيا تُلخِّص في ذاتها جوهرَ البحث عن "علة الموجودات" باعتبار أن هذه العلة كامنةٌ وراء الظواهر المادية.
مع نقد العقل الخالص Critique de la raison pure، الذي نشره إيمانويل كانط Emmanuel Kant في 1781، ستوضع مسألة الميتافيزيقيا موضع تساؤل جذري: فالعقل الخالص هو هذه الخاصية الكلية التي في حوزتنا للتفكير والتي من خلالها وبواسطتها وبفضل المنطق البسيط لتفكيرنا، يمكننا الوصول إلى معرفة أكيدة لا لبس فيها عن الأسئلة الميتافيزيقية التي تؤرق البشرية منذ بدأ الإنسان في التفكير. ومغامرة نقد العقل الخالص هي اختبار لهذا الادعاء. هي العملية التي تهدف إلى تحديد ما إذا كانت الميتافيزيقا، عند فلاسفة اليونان كأفلاطون وأرسطو مثلا، أو عند ديكارت، ليبنيتز أو سبينوزا وغيرهم، ترقى إلى مستوى من العقلانية بحيث يمكن إعتبارها علما، أو ما إذا كانت، على الرغم من إكتسابها وامتيازها بصفات التفكير المنطقي الدقيق، فإنها مع ذلك لا يمكن إعتبارها علما حقيقيا وإنما مجرد شطحات وأوهام بعض الفلاسفة ذوي العقول المزعزعة بعض الشيء.
وبغية تحديد المشكلة بشكل واضح وصحيح، يميز كانط بين عدة أنواع من الأحكام : الأحكام التحليلية المسبقة les jugements analytiques a priori وهي الأحكام التي تظل في إطار منطق الأفكار فيما بينها؛ من تحليل مفهوم ما، نستنتج المحتوى الوارد في هذا المفهوم نفسه - من مفهوم المثلث نستنتج أن مجموع الزوايا الثلاث يساوي قائمتين، فليس هناك معرفة خارجية زائدة أو جديدة أكثر مما تحتويه المقدمة أو المفهوم الأساسي ذاته. هناك أيضا ما يسمى بالأحكام المركبة البعدية jugements synthétiques a posteriori، والتي تشير إلى "الأشياء في الواقع" أي الأحكام المتعلقة بأشياء وكائنات من العالم الخارجي. لتأسيس مثل هذا الحكم، لا بد من إضافة ما نتعلمه من التجربة الحسية الخارجية بواسطة الإدراك، إلى معرفتنا السابقة المكونة من المفاهيم والتصورات. ونكوّن بذلك مركبا جديدا من هذين المصدرين للمعرفة، ونكوّن بذلك الأحكام المركبة وهي أحكام بعدية.. من ناحية أخرى، تدعي الميتافيزيقيا بقدرتها على تكوين نوع خاص من الأحكام، أي الأحكام المركبة القبلية jugements synthétiques a priori، أي أنها تعتبر نفسها قادرة على إنشاء معرفة حول أشياء ومواضيع مختلفة، استنادا إلى ممارسة التفكير وقوة العقل وحده دون اللجوء إلى أية تجربة حسية أخرى. وبعبارة أخرى، فإن الميتافيزيقا تقدم نفسها كعلم للأشياء والمواضيع التي تفلت من إدراكنا وتقع خارج تجربتنا الحسية المباشرة، وتدعي أن العقل وحده قادر على إعطائنا المعرفة المتعلقة بهذه المواضيع الماورائية؛ مثل الوصول إلى الحقيقة حول وجود الله - ولكن أيضا خلود الروح، أو الخير والشر إلخ.
إذا لم يكن من الضرورة إختزال الميتافيزيقا وإرجاعها إلى مسألة البرهنة وبناء أدلة على وجود الله، فإنه من الواضح مع ذلك أن هذه المشكلة هي أهم مواضيع الميتافيزيقيا، لأنها هي التي يتم عليها بناء صرح ما يسمى بالمفهوم الميتافيزيقي للحقيقة بأكملها: ديكارت، على سبيل المثال، لا يستطيع أن يقفل باب الشك المنهجي ويثبث Cogito, ergo sum (Je pense, donc je suis)، الكوجيتو - أنا أفكرإذا أنا موجود - إلا بإفتراضه لوجود الله كي يضمن له الحقيقة التي توصل إليها.
يمكننا التمييز بين عدة أنواع من الأدلة وفقا للمنطق المستعمل للتدليل وتقديم الحجج. وكانط يحدد ثلاث حجج محتملة للتدليل على وجود الله أمام العقل التأملي أو الإعتباري raison spéculative. وذلك لأنه إما أن تنطلق محاولاتنا من التجربة المتعينة للعالم الحسي وفقا لقوانين السببية والإرتقاء تدريجيا حتى الوصول إلى العلة الأولى المتعالية خارج الكون. وإما أن نتخذ تجربة غير متعينة، بمعنى أي وجود كان دون تمييز، كأساس أمبيري للتجربة، وإما أن تهمل كل تجربة أمبيرية ونتخذ طريقة الإستدلال القبلي إنطلاقا من مفاهيم وتصورات مجردة للتدليل على وجود هذا الكائن الأعلى. والإختيار الأول يؤدي إلى ما يسميه كانط بالدليل اللاهوتي «physico-théologique» ، والثاني الدليل الكوسمولوجي «cosmologique» والثالث بالدليل الأنطولوجي. ويؤكد بأنه "ليس هناك، ولا يمكن أن يكون من أدلة غير هذه". فالدليلين الأولين ليسا قبليان تماما لأنهما يستندان إلى عناصر تجريبية؛ والثالث فقط سيكون حقا دليلا قبليا، ولهذا السبب وجه له كانط إهتمامه وبذل أقصى جهده لتدميره.
