الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النقد الثقافي السلافي: جمالياتُ (المثاقفة)، وتلميحاتُ (النواة الخَفِيَّة)!!

عزالدين المناصرة

2018 / 2 / 21
الادب والفن


النقد الثقافي السلافي:
جمالياتُ (المثاقفة)، وتلميحاتُ (النواة الخَفِيَّة)!!
• عز الدين المناصرة
كشفت النقلةُ الجذريةُ من (وظيفة الأدب) إلى (طبيعة الأدب = أدبيّة الأدب)، الخلل في الممارسة النقدية الفعلية العربية، منذ مطلع القرن العشرين: فالفراغ النقدي ما بين (الجرجاني، والقرطاجني)، ومطلع القرن العشرين، كشف غياب فكرة (التجسير)، لأننا انتقلنا فجأة نحو تقليد الحداثة الأوروبية. وليست المشكلة في هذا التقليد، لكن المشكلة الحقيقية تقع في دائرة (استمرار التقليد) حتى اليوم. وقد كشف لنا قبل ذلك (محمد بن سلام الجمحي)، (نسقين) مهمين في كتابه الشهير (طبقات فحول الشعراء)، هما: (الطبقية)، و(الفحولة)، وأنساقًا أخرى، لكن (النسق) في النص يبقى عنصرًا واحدًا من عناصر عدّة، حتى جاء العصر الحديث، حيث وضع علومًا لـِ: (النسق)، و(السياق)، و(المسكوت عنه)، و(الإترياح)، و(التناص والتلاص)، وغيرها. ومنذ (فلسفة المابعدية)، بدأت فكرة (التمويت)، عند رولان بارت، لكن (النقد الأدبي) ما زال قائمًا ومتطورًا ولم يندثر، ولن يندثر. فلماذا، إذن لا تُضاف فكرة (القارئ) دون قتل المؤلف الذي لا يموت، بل تتجدد أشكاله وفروعه بسقوط أوراقه الصفراء. أما (النقد الثقافي) أو (النقد الحضاري)، بمعناه العام، فقد كان موجودًا، في كتابات طه حسين: (في الشعر الجاهلي، 1926)، و(مستقبل الثقافة بمصر، 1938). ومنذ ظهور مصطلح (النقد الثقافي، 1951) عند الألماني (أدورنو)، تطوّر النقد الثقافي إلى فرعين: (النظرية الثقافية)، و(الدراسات الثقافية). ثم جاء تطور يحدد (النقد الثقافي) بفرعين: 1- نقد النصوص الأدبية ثقافيًا. 2- نقد النصوص الثقافية ثقافيًا، أي باختصار (نقد النصوص الأدبية والثقافية ثقافيًا)، لكن مثل هذه الدراسات أثبتت خروج هذا النقد الثقافي عن (النص)، باتجاه التوسع الثقافي، الذي (لا حدود له) أحيانًا. وفي كل الأحوال أثبت القرن العشرون، أن قصب السبق العالمي، يعود إلى (النقد الثقافي السلافي) بفرعيه: الشكلاني، والجدلي الواقعي، الذي تمحور حول (أدبيّة الأدب)، و(نظرية الانعكاس).
- (الثقافة)، هي (هذا العالم المعقد، الذي نواجهه في حياتنا اليومية ونتحرّك خلاله. وتبدأ الثقافة من هذه النقطة، التي يتجاوز عندها البشر، كل ما اكتسبوه من الطبيعة بالميراث. وأهم عنصرين من عناصر الثقافة قد يتمثلان في قدرة البشر على التشييد والبناء، وقدرتهم على استعمال اللغة من منظور يتسع لجميع أشكال نسق العلامة)(1).
وقد ورد في كتاب اليونسكو (أصوات متعددة... وعالم واحد) الصادر بالعربية عام (1981) تعريف للثقافة، هو: (مجموع إنجازات الإبداع الإنساني، بل كل ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة)، وينتقد الكتاب النمط الثقافي الاستهلاكي بقوله: (الكثير من التسلية الثقافية مبتذل ونمطي، لدرجة تجعله يحدُّ من الخيال، بدلاً من أن يثيره)(2).
ويكتب (محمد الجوهري) في مقدمته لـِ(موسوعة النظرية الثقافية) ما يلي: (تعتمد أفكار الأنثروبولوجيا الاجتماعية عن الثقافة اعتمادًا كبيرًا على التعريف الذي قدّمه (إدوارد تايلور، عام 1871)، الذي يُشير فيه إلى الكيان المركب، والذي ينتقل اجتماعيًا ويتكون من المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعادات. ويعني هذا التعريف أن الثقافة والحضارة شيء واحد)، ويضيف (الجوهري) أن (تايلور ومورغان) يرون أن الثقافة خلق واع من إبداع العقل الإنساني، وفي الأنثروبولوجيا الثقافية، يتم تحليل الثقافة على ثلاثة مستويات: أنماط السلوك المكتسبة، والعناصر الثقافية التي تمارس وظيفتها تحت مستوى الوعي، وأنماط التفكير والإدراك التي تتشكل ثقافيًا). أما (النظرية الثقافية)، فهي حسب الجوهري أيضًا، مصطلح يطلق على محاولات عديدة لتصوير وفهم ديناميات الثقافة.
ومن الناحية التاريخية، فإن هذا يتضمن الجدل حول العلاقة بين الثقافة والطبيعة، وبين الثقافة والمجتمع، وكذلك الفارق بين الثقافة العليا، والثقافة الدنيا، والتداخل بين التراث الثقافي من ناحية، والاختلاف والتنوع الثقافي من ناحية أخرى. وقد عُرفت النظرية الثقافية أيضًا بارتباطها بمفاهيم وتصورات غالبًا ما تعطي جوانب (ذات صلة بفكرة الثقافة نفسها). ومن هذه المفاهيم (مفهوم الإديولوجيا، ومفهوم الوعي)(ص5-7 بتصرف). لكن (الباحث) يحذر من (عدم الخلط بين (النظرية الثقافية)، و(الدراسات الثقافية)، وهو تخصص مستقل يقع على تخوم عدد من العلوم الإنسانية (علم الاجتماع، وعلم الأدب، وعلم النفس) وغيرها. ويهتم ميدان (الدراسات الثقافية) أساسًا بدراسة طبيعة الثقافة الجماهيرية، ومنتجات الصناعات الثقافية: (الثقافة الجماهيرية – دراسة الاتصال – المجتمع الاستهلاكي – وسائل الاتصال الجماهيري – وقت الفراغ – وما بعد الحداثة، وبعض جوانب نظرية الأدب، ونظرية علم الاجتماع، التي تتصل بتكوين الهوية وبالإديولوجيا. ويمثل هذا النوع، أي الدراسات الثقافية كتابات (هابرماس، ستيوارت هال، بيير بورديو، جان بودريار، وجان فرانسوا ليوتار)(ص:10، موسوعة النظرية الثقافية).
- في عام (1986) ألقيتُ محاضرة في دمشق، بدعوة من (الرابطة العربية للأدب المقارن)، التي كنت نائبًا منتخبًا لأمينها العام، وهي بعنوان: (المثاقفة): الإحساس بالعالم.. والتلذُذ بالتبعية، قدّمتُ فيها تعريفًا لمصطلح (المثاقفة) على النحو التالي: [المثاقفة]، هي التفاعل والتداخل والحوار والاحتكاك بين الثقافات المتنوعة والمختلفة – الطوعي والندّي، والتبادل الثقافي الطبيعي، بما يؤدي إلى تغير في الأنماط الثقافية السائدة، بعيدًا عن مفهوم هيمنة ثقافة على أخرى). وكان مصطلح (مثاقفة – Acculturation) قد ظهر عام (1880م)، استعمله (جون ويسلي بووِل J. W. Powel) لأول مرّة. واقترحتُ في تلك المحاضرة مصطلح (التفاعل الثقافي المتكافئ) بديلاً من التعريف الأمريكي عام (1936). وفي عام (1988) صدر كتابي (المثاقفة والنقد المقارن) بطبعات عديدة(3). وكان الهدف هو توسيع معنى (المقارنة)، وتوضيح تطبيقاته، فقد ذكرت فيه أن الهدف هو توسيع (التفاعل الثقافي) المعادل لمصطلح المثاقفة. وكان (النقد الثقافي)، قد ظهر لأول مرّة في العالم على يدي (أدورنو – Adorno) في مقالته الشهيرة عالميًا (النقد الثقافي والمجتمع، 1951)، حيث قال جملة شهيرة أيضًا: (لكي يكون الفن ناجحًا، عليه أن يُقدم بعض الحقائق، التي يتحاشاها المجتمع)، أي كشف (المسكوت عنه!)، أو ما سبق لي أن أسميته بـ(النواة الخفيّة)، وكشف الأنساق المخفية في النصوص، كما في محاضرتي المعنونه بـِ(شهادة في شعرية الأمكنة)، التي أُلقيتْ في نوفمبر (1989) في افتتاح (جمعية الجاحظية)، التي كان يرأسها الروائي الجزائري الراحل (الطاهر وطّار)(4).
1. جماليات المثاقفة: التفاعل والاختلاف:
يقول (معجم لاروس الفرنسي) أن "المثاقفة L’acculturation" هي: التكييف الإجباري أو الإرادي.. إلى ثقافة جديدة مادية ومعتقدات جديدة وسلوكات جديدة، والفعل –ثاقف-Acculturer، أي "تكييف فرد أو مجموعة لثقافة جديدة، كذلك نجد في قاموس المنهل (فرنسي-عربي)- تثاقُف: (تأقلم اجتماعي وثقافي يفضي إلى رفع مستوى فرد أو جماعية أو شعب). وفي قاموس – المورد (إنجليزي – عربي) – التثاقف هو "تبادل ثقافي بين شعوب مختلفة وبخاصة: تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدمًا".
كذلك نجد المغربي "محمد برَّادة" يعرف (المثاقفة) بالقول: (المثاقفة مُصطلح سوسيولوجي ذو معاني متداخلة وتقريبية. وبصفة عامة يطلق على دراسة التغير الثقافي الذي يكون بصدد الوقوع نتيجة لشكل من أشكال اتصال الثقافات: (الاستعمار – المبادلات التجارية والثقافية- الأسفار...)، وتؤدي المثاقفة إلى اكتساب عناصر جديدة بالنسبة لكلتا الثقافتين المتصلتين. وصعوبة المصطلح راجعة إلى تعداد المصطلحات المتقاربة في الاشتقاق). نقف أمام هذه التعريفات، ونفكك عناصرها فنجد ما يلي:
أولا: تتم المثاقفة بين طرفين.
ثانيًا: تتم المثاقفة بالقوة أو بالقبول.
ثالثًا: تحمل المثاقفة الأنثروبولوجية، معنى التعالي عند طرف والدونية عند الطرف الآخر.
رابعًا: تحمل المثاقفة معنى الفترات الانتقالية والصراع بين الطرفين (الاستعمار).
خامسًا: تحمل المثاقفة معنى –الاتصال والتواصل والانفتاح الثقافي.
سادسًا: تحمل المثاقفة معنى التأقلم مع ثقافة الآخر والاندماج فيه، فيساعد ذلك في إضافة عناصر جديدة إلى ثقافة الآخر، ولكن مع انغلاق الآخر.
سابعًا: قد يؤدي ذلك إلى ازدواجية في الشخصية حيث تبقى حائرة بين عناصر الهوية الأولى وبين العناصر الجديدة. وقد يفضي ذلك إلى رفض الثقافتين دون طرح البديل، أو يتم الهروب باتجاه الثالث. إن جميع هذه المعاني لا تتناقض مع بعضها البعض، بل هي تدلل على أن – المثاقفة تتم بأشكال سلبية وإيجابية، وتؤكد أنه لا يوجد تعريف مثالي لمثاقفة مثالية. ويبقى أن الحلقة المركزية في المثاقفة هي الصراع والتفاعل وفق قوانين متعددة الأشكال. ويبقى كذلك أن جوهر عملية المثاقفة هو مفهوم المقارنة. ولهذا يمكن أن تصبح المثاقفة فرعًا أساسيًا من فروع الثقافة، هو أقرب إلى (النقد التفاعلي الثقافي)، بل يمكن أن تصبح حقلاً مستقلاً تمام الاستقلال، لكن (المثاقفة)، يمكن أن تساهم في حَلّ مشكلة (وهم التناقض) بين (النقد الأدبي)، و(النقد الثقافي).
إن ما يحكم "المثاقفة" بين الشرق والغرب الآن، ليس معنى "الانفتاح" وليس معنى "الغزو"، إنه مزيج منهما، فالانفتاح الشرقي على الغرب يحمل دلالة الإعجاب بالحداثوية التقنية في الأدب والفن (الشكل غالبًا). كما يحمل رواسب الاستعباد الذي تركه القوي على المستعبد، فالاستعمار ما زال قائمًا وليس حالة تاريخية عابرة. لأن الشرق سوق رائجة للتقنية الغربية. والشرق يستقبل ذلك انطلاقًا من الاحتياج، لكن الاحتياج ليس مرتبطًا بالقبول دائمًا، بل يتم بالإكراه في شكل قبول، انطلاقًا من الاحتياج الإجباري. أما القابلية فهي تأتي من قبول الأمر الواقع وتحويله إلى عادة مقبولة. فهل ما نحتاجه حقًا هو –التكنولوجيا- أم الخبز؟! وهل يمكن القبول بالتناقض بينهما؟!
في مقابل السؤال الشرقي: كيف نصل إلى عقل الغرب؟، يكون السؤال الأورو-أمريكي: كيف نجعل الشرق تابعًا؟!. وما زال الانفتاح الشرقي تشوبه عقدة التلذذ بالاغتراب، ولكي يكمل الشرق مثاقفته للغرب، أصبح الغزو جميلاً تحت شعار الانفتاح، فأصبح الغزو انفتاحًا مثلما أصبح الانفتاح غزوًا. أما المثاقفة الأوروبية للشرق فما زالت تحكمهاعقدة التعالي العنصري، حيث انتقلت من منظور ما أُسميه: "سحر الشرق" الاستشراقي، أي تلك الأرض المشرقية الساحرة "تصلح للاستعمار"، إلى منظور عصر النفط، أي كيف تستعمره دون أن يشعر بذلك؟! وفي أفضل حالات المثاقفة استعمل منظور: ضرورة إعطاء المستعبد قليلاً من الفتات، حتى تتم المطابقة الشكلية بين شعارات الديمقراطية الأوروبية وبين مطالبة الشرق بدور الشريك في أمور العالم، ولكن ذلك يتم دائمًا على أرضية بقاء المركزية الأورو-أمريكية، وبمعنى آخر بقاء الشرق مجرد "بهارات" و"توابع" تجمل "ديمقراطية" الغرب. ومنذ القرن التاسع عشر أصبح التثاقف بين الشرق والغرب يحمل معنى "الغزو" وأخذ هذا الغزو أشكالاً عديدة:
أولاً: قابلية التلذذ بالاستغراب والانبهار، كما عند رفاعة الطهطاوي المنبهر أمام باريس بإرادته.
ثانيًا: قابلية الاستقبال انطلاقًا من الإعجاب بالمناهج الأوروبية الحديثة من أجل الخروج من عصر التخلف الثقافي.
ثالثًا: قابلية "التنجلز" و"التفرنس" في إطار اللغة، باعتبار اللغة هدفًا بحد ذاته، مثل القبول بما سمي باللغات الحية، كما في مصر وسوريا والعراق وفلسطين، وهي حال أشدُّ خطرًا من "الفرانكوفونية" و"الأنجلوفونية". بمعنى أن اللغتين الفرنسية (سوريا) والإنجليزية (مصر والعراق وفلسطين) ظلتا المستخدمتين في الإطار الثقافي دون أن تتحولا إلى مؤسسة إجبارية. بينما كانت القابلية للتفرنس في لبنان أكثر خطرًا وتكاد تقترب من التكريس كمؤسسة.
رابعًا: الغزو المباشر المرفوض الإجباري (كما في حالة الجزائر والمغرب وتونس)، كان تحصيل حاصل، حيث يكتب الكتاب المغاربة بالفرنسية بعد أن تكرست بالقوة لزمن طويل. وقد اتخذ ذلك مظاهر عديدة في الثقافة، وكانت مواقف المثقفين متفاوتة:
أولاً: التلذذ بالاستغراب.
ثانيًا: الرفض السلفي للنموذج الأوروبي.
ثالثًا: رفض الاستغراب والسلفية القومية معًا.
رابعًا: الاختيار والانتقاء(5).

أولاً: تحمل (المثاقفة) في مدلولها السلبي عند (الأنثروبولوجيين) في القرن التاسع عشر: مفهوم الثقافة العليا- والثقافة الدنيا). ولكن بمعناها الإيجابي في القرن العشرين، خصوصًا منذ أول الثلاثينات، تحمل معنى (التفاعل الثقافي)ـ وهي تحمل معنى (تقاطع وتداخل الثقافات)، وتحمل معنى (الحوار المتعدد الأصوات). وبالتالي، يصبح (المعنى السلبي القديم)، جزءًا صغيرًا من تاريخ المصطلح، لم نعد نستعمله إلاّ كذكرى!!. ومن هنا، فإن طرح مصطلحات جديدة بديلة أسهل بكثير من مقاومة مصطلح (سيء السمعة) مقاومة لا جدوى منها، ومع هذا، نحاول من جديد إعادة الاعتبار لمصطلح ظلم كثيرًا، بسبب المنحى العنصري الاستعماري لتعريفات القرن التاسع عشر، وذلك أن هذا المصطلح (المثاقفة) في حالة الاستقلالية المفردة، هو مصطلح إيجابي، ربما يكون أفضل بكثير من البدائل المقترحة.
