الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زرطيط

كمال عبود

2018 / 2 / 22
الادب والفن


الصيادون لا يتكلمون الّا قليلا ...
الصيادون يبيحون بوحاً ... للأزرق واسع المدى .. للصخرة الملساء التي عاندت الموج ... للزرقةِ الداكنة على يمين - القليعه-*... لسمكة ال-زليق - التي تراوغُ وتراوغ كبنت الضيعه -مهديه- البنت الشقية الجميلة التي تدور على نساء القريه وتبتسم لهنّ بوجهها المُورّد وتقول لكل واحدةٍ منهنَّ :
ان شاء الله بتصيري حماتي ..
و النساء تقلن لها مسرورات : يا ريت ، لن نرى أجمل منكِ
لكن -مهديه - مثل سمكة ال- زليق - لا تأكل الطعم اطلاقاً بل تتمايل مختالةً بانسيابها الجميل وفستانها الزهري
*****
مهران يجلس على كرسي صغير فوق الصخرة الملساء على الرأس البحري .. جلس هناك منذ القِدَم منذ مئات السنين وربما أكثر .. كان اسمه مختلفاً في كل كَورٍ زمني ، لكنّه هو .. هو .. المتحدُ مع الافق الرحب .. مع الازرقين .. مع بقعة بحرية قد تجلب رزقا أو حوريّةً يبثّها لواعج دفينته الحزينة واحلامه التي انتظرها من عهد التكوين .....
مهران الكبير - جدّ نا الذي لم يتعلم القراءة ولا الكتابه ، منذ مئتي عامٍ كان يجلس على كرسيّه الخشبية الصغيره ويدلي بسلّة القصب المجوّفة ذات الفتحة الضيّقةِ في الماء وينتظر حتى تدخل سمكة ما الى داخل السلّة لتأكل طعماً وضعه مهران ، عندها يسحب سلّته بسرعةٍ ويأخذ صيده.......
وابن مهران الكبير تعلّم صيد السمك وأصبح بدوره جَدّاً فأخذني معه انا مهران الصغير الى البحر مرّات ومرات ولكني كنتُ نزقاً وثرثاراً ، أقطع صمته وتأملَهُ ، وأسأله كثيراً..
قلتُ لهُ: ماهذا الابيض الذي يخرج من الموج ..؟
قال : هو الزَبد
قلتُ : وممّ هو
...؟ فقال : دموع الذين رحلوا في البحر ولم يعودوا ،
ولكني لم افهم ما يعنيه
وسألته ثانيةً : لماذا يصبح البحر داكناً وقاتماً كلما ابتعنا عن الشاطيء ...؟
قال : لأنّه المجهول ...
وأيضاً لم افهم ما قاله الجدّ
ومرةً سألته : أين ينتهي البحر .....؟؟؟
قال : حيثما تنتهي الاحلام ..
وفي كل مرةٍ كانت اجوبته لغزاً بالنسبة لي حتى صرتُ في الصف الخامس حين طلب الاستاذ في المدرسة ان نكتب موضوعاً نصف فيه البحر . فكتبت :
زبدُه دموع الامهات اللواتي هاجر اولادهن ولم يعودوا ... وافُقهُ هي الاحلام التي لا يسعها المدى ، أ مّا عمقه فهو المجهول الذي يسحقك اذا لم تصنع سفينة النجاة بيديك... وكتبت كثيراً من تعاليم مهران الكبير حتى انني ذكرت انّ البحرَ يشبه حبيبة مهران ، وذكرتُ أيضاً سمكة - الزليق -
قال لي الاستاذ : هل تدلني على الاديب الذي نقلت عنه
قلتُ هو جدّي ، رحمه الله
*****
حفيدي مهران ،عشق البحر ايضاً، لكنّه أبدع في الدراسه وصار جامعياً ومبدعاً في اختصاصه ثمّ موظفاً في الشركة العامه ،