يمكن تحليل الدليل "الفيزيائي - اللاهوتي" إلى عدة لحظات أو فترات بسيطة بما فيه الكفاية: أولا، يمكننا أن نلاحظ في كل مكان في العالم علامات على وجود "نظام"، كما لو أن كل شيء وكل كائن يمتلك هدف وغاية نهائية محددة: كل شيء يبدو وكأنه قد تم التفكير فيه وفقا لحكمة عظيمة، بهدف نهاية محددة داخل الكون بأجمله.
ثانيا، مثل هذا النظام المحكم حسب غرض ونهاية محددة للكائنات والأشياء لا يمكن أن يكون من عمل الأشياء ذاتها، ولا يمكن أن يكون راجعا إلى الأشياء نفسها وليست الأشياء هي التي حددت لنفسها هذا الهدف بدلا من ذاك الغرض - إن هذا النظام وهذه الغايات المحددة للكون لا يمكن أن تطال الأشياء إلا من خلال كائن عاقل تصور وتوقع كل الأشياء وفقا لمبادئ وأفكار توجيهية واضحة ومحددة. ولذلك يجب أن يكون هناك سبب، أو عدة أسباب، لظهور العالم كما هو عليه بنظامه المحكم؛ وهذا السبب الأولي ليس فقط سببا ميكانيكيا يلد أو ينتج العالم بحكم خصوبته، ولكنه سبب يتمتع بالعقلانية والذكاء وينتج العالم بحكم حريته وإرادته.
إذا أخذنا في الإعتبار التجربة الجمالية وما نشعر به عند معاينة وتذوق أي عمل فني، حيث أن كل هذا النظام والتناسق والتناغم والتجاوب بين الخطوط والألوان والتفاصيل، تدل بما لا يترك مجالا للشك عن إرادة الفنان المبدع لإيجاد هذا النظام النهائي ليستمتع به المشاهد. يستنتج إذا من التناغم والتناسق والوحدة التي تشكلها كل أجزاء العالم في علاقاتها مع بعضها، نستنتج من ذلك وحدة سبب العالم وعلته الأولى.
أما الدليل الكوزمولوجي فهو أيضا يتكون من ملاحظة وجود العالم من حولنا. ولكن هذه المرة ترتكز على مفهوم السببية: كل شيء في العالم يرجع إلى سبب ما سمتة الأساسية كونه حادث أو عرضي وغير ضروري، بمعنى أنه كان يمكن أن يكون أو لا يكون. ولكن هذا السبب العرضي نفسه لا بد له أيضا من سبب يحدثه، وهذا السبب له بدوره سبب وهكذا نجد أنفسنا ننتقل من سبب إلى آخر، ويمكن أن تمتد سلسلة الأسباب إلى ما لا نهاية. ولكن العقل يتطلب أن تتوقف هذه السلسلة في مكان ما. وبالتالي، فمن المنطقي أنه في البداية، في بداية كل شيئ يجب أن يكون هناك سبب غير عرضي وضروري، أي كائن أو سبب أولي يوجد بذاته دون أن يحتاج لسبب آخر يسند وجوده causa sui.
ويمكننا أن نقدم ملاحظتين بخصوص هذين البرهانين على وجود الله، "الفيزيائي اللاهوتي" من ناحية، و "الكوني" من ناحية أخرى. الأولى، أن البرهانين يعتمدان على البعد التجريبي أو الأمبيريقي - يطالبون بتحديد كيفية ترتيب العالم وكيفية تنظيمه، إما حسب الغايات والأهداف النهائية أو وفقا للأسباب. وبالتالي فإن البرهانين يعتمدان على أفكار وتصورات بعدية a posteriori. والملاحظة الثانية، أن الاستنتاج الذي نتوصل إليه من خلال هذين الدليلين هو في الواقع "ضرورة" الكائن الذي هو منشأ ومصدر العالم؛ وهذا يعني إعتماد هذين الدليلين على صلاحية وصحة الدليل الأنطولوجي المتواجد ضمنيا خلالهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا


.. الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على بنى تحتية لحزب الله جنوبي




.. حماس تنفي طلبها الانتقال إلى سوريا أو إلى أي بلد آخر


.. بايدن يقول إن المساعدات العسكرية حماية للأمن القومي الأمريكي




.. حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي إذا تم إقا