ثانيًا: إضافةً إلى فاعلية (التفاعل الثقافي)، نضيف بالتأكيد (معنى العالمية)، لأن (المثاقفة) تحمل معنى (العالمية)، حتى لو تدخل المعنى السلبي أي (العولمة المتوحشة)ـ التي هي نقيض العالمية الإنسانية.
وقد ظل مصطلح (المثاقفة) يشتمل على صلات مع العلوم الإنسانية، مثل: علم الاجتماع، علم النفس، العلوم السياسية، علم اللغة، الفلسفة، وغيرها. بل كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بِ ما أسميه بـِ(علم التفكير)(*)، الذي يقترب من خلطة من العلوم الإنسانية السابقة. فالمثاقفة التفاعلية تندرج في إطار (علم التفكير)، الذي يُنسب إلى (تيار الأفكار)، أو (التيار الفكري)، مثل: (ميشيل فوكو- تيري إيغلتون- ياكوبسون- تودوروف- رولان بارت- كلودليفي شتراوس- ألتوسير- بيير بوردو- جاك ديريدا- غرامشي- جورج لوكاتش- لوسيان غولدمان- فرانزفانون- إدوارد سعيد- هابرماس- أدورنو- والتر بنيامين- أورباخ- هيغل- جوليا كريستيفا- ليوتار- جان بودريار- يوري لوتمان... وغيرهم. وقد أحصيتُ في كتابي (الهويات والتعددية اللغوية: قراءة في ضوء النقد الثقافي المقارن، 2004)، مثلهم، أو أكثر، عند العرب في العصر الحديث (حوالي 150 مثقفًا) من مثل: (عبد الرحمن الكواكبي- قاسم أمين- رفاعة الطهطاوي- جرجي زيدان- أحمد فارس الشدياق- روحي الخالدي- أنطون سعادة- مالك بن نبي- سلامة موسى- محمد عابد الجابري- عبد الله العروي- هشام شرابي- إدوارد سعيد- الطيب تيزيني- عبد الرحمن بدوي- هشام جعيط- محمود أمين العالم- أنور عبد الملك- سمير أمين- حسين مروة- مهدي عامل- صادق جلال العظم - هادي العلوي- أدونيس- علي الوردي- جمال حمدان- أسعد أبو خليل- علي فهمي خشيم- محمد أركون- المهدي المنجرة- محمد عمارة – عبد الوهاب المسيري - فهمي جدعان- الحبيب الجنحاني- فراس السوَّاح- محمد جابر الأنصاري- نصر حامد أبو زيد- علي أومليل- عباس محمود العقاد- فاطمة المرنيسي- الشيخ مصطفى عبد الرازق- طه حسين- وغيرهم).
بطبيعة يُصنّف (هؤلاء) ضمن ما أسماه الأوروبيون بـِ(الدراسات الثقافية). أما (المثاقفة)، فتبقى آلية لمعنى الانفتاح والحوار والتمازج، وتقاطع الثقافات عالميًا، أي (التفاعل الثقافي).
ثالثًا: إذن (المثاقفة) هي التبادل الثقافي بين الشعوب في الكرة الأرضية، دون حواجز أو حدود، حيث تسود (شعرية التهجين الثقافي)، لكن هذا التهجين ليس رفضًا للهُويات، لأنها تستقل في دائرة واسعة معبرة عن نفسها، وتتفاعل مع الآخر، انطلاقًا من (مبدأ التجاور). لكن التفاعل والتجاور بل والاندماجات الجزئية، لا تلغي هُوية هذه التبادلات الثقافية. ومن خلال المثاقفة كآلية كبرى، يمكن للخصوصيات أن تظهر لتعددية تثري موضوعات (خطاب المثاقفة)، مثل: (خطاب النساء- خطاب التهميش- خطاب التكنولوجيا- خطاب الاختلاف- خطاب الثقافة الشعبية- خطاب ما بعد الحداثة- خطاب الأزياء- خطاب الطعام- خطاب الهُويات- خطاب القراءة- خطاب التناص والتلاص- خطاب التفكيك- خطاب الحب- خطاب الكراهية- خطاب النقاء والقُبح- خطاب السينما، وغيرها، مثل: آليات اكتشاف الأنساق- خطاب الدراسة السياقية- خطاب المقاومة...إلخ.
- ما النسق: ترجم (عبد الله الغذامي)، مصطلح (Cultural Criticism) بـِ(النقد الثقافي)، وعرَّفه على النحو التالي: (مجال النقد الثقافي هو النص، ولكن النص يعامل هنا بوصفه حامل نَسَق، ولا يُقرأ النص لذاته ولا لجماليته، وإنما نتوسل بالنص لنكشف عبره حِيَل الثقافة في تمرير أنساقها). أما (النسق المضمر)، فهو ليس في محيط الوعي، وهو يتسرب غير ملحوظ من باطن النص ذاته، ودلالته الإبداعية، الصريح منها والضمني. ويصل (الغذامي) إلى خلاصة مفادها: (وهذه بالضبط لعبة الألاعيب في حركة الثقافة وتغلغلها غير الملحوظ عبر المستهلك الإبداعي والحضاري. (ص:39-40). أما (عبد النبي صطيف) فيقول: إن (النقد الأدبي)، إنشاء مرتبط بشبكة معقدة غاية التعقيد من الصلات يقيمها مع العناصر المشكلة للفضاء أو الفسحة التي يتحرك فيها، ومعنى ذلك أن جملة محددات تقوم بتحديد طبيعة النص النقدي، وبالتالي تمنحه هويته المميزة، والواقع أن هذه المحددات، تشكل بالصلات التي تقيمها مع النص النقدي- (السياق Context)، الذي يتموضع فيه هذا النص، ويدين له بكل دلالاته. فالنص النقدي في التحليل النهائي، محكوم بالسياق الذي ينتج فيه. ودراسته ينبغي بالتأكيد أن تمر عبر بوابة سياقه)، أي أن (معنى أي نص وتفسيره، يعتمدان على السياق)، كما يقول (T. K. Seung)، 1982. وكل تحليل نصي يفترض مسبقًا سياقًا للدلالة والتوصيل، لأن قضية (السياق- المعنى)، ليست (خارج نصيَّة)، ولا (داخل نصيَّة). ويحدد (الغذامي)- أربع حالات للوظيفة النسقية. لكن (صطيف)، يعترض قائلاً: (ص:196) (يتساءل القارئ مجددًا: جميل كل هذا الذي شرحه (الغذامي)، ولكن: ما النسق، ما تعريفه، ما حدوده، وكيف تم اشتقاقه، وما الدلالة التي اختارها صاحبه له. (ولكن ليس ثمة من إجابة)!!(ص195-196)(6).
- وقد سبق لي أن قدّمت تعريفًا لـِ(النسق، 2006) على النحو التالي:
(هو النظام التقني، الذي يميز البِنْيات المتشابكة في النص وهو متعدد، ومتنوع، ومتكرر، ودالٌ على مستويات البنية. وهو شكلي نمطي تقليدي، ومبتكر، وعالمي، بينما تركز البِنْية على الدلالة، رغم تقنيتها الشكلية. وبين النَسَق، والبنية علاقة جدلية لا فكاك منها: فالبنية هي التي تكشف النسقْ، كما أن النسق هو الذي يُكوِّن البنية)(7).
2. (النواة الخفية):
يقول (تيري إيجلتون) شارحًا فكرة (المسكوت عنه)، عند (بيير ماشري، 1966) على النحو التالي: (ينطلق هجوم (ماشري) الحادّ على النقد الأدبي البرجوازي، من أنّ العمل الأدبي لا يرتبط بالإديولوجيا عن طريق ما يقوله، بل عن طريق (ما لا يقوله)، فنحن لا نشعر بوجود الإديولوجيا في النصّ الأدبي إلاّ من خلال جوانبه الصامتة الدالّة، أي نشعر بها في فجوات النصّ وأبعاده الغائبة. هذه الجوانب الصامتة، هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد ليجعلها تتكلم. فالنصّ قد يُحرّم عليه –إيديولوجيًا- قوله أشياء معينة. ولذلك تكمن دلالة العمل الأدبي في صراع المعاني أكثر مما تكمن في الوحدة بين هذه المعاني(8).
- رغم أن المكان حيز له كيان شبه مكتمل من وجهة نظر سكانه، وله حدود فعلية وحدود مجازية متصورة، إلاّ أن الحدود يمكن أن تُخترق. فالكيانية المجازية لا تتطابق بالضرورة مع الكيانية الفعلية، لأن المكان-الأمكنة، تنتقل معنا وفينا خارج حدودها. المكان فضاء مغلق رغم أنه مفتوح، وهو فضاء مفتوح رغم أنه مغلق. وهناك فضاء ينطلق في مساحة النص المرسوم على بياض الورق. وهناك فضاء آخر يتولّد في أذهان القراء من خلال طرق متنوعة للقراءة. والمكان أيضًا معروف بحدوده، لأننا نمتلك تصورًا ثقافيًا مسبقًا عن وجود أمكنة أخرى في العالم، قد نراها وقد لا نراها، وهي تتجاوز أو تتقاطع أو تتفاعل مع المكان المعروف. وقد تنتقل الأمكنة الأخرى من مرحلة المجاز إلى الصورة المرئية، حين ننتقل أو نجبر على الانتقال إليها. لكن المكان الأول يبقى هو نواة الأمكنة في العالم، سواء في تصورنا واستحضارنا الذهني له أو في ممارستنا اليومية. وهكذا يتكون لنا فضاء مغلق وفضاء مفتوح، والذهن هو الذي يرسم ويشكل الحدود. يقول حسن فتحي (معماري مصري): (لا بد من أن نميز بين الفضاء الكوني والفضاء المغلق. ولا نستطيع أن نختبر الفضاء الخارجي أو الكوني، حيث أنه يتمدّد إلى ما لا نهاية، فلكي نختبر الفضاء لا بد أن نستقطعه أو نحصره داخل الجدران. وبما أن الفضاء الخارجي يختلف عن الفضاء الداخلي، فإن إدراكهما يختلف أيضًا). وهكذا، فإنه كُلّما كان الشاعر عارفًا بتفاصيل المكان الأول، كلما ازداد شقاؤه ومعاناته، ولكنه أيضًا قد يعرف ويهرب من (النواة الخفيّة) إلى نويّات أخرى لأي سبب. فالمعرفة بالمكان الأول، لا تنتج وعيًا شقيًا بالضرورة، فهناك شروط لتكوّن الحساسية باتجاه النواة الأولى، أهمها المعاناة الفعلية (المنفي الفعلي)، وليس الاستنطاق الجمالي الذهني المصطنع، وهناك فرق أيضًا بين الحنين الفولكلوري المجاني (النوستالجيا)، والمعاناة الفعلية. وثمة أيضًا درجات للمعاناة والحساسية، لا يمكن أن نساوي بين مقتلع من أرضه بالقوة، ومنفي مؤقت أو مهاجر اختياري. صحيح أن مشاعر المنفيين متقاربة، لكن لها درجات. ومن البدهي أن نجد استثناءات: مثلاً: قد نجد مثقفًا منفيًا في وطنه أكثر حساسية من منفي عن وطنه. كما نجد فوارق هائلة بين مقتلع من أرضه يرفض الاندماج في المنافي، ومقتلع آخر يعيش مندمجًا بسلام مع منفاه، حتى كأنه ليس بمنفاه، بل هو يعتبره (وطنه الجديد). ونجد أن علاقات المنفى، بالمكان الأول علاقةٌ (نوستالجية = حنينية) تتجلّى في المناسبات فقط!!!. إن النواة الأولى، مساحة من الحرية والاطمئنان، نشعر فيها بأن أقدامنا لها جذور تنغرس في قلب الكرة الأرضية، وتمتد حتى "قرن الثور"، كما يقول الخيال الشعبي. حيث تحتل النواة الظاهرية أو تخترق من الخارج، تتقلص مساحة الحرية. إن من صفات المكان المغلق يمكن استخراج الصفات:
1. النواة الخفية: المكان المغلق، هو نواة قياسًا على الخارج، ولكن الأهم هو وجود نواة للنواة أو نواة خفية مجازية تتشكل لدى السكان الأصليين، انطلاقًا من منظور الخبرة الحضارية والثقافية. فليس صحيحًا أن أسوار القدس، مجرد كومة من الحجارة مبنية على هيئة حيطان عالية، تشبه أية أسوار في العالم، لأن لهذه الأسوار جذورًا غير مرئية موجودة في الروح، بل في عمق المكان نفسه. ولهذه الأسوار (نواة خفية) غير النواة المادية الظاهرة. ما يدل على ذلك، تغلغل التاريخ في وجدان البشر بطريقة إرادية وغير إرادية، وتأثيره الفعلي في البشر، رغم مرور القرون. فالحجر والبشر لا يفترقان.
- يقول الشاعر المصري اللهجي: (بهاء جاهين): (الجرَّافاتْ / يمكنْ تشيل الشَجرْ / يمكنْ تشيل الحجرْ / إلاّ حنين البشرْ).
2. الحد-الحدود: تلعب مقولة الحد – الحدود، دورًا مهمًا في تشكيل المخيلة العالمية لا يستطيع أحد إنكارها. حتى بالنسبة لهؤلاء البشر المطمئنين في أوطانهم، هناك دائمًا حدّ (حدود): حدود فعلية واقية قابلة للتغير، وحدود مجازية متصورة. ويلعب الحدّ دورين مختلفين في آن معًا، هما دور التمحور حول النواة والنواة الخفية، ودور التفاعل والتواصل بين النواة وبين النويات الخارجية. وقد يكون الحدّ عائقًا أما التواصل والتفاعل، إذا ما أخذ التفاعل، مفهوم التبعية للنواة الخارجية، ولكلٍّ من التفاعل والتقاطع والتواصل، شروط ليست مثالية.
3. البنية البصرية والبنية المتخيلة: يتكون المكان من بنيتين تتقاطعان وتتفاعلان هما: بنية بصرية حيث يتفاعل البصر البشري مع المرئيات المحسوسة، ويعيد تشكيلها في أنساق بنيوية صغرى، وبنية متخيلة، وهي بنية ثقافية وجدانية، تقوم بتحويل المرئيات إلى أنساق كبرى، يحكمها نسق بنيوي واحد هو المكان المغلق. وتضاف حينئذٍ النواة الخفية.. فالمكان إذن ليس المرئيات فقط.
4. البشر والحجر: يقول المثل الشعبي "جنة بلا ناس.. ما بتنداس"، فالمكان لا يكتمل بظاهريته، حتى يجعل الناس له تاريخًا حقيقيًا وجدانيًا شعبيًا، وتاريخ المكان يبدأ منذ "الإنسان الأول" فيه بثقافته الوثنية، ولا ينتهي بل يتحول. وبالتالي فلكل مكان أزمنته المتعددة، والمتنوعة التي تعطيه غنى ثقافيًا وحضاريًا. كذلك لا يمكن فصل الزمان عن المكان، ولكن ليس بالضرورة، التطابق بين الزمان والمكان تطابقًا التحاميًا. ولا يكمن وضع المكان والبشر في حال التناقض، حتى لو أعلن بعض البشر تناقضهم مع بشر آخرين وليس مع المكان. لقد ظل تفاعل البشر مع الحجر والتراب أمرًا مستمرًا منذ القدم وحتى الآن، وظل الإنسان يرى وهو يشكّلُ التراب، والحجر تحولات رموز حياته. وفي لحظة ما من عمر البشرية، كان الحجر معبودًا مع أنه من صنع يديه. إنّ لهذا الأمر علاقة بمسافة الولادة والموت الوجودي.
5. الثنائيات: ثمَّة داخل يشتاق للخارج، وثمة خارج يشتاق للداخل. هناك رغبة خفية للتفاعل، والأصح أن نقول: ثمة داخل للخارج، وخارج للداخل، يتفاعلان جدليًا، (سلبيًا وإيجابيًا)، فالثنائيات ليست ثابتة، ليست دائمًا واضحة الحدود: هناك مغرب للمشرق، ومشرق للمغرب. وهناك موسكو لنيويورك، وباريس ومدريد للقدس. وهناك قدس لموسكو، وقدس لنيويورك، وقدس لباريس، وقدس لمدريد، وقدس لفرانكفورت. لقد كانت القدس (قبل الاحتلال) ملتقى ثقافات العالم، وكانت وما تزال مغروسة في الوجدان العالمي، ولكنّها، عاصمة الشعب الفلسطيني فقط. وقد تكون العلاقات اغتصابية أو ندية وفق الرغبات المثالية للبشر، فالمواصلات الحديثة ووسائل الاتصال، رغم فوائدها المؤكدة، إلاّ أنها لم تستطع كسر الحدود بتحطيم متبادل عادل، ولم تستطع تكنولوجيا الحداثة، أن تصل، ولن تصل أبدًا إلى النويّات الخفية. ولم تكن دائمًا ذات فائدة متوازنة بين الأنا والآخرين، بل أحيانًا استعملت ضد مصلحة الإنسان الآخر. ولا يتم التفاعل الخلاق الواقعي بين الأمكنة وثقافاتها المتنوعة إلاّ بتحطيم متبادل للحدود، واعتراف بالعدالة، وحق الشراكة والتنوع والتعدد. ولا يتم ذلك عبر التوحيد القسري للأمكنة والثقافات من خلال التوحيد القسري في التقنيات (أيديولوجيا البنى الموحدة مثلاً)، لأن الإيديولوجيا الليبرالية، جعلت الإنسان متشيئًا أي عبدًا للآلة، وعبدًا للسلعة التي لا عدالة في توزيع فوائدها. هنا يصبح: نظام المجموعات المتحدة، هو- أفضل نظام. ولا يتم التوحيد عبر القسرية والاستعلاء وإنكار ندية الآخر. كذلك لا يتم التفاعل، ولن يتم عبر الاحتلال والاغتصاب، فحين يحدث الاغتصاب، تهبّ (النواة الخفيّة) للدفاع عن نفسها. وإذا كان مختلفًا حول تفاصيل النواة، أي أهمية الأجزاء بالنسبة لبعضها، فإنه لا خلاف حول النواة الخفية. فللنواة الخفية مركز جاذبية يتعلق بها بشر الأمكنة. إن عملية التعلق، لها تجلياتها البسيطة والعميقة، تصل إلى حدّ الاستشهاد من أجل النواة الخفية أحيانًا(9).