كان عليه ان يثبت حضوره بالتوقيع على دفتر الدوام اليومي يومياً، أمّا المدعو ( حمشه) مراقب الدوام وماسك دفتر التوقيع وهو بالكاد حاصل على الشهادة الابتدائيه ، صار يُوّبخ الاستاذ مهران :
شو يا استاذ صاير عم تتأخر عن الحضور ...؟؟
قال الاستاذ : أنا أخذ عملي الى البيت اسهر ساعات طويله كل يوم كي أنجز العمل ،
قال حمشه : والله تاخد الشغل عا البيت أو ما تاخذه ما بعرف ، بدك تجيء بكير أو امنعك من التوقيع
وفعلاً صار حمشه يسحب سجل الدوام ويرفع تقارير الغياب الى ( الرقابه ) ثمّ إلى ( أمن الوظائف ) والرقابة والمدير العام يشهدون مع حمشه بأنّ مهران يماطل في دوامه ،
قال المحقق لمهران : حمشه موثوق لا يكذب، واذا ما عاجبتك الوظيفه ..الله معك
حاول مهران اقناع المحقق بان مصلحة الشركه لا تكمن في تأخيرٍ عن الدوام عشر دقائق بل في العمل المُنجز في البيت والذي يأخذ جهداً وساعاتِ سهر طويله ، لكن عبثاً ... لا فائده
استقال مهران ، وأثناء خروجه الأخير سمع حمشه يقول :
كان يحسب نفسه نسر جارح ولكنه أصغر من - زرطيط
*****
كان الاستاذ مهران في غرفة التحقيق عارياً عدا - الكيلوت -.. جرّدوه من ملابسه ... وضعوا عصابةً سوداء على عينيه ... وقيّدوا يديه إلى خلف ظهرهِ وصار منبطحاً فوق بلاط الغرفة البارد ، وحذاءٌ أنيق ، لرجلٍ أنيق فوق رقبة مهران : ولاه ... زرطيط ... مين شايف حالك ..؟ ... احكي كل اللي عندك....
لم يسمع مهران السؤال ... كان يتساءل في سرّه ..: لماذا جرّدوني من ثيابي و لِمَ العصابة فوق العينين ولماذا الانبطاح على البلاط ولمن هذا الحذاء....؟
لم يسمع مهران السؤال التالي أيضاً ..... لقد فقد الوعي تماما .... لقد بدأَ الاستقبال -
*****
تجاوز الاستاذ مهران محطاته البائسه ، صار لزاماً عليه ان يعيش في محنةٍ اخرى ، محنة الحرب الداخليه ..... وفي احد فصولها الطويله كان مهران راجعاً الى بيته مساء حين انتصب له قبل مدخل القريةِ حاجزاً لمجموعة مسلحين ، اوقفوه وطلبوا هويته ، ولكن مهران كان قد نسي بطاقته في البيت ، قال لهم : بيتي قريب دعوني احضر بطاقتي، لكنّهم لم يدعوه ، بل أوسعوه ضرباً وركلاً ، أخذوا منه سيارته ونقوده ونزعوا عنه ثيابه :
لو كنت صادقاً كنت تشبهنا في الشكل وفي اللباس والذقن
اخذوه الى منطقة بعيده ، ثلاث سنوات وهو يحفر الخنادق بيديه مع امثاله من الاسرى الى ان جاء يوم اضطرب فيه الحاضرون وتهامسوا :
جاء الأمير .... جاء الأمير ..
حين وصل الامير قرب الجماعة ، انتفض مهران واضطرب واهتزّت مفاصله وسقطت دمعتان من عينيه وصرخ من حنجرةٍ جافّة وكليمه :
حمشه ...حمشه ....
نظر الأمير الى مصدر الصوت ثمّ قال دون ان يقف :
هذا أنت يا زرطيط .....؟؟
*****
* الزرطيط : أصغر الطيور على الاطلاق عصفور صغير الحجم اصغر من عقلة الاصبع ،لا يسمن ولا يغني من جوع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في