ثقافة التفكيك: لا أصل للأصول!!
أساس التفكيك كآلية لتفكيك الثقافة كفلسفة، هي: (الظاهراتية، والبنيوية، ونيتشة، وهوسرل، وفرويد، وهايديغر)، وقد يضاف تعددية التفسير الحاخامي لكتاب التوراة واختلافاتها، وتعددية التفكيك للثنائيات المتقابلة في الميتافيزيقيا، المتمركزة، صوتيًا. ويرى (إيغلتون) أن التفكيكية: (إصلاحية، ويسارية متطرفة، عجزت عن فهم الجدلية الطبقية). لهذا، فإن (ديريدا)، يقع هو الآخر في فخّ- التمركز، باختراع ثنائيات جديدة ميتافيزيقة أيضًا، تستقي تمظهرها من المنابع الدينية، أي (الصوفية اليهودية)، وهي أي التفكيكية، تندرج في دائرة المحافظة، حيت تبقى أسيرة الميتافيزيقا السائدة، لأن التفكيك، لا يتخلّى عن الأفكار التفليدية، وهو يقوم بعملية، الهزّ والقلب والرجّ، والتحويل والإزاحة، ومعنى ذلك، أن التفكيك، يقوم بعملية حركية حيوية، وهو يفكّك النص، لكنه في النهاية يترك الأجزاء متناثرة على الأرض، دون تجميع، حين يتخذ موقف اللاموقف ويُحسب للتفكيكية التي انطلقت من الشكّ المنهجي، تلك الحيوية الفائقة المدهشة، المحركة للنص المطمئن، فهي تضمن عبر تدمير المفاهيم السائدة للمقهورين، أن يقرأوا النصوص التي كتبتها السلطة، وكتبها المنتصرون من أمثال: (قداسة رأس المال- قداسة الأصل- قداسة القُوَّة الاحتلالية)، وأن يقوموا بتفكيكها، وكشف المسكوت عنه في نصوصها، وإنْ أمكن، فتدميرها، لأنها تقوم بدور التعمية السوداء على الحقيقة. ومن هنا، يكون للمثقفين، تطوير التفكيكية بتجاوز منجز دريدا والتفكيكية الأمريكية، نحو آفاق أكثر عمقًا، وأكثر جرأة، أي بتفكيك ما أسميه: (التعليق في الهواء) الذي وصل إليه دريدا. لقد قدّمتُ في كتبي، قراءةً- كولاّجيّة/ مونتاجيّة للتفكيكية للحفاظ على الأمانة العلمية من جهة، ولكشف التناصّ والتلاصّ لدى بعض المثقفين العرب الذين يستخدمون العناوين البرّاقة المستهلكة من جهة أخرى، سواءٌ عناوين ديريدا الأصلية (الكتابة- الاختلاف- اللاتمركُز...إلخ)، أو عناوين التفكيكية الأمريكية، (القراءة الخاطئة لبول دي مان). إنّ مسألة الشكّ الذي تنطلق منه التفكيكية، كذلك عملية التدمير المنهجي لسلطة القوّة في النص، أمرٌ إيجابي، وليس أمرًا سلبيًا كما يرى بعض منتقدي التفكيكية، لأن الشك والتفكيك والتدمير، هي أساس الثورة، وإن كانت التفكيكية ثورة ناقصة في عدة وجوه. كذلك، فإن التفكيك، يخدم منهجية التناصّ من زاوية كشف الرواسب العلائقية في النص، ليس بهدف فضحها، بل بهدف، إعادة تركيب المعاني المبعثرة الأصلية ونقدها نقدًا جذريًا يساهم في كشف الحقيقة ونفض الغبار عنها بعد أن وضعتها سلطة القوة في الهامش الذي تعلوه طبقات التراب. مثلاً: يمكن قراءة (التقابل الثنائي) بين (الهولوكست اليهودي- الهولوكوست الفلسطيني)، بتفكيك هذا التقابل- جدليًا، لاكتشاف أنّ الفلسطيني، كان ضحيّة في المرتين، وأن اليهودي الأوروبي كان أمامه عدّة حلول اندماجية وحرّة في مكان آخر، ليس من بينها- اختراع تاريخ مزوّر لليهودي الأورو-أمريكي، الروسي في فلسطين، القادم من (امبراطورية الخزر). وسوف يكشف التحليل والتفكيك، أنّ إسرائيل، دولة غير شرعية، استعمارية مغتصبة، هي نتاج الاستعمار الأوروبي، وأنّ فلسفة- المابعدية، لا تصلح للاعتراف بشرعية إسرائيل، لأن الضحايا ما زالوا في منافيهم، بل إن بعضهم في قلب أرضهم- فلسطين، يتألمون ويرغبون ويحلمون، ويورثون هذا الميراث الدموي لأطفالهم في حليب الرضاعة. ومن هنا، لا مكان للتسوية المبنية على الباطل العنصري. وهذا معناه أن نقول للعالم: خذوا يهودكم الذين أطلقوا على أنفسهم لقب- إسرائيل، ونحن نتكفّل بحماية الطائفة اليهودية الفلسطينية الأصلية (7% من الشعب الفلسطيني). أمّا تفكيك (أطروحة العقدة الإبراهيمية)، فهو يمسُّ- الطائفة اليهودية الفلسطينية، ولا علاقة له من قريب أو بعيد، بما يُسمّى- دولة إسرائيل. وباختصار: (خذوا إسرائيل، ونحن نأخذ يهودنا الفلسطينيين). ومعنى هذا بوضوح أكثر، لن يجتمع (الإسرائيليون) مع (الشعب الفلسطيني) في مغارة الخليل، حتى لو اجتمعوا مجازيًا في موسيقى الكهف لليهودي الأمريكي رايخ، لأن اجتماعهما، لا يعني آنئذٍ- تفكيك العقدة الإبراهيمية، بل يعني منح الباطل شرعية من وهم التاريخ(10).
3. يوحنا سميث: ما النقد الثقافي؟
- في مقالة له بعنوان (ما النقد الثقافي) يقول (يوحنا سميث) بأن أحد أهداف (النقد الثقافي)، هو أن يعارض الفكرة الشائعة عن (الثقافة)، بعبارة أخرى أن يعارض هذه النظرة الثقافية الطارئة، التي عادة ما تساوي بين (الثقافة) عمومًا وبين ما نسميه أحيانًا (الثقافة الرفيعة) فقط، فالنقاد الثقافيون يرغبون في جعل مصطلح ثقافة مشيرًا إلى (الثقافة الشعبية)، بقدر إشارته لتلك الثقافة التي عادة ما نقرنها بما يطلق عليه الكلاسيكيات. وبمعنى آخر يمكن للناقد الثقافي أن يكتب عن (يوليسيز لجيمس جويس)، بمثل ما يمكنه الكتابة عن (مسلسل سينمائي) عن الخيال العلمي. ويواصل (يوحنا سميث) فكرته بالتأكيد على أن النقاد الثقافيين يسعون إلى تحطيم التخوم بين الأعلى والأدنى، كما يسعون لتعرية التراتبية، التي يتضمنها التفريق بينهما. إنهم كذلك يودون كشف الأسباب (السياسية غالبًا)، التي تجعل نوعًا معينًا من المنتجات الجمالية أكثر قيمة مما عداه. هم يقارعون المعيارية الأدبية القائمة عن طريق نقد فكرة المعيارية نفسها. وهم يحاولون أن يكونوا أكثر وصفية وأقل تقويمًا، أكثر اهتمامًا بالربط بين المنتجات والأحداث الثقافية، من تصنيفها أو تثمينها. ولم يكن مفاجئًا إذن (يواصل الباحث)، أن يكتب أربعة من النقاد الثقافيين المؤسسين في مقال عن (الاحتياج للدراسات الثقافية) أنه: (يجب على الدراسات الثقافية أن... تتخلى عن هدف إعطاء الطلاب مدخلاً لما يمكنه أن يقدم ثقافة معينة ويشرحها، بل عليها في المقابل أن تظهر الأعمال في علاقتها بأعمال أخرى. ولعل أهم ما يجب أن يقاومه النقاد الذين يعملون على الدراسات الثقافية هو الفكرة السائدة عن الثقافة بوصفها كُلاً مكتملاً قد تمت صياغته بصورة نهائية. فالثقافة في الواقع هي مجموعة من الثقافات المتفاعلة الحيَّة المتنامية والمتغيرة، وعلى النقاد الثقافيين أن يكونوا متكيفين مع الحاضر، بل مع المستقبل. يجب على النقاد الثقافيين أن يقاوموا (النخبوية الفكرية)، ويجب على الدراسات الثقافية أن تكون مشروعًا تحرريًا- (جيروكس).
ويعلق (يوحنا سميث) على الفقرة السابقة بما يلي:
أولاً: يرى عددٌ من النقاد الثقافيين أنفسهم من (منظور سياسي، وربما يكون منظورًا سياسيًا معارضًا).
ثانيًا: لقد كان النقاد الثقافيون، أكثر انتقادًا للبنية التقسيمية، التي تميز الجامعات، لأن هذه البنية- ربما أكثر من أي شيء- قد أبقت دراسة الفنون منفصلة عن دراسة التاريخ، ناهيك عن دراسة الأشياء الأخرى من مثل: (التلفاز، الأفلام، الإعلانات، الصحافة، التصوير الشعبي، الفولكلور، وأنماط العلاقات المعاصرة، وثرثرات المحلات التجارية، والإشاعات كذلك). بهذه (البنية التقسيمية) للجامعات، فرض التمييز (أعلى/ أدنى) بالنسبة للثقافة، متضمنًا أنه يستحسن ترك دراسة الموضوعات السابقة، للمؤرخين، وعلماء الاجتماع، والأنثروبولوجيين، وعلماء اللغة، والباحثين في وسائل الاتصالات. لكن هذا الاقتراح، كما سيجادل النقاد الثقافيون- سيمنعنا من رؤية الجماليات الموجودة في إعلان مثلاً، بقدر ما سيمنعنا من رؤية العناصر الدعائية لعمل أدبي ما.
ثالثًا: مزج (النقاد الثقافيون) دون أي ارتباك، معظم الأدوات التحليلية الكاشفة، التي تم تطويرها في مجالات معرفية متنوعة، منسقين بين الأدوات، ومطرحين ما سواها. ولهذا قاموا بتشكيل شبكات مفاهيمية مختلفة عن تلك المفاهيم المفروضة والمقسمة بصورة انفصالية. وعبر الزمن، ترسخت بصورة مبدئية شبكات من المفاهيم المتحررة، والعابرة للمجالات المعرفية، لتمثل أساسات الدراسات الثقافية وبرامجها، والتي اكتملت ببرامج تحليلية حول الفنون الهزلية والمسلسلات الجماهيرية اليومية.
رابعًا: مع التحول السابق، ظهر خطر مهم ودقيق، إذْ حذّر (ريتشارد جونسون) من أن النقاد الثقافيين، يجب أن يكافحوا باجتهاد، ليتجنبوا تحول الدراسات الثقافية إلى فرع مضاد لذاته، بحيث يتعامل الدارسون فيه مع أفلام الكارتون بوصفها معيارية بديلة، مؤمنين بأهمية هذه الأشكال الجماهيرية كعقيدة. ولهذا يقترح جونسون العودة إلى مبدأ أن الثقافة يمكن أن تتحول إلى مفهوم طبقي، أي إلى أداة لممارسة الغطرسة. والمبدأ الثاني يتمثل في الاعتقاد بأن التوجه التحليلي العابر للمجالات المعرفية والمضاد أحيانًا لهذه المجالات- نحو ثقافة حقيقية، قد أصبح توجهًا مطلوبًا الآن، لأن التاريخ والفن والإعلام هي مجالات معقدة ومتداخلة.
خامسًا: ويا للسخرية يقول (يوحنا سميث)، فقد لعب (جونسون) نفسه دورًا رئيسًا في تحويل الدراسات الثقافية إلى مؤسسة، حيث قام مع (ستوارت هال، وريتشارد هوغارت)، بتطوير (مركز الدراسات الثقافية المعاصرة)، الذي أسسه (هوغارت وهال) في (جامعة برمنجهام بإنجلترا، عام 1964). وفي الواقع، يُعدّ النقاد الأوروبيون حتى يومنا هذا، أكثر انخراطًا، ليس فقط في تحليل أشكال الثقافة والمنتجات الشعبية، ولكن أيضًا في (تحليل الذات الإنسانية والوعي الإنساني، بوصفه شكلاً أو مُنتجًا ثقافيًا).
يرى (يوحنا سميث) أن من بين (التأثيرات البريطانية) على (النقد الثقافي والدراسات الثقافية)، هناك مؤثران مبكران، أحدهما هو الدراسة الثورية للناقد الماركسي (ثومبسون – Thompson)، التي تتناول تأثيرات الثورة الصناعية على التوجهات الإنسانية، وعلى الوعي كذلك، فقد رأى (ثومبسون) أن الرؤية الثقافية المشتركة، تؤثر في سلوك العامة، وتتسبب في نشأة سلوكيات جمعية. أما المؤثر الثاني، وربما الأعظم، فهو (رايموند ويليامز)، الذي يوضح في (الثورة الممتدّة والثقافة والمجتمع- 1780-1950) أن الثقافة ليست شيئًا ثابتًا قد تم إنجازه، بل هي شيء حي دائم التغيير. ورأى (ويليامز) أن الثقافة في علاقتها بالإديولوجيات، هو ما أطلق عليه: الطرق المتبقية أو المهيمنة أو المنبثقة في رؤية العالم، وهو ما يبدو محكومًا بطبقات أو أفراد يملكون السلطة في زمرة اجتماعية معينة. وخلافًا لثومبسون وهوغارت، تجنب ويليامز، التشديد على الطبقات الاجتماعية والصراع الطبقي في مناقشة تلك القوى التي كان لها التأثير الأقوى في تشكيل وتغيير الثقافة.
ويقرر (يوحنا سميث) بأن (الماركسية)، هي الخلفية البعيدة لمعظم (النقد الثقافي)، ولذا يرى بعض النقاد الثقافيين أنفسهم نقادًا ماركسيين، ومن الأفكار الماركسية المرتبطة بتطور النقد الثقافي مثل: (والتر بينيامين، أنطونيو غرامشي، لوي ألتوسير، وميخائيل باختين).
- وتناول (يوحنا سميث) في مقالته (ما النقد الثقافي)- موضوع (النقد الثقافي النِسْوي)، فمثلاً، صدرت رواية رومانسية كتبتها (تانيا موديليسكي- T. Modleski) بعنوان (حب وانتقام، 1982)_ وكتبت عنها الناقدة النِسْوية (جانيس رادواي- J. Radwy)، التي تشير إلى أن الكثير من النساء، اللواتي يقرأن الروايات، يفعلن ذلك من أجل ملء الوقت والفضاء الخاص بهن وحدهن. وتجادل (الناقدة) بأن مثل هذه الروايات، ربما تنتهي بالزواج، لكنه عادة ما يكون زواجًا بين بطلة فعّالة مستقلة، ورجل قوي، استطاعت البطلة (ترويضه)، بأن جعلته حسّاسًا ومتعاونًا. كما أثبتت (الناقدة) أن المستهلكين لا يشترون الروايات التي يتم فيها (اغتصاب البطلة) على سبيل المثال.
وفعلت (ماري بوفي) الشيء نفسه في كتابها (الأنثى المثالية والمرأة الكاتبة، 1984)، وهو كتاب تقتفي فيه (الآداب) الأنثوية، حيث تربط (بوفي) بين (الآداب) التي علمتنا إياها نساء القرن التاسع عشر اللواتي كتبن آداب السلوك (الإيتيكيت)، ومجلات السيدات، وبين الروايات الحالية ذات الأفكار الأبوية. وتتعامل الناقدة (لي هيللر- L. Heller) مع رواية (فرانكنشتين- Frankenstein) بوصفها (رواية رعب- Gothix Fiction)- مضيفة أن الشيء المثير في روايات الرعب هذه أنها قد وجدت تشكلات لها في كل من (الأدب الرفيع والأدب الشعبي). وتواصل بأن روايات الرعب، تستحوذ على إعجاب جمهور القراء والمشاهدين، (لأسباب عادة ما يصعب فهمها). ورغم أن رواية فرانكنشتين، هي عمل كلاسيكي، لكنها تشكل موضوعًا مناسبًا إلى حدّ بعيد، للنقد الثقافي (الجديد). ويبدو عمل (لي هيللر) النقدي، (ممثلاً للنقد الثقافي في أفضل صوره)(11).
4. (المدرسة السلافية): الواقعية الجدلية، والشكلانية الروسية:
السلاف (الصقالبة) يشكلون (رابع عرق جامع في العالم= 400 مليون)، ويتحدثون باللغات السلافية، وهم:
1- سلاف شرقيون: (بيلاروس- روس- أوكرانيون- روسينيون).
2- سلاف غربيون: (تشيك- كاشبيون- بولنديون- صوربيون- سلوفاكيون).
3- سلاف جنوبيون: (بلغار- بوشناق- كروات- مقدونيون- صرب- غوراني- سلوفينيون- مونتينيغريون). أما (اللغات السلافية)، فهي مجموعة من اللغات المتقاربة التي يتحدثها سكان (أوروبا الشرقية، والبلقان، وأجزاء من أوروبا الوسطى، وجزء في شمال آسيا). وفروعها هي (اللغات السلافية الشرقية)، مثل: البيلاروسية- الأوكرانية- الروسية. و(اللغات السلافية الجنوبية)، مثل: البلغارية- السلوفينية- الكرواتية- البوسنية- الصربية- المقدونية. و(اللغات السلافية الغربية)، مثل: اللغة البولندية- وفرع اللغات الليتشيتية. (موسوعة ويكيبيديا: بتصرف).
- وقد زار البلاد السلافية (الصقالبة)، السفير العربي (ابن فضلان، 922م)، وزارها (المسعودي- القرن العاشر). كما كتب (البكري- القرن التاسع) عن فترة ما قبل تأسيس (الدولة البلغارية، 681). وكتب عنها (المؤرخ الطبري- 839-923). وكتب كذلك عنها (ابن البطريق 876-940)، ويدين التاريخ البلغاري للمسعودي بمعلومات لم ترد في أي مصدر آخر. وكتب (يحيى الأنطاكي- فترة القرنين العاشر والحادي عشر) عن الحروب البلغارية- البيزنطية. وكتب عنهم الرحالة (الإدريسي- 1100-1165) والجغرافي الشهير في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق). وتحدث عنهم (أبو الفداء 1274-1331). وغيرهم كثير(12).
- في عام (1613م) انتقل الحكم في الدولة الروسية إلى (أسرة رومانوف القيصرية). وتشكلت في منتصف القرن الثامن عشر (النظرية السلافية) بقيادة العالم الروسي الموسوعي (لومونوسوف- Lomonosov) الذي أكّد على الأصول السلافية لروسيا. وقد ازدهرت (النظرية السلافية القومية) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت قد نشأت (الكتابة الكيريلية)، التي اعتمدتها الشعوب السلافية عام (863م)، على يدي الأخوين (كيريل وميتودي). وفي عام (1848م)، اقتُرح (عَلَمٌ سلافي: مستطيل= أزرق، أبيض، أحمر). وتستخدم الحروف الكيريلية (29 حرفًا) التي تكتب بها: (روسيا، بلغاريا، أوكرانيا، صربيا، بيلاروسيا، وغيرها)- اليوم.
- هناك علوم إنسانية، مثل (علم الأدب- نظرية الأدب- النقد المقارن- علم الجمال، وغيرها)- تفرعت منها فروع كثيرة، استقلت بذاتها مثل: أدبية الأدب (ليتراتورنوست)، التي شكلت مركزًا نقديًا ثقافيًا عالميًا، عبر الهجرة من (الاتحاد السوفياتي) إلى الولايات المتحدة (النقد الجديد)، وإلى فرنسا (النقد البنيوي). أقصد أن نقطة البدء كانت النقد اللساني الروسي، أو ما يسميه أعداؤه: (الشكلانية الروسية):
أولاً: نلاحظ أن أعداء الثقافة الروسية، تجاهلوا حقيقة مفادها أن هذا النقد الأدبي اللساني نشأ عام (1915)، وتطور حتى عام (1930) تقريبًا في أحضان الدولة الثورية الجديدة (الاتحاد السوفياتي)، وليس في ظل روسيا القيصرية، ولا في ظل (الستالينية).
ثانيًا: كان هذا النقد ليس لسانيًا فحسب، بل كان أيضًا نقدًا ثقافيًا أدبيًا جماليًا، بمعناه العام.
ثالثًا: الشكلانيون الروس أو الجماليون الثقافيون الروس، كانوا أيضًا، (سلافيين)، بكل ما في الكلمة من معنى، بمعنى أنهم كانوا يشعرون أنهم (سلافيون في الوطن، وسلافيون في المنفى)، أي أن ثقافتهم، وهي عريقة، لها خصوصياتها، وتميزها عن ثقافة الغرب الأوروبي، والولايات المتحدة.
رابعًا: منذ (1932) تقريبًا، بدأت (الواقعية الاشتراكية)، تأخذ اتجاهين، هما: (الأول): (الواقعية الجدلية) علمي مادي مرتبط بالمادية الجدلية، والمادية التاريخية ومقولاتهما. و(الثاني)- اتجاه (الواقعية الحزبية). فالاتجاه الثاني، هو الذي قاد إلى (نظرية الإنعكاس)، لكن الاتجاه الأول رفض الواقعية الفوتوغرافية، والإنعكاس السطحي، بل قال بأن الإنعكاس في النصوص العميقة عادة ما يكون معقّدًا، أي عميقًا. ذلك أن المثقفين الذين قاوموا (الستالينية الفكرية) هم فرع من فروع الواقعية الاشتراكية، ولم يكونوا من الشكلانيين.
خامسًا: هناك ظاهرتان برزتا في ظل (الحرب الثقافية الباردة) بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، (1947-1990) هما: (ظاهرة المكارثية) في الولايات المتحدة، و(ظاهرة الإنشقاق الثقافي) في الاتحاد السوفياتي، وأوروبا الشرقية. وهما تحتاجان إلى أدوات نقدية أدبية، وأدوات نقدية ثقافية لتحليلهما، تحليلاً جماليًا وأدبيًا وثقافيًا، يبدأ من اللغة.
سادسًا: كانت الاشتراكيةُ في العصر الاشتراكي (قشرةً فكرية)، تغطي (النواة السلافية) العميقة، التي تكاد تنفجر آنذاك، فلم تصل الاشتراكية إلى عمق المجتمعات السلافية، بل كانت قيدًا وحاجزًا خلق البيروقراطية، والدكتاتورية البوليسية، وعقدة الخواجا أي عقدة النقص تجاه اقتصاديات الغرب الاستهلاكي بين جيل الشباب بشكل خاص. ومن هذه العقدة، اخترق الغرب المتعالي، الاقتصاد الاشتراكي من باب الكماليات.
سابعًا: ظلت الشعوب السلافية طيلة القرن العشرين تتابع بشغف الظواهر الإبداعية الفردية: (ماياكوفسكي- سيرغي يسينين- أنّا أخماتوفا- فوزنيسنسكي- إيفنوشنكو- باسترناك- رسول حمزاتوف- غوغول- وأيتماتوف- شولوخوف- قسطنطين سيمينوف- مكسيم غوركي- ديستويفسكي- تشيخوف- تولستوي- (بوشكين)- وغيرهم. أما الشعب البلغاري (مثلاً)، فقد كان يفخر بشاعر المقاومة البلغارية، (نيكولا فابتساروف)، صاحب ديوان (أغاني الموتور)، اليساري الذي أعدمته محكمة الاحتلال الألماني لبلغاريا عام (1942)، لمشاركته في المقاومة الفدائية العسكرية ضد الاحتلال. وظل الشعب البلغاري (12 مليون نسمة) يفخر بشعرائه وكتابه ونقاده: [خرستو بوتيف- باغريانا- بيو يافوروف- إيفان فازوف- وإلياس كانيتي (الحائز على جائزة نوبل عام 1981)، ويفخر أيضًا بالناقدين البلغاريين تودوروف وجوليا كريستيقا. اللذين تخرجا في (جامعة صوفيا) قبل هجرتهما إلى (باريس)، ليصبحا ناقدين (عالميين)].
ثامنًا: صحيح أن (المجر، ورومانيا) ليستا (سلافيتين) لغويًا وعرقيًا، لكنهما تنتميان للمحيط السلافي، بحكم الجغرافيا، والإديولوجيا، أعني في مرحلة ما قبل انهيار جدار برلين.
5. (الشكلانيون الروس) ليسوا شكلانيين!!
إذا عدنا إلى (موسوعة الفلسفة الكونية (1990)، وجدنا عددًا من (استعمالات للخطاب)(13):
1. يرتبط المتكلم في خطابه بزمان ومكان معينين، يخضع فيها الخطاب لما هو متعارف عليه من قواعد الكلم ومتداول بشأنه داخل جماعة لغوية.
2. تعد الحوارية- الأنموذج الأصلي، الذي تصبح بموجبه إمكانية تحقق الخطاب، عبر مخاطبين صفة ملموسة، ويختلف الأداء اللغوي بتعدد السياقات، الذي يصبح معبرًا عنها، ومرجعًا لها، مما يسمح بوجود علاقات ترجمة حية فيما بينها، قد يتخللها ميزان القوى وسوء الفهم أو التلاعب بالمعاني.
3. تحشر الذات المتكلمة نفسها في أداء الخطاب بوساطة اللغة، الأمر، الذي يقتضي في تحليله النفاذ إلى أغوارها التي سبرته، لأنها هي في الوقت نفسه، محصلةً له، وضرورية لفهمه وإنتاجه.
4. كل الممارسات الخطابية، هي ممارسات بين (رموز لغوية)، لها دلالات سيميوطيقية متزامنة رغم تعارضها.
5. رغم التفاوت بين سياق الخطاب (الذاتي أو الموضوعي)، والخطاب نفسه.
6. لا يمكن فصل الخطابات عن سياق النشأة الذي يحضنها، والتي تسهم من دون شك في بنائه.
أما في (مجال اللسانيات)، فنحن نجد أن (أحمد المتوكل- المغرب)، يقدم التعريف التالي للخطاب كما يلي: (يُعدُّ خطابًا كل ملفوظ / مكتوب يشكل وحدة تواصلية قائمة الذات)- يُفاد من التعريف حسب (المتوكل) ثلاثة أمور:
1. تحييد الثنائية التقابلية (جملة / خطاب)، حيث أصبح الخطاب شاملاً للجملة.
2. اعتماد (التواصلية) معيارًا للخطابية.
3. إقصاء معيار الحجم من تحديد الخطاب، حيث أصبح من الممكن أن يُعدُّ خطابًا- نصٌّ كامل، أو جملة، أو مركّب، أو شبه جملة.
أما (النص)، فقد أطلق على الانتاج الذي يتعدّى الجملة، باعتباره سلسلة من الجمل، يضبطها مبدأ الوحدة، ومبدأ الاتساق أو (التناسق)(14).
اللغة هي مربط كل العلوم الإنسانية، ولا نستطيع بدون تحليلها الوصول إلى قراءة صحيحة للخطابات الفكرية والثقافية والجمالية والأدبية وغيرها. لكن بعض القراءات تحصر (الشكلانيين الروس) في إطار واحد، هو المجال اللساني الشكلي، وهذا غير صحيح. فالشكلانيون الروس أنجزوا أهم فاعلية في العالم الثقافي من خلال دراساتهم النقدية، هي نقل النقد من قراءة الوظيفة إلى قراءة (طبيعة الأدب)، التي أسماها ياكوبسون (أدبية الأدب- 1921)، هذا أولا. وثانيًا: استطاع الشكلانيون الروس إيصال ما أنجزوه إلى العالم: أوروبا والولايات المتحدة، فأصبح منجزهم عالميًا. وثالثًا: أصبح منجزهم (مؤثرًا)، بل هو المؤثر الأساسي في (النقد الجديد الأميركي)، و(البنيوية الفرنسية). ولم تعد أفكارهم تنسب لمجموعة من الأفراد نشأت في موسكو وبطرسبرغ وتارتو، بل تحولت إلى (حركة عالمية) بتأثير الماركسية. هكذا، لم يعد الشكلانيون الروس، (شكلانيين)، لأنهم عاشوا في ظل الصراعات الإديولوجية، وتفاعلوا معها سلبًا وإيجابًا. ولم تعد أفكارهم النقدية معزولة في إطار اللسانيات، بل تجاوزت ذلك، بالترابط مع العلوم الإنسانية، والمدهش في كل ذلك أن تأثير هذه (الأفكار المهاجرة)، ما زال مستمرًا حتى اليوم. هم أقرب إلى البنائية.
1- يحدد (إيخنباوم) في مقالته (نظرية المنهج الشكلي، 1925)، منجزات الشكلانيين الروس، بما يلي:
• انطلاقًا من التقابل الأولي والشامل بين اللغة الشعرية، واللغة اليومية، توصلنا إلى تمييز (مفهوم اللغة اليومية) حسب الوظائف المختلفة لها، وإلى حصر (مناهج اللغة الشعرية، واللغة الانفعالية). وانصب اهتمامنا على دراسة (الحديث الخطابي)، الذي كان يبدو لنا قريبًا جدًا من الأدب في اللغة اليومية. كما شرعنا في الحديث عن بلاغة تتولد من جديد إلى جانب الإنشائية – حول لغة (لينين).
• انطلاقًا من المفهوم العام للشكل، في إدراكه الجديد، توصلنا إلى (مفهوم النسق)، ومن هنا إلى مفهوم الوظيفة.
• وانطلاقًا من التقابل بين الإيقاع الشعري والوزن، ومن مفهوم الإيقاع كعامل بانٍ للشعر في وحدته، توصلنا إلى (إدراك الشعر كشكل متميز (للخطاب)، يتوافر على خصائصه اللسانية المتميزة (نظمية، معجمية، دلالية).
• انطلاقًا من إقامة (هوية النسق)، اعتمادًا على مواد مختلفة ومن (تمييز النسق)، بحسب وظائفه- توصلنا إلى مسألة تطور الأشكال، بمعنى: (قضايا دراسة التاريخ الأدبي)(15).
إضافة لذلك، يشير (إيخنباوم) إلى أنه برزت في أعمال الشكلانيين بعض المبادئ، التي تعارض تقاليد وقواعد العلم الأدبي، وعلم الجمال بصفة عامة، لكن المفاهيم التي وضعها الشكلانيون الروس كانت تهدف إلى الوصول إلى (النظرية العامة للفن). وهكذا (بعد أزمة علم الجمال الفلسفي)، وجد المنهج الشكلي- والمستقبلية (Futurisme) نفسيهما مترابطين تاريخيًا، غير أن القيمة التاريخية للشكلانية (حسب إيخنباوم)- هي موضوع مستقل. ويواصل إيخنباوم، الدفاع التبريري بأن هدف الشكلانيين كان الوصول إلى (موقف علمي وموضوعي) من الوقائع الأدبية. لهذا رفض الشكلانيون (المُسلّمات الفلسفية)، و(التأويلات السايكولوجية) والجمالية والتاريخية)، و(النظريات الإديولوجية للفن). يقول إيخنباوم بأن اعتراض الشكلانيين لم يكن ضد المناهج السابقة في ذاتها، وإنما اعترض الشكلانيون على (الخلط اللامسؤول فيها بين علوم مختلفة، وقضايا علمية مختلفة). لقد حدّدنا الشرط الأساسي، وهو أن (موضوع العلم الأدبي) يجب أن يكون: (دراسة الخصائص النوعية للموضوعات الأدبية، التي تميزها كل مادة أخرى). لقد أنجز (ياكوبسون) الصيغة النهائية للفكرة: بقوله الشهير (1921): (إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب، وإنما (الأدبية- Litteratité)، أي ما يجعل من عمل ما عملاً أدبيًا)(16).
2- (شكلوفسكي- Shkloviski): الفن كَنَسَقْ، 1917:
بميثاق للمنهج الشكلي، فتح الطريق أمام تحليل ملموس للشكل:
• الصور لا تتبدل تقريبًا- كما يقول (شكلوفسكي)- فكلما سلطت الضوء على حقبة ما، كلما ازددت اقتناعًا بأن الصور، التي كنت تعتبرها من ابتكار شاعر، إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين، وبدون تغيير تقريبًا. إن كل عمل المدارس الشعرية لا يغدو إذْ ذاك سوى مراكمة واكتشاف (أنساق جديدة) لترتيب وتحضير الأدوات الكلامية، وهو يرتكز على ترتيب الصور أكثر منه على (خلقها).
• يُعرّف (شكلوفسكي)- (الصورة الشعرية) بأنها: إحدى وسائل اللغة الشعرية، أو هي (نسق) تشبه وظيفته وظيفة باقي أنساق هذه اللغة، مثل: (التوازي) البسيط والسلبي، المقاربة، الإعادة، التناظر (السيمترية)، المبالغة، وغيرها. وهكذا يدخل مفهوم الصورة في المنظومة العامة للأنساق الشعرية، ويفقد دوره الطاغي في النظرية.
• أعاد (شكلوفسكي) القول بأن (الصورة والرمز) ليسا هما ما يفرق اللغة الشعرية عن اللغة النثرية (اليومية): تختلف اللغة الشعرية عن اللغة النثرية بالخاصية المدركة لبنائها.
• لقد كان الاهتمام ينصب في مجرى تحطيم الشراكة بين (الشكل والمضمون). أما مفهوم (النسق)، فكان ذا أهمية كبيرة جدًا –كما يقول إيخنباوم- خلال التطور اللاحق، نظرًا لأنه يترتب مباشرة عن وضع تحديد للاختلاف فيما بين اللغة الشعرية واللغة اليومية. وقد برهن (شكلوفسكي) على وجود أنساق خاصة بالتركيب، مرتبطة بالأنساق الأسلوبية العامة، كما في حكايات وقصص قصيرة شرقية، و(دون كيخوتي) لثربانتس، تولستوي، وغيرها.
• تحتوي مقالة شكلوفسكي: (الصلة بين أنساق التركيب والأنساق الأسلوبية العامة- 1919) على سلسة من النقاط، منذ البداية، يؤكد على وجود أنساق خاصة بتركيب المبنى، تغيرت مزجًا بين سلسلة من الحوافز (Motifs)، وانتقل من مستوى العناصر الموضوعاتية (Thematiques) إلى مستوى عناصر التحضير. هنا تأكيد على (وحدة النسق)، وإنْ بالنسبة لمواد مختلفة.
• اكتشاف (الأنساق) عند الشكلانيين الروس، التي تُستعمل خلال المبنى: (البناء المتدرّج- التوازي- التأطير- التعداد...إلخ)، قد قاد الشكلانيين إلى فهم (الاختلاف) فيما بين عناصر بناء عمل ما، والعناصر التي تشكل مادته: المتن الحكائي، اختيار الدوافع، الشخصيات، الأفكار)... كان الفرق واضحًا، لأن المهمة الأساسية كانت إثبات وحدة هذا النسق البنائي أو ذاك.
• لاحظ (شكلوفسكي) العلاقة بين النَسَقْ، والتحفيز: لقد تمّ بناء رواية (دون كيخوتي) مثلاً بمساعدة (نسق التنضديد- Enfilage)، و(المحفزة- Mptive)، بوساطة رحلة، وقد أخذت هذه الرواية كمثال، لأن النسق والتحفيز فيها ليسا مترابطين ترابطًا كافيًا يسمح بصياغة رواية محفزة كليًا، وجميع أجزائها متلاحمة.
• يقول (شكلوفسكي) في مقالته (بناء القصة القصيرة والرواية)... إنَّ (الخلط) يصلح كنسق أساسي للتركيب (Composition): فحكاية (في الحمام) لـِ(تشيخوف) تكتسب قيمتها عندما نعرف أن (العدميين، والرهبان)، كانوا في روسيا القديمة (يُطيلون شعورهم). وهناك نسق آخر، يستعمل في بناء القصة القصيرة، هو (نسق التوازي- Parallelism). وهناك (نسق الإغراب) كما عند تولستوي، فهو يرفض أن يتعرف على الأشياء، فيصفها، كما لو كان يبصرها للمرة الأولى. كما استعمل تولستوي (نسق البناء ذي المراقي). وهناك (أنساق تقنية)، و(أنساق كتابية Livresques). وتستعمل روايات الشُطّار (Picaresques) الإسبانية، ولدى ثربانتس، (نسق التأطير- Encadrement). غير أن التركيب بوساطة (نسق التنضديد) هو الأكثر شيوعًا، كما في (الجحش الذهبي) للروماني الجزائري (أبوليوس)، التي تعتبر أقدم رواية في العالم(17).
• يقول (شكلوفسكي) بأن كلاً من (نسق التأطير، ونسق التنضديد)، قد ساعدا على إدماج مزيد من (المواد الأجنبية) في جسم الرواية. ونلاحظ هذه الظاهرة في (دون كيخوتي) لثربانتس(18).
3- (توماشفسكي - Tomashevsky)، 1925:
• (مفهوم الغرض)، هو مفهوم شامل يوحّد المادة اللغوية للعمل الأدبي. فالعمل كل ككل يمكن أن يكون له غرض معين، وفي الوقت نفسه، فإن كل جزء من أجزائه يتوافر بوحدة غرضية نوعية. وعن طريق تفكيك العمل إلى وحدات غرضية، نصل في النهاية إلى الأجزاء غير القابلة للتفكيك، أي إلى الجزيئات الصغيرة للمادة الغرضية: (لقد حلَّ المساء)- (مات البطل)- (وصلت الرسالة)- إن غرض هذا الجزء من العمل غير القابل للتفكيك يُسمّى (حافزًا)، وكل جملة تتضمن في العمق، (حافزًا) خاصًا بها. وتسمى حافزًا، الوحدة الغرضية التي توجد في أعمال مختلفة (مثلاً: اختطاف الخطيبة- الحيوانات التي تساعد البطل على تنفيذ مهامه...إلخ). وتسمى الحوافز التي تغير وضعية وضعية ما- (حوافز دينامية). أما تطور الفعل، ومجموع الحوافز التي تميزه، يُسمّى (حبكة- Intrique)، وتختص الحبكة بالشكل الدرامي.
• مثلما تعرض (توماشفسكي) لمصطلحات مثل: الغرض، والحافز والحبكة- تعرض كذلك لمصطلح (النسق):
2. 1: تعرض لمفهوم (نسق الإفراد- Singularisation)، باعتباره حالة خاصة من حالات التحفيز الجمالي. فإدراج مادة غير أدبية في عمل أدبي ما، يجب أن يبرر بجدتها وفرديتها، حتى لا تتنافر والمكونات الأخرى للعمل الأدبي. (يجب الحديث عن المبتذل والعادي كجديد وغير عادي، كما أن المألوف، يجب أن يتم تناوله كشاذ. هذه الأنساق التي تجعل الأشياء المألوفة، شاذة، قد حفرت هي ذاتها، وفي العادة بانحراف هذه المشاكل في نفسية البطل الذي يجهلها. وهو نسق لا يصلح إلا لجعل الغرض شاذًا.
2.2 رغم أن (أنساق التركيب) تتميز في كل البلدان وعند كل الشعوب، بتشابه ملحوظ، فإن الأنساق الملموسة والخاصة، وكذا اتساقها وطرق استعمالها وحتى وظائفها (وإن بصورة جزئية) تتبدل بشكل هائل خلال تاريخ الأدب، فكل حقبة أدبية، وفي كل مدرسة تتميز بنظام من الأنساق خاص بها. هنا ينبغي أن نفرق بين الأنساق الأصولية، والأنساق الحرّة. فالأنساق الأصولية، هي تلك التي تكون ضرورية لنوع معين أو عصر معين (الكلاسيكية الفرنسية في القرن السابع عشر، تتميز بالوحدات الدرامية، والتقنين الدقيق لكل شكل أدبي). لقد غدت (تعرية النسق) لدى (المستقبلية)- سلوكًا تقليديًا.
2. 3: إن النسق المدرك لا يبرر جماليًا، إلا إذا قصد إلى جعله مدركًا بصورة طوعية. والنسق المدرك، إذا وضع عليه الكاتب قناعًا، أحدث انطباعًا مضحكًا (على حساب العمل الأدبي). واتقاء لهذا الانطباع، يعد الكاتب إلى كشف النسق.
2. 4: (هكذا تولد الأنساق، تعيش، تشيخ، ثم تموت). وتبعًا لتطبيقها، فإنها تغدو آلية، فتفقد وظيفتها وتغدو غير فعَّالة. وسعيًا لقهر آلية النسق، فإنه يجدد بفضل وظيفة جديدة أو معنى جديد- (توماشفسكي)(19).

4- ياكوبسون (درجات السيطرة)- (خطاطة التواصل والوظائف):
(رومان ياكوبسون – Yacobson 1896-1982)(*) ناقد لساني وثقافي من مواليد موسكو، عاصر الرمزية والمستقبلية الروسية، وكان صديقًا للشاعر (ماياكوفسكي). ويعتبر (ياكوبسون) مؤسسًا مشاركًا لحلقة موسكو اللسانية (1915-1920)، التي كانت على اتصال بحلقة أخرى في (بطرسبورغ)، أي جمعية دراسة اللغة الشعرية (الأوبوياز). وقد لعب دورًا هامًا في نشأة (مدرسة الشكلانيين الروس). وساهم في تأسيس (حلقة براغ اللسانية) في تشيكوسلوفاكيا عام (1926)، وكان نائبًا لرئيسها. وانتقل إلى أميركا سنة (1941)، وبدأ منذ سنة (1946) يُدرّس في جامعات أميركية، منها (معهد ماساشوستس التقني- MIT)، بوصفه أستاذًا للسانيات العامة واللغة والأدب (السلافيين)، كما ساهم في أعمال (حلقة نيويورك اللسانية) بما يطلق عليه (خطاطة التواصل): فالعوامل المكونة لكل سيرورة لسانية ولكل (فعل تواصلي لفظي):
- يقول (ياكوبسون): إنَّ (المرسل) يوجه (رسالة) إلى (المرسل إليه). ولكي تكون الرسالة فاعلة، فإنها تقتضي بادئ ذي بدء، (سياقًا = مرجعًا) تحيل عليه، سياقًا قابلاً لأن يدركه المرسل إليه، وهو إما أن يكون لفظيًا أو قابلاً لأن يكون كذلك. وتقتضي الرسالة، بعد ذلك، سننًا مشتركًا (الكود) كليًا أو جزئيًا بين المرسل والمرسل إليه (أو بعبارة أخرى بين المُسنّن ومفكك سنن الرسالة)- وتقتضي الرسالة، أخيرًا، اتصالاً (قناة فيزيقية)، وربطًا نفسيًا بين المرسل والمرسل إليه، اتصالاً لا يسمح لهما بإقامة التواصل والحفاظ عليه. ويمكن لمختلف هذه العناصر، التي لا يستغني عنها التواصل اللفظي أن يُمثّل لها في الخطاطة التالية:



مرسل................. 1. سياق
2. رسالة
3. اتصال
4. سَنن (كود) ...............مرسل إليه
- يُولّد كل عامل من هاته العوامل وظيفةً لسانية مختلفة. وهذا ما جعل ياكوبسون، يقدم لنا ما يسمّيه (خطاطة الوظائف المناسبة):
انفعالية 1. مرجعية
2. شعرية
3. انتباهية
4. ميتا لسانية إفهامية


(20)
- هذه (الخطاطات) أصبحت مجالاً لنقاش عالمي، لم يقتصر على العالم (السلافي)، بل تجاوزه نحو الولايات المتحدة، وأوروبا. كما اشتهرت عالميًا، فكرة (القيمة المهيمنة)، وهي لياكوبسون، وأنا أُسمّيها: (درجات السيطرة).
- (درجات السيطرة) فكرة أدبية وثقافية ولسانية، لأننا هنا ننطلق من علوم اللغة وإبداعاتها. ويؤكد ياكوبسون (الروسي السلافي اللساني) على ما يلي، (وهو عكس الرأي الشائع عن الشكلانيين)- يقول:
(إننا لا ننادي، لا تينيانوف ولا مكاروفسكي ولا شكلوفسكي ولا أنا- بأن الفن يكتفي بنفسه. إننا على العكس من ذلك، نبين أن (الفن لبنة في الصرح الاجتماعي)، ومكوّن متعالق مع المكونات الأخرى، مكوّن متغيّر لأن دائرة الفن وعلاقتها بالقطاعات الأخرى للبنية الاجتماعية تتغيران جدليًا بدون انقطاع. إن ما نؤكد عليه ليس انعزالية الفن وإنما نؤكد على استقلالية الوظيفة الجمالية)-(قضايا الشعرية: ص: 19).
- ومن جهة أخرى يقول ياكوبسون بأن (الشاعرية Poeticité)، هي (مجرد مكوّن من بنية مركبة، إلاّ أنها مكوّن يحوّل بالضرورة العناصر الأخرى ويحدد معها سلوك المجموع)- فإذا ظهرت الشاعرية أي وظيفة شعرية بلغت في أهميتها (درجة الهيمنة) في أثر أدبي، فإننا سنتحدث حينئذٍ عن شعر)- (ص: 19).
- يعرّف ياكوبسون (نظرية المنهج الشكلي- ص: 81-88)- (المهيمنة) باعتبارها عنصرًا بؤريًا (Focal) للأثر الأدبي: إنها تحكم، وتحدد وتغير العناصر الأخرى، كما تضمن تلاحم البنية). فالمهيمنة تكسب الأثر نوعية هي خطاطتها العروضية، أي شكلها ك: (شعر). إن عنصرًا لسانيًا نوعيًا يهيمن على الأثر في مجموعه، إنه يعمل بشكل قسري، ممارسًا بصورة مباشرة تأثيره على العناصر الأخرى. و(الشعر)... نظام من القيم، يتوافر على سُلميّة خاصة لقيمه العليا والدنيا، وبين هذه القيم، (قيمة رئيسة)، هي (المهيمنة). ومن جهة أخرى، فإن تعريف أثر أدبي، فيما لو قارناه بمجموعات أخرى من القيم الثقافية يتغير بدرجة ملحوظة منذ أن يؤخذ مفهوم المهيمنة كنقطة انطلاق. الأمر يتعلق بانزلاقات في (العلاقات المتبادلة) لمختلف عناصر النظام، أي بتبدل المهيمنة (العناصر الثانوية تصبح أساسية)، والعكس صحيح. ويؤكد ياكوبسون أن (ما كان يعتبر بدعة أو منحطًا أو لا قيمة له- يمكن أن يظهر، أو يُتبنى، في أفق نظام جديد، كقيمة إيجابية).
- وفي مقالة ياكوبسون (شعر النحو، ونحو الشعر، 1960)- يقول عن التوازي: (ص66): (أفرد المختصون عناية خاصة لـِ توازيات الأطراف، التي تميز (الكتاب المقدس)، والتي (نجد أصولها في الموروث الكنعاني القديم). صحيح أن ياكوبسون انطلق من اللسانيات، لكنه مارس هنا (النقد الثقافي) بمعناه العام. ورغم أن (التوازي) مصطلح لساني، إلا أنه استعمل في (النقد المقارن) كمصطلح ثقافي عالمي(21).
- مصطلح (الشكلانيون الروس)، هو نتاج (استفزاز متبادل) بين أنصار اللسانيات، وبين أنصار الواقعية الاشتراكية، فالشكلانيون الروس (حسب تودوروف)... (ظلوا خاضعين بشكل كامل للإديولوجيا الرومانتيكية)- هم بشكل عام (ظاهراتيون)، (وضعيون). وكما انشق (الشكلانيون) إلى فرعين: (لساني- وجمالي ماركسي وظيفي، مثل: فلاديميربروب، وميخائيل باختين)- انشقَّ أنصار (الواقعية الاشتراكية) إلى قسمين: أنصار الواقعية الجمالية (علم الجمال الماركسي)_ وأنصار الواقعية الحزبية الانعكاسية منذ أوائل الثلاثينات، ويلحقها فرع ثالث هو أنصار (الواقعية الستالينية) بزعامة (جدانوف). لهذا، فإن إطلاق صفة (الستالينية) على كل من تبنى (الواقعية) بشكل عام، هو أمر مبالغ فيه، هو من نتاج ثقافة الحرب الباردة لاحقًا، التي لعبت دورًا سلبيًا في تأجيج الخلافات، في ظل انقسام العالم إلى معسكرين: (رأسمالي، واشتراكي)، حيث كل واحد منهما يدافع عن جمالياته وعلومه الإنسانية. ومنذ عام (1990) تحول العالم إلى قطب أوحد بقيادة واحدة (العولمة)، التي عرّفها (كيسنجر) بأنها (أمركة المحيط الدولي). وقد لعبت (نظرية الانعكاس= أوت راجينيه) دورًا هامًا في الجدل حول (الواقعية الاشتراكية) إيجابًا وسلبًا، فقد انقسمت المواقف حول (نظرية الإنعكاس) أيضًا، فهناك من روَّج لمفهوم (الانعكاس الفوتوغرافي)، الذي يرى أن النص هو انعكاس مرآوي لقطعة من المجتمع، حسب قانون (علاقة البنية الفوقية والبنية التحتية). أما الرأي الآخر، فقد نظر إلى هذه العلاقة بأنها علاقة معقدة وعميقة، إذْ أنها لا تتم بشكل ميكاني، بل عبر تفاعلية معقدة تأخذ في حسابها- الماهية، والزمن المتغير والمكوّنات التي تشملها هذه البِنْيات.
5- باختين Bakhtin (1895-1975)- وبروب Propp (1895-1970): حالة خاصة:
5. 1: باختين: الحوارية، والتلفظ، والنموذج الاتصالي:
ولد في (مدينة أريول- الاتحاد السوفياتي السابق). اعتقل عام (1929) بسبب ارتباطه بالمسيحية الأرثوذكسية، ونفي إلى (كازاخستان) مدة ست سنوات. أصيب بإلتهاب أدى إلى بتر ساقه اليسرى عام 1938. عاش في مدينتي (سارانسك- وبرسبرغ). واستقر منذ 1969 في قرية (كَمَرْ)، حتى وفاته. وكتب تحت أسماء مستعارة (فولوشينوف- وميدفيديف). أشهر كتبه: (مشكلات شعرية ديستويفسكي)، صدر عام (1929) في (لينين غراد= بطرسبورغ). وصدرت ترجمته العربية عام (1986) بترجمة جميل نصيف التكريتي. كما صدر له بالعربية كتاب (الخطاب الروائي) عام (2009) بترجمة: محمد برّادة. وأنجز أطروحته عن (رابيليه) عام (1940)، لكنه نشرها عام (1965)، ونشرت (بعد وفاته) معظم كتبه، في مجلدين هما: (أسئلة حول الأدب وعلم الجمال)- و(جماليات الإبداع اللفظي).
- يقول (تسفتان تودوروف) الناقد البلغاري المتفرنس، العالمي، الذي (توفي في السابع من فبراير 2017) في كتابه: (ميخائيل باختين: المبدأ الحواري)، الصادر عام (1984) بالإنجليزية، والصادر باللغة العربية بترجمة (فخري صالح)- يقول ما يلي:
أولاً: إن أهم مظهر من مظاهر (التلفظ Utterance)، أو على الأقل المظهر الأكثر إهمالاً، هو (حواريته- Dialogism) أي ذلك البُعد (التناصي –Intertextual)، فيه:
1. إن كل خطاب، عن قصد أو عن غير قصد، يقيم حوارًا مع الخطابات السابقة له، الخطابات التي تشترك معه في الموضوع نفسه، كما يقيم أيضًا، حوارات مع الخطابات، التي ستأتي، والتي يتنبأ بها ويحدس ردود فعلها. يستطيع الصوت الواحد الفرد أن يجعل نفسه مسموعًا فقط حين يمتزج بـ(الجوقة) المعقدة للأصوات الأخرى التي وجدت في المكان من قبل. وهذا صحيح، لا فيما يخص الأدب فقط، بل فيما يخص كل خطاب، ومن هنا وجد (باختين) نفسه مدفوعًا إلى رسم مخطط لتأويل جديد للثقافة: التي تتشكل من الخطابات التي تحتفظ بها الذاكرة الجمعية، (الأشياء المألوفة والعادية والأنماط والأشياء المقولبة، وكذلك الكلمات الإنشائية). وهذه الخطابات، هي تلك الخطابات، التي ينبغي لكل فرد متلفظ أن يموضع نفسه بالقيام إليها- (ص: 16).
ثانيًا: النوع الأدبي الذي يفضل (التعددية الصوتية - Polyphony)، هو الرواية. وقد كرّس باختين جزءًا هامًا وجوهريًا من دراساته لها. وهو يركز على استنباط أسلوبيات النوع بطريقة توضح بصورة متزامنة بنيات النوع الأدبية، وترسم صورة لافتة لتحول النثر الروائي في أوروبا. ويسود هذا التحول صراع أبدي متغير روما بين النزةع إلى التوحيد، والنزوع المضاد الذي يحافظ على (التنوع والاختلاف)- (ص:17).
ثالثًا: قال (باختين) عام (1970) عن (الشكلانية الروسية): (هناك تراث من الأبحاث والدراسات القيمة طوّرت في الماضي (بوتبنيا، وفيسيلوفسكي)، وكذلك خلال مرحلة الدولة السوفياتية (تينيانوف- توماشفسكي- إيخنباوم- غوكوفسكي، وآخرون). ويعلق (تودوروف) على ذلك بقوله: (اللوم الأساسي الذي وجهه باختين للشكلانيين عام (1924) في دراسة مكتوبة يتضمن مسألتين: الأولى: هي أن الشكلانيين كانوا مخطئين في عزلهم دراسة الأدب عن دراسة الفن بعامة، وبصورة أكثر دقة عزلهم هذه الدراسة عن علم الجمال، والفلسفة، إن رفضهم الوضعي لفحص أساسات عملهم، لم يجعلهم في مأمن من تأثير علم الجمال والفلسفة، ولهذا، أخذ باختين على عاتقه، أن يصوغ (الإديولوجية الشكلانية)، بوصفها (علم جمال المادة)، لأن الشكلانيين يرون أن المواد (في الأدب: اللغة) هي التي تحدد بصورة تامة الأشكال الفنية- (ص: 80).
رابعًا: يُعدد (باختين)، خمس خصائص لمشكلة التلفظ، التي هي عبارة عن الفروق بين (التلفظ)، و(الخبر):
1. تتحدد تخوم كل تلفظ ملموس وحدوده، بوصفه وحدة من التواصل اللفظي، بوساطة تحولات الأسخاص الفاعلين للخطاب (الذين يسند إليهم الخطاب)، الذين هم المتكلمون.
2. لكل تلفظ اكتمال داخلي خاص ومحدد.
3. لا يحيل التلفظ، فحسب إلى الموضوع كما يفعل الخبر، ولكنه يعبر عن ذات فاعلة أيضًا، كما أن وحدات اللغات ليست معبرة بذاتها. وفي الخطاب الشفوي يحدد (التنغيم) المُعبّر عن هذا البعد من أبعاد التلفظ.
4. يدخل التلفظ في علاقة مع التلفظات السابقة التي لها الموضوع نفسه، وكذلك مع تلفظات المستقبل التي يتنبأ بها كأجوبة.
5. التلفظ، موجه دائمًا إلى شخص ما- (ص: 108).
خامسًا: يقول (تودوروف): يستطيع المرء أن يعيد تشكيل (نموذج الاتصال الباختيني) على النحو التالي:

الموضوع الملموس
المتكلم- التلفظ- المستمع- المرسل
(علاقات التناص)
اللغة
ويعلق (تودوروف) على نموذج باختين: (يمنح ياكوبسون الاتصال وضعًا مستقلاً، بينما لا يظهر ذلك في نموذج باختين، الذي يقدم كصورة بديلة- علاقات يعزوها إلى تلفظات أخرى (علاقات التناص)- (ص: 110)(22).
سادسًا: (الكرنفالية): كلمة (كرنفال) ذات أصول إيطالية تعود إلى عام (1549)، إلاً أن الجميع يعزو ابتداعها إلى المُنظّر الروسي (ميخائيل باختين) في الثلاثينات في أطروحته عن (فرانسوا رابيليه) والطبعة الثانية من دراسته لدويستيفسكي في الستينات. ويجمع كثير من النقاد على تعريفها بأنها: وصف لحيوية الرواية، وما تؤصله من نسبية بهيجة، وما تنطوي عليه من (تعددية أسلوبية، واختلاف وجهات النظر، وتباين الأصوات)، وهي بهذا تشبه في الأدب ما يجري في مواسم الاحتفالات الجماهيرية الثقافية خاصة ما يصاحبها من هجاء وعبث وسخرية وتجاوز الحواجز الطبقية التراتبية، حيث تختلط الثقافة العليا بالثقافة الدنيا، والثقافة الرسمية بالثقافة الشعبية.
ثانيًا: كرنفالات (اليوم)... تتسم بالتقنين المنضبط، (ديزني لاند) مثلاً، حيث تكون غايتها صمّام أمان تفتحه المؤسسة الرسمية أو التجارية الخاصة، لفترة وجيزة، للترويح عن العامة من قسوة الحياة.
أما الكرنفال القروسطي، فكان تجسيدًا للثقافة الجماهيرية التي تتسم بالانحلال الجماعي والانفلات الطبقي والتحرر المطلق من القيود الجماعية والدينية كافة.
ثالثًا: أما مفردة (الكرنفالية) على عكس مفردة (الكرنفال)، فلا وجود لها في المعاجم الغربية وتكاد تكون من اختراع (باختين) نفسه. فهو يرى أن الاحتفالية تتأسس حالما تبدأ معاني الاحتفال بتمزيق القيم الاجتماعية وتشويهها وقلبها رأسًا على عقب، كما أنه قسّمها إلى ثلاثة أشكال رئيسة: (المشاهد الطقوسية، والتآليف اللفظية الهزلية، ومختلف أجناس اللغة البذيئة). وبهذا أحيا (باختين) الثقافة الجماهيرية في احتفالاتها الكرنفالية،التي تسخر من السلطة ورجالها، ومن الأفكار السائدة وتشويهها، ومن التاريخ والقدر والثوابت، أي من كل ما هو رسمي ومبجل، سواءٌ أكان دينيًا أم دنيويًا.
رابعًا: يتسم نشاط حلبة الكرنفال بالسخرية من كل ما هو رسمي، وقلب التراتب الطبقي، وفسخ ثوب الحياء والوقار والحشمة، والاحتفاء الجسدي المفرط. أما صورة التكوين المثلى لهذا العالم، فهي (صورة القُبح- Grotesque)، حيث تلغي الفواصل بين شخص وآخر، أو بين الشخص والشيء، ويتحد (القبح الفج) مع (السخرية الكرنفالية) اتحادًا استراتيجيًا. تأسست الكرنفالية على أمرين: نبذ مشروعية الوضع السائد، وتدمير هيمنة كل إديولوجية تدعي القول الفصل في أمور الحياة والكون. فالكرنفال هو صورة متجسدة غير نظرية، يقوم على: (تعدد الأصوات، والحوار، والتعددية، وتهاوي الطبقات والتراتب).
خامسًا: يتيح الكرنفال للمرء أن يتجسد خارج بيئته الثقافية ليستطيع رؤية ثقافته الرسمية (من خارجها) ليفهمها. من هنا يستطيع المرء، بوعي أو بدون وعي أن يرى احتمالات حياة معايرة. كما يرى ما تنطوي عليه ثقافته من (إمكانات كامنة). كما يتيح الكرنفال للأقليات (المهمَّشة) أن تمتلك صوتها ضمن الإيديولوجية المهيمنة، مما يتيح لها المجاهرة في (مناهضة الفكر السائد)- وبهذا فالكرنفال نظرية في (المقاومة والتحرر من كل هيمنة). و(الرواية) هي خير ما يجسد فضاء الكرنفال في الأدب(23).

6- فلاديمير بروب: وظائفية السرد:
ولد بروب في (سان بطرسبرغ، عام 1895)، وتوفي فيها عام (1970). صدرت له عدة كتب من أهمها: مورفولوجية الحكاية الشعبية (1928)- والجذور التاريخية للحكاية الشعبية (1946)- والقصيدة الملحمية الروسية، (1955)- والقصائد الشعبية الغنائية (1961)- والحفلات الفلاحية الروسية (1963). ويعتبر كتابه (مورفولوجيا الحكاية الشعبية، 1928) المنشور في (لينين غراد)، حيث درس الباحث فيه مئة حكاية روسية عجيبة، ضمن تصور منهجي شكلاني مورفولوجي أو صرفي. وقد اشتهر الكتاب بعد ترجمته إلى الإنجليزية (1958)، والفرنسية (1965). وترجم إلى العربية مرتين: الأولى: (إبراهيم الخطيب، المغرب، 1986)، والثانية: (أبو بكر قادر، وأحمد عبد الرحيم نصر، جِدّة/ 1989). وقد اهتم بروب بالأنساق البنيوية للحكاية الشعبية، واستخلاص الوحدات الدلالية، والاهتمام بمضامين الحكاية ومتغيراتها السردية. وكان هدف بروب هو وضع تصنيف للبنيات السردية الأساسية للحكاية الشعبية الروسية).
أما الوظائف التي استخرجها فلاديمير بروب من الحكاية الخرافية، فهي (31 وظيفة) (نقلاً عن ترجمة: قادر ونصر)(24).
6. (جماعة موسكو- تارتو): سيمائية الثقافة وتحليل النص(25):
ولد يوري لوتمان (1922-1993) في (لينين غراد = بطرسبورغ)، ودرس الأدب الروسي والحياة الثقافية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى عين أستاذًا بـِ(جامعة تارتو- إستونيا) العريقة في مجال اللغويات، والنقد الأدبي، والفلسفة. أسس لوتمان (مجموعة السيميوطيقا)، عام (1964)، انضم إليها عدد من الدارسين المرموقين في تخصصات مختلفة، منها: الرياضيات واللغويات، والدراسات الشرقية والأساطير والفولكلور والجماليات. ومن أهم كتب لوتمان: (بناء العمل الفني- بناء العمل الشعري- وسيميوطيقا السنما- (نصر حامد أبو زيد).
- لقد تأثرت مدرسة (تارتو- موسكو) بالمراجع اللغوية التالية: (دي سوسير: الدال والمدلول- وبيرس: الأيقونة والرمز- ومدرسة براغ: أنساق التواصل). وترجم كتاب (دي سوسير إلى الروسية عام (1933). وقد أصدر لوتمان (مجلة (دراسات في أنظمة العلامات)، 1964). كما نشر لوتمان أكثر من (2000 عمل) في الدراسات الأدبية والتاريخية والأنثروبولوجية والسيمائية. وله كتاب (الثقافة والانفجار)، وكتاب (الآليات العفوية للثقافة). وصدر له كتاب (عالم الذهن، 1990) بالإنجليزية. وشاركه عدد من العلماء الروس، مثل: (توبوروف- إيفانوف- بياتيجورسكي و(أوسبنسكي، صاحب كتاب بويطيقا النظم)، وكتاب: (سيمائية الأيقونة الروسية) وغيرهم. وقد ارتبطت السيميوطيقا الروسية في بدايتها بعلم (السيبيرنطيقا- Cyberntics). وفي عام (1967) نشر لوتمان مقالاً بعنوان (النقد الأدبي يجب أن يكون علمًا). وقد اشتهر لوتمان بمفهوم (الفضاء السيمائي- Semiosphere)، 1982، وترجم إلى الفرنسية عام (1999)، كما ترجم إلى العربية (سيمائيات الكون) عام (2011)- (سيزا قاسم).

1. (يوري لوتمان – Y. Lotman) تحليل النص الشعري (1972):
أحد كتب (لوتمان) الهامة، صدر عام (1972) في مدينة (لينين غراد)، وصدر بالعربية عام (1999م)، بترجمة الناقد المصري (محمد فتّوح أحمد)، حيث يقول (المترجم) بأن هذا الكتاب ينتمي إلى (مرحلة ما بعد البنيوية)، ويفيد من مناهج البحث في اللغة والفنون التعبيرية والتشكيلية، وشتى الطرُز الثقافية، كما يعكس ذوقًا نقديًا وحسًا شعريًا بالغ الرهافة)-(ص: 5-6).
وفيما يلي، نقتطف (بعض الأفكار الأساسية في الكتاب (بتصرف):
أولاً: حقيقة النص يبدعها نظام من العلاقات والتقابلات ذات الدلالة، وبعبارة أخرى لا يبدعها إلا (ما يندرج تحت بنية النتاج الأدبي). ومفهوم (البنية) يعني (توافر الوحدة العضوية)، وقد لاحظ كلود ليفي شتراوس بأن: (البِنْية ذات طابع عضوي، لأن علاقة العناصر المكونة لها، تقتضي أن يكون تغيير أي عنصر، مفضيًا بذاته إلى تغيير بقية (العناصر)- (ص: 37).
ثانيًا: علينا أن نحدد ما هو بنائي (عضوي)، وما ليس ببنائي في عناصر الظاهرة الأدبية موضوع الدراسة، فالبنية تمثل بذاتها، وباستمرار، أنموذجًا، ولهذا، فإنها تتميز عن (النص) بأنها أكثر تنظيمًا، وأكثر صحة، وأكثر حظًا من التجريد: (الأحرى أن يقال: إن النص لا يقابل بنموذج لبنية تجريدية واحدة، بل يقابل بدرج من البنى مرتبة حسب حظها من التجريد). أما (النص) في علاقته بالبنية، فيتجلى كما لو كان تجسيدًا أو إحداثًا لها على مستوى معين. وبالتالي، فإن التدرُّج في النظام الداخلي يعتبر أيضًا سمة جوهرية في بنية العمل الأدبي- (ص: 38).
ثالثًا: المفارقة بين (النَسَق – System)، و(النص) ذات مغزى أساسي في دراسة كل التخصصات الدائرة في نطاق البنائيات. والمقابلة بين النص، والنسق، ذات طابع نسبي، غير مطلق، وفي ضوء (التدرجيَّة)، فإن (الظاهرة الأدبية) الواحدة يمكن أن تتجلى من بعض الجوانب باعتبارها (نصًّا)، ويمكن أن تتجلى من جوانب أخرى، باعتبارها (نسقًا)، يحلُّ شفرة النصوص، التي تحتل مستوى أدنى. فالمفارقة بين (النسق)، و(النص)، كالمفارقة بين اللغة والكلام. وتظهر العلاقة بين مفهومي النص والنسق في شيء آخر، ذلك أنه من الخطأ إقامة تناقض حاد بينهما، كما لو كان النص هو (تجلّي) الواقع، وكما لو كانت البنية، مجرد مفهوم ذهني شديد التعقيد. توجد (أو تحدث) البنية في المعطيات التجربية للنص. ولكن لا ينبغي الاعتقاد بأن العلاقة ثمّة تمضي في اتجاه واحد. يستحيل حلّ شفرة النص الأدبي دون علم بمفاتيح هذه الشفرة. فالنص والبنية يتبادلان التأثير ضمن علاقة تبادلية.-(ص: 38-39).
رابعًا: يمكن أن نميز بين طريقتين في دراسة النتاج الأدبي: الأولى تنطلق من تصور أن الجوهر الفني (مُسْتَتِر في النص نفسه)، وأن كل نتاج يقيم بما هو، وفي هذه الحالة، فإن عناية الدارس تتركز على القوانين الداخلية التي تحكم معمار النتاج الفني. أما الطريقة الثانية، فتعني النظر إلى العمل، كما لو كان جزءًا من كل، كما لو كان تعبيرًا عمّا هو أكثر أهمية من النص: (شخصية الشاعر مثلاً)، الوجهة النفسية في العمل، أو الموقف الاجتماعي. وفي هذه الحالة، فإن النص يعني الباحث لا من حيث هو ذاته، بل باعتباره (المادة)، التي يتوسل بها إلى بناء النموذج المشار إليها، والتي تنتمي إلى مستوى أكثر تجريدًا.- (ص: 40-41).
خامسًا: هاتان النزعتان (داخل النص- خارج النص)، ولّدتا أفكارًا (عظيمة ومثمرة) في مراحل معينة (والكلام دائمًا للناقد لوتمان)، وأفضت في مراحل أخرى إلى أعمال تتسم (بالتقليد والتعصب). ويمكن القول: إن (الحركة الشكلية)، قد مارست تأثيرًا عميقًا في التطور العالمي للعلوم الإنسانية من خلال تأثيرها في (حلقة براغ) اللغوية، وعبر أعمال ياكوبسون. أما (الرمزيون) الذين اعتادوا النظر إلى النص باعتباره مجرد رمز خارجي لما تخفي من خواطر، فإنهم لم يستطيعوا التكيف مع مقولة (تحوُّل الفكرة إلى بنية). أما (بقية زوايا الشكلية)، فلقد استحقت الرفض من قبل الباحثين ذوي العلاقة بالفلسفة الكلاسيكية (الألمانية)، إذْ كان هؤلاء يرون في (الثقافة= حركة الروح وليس مجموعًا من النصوص). ثم جاء الهجوم من (علماء الاجتماع) في عشرينات القرن العشرين، ليشير إلى (تظرية التحليل الأدبي) لدى الشكليين، باعتبار هذه النظرية (رذيلتهم الأساسية).
أما (لوتمان)، فهو يعلّق قائلاً: (ينبغي أن نلاحظ أنه من بين صفوف المدرسة الشكلية خرج هؤلاء الباحثون العظام: (إيخنباوم- شكلوفسكي- تينيانوف- توماشيفسكي)- وأن تأثير مبادئها قد امتدّ لاحقًا إلى آخرين: (فينوكور- جوكوفسكي- جيبوس- سكافتيموف- جيرمونسكي- باختين- فينوغرادوف- بروف)... وعلماء آخرين. ويمكن أن يلحظ بوضوح تحول الشكلية إلى (طريقة وظيفية)، لدى (المدرسة السلافية التشيكية) المرموقة في حقل الدراسات الأدبية مثل: أعمال: (مياكار جوفسكي- جراباك- باكوش، وغيرهم من أعضاء (حلقة براغ) اللغوية أو المرتبطين بها مثل: تروبتسكي- ياكوبسون(26)(27).
سادسًا: اللغة مادة الأدب، أي القوام المادي، تمامًا مثلما يمثل اللون بالنسبة للرسم، والحجر بالنسبة إلى النحت، والصوت بالنسبة للموسيقا. بيد أن طبيعة (المادية) في اللغة تختلف عما سواها من مواد الفنون الأخرى، فاللون، أو الحجر، يظل خاملاً من الناحية الاجتماعية حتى يقع في يد الفنان. أما اللغة في هذا المقام، فتمثل مادة من نوع خاص، وتتميز بفاعلية اجتماعية، حتى من قبل أن تطولها يد الفنان. ولكي تشكل الوحدات اللغوية المختارة (سياقًا صحيحًا) من وجهة نظر اللغة التي تنتمي إليها، فإن من الضروري أن تبنى هذه العناصر بطريقة معينة، حيث تنسق الكلمات والوحدات التركيبية، وهكذا،فإن تنظيم اللغة على النحو هو (السياق). ونميز في كل نظام اتصالي بين منظوره البنائي الثابت، الذي يدعى (اللغة) وإحداثياته المتغيرة عبر النصوص المختلفة، والتي تعرف بـ(الكلام). وهذه التفرقة هي إحدى أصوليات اللغويات المعاصرة. وهناك أنظمة نموذجية ثانوية المبنية على أساس اللغة الطبيعية ومنها: الطقوس، كل مجموعات التواصل الإشاري، الفنون، جميعها تندرج في مركب كلي موحد هو (الثقافة).


2. (لوتمان Lotman): سيمائية الثقافة:
في مقالته (سيمائية السينما) يقول لوتمان: أطلق تولستوي، الذي كان مهتمًا بالمرحلة الأولى من تطور (السنما الصامتة)، عليها اسم (الأبكم العظيم)، وقد مرَّت مرحلة طويلة من الصمت (الخَرَسْ) سبقت مرحلة النطق في الفيلم. بيد أنه من الخطأ الفادح أن نتصور أن السينما لم تبدأ الكلام، أو لم تكتسب لغة، إلا مع اكتسابها للصوت، فالصوت واللغة ليسا شيئًا واحدًا. إن الثقافة البشرية تخاطبنا تنقل لنا معلومات بلغات مختلفة. وبعض هذه اللغات فحسب هي التي تتجلي في شكل صوتي. من هذه اللغات مثلاً: (لغة الطبول) في إفريقيا, وتكون بعض اللغات الأخرى ذات طابع بصري بحت (نظام الإشارات). ثم هناك (اللغات الطبيعية) مثل: الروسية، الإستونية، التشيكية، والفرنسية...إلخ. هذه اللغات تتجلى في شكلين: صوتي وبصري (كتابي). اللغة نظام من العلامات المنتظمة، تقوم بوظيفة اتصالية (نقل المعلومات). ويترتب على تعريف اللغة بأنها نظام، مناقشة وظيفتها الاجتماعية. وهذه الإشارة إلى (العلامة) في اللغة تؤدي إلى تعريفها بأنها (نظام سيمائي). ولكي تقوم اللغة بوظيفتها الاتصالية يتحتم أن يكون لها نظام من العلامات جاهز للاستخدام. والعلامة هي البديل التعبيري المادي للأشياء والظواهر والمفاهيم. فالسمة الرئيسة للعلامة هي قدرتها على القيام بوظيفة البديل).-(ص: 301-302).
- ثانيًا: وفي مقالتهما المشتركة (حول الآلية السيمائية للثقافة)، يقول (يوري لوتمان- وبوريس أوسبنسكي- Ospenskii) ما يلي:
1. مفهوم (الثقافة) يستنتج من نمط الثقافة نفسها: ذلك أن كل ثقافة تاريخية، إنما تنتج نمطًا ثقافيًا خاصًا يميزها. لهذا، فإن الدرس المقارن لدلالات مصطلح الثقافة، عبر القرون، يمنح مادة غنية تعين في تصنيف أنماط الثقافات: لكل ثقافة سمات نوعية. كما أن الثقافة ليست مطلقًا نظامًا عالميًا، بل هي نظام فرعي يتشكل طبق نمط مخصوص. فالثقافة لا تنظم كل شيء، وإنما تصوغ ميدان نشاط موسومًا بخاصات معينة. ومن هنا تفهم (الثقافة) على أنها (دائرة جزئية، أو مجال مقفل في مواجهة المجال الثاني، (مجال اللاثقافة). وستظل الثقافة أبدًا بحاجة إلى مثل هذا الضد، إذ تبرز الثقافة هنا- (طرفًا مقاومًا لضده، وبضدّها تتميز الأشياء): والأمر الآخر المشترك بين مفاهيم الثقافة المتعددة أن السبل العديدة لتحديد الثقافة من اللاثقافة، إنما ترتد أساسًا إلى أمر واحد، هو: أن الثقافة باعتبارها (نتاج الإنسان) في مقابلة (الوجود الطبيعي)، وباعتبارها (نتاج أصول متفق عليها) في مقابلة (النتاج الطبيعي التلقائي) أو (غير المتعارف عليه). إن إدخال صيغ جديدة للسلوك وكثافة القوة السيمائية لصيغ قديمة- يمكن أن يفصحا عن (تغيّر نوعي في نمط الثقافة).
- وفي مقالة بعنوان (نظريات حول الدراسة السيمائية للثقافات – مطبقة على النصوص السلافية)، كتبها خمسة من أقطاب (مدرسة تارتو- موسكو) هم: (أوسبنسكي- إيفانوف- بياتيجورسكي- توبوروف- ولوتمان)، جاء فيها ما يلي:
أولاً: الثقافة: كل نشاط بشري يرتبط بالتعامل والتبادل وتخزين المعلومات يقوم على نوع من الوحدة. ويجب التفرقة بين مفهومين للثقافة: مفهوم الثقافة من منظور ذاتها- ومفهوم الثقافة من منظور ما وراء النظام العلمي الذين يصفها.
ثانيًا: الثقافة، مجال لتنظيم المعلومات ونقيضها هو الفوضى = فالعلم ليس نظامًا ما ورائيًا فحسب، بل هو جزء من الدراسة وهو (الثقافة الحديثة). ورغم أن الثقافة تحاول عن طريق توسع مجالها أن تغتصب مجال ما هو خارج الثقافة نهائيًا وبالكامل، بغية أن تصهره في ذاتها، فإن هذا التوسع في مجال التنظيم يؤدي من منظور الوصف الخارجي إلى امتداد مجال اللاتنظيم وتوسيعه.
ثالثًا: في التعارض بين روسيا والغرب، تحددت روسيا بأنها (المجال الخارجي غير السوي)، والذي لم يُستوعب ثقافيًا، غير أنه يؤسس بذرة ثقافة المستقبل. أما الغرب فقد أُدرك على أنه عالم منظم مكتفٍ بذاته مغلق، بمعنى أنه عالم ثقافي، وهو في الوقت ذاته –( عالمٌ ميتٌ ثقافيًا).
رابعًا: النص والعلامة: يعامل النص على أنه علامة متكاملة، وقد يعامل على أنه مجموعة متوالية من العلاقات. ولا يتجزأ النص إلى علامات منفصلة، يتجزأ إلى خواص.
خامسًا: لقد ظل (علم السلافيات) مجالاً للمعرفة. وظل موضوع (علم الدراسات السلافية) منحصرًا دائمًا في مجموعة معينة من النصوص. ومع تقدم التفكير العلمي، وتقدم (حركة الثقافة السلافية)، التي يرتكز عليها هذا التفكير، فإن هذه الأعمال نفسها، قد تفقد قدرتها على أن تكون نصوصًا أحيانًا، وأحيانًا قد تستطيع (استعادة الذاكرة) والقدرة. وقد يكون (الأدب الروسي القديم) مثالاً هامًا. وقد تكون المقارنة بين فترات متزامنة في التراث السلافي طريقة أكثر حسمًا لحل مشكلة التراكم التعاقبي، ولحل مشكلة تتابع معظم الطبقات القديمة وتراكمها على الفترة السلافية المشتركة.- (ص: 366+367)(28).
7. (الجمالية الجدلية) الواقعية الماركسية:
ثلاث صفات يمكن إطلاقها على (التيار السلافي الثاني) بعد الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي منذ (1917)، أطلق عليه اسم (الواقعية الاشتراكية)، هذه المواصفات هي: (الجمالية الجدلية الواقعية)، فكان (الفكر الجمالي)، قد نشأ مع (الواقعية الانتقادية) في القرن التاسع عشر. أما (الواقعية الاشتراكية)، فقد نشأت في أوائل عشرينات القرن العشرين، لكن فرعها الآخر (الواقعية الحزبية)، نشأ عام (1932) تقريبًا، واستمر حتى (نهاية الخمسينات)، أي ما بعد ستالين بقليل.
- يُعرّف (مارك جيمينيز Jimenez)- في كتابه (ما الجمالية).... (الجمالية- Eathétique)، بما يلي: (يشير هذا اللفظ، ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى اللفظ الألماني (Aesthetica)، الذي أصبح مع الفيلسوف الألماني (بومغارتن) لفظًا اصطلاحيًا، بل عنوانًا لمقاربة خاصة باتت تميز بين (أحداث الذكاء) و(أحداث الحساسية)، ومنها أحداث الفن، وهو ما بلغ عنده طموح تأسيس سبيل دراسي جديد فلسفي وعلمي، يجعل من الجميل، ومن الفن، موضوعًا له، وهي نقلة كبيرة في تاريخ الفكر، إذ تبنى ميدانًا جديدًا كان يختلط ويتداخل، في المعتقدات والفلسفات السابقة، مع الأخلاقي والديني وغيرها. إلا أن طموح بناء العلم تحوَّل، أو بات يتحدد- مع النقلة الثانية في أهميتها مع (كَنْت)، في بناء قواعد لـِ(حكم الجميل)، وهو ما توسع فيه (هيغل) في خيارات متعددة: (الجمالية الفلسفية، الجمالية التكوينية، الجمالية المقارنة، الجمالية النفسية، وغيرها)(29).
- يندرج الناقدان (بيلينسكي- Belinskee)- (1811-1848) و(تشيرنيشيفسكي-Shernyshevsky)- (1828-1889)- ضمن (الجمالية الانتقادية)، ويؤكد (بليخانوف) بأن قانون بيلينسكي الجمالي، يتألف من خمسة قوانين، وأن مسألة وجود قوانين ثابتة في علم الجمال أو عدم وجودها، يمكن حلّها على أساس الدراسة المتمحصة لتاريخ الفن، وليس على أساس الاعتبارات والتصورات المجردة). أما تشيرنيشيفسكي) فقد قدم عام 1855 أطروحته للماجستير في جامعة (بطرسبرغ = لينين غراد) بعنوان (علاقة الفن الجمالية بالواقع)، حيث قال: (الجمال هو الحياة). لقد كانت (الإستاتيكا) بالنسبة له هي (نظرية الفن، ونظام المبادئ العامة للفن بشكل عام، وللشعر بشكل خاص). أما (بليخانوف – 1856-1918)، فقد انتقد مقولة (الفن من أجل الفن)، وقال بمقولة (الفن من أجل الحياة)، وردد قول (بودلير): نظرية الفن للفن (نظرية صبيانية). وأصناف (بليخانوف): (يظهر الميل إلى الفن لأجل الفن، حيث هناك تنافر بين الفنانين، والوسط الاجتماعي الذي يحيط بهم). ويورد (بليخانوف)، نقلاً عن (إنجلز) قولاً لماركس، هو التالي: (كلُّ ما أعرفه أنا، هو أنني، لست ماركسيًا-(ماركس).
1. ظهرت الفلسفة الماركسية في أربعينات القرن التاسع عشر على يدي ماركس (1818-1883)، وإنجلز (1820-1895). وقد أورد (ماركس) فقرةً شهيرة مهمة في كتابه (نقد الاقتصاد السياسي، 1859) تقول: (إن البشر خلال الانتاج المادي لحياتهم- يدخلون في علاقات محددة لا بُدّ منها، مستقلة عن إرادتهم، هي علاقات الإنتاج، التي تتوافق مع مرحلة محددة من تطور قوى إنتاجهم المادية. ويؤسس مجموع هذه العلاقات (البنية) الاقتصادية للمجتمع، أي الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه (البنية الفوقية) السياسية والتشريعية، والذي تتوافق معه أشكال محددة من الوعي الاجتماعي. إن نمط إنتاج الحياة المادية، يحدّد عملية الحياة الاجتماعية والسياسية... والفكرية بوجه عام، فليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم، بل إن (وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم).
2. تتميز (الفلسفة الماركسية) بالجمع بين (المادية الديالكتيكية)، وبين ميدانها الفلسفي السوسيولوجي (المادية التاريخية)، وبمنهجها الديالكتيكي، الذي يقول: (ليس ثمة أشياء جامدة ساكنة وعاطلة، فالطبيعة كلها، والأشياء جميعها، في تغير وتطور أزليين أبديين، يتمان عبر تذليل التناقضات وصراع الأضداد. أما حالات السكون، حالات التوازن، فلا ينفيها الديالكتيك، ولكنه يعتبرها- مجرد لحظات من الحركة).
3. ويعرّف (لينين)- الديالكتيك، بأنه: (مذهبٌ في التطور في أتم صوره وأعمقها وأبعدها عن الأحادية، مذهب في نسبية المعرفة البشرية، التي تعطينا انعكاسًا للمادة المتطورة أبديًا).
فالديالكتيك أيضًا، هو (علم عن الترابط الشامل، والترابط هو علاقة قد تجمع بين أشياء وتصورات، ليس بينها أي رابط. وهناك عدة قوانين أساسية وفرعية للديالكتيك. وتقول الماركسية- اللينينية أن (الفن) هو شكل خاص من الوعي الاجتماعي، يعكس الواقع في صورة فنية رمزية).
4. أول من أطلق مصطلح (الواقعية الاشتراكية، 1934) هو الروائي الشهير (مكسيم غوركي)، صاحب رواية (الأم). ومن جهتي، أحاول هنا تقديم تعريف مُبسّط لها: (هي منهج ماديٌّ عالمي، لقراءة العلاقات المعقدة للأدب والحياة، بطريقة جدلية، تمنح الأدب استقلالاً نسبيًا، وتركز على أهمية علاقة الأدب بالمجتمع والطبيعة، وتؤمن بفكرة مركزية، هي فكرة الصراع الطبقي، ونقد المجتمع الرأسمالي)-(ص: 365)(30).
والخلاصة هي:
- اعتمدت الواقعية الاشتراكية بأشكالها المتنوعة والمختلفة على عدّة أفكار ماركسية أساسية:
1. ديالكتيك الأدب والواقع: استخدمت الواقعية الاشتراكية منهجية الديالكتيك (الجدلي)، لتفسير أشكال العلاقات بين الأدب والواقع، بعد تفكيك ماهية الأدب، وماهية الواقع، وتفسير (واو الربط)، بينهما من خلال التفاعل والترابط الديالكتيكي المادّي في مواجهة التفسير الميتافيزيقي. وبالتالي، كثر الجدل حول علاقة الأدب بالمجتمع.
2. نظرية الانعكاس: اهتمت الواقعية الاشتراكية بمنهجية الانعكاس التي صاغها لينين، وطوّرها لوكاتش، حول الأدب والواقع المادّي، ولم تقل الواقعية الاشتراكية بالانعكاس الفوتوغرافي للواقع، بل رأت أن منهجية الانعكاس، منهجية معقّدة.
3. البنية الفوقية والبنية التحتيّة: أخذت الواقعية الاشتراكية، بفكرة الجدل بين البنية التحتية، والبنية الفوقية، ورغم أن البنية المادية هي الأكثر تأثيرًا، إلاّ أنها لا تنفي تأثر البنية التحتية، بمتغيرات تحدث في البنية الفوقية.
4. الأدب والإديولوجيا: من القضايا التي ناقشتها الواقعية الاشتراكية، مسألة ماهية الإديولوجيا، وماهية الأدب، وبالتالي، شكل ومساحة العلاقات بينهما.
5. صراع الأولويات بين الشكل والمضمون: ناقشت الواقعية الاشتراكية مسألة العلاقة بين الشكل والمضمون، وانحازت لأهمية المضمون، ولكنها لم تهمل الشكل من خلال مناقشة مسألة (الماهيّة والظاهرة)، فالمضمون عند لينين، هو عمق النهر، والزبد هو الشكل الذي لا ينفصل عن عمق النهر، ولكنّ حلّ مشكلة ثنائية الشكل- المضمون، ظلّ في الماركسية وحتى لدى خصومها- غامضًا.
- قدّمت الواقعية الاشتراكية في أوروبا، أفكارًا جديدة، ساهمت في تجديد الفكر الماركسي: غرامشي (المثقف العضوي)، ولوكاتش (تعميق الانعكاس)، وبريشت (منح أهمية الشكل)، وماشري (المسكوت عنه)، وإيجلتون (تعميق تحليل الإديولوجيا)، إضافة لبعض إضافات (مدرسة فرانكفورت) في الولايات المتحدة، كذلك بعض أفكار (الواقعية الاشتراكية الماويّة) في الصين الشعبية. كما أن الأفكار الماركسية لم تنته، بسقوط الاتحاد السوفياتي، بل هي تعيد تشكيل نفسها بطرق مختلفة وجديدة، إذْ لم تستطع العولمة الرأسمالية المنتصرة، أن تقدّم حلاً علميًا لمسألة الصراع الطبقي، من خلال مقولة (أُخوّة مؤسسات المجتمع المدني!!)، ولا استطاعت العولمة الرأسمالية، من خلال عسكرة العولمة، أن تقدم غطاءً أخلاقيًا، لحروبها الحداثيّة، وتعمّق (التشيُّؤ- لوكاتش)، أكثر، تجاه التكنولوجيات الحديثة التي تتحكم العولمة الرأسمالية باتجاهاتها، وتحوّل شعوب الأرض إلى مجرد مستهلكين تابعين، في اقتصاد السوق. ولهذا يعيش الأدب الحديث أزمة عميقة، حيث لم تكن العولمة الثقافية، سوى تجديد لأدوات الإمبريالية الثقافية، ليس إلاّ... وهكذا، تعمّق الصراع الطبقي, وبالتالي، ما يزال الأدب الحديث- مُعلّقًا بين لغة شعاراتية قديمة متخشّبة، وبين لغة شعاراتية ما بعد حداثية متخشّبة أكثر، تحمل ملامحها الدكتاتورية. ولم تظهر ملامح جديدة بديلة. وهكذا أصبح (السوق هو الحلّ)، لكن السوق ليس هو الواقع الحقيقي لمجتمعات تقاوم لكي تعيش حياة أفضل، بعيدًا عن الاحتلال والفساد الرأسمالي والاستغلال، أما- استنهاض الميتافيزيقيا من جديد، فهو لقاء الماضي الذي مضى بأساطيره، مع أساطير المستقبل غير الموثوق، فنحن نعيش واقعية عجائبيّة قاسيّة.
خاتمـة
اكتشف (محمد بن سلام الجُمحي)، نسقين مهمين في كتابه: (طبقات فحول الشعراء)، هما: (الفحولة، والطبقية). واكتشف عبد القاهر الجرجاني (نسق النظم = النسيج). واكتشف حازم القرطاجي، مجموعة من الأنساق، التي تهم النقد والبلاغة معًا. وفي العصر الحديث، اكتُشفت أنساق أخرى في كتابات: (طه حسين) في كتابيه: (الشعر الجاهلي، 1926) و(مستقبل الثقافة بمصر، 1938). واكتشف (روحي الخالدي) أنساقًا في العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب في كتابه الرائد: (تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب، 1902). واكتشف (مالك بن نبي)، نسق (العالمثالثية) في كتابه (مشكلة الثقافة، 1959). وكشف (محمود أمين العالم)، ديالكتيك الأنساق في الواقعية الجدلية. إذن، اكتشاف النسق السطحي في الطبقة السطحية للنص، مسألة انطباعية سهلة أو كأنْ نكتشف (الأنساق العميقة) في شعر نزار قباني، لكن البرهنة من خلال الوصف وقراءة شبكة العلاقات هي المسألة الجدّية:
أولاً: حتى لو انتقلنا من بلاغة اللفظة، والجملة والفقرة إلى بلاغة النص، فنحن باستمرار بحاجة إلى قراءة المعنى البلاغي حتى اليوم: مثلاً: (الاستعارة) هي مركز البلاغة، كذلك (الانزياح)، و(المُهيمنة) كلها تساعدنا في تمييز درجات الشعر ودرجات النثر. ومثلما يعود الأوروبيون إلى (الجذر الأرسطي)، نعود نحن العرب إلى (الجرجاني، والقرطاجني). ومثلما أعلن (رولان بارت)... مقولة: (موت المؤلف)، لكنه لم يمت، منذ الإعلان في الخمسينات وحتى اليوم، ولن يموت. وأعلن (حنا مينة)- (موت الشعر وولادة الرواية)، لكن الشعر لم يمت، والرواية لم تولد، رغم أنها قفزت قفزة مهمة منذ (نجيب محفوظ). وهل يمكن أن نتجاهل (بلاغة الحجاج) مثلاً، أو نتجاهل قانون التراكم، أو قانون نفي النفي...إلخ، أو نتجاهل (أنساق الهُويات).
ثانيًا: إذن- إعادة الاعتبار لمصطلح (المثاقفة)- عملية علمية، وعملية نفعية. أما (ترسبات) الماضي فيها، فهي قابلة لإعادة الشحن، لوضعها في إطارها الصحيح، وهو (حقل الاختلاف)، لكي نؤطر جهودنا في (حقل التفاعل الثقافي، والحقل الأدبي). لأن (المثاقفة) يمكن أن تتحول من جديد إلى علم عالمي.
ثالثًا: كانت (الحداثة) يومًا ما (ما بعد حداثية)، لكن (ما بعد الحداثة)، سوف تنضم إلى كلاسيكية الحداثة لاحقًا. المشكلة هي أننا نتعامل معهما بقراءة (قشرة الحداثة)، أي بشعاراتية دعائية تسويقية (مرتبطة بآليات سوق الثقافة). فنحن نتعامل مثلاً مع موضوعي: (ثقافة النساء- وثقافة التهميش)، بتهميش آخر، يمتلك في جُوَّانيته ميكانزمات الدفاع عن السلطة: فهناك من يخفي نسقًا، ويُبرز آخر ليصل إلى الرغبة المنشودة. ما زالت الدراسات حول (الصعلكة، والشعر العذري) تدور في فلك الإثارة. ولم تكتب أية دراسة عن (شعراء البؤس)، مثل: (عبد الأمير الحُصيري، وعبد الحميد الديب)، وفق المناهج الحديثة في النقد الأدبي، وعلم الاجتماع، وحتى وفق (النقد الثقافي المقارن).
رابعًا: ما زال مفهوم (النقد الثقافي) غائمًا وضبابيًا وملتبسًا حتى اليوم، وحتى شقيقه (النقد الثقافي المقارن- 2004) هو الأكثر اتساعًا، الذي استبدلناه بمصطلح (علم التناص والتلاص)، فما البديل:
- لقد تأسس (معهد الأبحاث الاجتماعية) الألماني بفرانكفورت عام (1923)، وأطلق فيما بعد على رموزه اسم (مدرسة فرانكفورت)، الذين كانوا خليطًا من علماء الاجتماع والفلسفة وعلوم اللغة وأنتجوا ما سمّي بـِ(النظرية النقدية)، ومنهم: (هوركهيمر، إريك فروم، هربرت ماركوزه، أدورنو، والتر بنيامين، فريدريك بولوك، ومن بعدهم الرعيل الثاني وفي مقدمتهم (يورغن هابرماس)، وأكسيل هونيث). وكلهم تأثروا بكتاب (التاريخ والوعي الطبقي، 1923) لجورج لوكاتش، وكتاب (الماركسية والفلسفة، 1923) لكارل كورش- (انظر: كتاب حسن مصدق: (هابرماس ومدرسة فرانكفورت: النظرية النقدية التواصلية). ومحور الكتاب هو أفكار (هابرماس- Habermas).
- ويمكن أن نصف مدرسة فرانكفورت بأنها رائدة (النقد الثقافي)، قبل أن يستخدم أدورنو، المصطلح عام (1951)، وبما أن مصطلح (الثقافة) يتسع لكل العلوم الإنسانية، فإن مدرسة فرانكفورت هي مدرسة فكرية فلسفية اجتماعية. لهذا أقترح تصنيف دراساتها، ضمن (الدراسات الثقافية). أو ما تسمى عندنا نحن العرب بـِ(الدراسات الفكرية)، وهي ملتصقة بمجالات العلوم الإنسانية.
- أما (النقد الأدبي)، فتقاليده راسخة ومعروفة. وهي أيضًا خاضعة للتطور والمتغيرات القومية والعالمية، وليست ثابتة مغلقة، لكنه أي النقد الأدبي رسم حدودًا وإشعاعات ممكنة في محيط دائرة النص.
- أما (النقد الثقافي)، فهو ليس بجديد، لكنه يتطور أيضًا، لأنه نشأ قبل ظهور المصطلح (عام1951) على يدي أدورنو. مشكلة النقد الثقافي أنه بلا حدود، فهو يختلط أحيانًا بـِ(الدراسات الثقافية)، و(النظرية الثقافية)، ومجاله الحقيقي هو النظرية الثقافية. لكن الأفضل له هو (تحليل النصوص الثقافية)، من مثل: نص (الشعر الجاهلي) لطه حسين، أو نص (مستقبل الثقافة بمصر)، فكلاهما نصّان ثقافيان. أو (مشكلة الثقافة، 1959) لمالك بن نبي.
- أما (تحليل النصوص الأدبية) تحليلاً أدبيًا وثقافيًا، فهو المجال الحقيقي للنقد الأدبي، لأنه من حق النقد الأدبي أن يستخدم قراءة إشعاعات محيط دائرة النص، ضمن حدود معينة، حتى لا يقع في دائرة خارجية هي (دائرة الثرثرة الثقافية). مشكلة التحليل الأدبي سابقًا، كانت الثرثرة والاستقراض من الخارج واسقاطها على الداخل. وهذا ما يتطابق مع التفكيكية (لا شيء خارج النص)، أي أنني أفهم أن المعرفة التي يتعامل معها الناقد، هي المعرفة القادمة من داخل النص، لا من خارجه، وتكون الاستعانة بالخارج أحيانًا لإضاءة النص.
خامسًا: هكذا تكون (المدرسة السلافية) بفرعيها: (الشكلاني)، و(الجدلي الواقعي)، هي التي ينطبق عليها صفة (النقد الثقافي المقارن)، لأنها أيضًا، تمدّدت خارج العالم السلافي (أوروبا، والولايات المتحدة)، رغم تأثرها بالفلسفة الألمانية، ولأنها مارستْ (المثاقفة الحقيقية). ولأن (تلميحات النواة الخفية)، والمسكوت عنه يمكن قراءتها في ثغرات النصوص، وما أكثر هذه الثغرات التي تُشدشد أوصال النصوص. فالسلافيون الروس، هم آباء اكتشاف (آليات الأنساق)، حيث أصبحت معرفتهم، عالمية. وإذا كانت (الستالينية الثقافية) قد قمعت النصوص، وأخفت ما هو مخفي أصلاً، فإن (دكتاتورية الحرب الباردة- 1947-1990) قد دمّرت أسس الحوار العالمي، وتلتها (عولمة متوحشة) قادت إلى الخراب الكبير(31)(32)!!. أما من ناحية (الإديولوجيا)، فيكفي أن نقول بأن (ماركس) هو أوّل من وضع مصطلح (البنية، 1859) – (انظر: علم الشعريات المقارنة – ص 359).
وهنا أكرر (الاقتراح، 1986)، أي أن يكون مصطلح (المثاقفة) بديلاً من (النقد الثقافي)، مشتملاً على (التفاعل، والمقارنة، والنقد الأدبي، والنص الثقافي) بحذف المعنى الأنثربولوجي.
الهوامش والمراجع
(1) أندرو إدجار، وبيتر سيدجويك: موسوعة النظرية الثقافية، ترجمة: هناء الجوهري، منشورات المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
(2) أصوات متعددة وعالم واحد: الاتصال والمجتمع، منشورات الشركة الوطنية للنشر، الجزائر، 1981.
(3) شربل داغر، مجلة فصول: (التناص سبيلاً إلى دراسة النص)، العدد الأول، القاهرة، صيف 1997.
(4) مجلة التبيين الجزائرية، العدد الأول، يناير، 1990.
(5) عز الدين المناصرة: مقدمة في نظرية المقارنة، دار الكرمل، 1988، ص73-75.
(*) وهنا نحن العرب ننتقل من علم التفكير إلى (علم التكفير)!!!
(6) عبد الله الغذامي، وعبد النبي صطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي؟، (مساجلة)، دار الفكر، دمشق، ط1، عام 2004.
(7) عز الدين المناصرة: علم التناص والتلاص، ط2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011، ص41.
(8) تيري إيغلتون: الماركسية والنقد الأدبي، ترجمة: جابر عصفور، منشورات عيون، المغرب، 1986.
(9) مجلة التبيين: شهادة في شعرية الأمكنة (1989)، مرجع سابق.
(10) (قراءات مساندة): انظر: مدخل إلى التفكيك، ترجمة حسام نايل، قصور الثقافة بمصر، 2008- جاك دريدا: الحدث، التفكيك، الخطاب، محمد شوقي الزين وآخرون، دار الفارابي، بيروت، 2011- جاك دريدا، والتفكيك، أحمد عبد الحليم عطية وآخرون، دار الفارابي، 2010.
جاك دريدا: استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا- ترجمة: عز الدين الخطابي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2013.
(11) يوحنا سميث: ما النقد الثقافي_ ترجمة: أيمن بكر، موقع ضفاف الإلكتروني، (بتصرف).
(12) مجلة بلغاريا الجديدة- صوفيا، عدد سبتمبر 1980.
(13) حسن مصدق: النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005، ص77.
(14) لسانيات النص وتحليل الخطاب، الجزء الأول، ط1، كنوز المعرفة، عمّان، 2013، ص:34-35.
(15) نظرية المنهج الشكلي: (نصوص الشكلانيين الروس)- ترجمة: إبراهيم الخطيب، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982- ص: 67-68.
انظر أيضًا بالفرنسية: نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس- ترجمة البلغاري تودوروف، باريس، 1965.
(16) باللغة البلغارية: يعادل مصطلح (الأدبية)، كلمة (ليتراتورنوست).
(17) هناك ترجمتان لرواية (الحمار الذهبي، أو الجحش الذهبي)- إحداهما للناقد الجزائري (أبو العيد دودو)، والأخرى لعالم اللغة الليبي (علي فهمي خشيم).
(18) نظرية المنهج الشكلي- مرجع سابق: انظر: مقالة شكلوفسكي: بناء القصة القصيرة والرواية- ص122-152، بتصرف.
(19) نظرية المنهج الشكلي- مرجع سابق- ص175-221، بتصرف.
(*) يبدأ اسم جاكوبسون بالإنجليزية (J)، أما بالروسية، فيبدأ بحرف (Y)، لهذا يُنطق (ياكوبسون).
(20) رومان ياكوبسون: قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988، انظر: فصل: اللسانيات والشعرية، ص:27-33.
(21) سبقتْ (نصوص الكاهن الكنعاني) في الحضارة الفلسطينية- السورية- (التوراة) بأربعة عشر قرنًا- انظر: عز الدين المناصرة: (فلسطين الكنعانية)، منشورات جامعة فيلادلفيا، عمّان، 2009.
(22) تسفِتانْ تودوروف: (ميخائيل باختين: المبدأ الحواري)، ترجمة: فخري صالح، ط2، المؤسسة العربية، عمّان، 1996: ينطق الاسم الأول لتودوروف- (تِسْفِتان)=Tsvetan )- بالبلغارية، وليس (تزفيتان) كما يكتبه بعض النقاد العرب.
(23) ميجان الرويلي، وسعد البازعي: (دليل الناقد الأدبي)، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2002، ص(214-217- بتصرف).
(24) جميل حمداوي: موقع صحيفة المثقف الإلكترونية، 30/7/2014.
(25) سيزا قاسم، ونصر أبو زيد: مدخل إلى السيميوطيقا، طبعة التنوير الأولى، القاهرة، 2014.
(26) يلخص صلاح فضل (نظرية البنائية في النقد الأدبي، ط2، القاهرة، 1980، (ص: 17+ 18+ 120)، تسعة معالم لتحليل لغة الشعر لدى جماعة (حلقة براغ).
(27) عز الدين المناصرة: (علم الشعريات المقارنة)، ط2، مجدلاوي، عمان، 2007، (ص: 299-300): صدرت طبعته الأولى عن دار مكتبة برهومة، عمّان، 1992.
(28) سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، مرجع سابق، القاهرة، 2014.
(29) مارك جيمينيز: ما الجمالية، ترجمة: شربل داغر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.
(30) علم الشعريات، المقارنة، مرجع سابق.
(31) ليون تروتسكي: (الثورة المغدورة): نقد التجربة الستالينية، ترجمة: رفيق سامر، دار الطليعة، بيروت، 1968.
(32) فرانسيس سوندرز: الحرب الباردة الثقافية، ترجمة: طلعت الشايب، المجلس الأعلى للثقافة بمصر، القاهرة، 2003.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج